موسوعة القرآن العظيم - ج ١

دكتور عبد المنعم الحفني

موسوعة القرآن العظيم - ج ١

المؤلف:

دكتور عبد المنعم الحفني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة مدبولي
الطبعة: ١
ISBN: 977-208-442-2
الصفحات: ١٢٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

بعض أقوال النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لوجب تكفيره ، وكان ذلك منهم على جهة غلظ الطبع ، والجفاء والمعصية ، على نحو ما قال القائل لنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى قسمة غنائم حنين : إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله. وكما قال له الآخر : اعدل يا محمد! وفى الآية دليل على منع الاستهزاء بدين الله ، ومن يجب تعظيمه من المؤمنين أو الأنبياء. ولقد شدّدوا على أنفسهم وتعنّتوا فشدّد الله عليهم. والعبارات التى وردت فى نصوص التوراة تدل على قمة التزمّت وهو نوع من الغباء العقلى والانغلاق الفكرى ، فهم جعلوا الموت نجسا لكل ما يلامسه ومن يلامسه ، وحتى عظم الميت ، والقبر ، والنعش والسرير وملابسه ، وكل شىء جعلوه نجسا إذا لامسه ، ويظل ذلك أسبوعا ولا يبرأ منه إلا بطقوس خاصة ، وحرق بقرة ونضح الماء برمادها ... إلخ ، مما يجعل الحياة مستحيلة وشديدة التعقيد ، والإسلام رفع كل هذا الإصر. وفى هذه النصوص التوراتية وآيات القرآن التى مدارها البقرة والقتل ، يتبين بجلاء أن الإسلام دين لا يقارن يسره بأى ديانة أخرى ، فلا شىء من هذه الطقوس الغريبة فيه. والقصة فى القرآن موصولة بما سبقها حيث الآيات قبلها هى وصف لطبع اليهود ، وهو أول وصف فيما نسميه الآن «بعلم نفس الأجناس» ، أو «علم نفس الشعوب» : وهو الذى يصف طباع مختلف الأجناس والشعوب ويجعل لها ما يسميه «لا شعورا جميعا» ، يرثه الأبناء عن الآباء ، ويلازمهم كطبع فيهم ، فتتشابه سلوكياتهم وردود أفعالهم ، فمن بعد ما قال لهم الله تعالى من الآية ٦٤ من البقرة «ثم توليتم من بعد ذلك» فإنه ظل يعدّد سوء أفعالهم من عدوانهم على السبت (الآية ٦٥) ، وتحولهم إلى قردة بالمعنى المعنوى ، أى أنهم صاروا أشباه بشر وخلوا من الإنسانية ، ولذلك اختلفوا فى مسألة البقرة ، وهو قوله تعالى : (فَادَّارَأْتُمْ فِيها) (البقرة ٧٢) ، وكتمتم الحقيقة ، والله مخرج ما كتموه. ولم يكن الأمر يستلزم أن يفرض الله عليهم ذبح البقرة ، وأن يضربوا القتيل ببعضها ليحيا من جديد ويفضح من قتله ، فالله قادر على أن يردّه إلى الحياة لو أراد بدون البقرة ، إلا أنه تعالى جعله يحيا بضربه ببعضها ، ليبين أنه يستطيع ذلك بأقل شىء ، وأنه تعالى يقدر أن يميت البهيمة الحيّة ، وأن يحيى الإنسان المقتول ، فكان الأحرى بهم أن يتّعظوا ويتدبّروا ، إلا أنهم كما جاء فى الآيات : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٧٤) (البقرة) ، ولا أحسب أن هناك ما هو أعظم بلاغة من هذا الوصف لليهود عبر الأزمان ، ومن ثم يخلص القرآن إلى الدرس المستفاد من قصة البقرة فى الآية التالية مباشرة مخاطبا المسلمين : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ

١١٠١

مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٧٥) (البقرة) ، فليس أقسى من اليهود فى العالم ، وفى الدنيا كلها ، وليس أشرّ منهم ، ومن المستحيل الوثوق بهم ، وكتابهم التوراة يكيل لهم الاتهامات ، ويصفهم بالجحود والنكران والكفر والعصيان ، حتى استلزم الأمر أن يرسل إليهم الرسل تباعا ، حتى بلغ عددهم ستة عشر نبيا هم أنبياء الأسفار ، وعشر نبيّات ، بخلاف ٨٥٠ نبيا قيل هم أنبياء مزيفون ، فلما كثر العصيان ، وتعددت الأمراض ، كثر الأنبياء ، فلا توجد أمة لها مثل ذلك العدد من أطباء النفوس والأرواح إلا هذه الأمة التى استحال علاجها على الجميع ، فاستلزم ذلك أن يبعث محمد كنبىّ خاتم فليس بعده يرسل الله أنبياء. ومن كل ما سبق يتبين أن قصة البقرة فى القرآن قصة شاملة كاملة ، فيها البلاغة والبيان ، والجدل ، وتوصيف المرض والداء ، ووصف العلاج ، وتحليل أمة اليهود ، وبيان الشرع فيما عرض لهم ، والتنبيه على أنهم أمة عاصية ، ولا يوجد شىء من ذلك فى نصوص قصة البقرة فى التوراة ، فشتّان بين هذه وتلك ، وحسبنا الله.

* * *

النبىّ زكريا

٨٩٦. قصة النبىّ زكريا مع ربّه ومع مريم

تتناول قصة زكريا أربع سور هى بترتيب النزول : مريم ، والأنبياء ، والأنعام ، وآل عمران. واسم زكريا عبرى ، ويساوى فى معناه اسم «ذكرى» ، وقيل المعنى الحرفىّ «يذكره الله بالخير» ، وقيل : إن اسمه بالكامل زكريا بن برخيا بن عدّو ، ذكر ذلك فى سفر عزرا من أسفار اليهود (٥ / ١ و ٦ / ١٤) ، وزكريا هو الحادى عشر بين «الأنبياء الصغار» ، ولمّا مات أبوه وهو صغير صار ينادى باسم جدّه ، تماما مثلما ذكر القرآن عن مريم فقال : إنها «ابنة عمران» ، وأن أمها «امرأة عمران» ، نسبة إلى الجدّ الأكبر ، والجدّة الأكبر ، وإشارة إلى بيت عمران الذى تنتسب إليه ، وذلك لوفاة أبيها وهى صغيرة. وقيل عن زكريا إنه كان من نسل لاوى ، يعنى أنه كان منذورا للكهانة والنبوة ، وأنه امتد به العمر ، ولمّا توفى دفن إلى جوار صاحبه حجى. وله سفر باسمه ، «سفر زكريا» ، ويقال أيضا «نبوءة زكريا» والمرجّح أنه كتبه أثناء حكم داريوس الفارسى ، حوالى سنة ٥٢٠ ق. م ، ويحفل بالرؤى والنبوءات ، ومنها نبوءته الغيبية عن مصر والمصريين ، يقول : «تنالها الضربة (يقصد مصر) التى يضرب بها الربّ الأمم. هذا مصير خطيئة مصر» ، وكلام زكريا فى السفر له خبيء وفيه الكثير من التورية ، وما أكثر ما يتمنى أنبياء إسرائيل الشرّ لمصر والمصريين!

١١٠٢

وأما قصة زكريا فى القرآن فموضوع آخر تماما ، وفى سورة الأنعام يأتى أن زكريا من الصالحين (٨٥) ، وأن ربّه فضّله على العالمين (٨٦) ، ويظهر تفضيله بأن تستهلّ به سورة مريم ، فيصفه الله تعالى بأنه عبده ، وأنه رحمة ، وينبّه إلى معنى اسمه فى أول كلمة من السورة «ذكر» ، حيث الاسم كما سبق يعنى المذكور ، أو المذكور بالخير ، يقول تعالى : (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) (٢) (مريم). والقرآن لا يتابعه من مبتدأ حياته وإنما وهو فى شيخوخته وقد أوغل فى العمر ، وكانت امرأته عاقرا ، وهذا هو الذى جعله يكفل مريم ، والكفالة هنا معناها التبنّى ، فقد كانت مريم يتيمة ، ومات أبوها وأمها حامل فيها ، فلمّا رأى بركات الله على مريم ، وأن الله يرزقها بغير حساب ، تحركت فيه غريزة الأبوة ، وتمنى لو كان له ولد : (قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (٦) (مريم) ، وذكر العظم فى دعائه أو شكايته ، لأن العظم عمود البدن وأصل بنائه ، وبه قوامه ، لأنه أشد ما فيه وأصلبه ، فإذا وهن كان ما وراء العظم أوهن منه ، وتداعت به سائر قوته وتساقطت ، وأهل الطب يسمون هذا الوهن : هشاشة العظام ، ولا تتبين الهشاشة إلا فى الشيخوخة المتأخرة ، وفيها يشتعل الرأس شيبا ، والاشتعال من شأن النار تنتشر بسرعة ، وكذلك كانت شيبة زكريا ، دبت فى رأسه بسرعة ، وظهرت علاماتها لا تخطئها العين ، حتى أتت على الرأس كلها ، وطبعت أطراف الشعر ومنابته. وموقف زكريا كان الأولى فيه أن يذكر نعم الله عليه ، ولكنه وصّف حاله ، وأظهر ضعفه ، وأوضح أنه ما طلب من ربّه طلبا ولا دعا بشيء ، إلا استجاب له ، ومعنى (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) (٤) ، يقال «شقى بالشىء» إذا تعب فيه ولم يحصل عليه ، وزكريا كان يتحقق له ما يتمنى ، وخوفه من الموالى ـ أى الأقارب من عصبته التى ترثه ، كان يخاف أن يرثوه كلالة ، وأشفق أن لا يكون وريثه ولده من صلبه ، والوراثة فى حالة زكريا وراثة مال وعلم ونبوة ، ولذا قال : (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) (مريم ٦) ، فالمال يرثه منه ، ومن آل يعقوب يرث الحكمة النبوة ، ويعقوب هو النبىّ ابن إسحاق وحفيد إبراهيم. والمشكلة فى حالة زكريا أنه كان عقيما بحكم السن ، وكانت زوجته عاقرا بطبيعتها ، قيل : اسمها اليصابات ، وهو اسم يونانى ، وبالعبرية هى اليشبع ، ومعنى الاسم «قسمة» ، وربما كانت قريبة لحنة أم مريم ، وقد تكون أختها ، والحديث عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحتج به ، يقول : «فلقيت ابني الخالة يحيى وعيسى» ، ويحيى ابن اليصابات ، بينما عيسى ابن مريم ، والمعنى أن اليصابات ومريم أختان ، والصحيح أنهما ليستا أختين ، والحديث كما نرى ، لا يجزم بأنهما

١١٠٣

ابنا خالة على الحقيقة ، فمن المحتمل أنه قال ذلك تجاوزا ، على طريقة الساميين فى التعبير عن القرابة ، فإما ينسبون إلى العم ، أو الخال ، أو الجدّ الأكبر ، ونحن ـ المصريين ـ نفعل نفس الشيء ، وبحسب إنجيل لوقا (١ / ٥ ـ ٤٥) فإن أم يحيى ، وأم عيسى ، كانتا قريبتين وصديقتين.

وفى سورة الأنبياء قال زكريا : (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) (٩٠) ، فكأن الاستجابة كانت لأنهما ـ زكريا وزوجته ـ كانا دائمى الدعاء رغبا ورهبا ، يعنى فى حال الرخاء ، وحال الشدّة ، وفى الحالين كانا يظهران الخشية لله ، وكانا تقيين ورعين ، وهذا ما جعل ، زكريا من الأنبياء ، وإن كان كما قيل من الأنبياء الصغار. ، وقوله تعالى : (وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) فيه أن العقر كان بالزوجة دون زكريا. ويتصل بإنجاب زكريا قصته مع مريم أم عيسى ، ومن بركاتها أن وجودها فى حياته شحنه نفسيا ، فطلب من ربّه أن يكون له الولد التقى مثل مريم. وفى الطب النفسى قد يحدث الحمل فى العاقر إذا دبّت فيها الغيرة بسبب من الأسباب ، والغيرة منها الإيجابى ومنها السلبى ، وغيرة زكريا وزوجته من مريم من النوع الإيجابى ، فلم تصدر عن حسد ، على عكس غيرة سارة زوجة إبراهيم من هاجر ، فلما ولدت هاجر إسماعيل ، حملت سارة غيرة من هاجر ، مع أنها كانت عاقرا. وفى سورة آل عمران أن أقارب حنة أم مريم ، اجتمعوا لمّا ولدت ، وألقوا أقلامهم ، يعنى أنهم كانوا غالبا من الكتبة ، وإلقاء الأقلام كإلقاء القداح والسهام فى الجاهلية ، وكانوا يقترعون بهذه الطريقة لمعرفة من يكفل مريم ، وكان إلقاؤهم للأقلام فى الماء الجارى ، وهى من البوص فتطفو ، فيجريها الماء ، فإذا وقف القلم ، ولم يجر مع الماء فصاحبه الفائز ، وأهل مريم ألقوا أقلامهم وألقى زكريا معهم ، فجرت الأقلام إلا قلم زكريا ، فكانت آية له لأنه كان نبيا ، والأنبياء تجرى على أيديهم الآيات. وقد أفاد المسلمون من هذه الواقعة فى حياة زكريا ومريم ، أن أثبتوا بها القرعة ، فصارت من الشرع لمن أراد العدل فى القسمة ، وهى من السنّة التى يحتجّ بها ، وتطمئن بها قلوب المقتسمين ، وترتفع بها المظنة عمن يتولى إجراء القسمة لهم. وعمل بالقرعة ثلاثة أنبياء : يونس ، وزكريا ونبيّنا محمد عليهم‌السلام ، وهى كالإجماع فيما يقسم بين الشركاء ، ومثلهم مثل القوم فى الحديث النبويّ الذين استهموا على سفينة ، وفى الخبر أن عثمان بن مظعون طار سهمه فى السكنى حين اقترع الأنصار سكنى المهاجرين ، وحدّثت عائشة أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرع

١١٠٤

بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها. فذلك إذن زكريا ، وتلك بركاته ، وقد ورثها منه عن حقّ ابنه يحيى. (انظر قصة يحيى بن زكريا).

* * *

٨٩٧. هل قتل اليهود النبىّ زكريا؟

فى قصة زكريا فى القرآن قال فى دعائه : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي) (مريم ٤) ، وقال : (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) (مريم ٦). والمفسرون من المسلمين ذهبوا إلى أن خوفه من أن يرثه أقاربه ، وأنه ورّث ابنه يحيى العلم ، أو أنه ورّثه النبوة ، إلا أن التفسير الأفضل هو ما جاء فى التوراة ، ففي سفر أخبار الأيام الثانى أن والد زكريا كان يوياداع ، وكان كاهنا أيام الملك يوآش ، وكان يجمع الكثير من الفضة من اليهود رسما عليهم من أيام موسى ، وأنه عاش طويلا وشبع من الدنيا ومات عن ثروة آلت إلى ابنه زكريا الذى صار كاهنا مثل أبيه ، وكان مصلحا مثله ، فلما زاغ الشعب عن عبادة الله إلى عبادة الأصنام ، وقف زكريا ضد الناس ، فكرهوه وكرهه الملك ، فهذا إذن هو تفسير قول زكريا : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي) ، وقوله : (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) (مريم ٦) ، وتحالف الشعب على زكريا ورجموه بالحجارة بأمر الملك فى بيت الربّ ، ولم يرحمه الملك ، ولم يذكر خدمات أبيه له ، بل قتل ابنه ، فقال زكريا وهو يموت : «ينظر الربّ ويطالب» ، وربما لقوله هذا صلة باسمه «زكريا» ويعنى «الربّ يذكر». وقوله : «ينظر الربّ ويطالب» يعنى أن الله يرى ظلمهم له وسيعلمون عاقبة الظلم ، وقد حدث ، فإنه لم تكد السنة تمر إلا وجيش أرام قد زحف على مملكة يهوذا وعلى أورشليم ، وأهلك جميع رؤساء الشعب ، وغنم كل شىء ، وانتقم الله من الملك فقتله عبيده من أجل دم زكريا (٢ أخبار ٢٤ / ٢١ ـ ٢٥).

ونبّه لوقا فى إنجيله إلى مقتلة النبىّ زكريا ، فقال على لسان المسيح : «الويل لكم فإنكم تشيّدون قبور الأنبياء وآباؤكم قتلوهم ، فأنتم شهود بأنكم راضون بأعمال آبائكم ، لأنهم هم قتلوهم وأنتم تشيدون قبورهم. ومن أجل ذلك قالت حكمة الله : أرسل إليهم أنبياء ورسلا ، فمنهم من يقتلون ومن يطردون ، لكى يطلب من هذا الجيل دم جميع الأنبياء الذى سفك منذ إنشاء العالم ، من دم هابيل إلى دم زكريا الذى قتل بين المذبح والبيت!» (١١ / ٤٧ ـ ٥١) ، وفى كلام المسيح ما يسميه أهل الأدب السخرية الدراميةdramatic irony ، لأنه تكلم عن الموت قتلا للأنبياء ، وكان لا يعلم أنه سيموت نفس الميتة ، فيا لسخرية الأقدار! والجديد أيضا فى مقالة المسيح السابقة أن هابيل كان نبيا!

* * *

١١٠٥

٨٩٨. زكريا قتله اليهود بين الهيكل والمذبح

اليهود يفعلون أى شىء ، ويستحلون دماء الناس ولو كانت دماء الأنبياء ، ويسفكونها فى أى مكان ولو كان على المذبح ، وشهد المسيح بذلك ، يقول : «الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون ، فإنكم تشبهون القبور المجصّصة التى ترى للناس من خارجها حسنة وهى من داخلها مملوءة عظام أموات وكل نجاسة. كذلك أنتم : يرى الناس ظاهركم مثل الصدّيقين وأنتم من داخل ممتلئون رئاء وإثما. الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون فإنكم تشيّدون قبور الأنبياء وتزينون مدافن الصدّيقين ، وتقولون لو كنا فى أيام آبائنا لما كنا شاركناهم فى دم الأنبياء ، فأنتم تشهدون على أنفسكم أنكم بنو قتلة الأنبياء ، فجمّموا أنتم مكيال آبائكم. أيها الحيّات أولاد الأفاعى ، كيف تهربون من دينونة جهنم! من أجل ذلك ها أنا أرسل إليكم أنبياء وحكماء وكتبة ، فمنهم من تقتلون وتصلبون ، ومنهم من تجلدون فى مجامعكم ، وتطردون من مدينة إلى مدينة ، لكى يأتى عليكم كل دم زكى سفك على الأرض من دم هابيل الصدّيق ، إلى دم زكريا بن برخيا الذى قتلتموه بين الهيكل والمذبح .. يا أورشليم ، يا أورشليم ، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين» (متّى ٢٣ / ٢٧ ـ ٣٧). وفى هذا النصّ الرائع كل إدانة لليهود ، وفيه أن هابيل كان صدّيقا على عكس ما فى إنجيل لوقا ، فإنه قال أنه كان نبيا. ويرد الصلب فى كلام المسيح عن الأنبياء ، وهو نفسه المصلوب! وفى القرآن عن هذا القتل للأنبياء الذى يقوم به اليهود : (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) (آل عمران ١٨١) ، قيل بلغ من قتلوهم من الأنبياء على الصخرة فى الهيكل سبعين نبيا منهم زكريا وابنه يحيى! والأول قتلوه رجما ، والثانى قتلوه بالسيف!

* * *

٨٩٩. زكريا بين القرآن والإنجيل

لمّا بشرّ زكريا بابنه يحيى ، أراد علامة من الله ـ أو آية كما يقول القرآن ، أجابه جبريل أن آيته أن يصمت فلا يستطيع أن يتكلم إلى يوم معلوم ، ولم يتكلم إلا فى اليوم الثامن من ولادة يحيى. وهذا الصمت الذى أصيب به كان عقابا له أنه لم يصدّق جبريل (لوقا / ١٨ ١). وفى القرآن لم يكن الصمت عقابا ، ولكنه إرادى وسيقوّيه الله ويقدره ويشدّ عزمه ، ولذلك كان صمته آية من الله قال : (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) (آل عمران ٤١) ، وفى إنجيل لوقا أنه كان يكلمهم بأن يكتب ما يريد فى لوح ، ولمّا طلبوا منه اسما لابنه ، كتب فى اللوح : يحيى.

* * *

١١٠٦

النبىّ يحيى

٩٠٠. قصة النبىّ يحيى بين التوراة والقرآن

فى الأبوكريفا ، أى كتب العلوم الباطنية اليهودية أن اسم يحيى ، هو يوحنا ، وكذلك فى الأناجيل ، من يوحانان أو يوحنان أى حنان الله كما نقول «لطف الله» ، و «منّة الله» ، و «عطية الله». وفى القرآن هو يحيى ، لأنه رغم ما سيجرى له سيظل اسمه حيا فى النفوس ويتذاكره الناس ؛ والاسم نبوءة بما ينتظره من القتل ، وكأن الاسم نقيض المآل ؛ وهو يحيى لأنه عاش بين أب شيخ وأم عجوز ، فهو الحىّ بين اثنين من الموتى ؛ وأخيرا هو يحيى ، لأنه كان معجزة حية ، فقد ولد لأب عجوز قد بلغ من الكبر عتيا ، وأم عاقر ظلت كذلك طوال حياتها مع زوجها زكريا. واسم أمه اليصابات بالإغريقية ، واليشبع بالعبرية ، يعنى «قسمة» ، أو «قسمة الله» ، يعنى ما قضى الله سبحانه به عليها. وفى إنجيل لوقا هو يوحنا المعمدان ، لأنه كان على مذهب المعمودين ، وهم الذين كانوا يقبلون العماد بعد أن يعترفوا ويعلنوا التوبة ، فيعمّدهم يوحنا فى نهر الأردن ، والعماد هو الاغتسال بقصد التطهّر ، والمعموديون كانوا متطهّرين ، ولم يخترع يحيى العماد ، فواضح أنه كان موجودا منذ إبراهيم ولوط ، وعاب قوم لوط عليه أنه ممن يتطهّرون (الأعراف ٨٢ والنمل ٥٦). والعماد فى النهر عند الهندوس ، وإسهام يوحنا فيه أنه عمّمه وأعطاه قداسة ، وعمّق معناه ، وجعله آية المؤمن ، فالعماد كالختان ، والأول دليل التوبة الأبدية ، والثانى دليل الطاعة والانقياد لله ، ولمّا حملت مريم فى المسيح ، كانت أم يحيى حاملا فيه فى ستة شهور ، ويحيى على ذلك أكبر من المسيح بستة شهور ، وتركز الأناجيل على يحيى باعتباره داعية للمسيح ، لا باعتباره داعية لله. ونشأ يحيى زاهدا ، وسلك كالنّبي إلياس (إيليا) ، فكان يلبس الصوف ، ويشدّ على حقويه منطقة من الجلد ، ويطعم مما فى الطبيعة من أوراق الشجر والثمار البرية ، والجراد ، والعسل البرى ، وهو مثل أعلى للصوفية ويقتدون به ، وكان عمله أن يصرخ فى الناس محذّرا وداعيا إلى التوبة ، ولذا اصطدم بعنف بالحاكم العبرانى هيرودس وزوجته هيروديا ، وكانت من قبله زوجة لأخيه ، ولكنها عشقت هيرودس ، وخانت زوجها معه ، ثم تآمرت عليه مع عشيقها ، وأوعزت إليه أن يقتله وهو أخوه ، وأحنقها يوحنا أن يلغط فى حقها ، ويؤلّب زوجها عليها ، فكادت له وسجنته ، وحرّضت ابنتها سالومى أن توسوس لهيرودس أن يقتل يوحنا ، وأن يحضر رأسه إليها على طبق ، وأسكرت سالومى هيرودس إلى أن طلب إليها أن ترقص له ، فامتنعت إلا أن يحضر لها رأس يوحنا! وكان أن أحضره لها ،

١١٠٧

وانتهت بذلك قصة يوحنا فى كتب اليهود ، وكانت قصة عادية نشهد مثلها كثيرا ونسمع بما يشبهها عن دعاة للإصلاح والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، وإنما أشهرها ما انتهت إليه حياة يوحنا على يد سالومى وأمها هيروديا ، وما قيل عن جمال سالومى ورقصها الشهوانى البارع وغوايتها الشيطانية ، فكثرت الكتب والمسرحيات والروايات عنها وعن يوحنا ، وأما قصة يوحنا أو يحيى فى القرآن فلها شأن آخر ، وتتسامى عن هذا الهذر الذى خالطها بسبب علاقة يوحنا بسالومى وأمها. وقصة القرآن تحفل بالبلاغة والبيان وفنون القصّ ، وفيها الموعظة والحكمة. ويقول القرآن : إن زكريا لمّا كفل مريم وعاين كراماتها ، دعا ربّه أن يكون له ولد يرث عنه المال ، ويرث عن آل يعقوب الحكمة والنبوة (مريم ٧) ، ونفهم إذن أن يحيى من نسل يعقوب ، ودعا له زكريا فقال : (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (٦) (مريم) ، فنادته الملائكة فى المحراب : (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) (١١) (مريم) ، والرضىّ هو المرضىّ والراضى بقضاء الله فيه ، وتعنى البشارة بيحيى أن دعاء زكريا استجيب له ، وهذه كرامة لزكريا ، وأنه أعطى الولد ليكون له قوة كما تمنّى ، وأنه أفرد باسم يحيى أو يوحنا ، لم يتسمّ به أحد من قبله ، وفى ذلك دليل على أن الأسامى السّنع ـ أى الجميلة أو الفريدة ـ جديرة بالأثرة ، أى يستأثر بها الصفوة من النابهين من أهل الله. ولمّا بشّر زكريا تعجّب أن يكون له الولد وهو قد تجاوز أن يولد له ، وظلت امرأته عاقرا طوال حياتها ، ولكنه كان مؤمنا ويعرف أن من خلقه ولم يكن شيئا قادر على أن يؤتيه سؤله ، وظل متشككا مع ذلك أن تكون البشارة مجرد رؤيا ، أو أن تكون تهيؤات وهلاوس يوحيها الشيطان ، فطلب آية ، فكانت آيته أن لا يكلم الناس : (ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) (١٠) (مريم) ، وفى الرواية الثانية ألّا يكلم الناس : (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) (٤١) (آل عمران) ، بمعنى الصيام عن الكلام مع الناس إلا بالإشارة ، وكان هذا النوع من الصيام معروفا ، فإذا صاموا كانوا لا يتكلمون إلا رمزا. والآية لا تتعارض والحديث النبوى الذى يقول : «لا صمت يوما إلى الليل» ، يعنى لا صمت عن الذكر ، وفى آية زكريا أن يسبّح بكرة وعشيا ، والتسبيح والذكر يكون مع النّفس ، وأما الكلام فيوجّه إلى الغير ، فلما عمل زكريا بما أمره ربّه كانت مثوبته كما قال تعالى : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا

١١٠٨

خاشِعِينَ) (٩٠) (الأنبياء) ، فكأن يحيى كان هبة الله لزكريا ، ومكافأته تعالى على تقواه ؛ وإصلاحه لزوجه بأن جعلها تتهيأ للحمل ، وتقوى عليه وعلى الولادة ثم الرضاعة ، وهى مدة ثلاثين شهرا ؛ وقوله يسارعون فى الخيرات إشارة إلى زكريا وزوجته ومعهما يحيى ، فكانوا جميعا محبّين للخيرات ، وفاعلين لها ، ويتّقون ربّهم ويدعونه لا ينسونه أبدا ، لا فى السرّاء ولا فى الضرّاء ، فمرة يدعونه شكرا ومحبة ، ومرة دعاؤهم له خشوعا وخوفا. واسم «يحيى» كان هبة من الله أوحى به إلى زكريا ، والاسم يلخص حياة صاحبه ، ويحيى كان بالنسبة للدعوة حياة ثانية تتدفق بالحيوية ، وتحقّق به دعاء أبيه لربّه : (هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) (٣٨) (آل عمران) ، أى نسلا صالحا ، والذرية تكون واحدة ، وتكون جمعا ، وتكون ذكرا وأنثى ، وما كان زكريا يعنى إلا ولدا واحدا ، يدل على ذلك قوله : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) (٥) (مريم) ولم يقل أولياء ، ولم يكن تأنيثه ل «طيّبة» إلا لأن لفظة ذرية مؤنثة ، فلمّا دعا مخلصا استجيب له : (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) (٣٩) (آل عمران) ، يعنى جاءته البشرى فور الدعاء فى المحراب وهو يصلى ، أنه يولد له يحيى ، قيل سمّاه الله لأنه أراد له أن يحيا للإيمان والنبوة ، وأن يهب نفسه لهما ، ويكرّس حياته من أجلهما ؛ وقيل سمّاه الله تعالى يحيى من اسمه تعالى «حىّ» ، وتصديقه بكلمة من الله ، قال النصارى : إنه تصديقه لعيسى ، لأن عيسى هو كلمة الله ؛ وقيل : هو تصديقه لكتب الله تجمع فى كلمة ، تقول استمعنا إلى كلمة وتعنى إلى خطبة ، فاختصر الكثير فى القليل ؛ وفى الأناجيل أن يوحنا كان أول من آمن بعيسى وصدّقه ، لأن عيسى كان الأعلى منزلة عند ربّه ، وكان أبلغ منه وأفصح ، وشخصيته أقوى ، والأنبياء يتفاوتون فى الأفضلية ، ومع ذلك فقد كان يحيى سيدا ، يعنى كان له حضوره ، ويذكر عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال فى الحسن : «إن ابني هذا سيد ، ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» ، ويحيى كان سيدا ولا أسود ممن سوّده الله تعالى ، وسيادته ليست سيادة دنيا أو جاه ، ولكنها سيادة عبادة وتقى وزهد ، ولذا كان حصورا ، أى يعاف النساء ولا يحتاجهن ، وآثر صحبة الله على صحبة النساء ، ومن الصحابة زمن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حاول أن يكون على طريقة يحيى ، كعثمان بن مظعون ، وشكت زوجته إلى عائشة أنه يتمنّى لو يكون حصورا ، وأن يفرغ خصيتيه ، والحصور هو من يحبس نفسه عن النساء مع أنه قادر عليهن ، وغايته أن يمتنع عن الشهوات. والحصور بخلاف العنّين الذين يعجز عن إتيان النساء لعيب خلقى فيه ، والعنّة النفسية أن يكون عجزه لأسباب نفسية ، فأما الحصور فإنه الحابس نفسه عن معاصى

١١٠٩

الله طوعا بلا علّة ، نفسية أو عضوية ، لأنه كان نبيا من الصالحين ، يعنى من المخلصين الذين كرّسوا أنفسهم للعبادة وللخدمة ، وصلاحه أنه يؤدى لله ما يقرّبه إليه ، ويؤدى للناس ما تقوم به حياتهم فى الدنيا والآخرة.

* * *

٩٠١. اسمه يحيى

اسم «يحيى» من الحياة ، لأنه سيموت ويقتله أعداؤه ولكنه «يحيا» بعدهم ، ويظل اسمه تردده الألسنة بالذكر الحسن ، ومن ذلك أنه ما من نبىّ قال عنه ربّه مثلما قال عن يحيى ، قال : (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) (١٥) (مريم ١٥). وأوحش ما يكون ابن آدم فى ثلاثة مواطن : يوم يولد فيخرج إلى دار الهمّ والغمّ ، ويوم يموت فيعانى السكرات ويدفن فى التراب ويترك وحيدا إلا من جيران من عظام ورمم ، ويوم يبعث حيا فيشهد ما لم يشهده من قبل مما يشيب له الولدان ، فأما يحيى فله السلام فى هذه المواضع الثلاثة ، فلم يبك لمّا ولد ، ولا اغتمّ يوم قتل ، ويوم يبعث ، فبعثه عند ربّه فى جنات وعيون. وهو فى الثلاثة : الحىّ الذى لا تموت له ذكرى أبدا ، وقال فيه المسيح : «لم يقم بين المولودين من النساء من هو أعظم من يوحنا المعمدان» (متى ١١ / ١١) ، وكان يوحنا يعيش مثل إيليا النبىّ ، ويلبس مثله ، ولم يكن يظن أنه شىء ، وقال عن نفسه إنه : «صوت صارخ فى البرية» (يوحنا ١ / ١٣) ، وسنظل نذكر اسم قلعة «مخيروس» المطلة على البحر الميت لأن يوحنا سجن بها إلى أن قتلوه وفصلوا رأسه ، ثم حملوا الجسد الطاهر إلى «سبسطيا» ودفنوه هناك بجانب قبر النبيين اليسع وعوبديا ، فالشبيه يسعى إلى شبيهه ، وأما تلاميذه فتبعوا المسيح كطلب معلمهم (متى ١٤ / ٣ ـ ١٢ ، ومرقس ٦ / ٢٦ ـ ٢٩ ، ولوقا ٣ / ١٩ ـ ٢٠) ، فإن كان يوحنا قد مات جسدا فما ماتت تعاليمه وظلت حيّة ، وظلت فرقته «المتطهرون» باقية أبدا.

* * *

٩٠٢. زمن المسيح زمن استشهاد

كان زمن المسيح عجيبا بكل معانى الكلمة ، ففيه قتل النبىّ زكريا رجما ، قتله اليهود بموافقة مليكهم يوآش ؛ وقتل النبىّ يحيى بالسيف ، أهوى به الجلاد على عنق النبىّ فى عهد هيرودس ، وكانوا قد سجنوه فى قلعة مخيروس على البحر الميت ، مقيدا بالأغلال والأصفاد ، ولما قتلوه فصلوا الرأس عن الجسد ، وقدّموا الرأس على طبق إلى هيروديا الزانية امرأة هيرودس ، والذين اشتركوا فى الجريمة جميعهم من اليهود ؛ وكما قيل ـ قتل

١١١٠

المسيح صلبا بناء على حكم السنهدريم ، (مجلس علماء اليهود) ، فى عهد هيرودس أيضا ، وأصر اليهود على الصلب فسلّمه بيلاطس لهم ، وغسل يديه وأعلن براءته من دمه ، وسمّاه صدّيقا ، ثم جلد المسيح وأسلم للصليب ، وقال اليهود مقالتهم المشهورة : «دمه علينا وعلى أبنائنا» (متّى ٢٧ / ٢٦). فأى ناس هؤلاء اليهود؟! وأى زمن كان ذاك الزمن؟!!

* * *

٩٠٣. قصة امرأة عمران

امرأة عمران هى أم مريم ، أم المسيح عليه‌السلام ، قال تعالى : (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) (٣٦) (آل عمران). والقرآن الكريم لا يذكر اسمها ، ولم يرد ذلك فى الأناجيل ، ولا أعمال الرسل من كتب النصارى ، ولم يرد فيها ولا فى القرآن اسم والدها ، ولا اسم زوجها الذى منه ولدت مريم ، وإنجيل لوقا (١ / ٢٧) هو الوحيد الذى يقول : إن يوسف النجار ، زوج مريم فيما بعد ، كان من سبط يهوذا من نسل داود ، ولذلك قال النصارى إن مريم كانت من سبط يهوذا كذلك ، وهذا رجم بالغيب ، فلا أحد يعرف حقيقة نسب مريم. والقرآن هو الوحيد الذى ينسب مريم لآل عمران ، وليس القول فى الآية «امرأة عمران» أن زوجها اسمه عمران ، وإنما المعنى أنه من آل عمران ، والعرب ينسبون إلى العشيرة ويقولون الهاشمى ، ويا هاشمى ، نسبة إلى آل هاشم ، وفى حالة امرأة عمران ينادونها «أم عمران». والعمرانيون من عشائر اليهود ، ورئيس العمرانيين هو لاوى بن قهات ، أبو موسى (خروج ٦ / ٢٠) ، وينطقون الاسم عمرام ، وهم العمراميون. ومعنى عمران أو عمرام أنه كبير العائلة أو العشيرة أو هو الشيخ الكبير. وتفسير «امرأة عمران» إذن هو أن أم مريم كان زوجها عمرانيا ، وسورة آل عمران تتناول بالذكر قصص الأنبياء والصالحين من هذه الدوحة المباركة : آل عمران. وفى بعض كتب التفسير العربية المتأثرة بالإسرائيليات يأتى اسم امرأة عمران : حنّة ، وهى المقابل لحنان العربية. واسمها غير مهم بحسب القصة ، ولو ذكر القرآن أنه حنّة لأصبح هذا الاسم ضمن الأسماء العربية ، ولزاحم اسم حنان العربى ، ولو لا أن اسم مريم كان مهما لأنها أم المسيح ، لما أورد القرآن اسمها. وحنّة على وزن جنّة ، ومن الأسماء القريبة منها اسم : حبّة ، وخنّة ، وكلاهما اسم عربى. ولا يوجد فى أسفار اليهود والنصارى من اسم حنة إلا حنة زوجة القانة ، وكانت عاقرا مثل امرأة

١١١١

عمران ، ونذرت مثلها إن ولدت ولدا تخصصه لخدمة الربّ ، فولدت صموئيل الذى يقال إنه كان نبيا على طريقة بنى إسرائيل ، وولدت حنة الأخرى ـ أى أم عمران ـ مريم وكانت أنثى ، ويبدو من تسميتها لمريم أن ولادتها كانت مستعصية ، لأن اسم مريم معناه العاصية ـ يعنى أنها لم تولد ولادة ميسّرة. ولا بد أنها ولدتها وكانت كبيرة فى السن أو أن تعسّرها فى الولادة كان لأنها بكر لم يسبق لها الولادة من قبل ، ولمّا حملت فيها لم تصدق ، ولذا نذرت ما فى بطنها لله ، أى للعبادة وهو معنى «محرّرا» ، أى محرّرا من علائق الدنيا ، ومنذورا لشكره تعالى طوال عمره ، والعرب يقولون فى الابن الموهوب لله «المحرّر» أو «العتيق» وذلك جائز فى عرفهم ، وكان عند العرب فى الجاهلية ، كما أنه جائز فى الشريعة اليهودية ، واعتراض حنّة على مريم بأنها أنثى ، أن الأنثى لا تصلح لخدمة الربّ كالذكر ، لأن الأنثى تحيض ولا تصلح لمخالطة الرجال. والولد أحظى عند الأمهات من البنت ، وتتمنى الأمهات أن يكون مولودهن ولدا ، لأنه آنس لهن ويسكّن إليه. والمحرّر مأخوذ من الحرية التى هى ضد العبودية ـ وأسوأها عبودية الدنيا. وامرأة عمران نادت ربّها ، وبيّنت الفرق بين الولد والبنت ، ولم يكن ذلك إعلاما منها لله تعالى ولكنه تسليم وخضوع ، وتنزيه له أن يخفى عليه شىء ، تثبيتا منها لإيمانها بقضائه وحكمه ، واستعاذة به من الشيطان الرجيم.

* * *

قصة مريم

٩٠٤. معنى اسم مريم

فى الأدب النصرانى أن مريم اسم عبرى معناه «العاصية»!. وفى الأدب اليهودى الدينى أن اسم ميريام Miriam أو ماريام Mariamme ليس له أصل معروف ، وربما هو اسم مصرى تسمّت به مريم أخت موسى ، ومن ثم دخل فى التراث العبرى. وفى المصرية القديمة فإن ميرى Meri يعنى الحب ، ومنها الاسم ميريت ، ومريم على ذلك هى المحبوبة. غير أن اسم ميرى فى المصرية القديمة قد يعنى كذلك العبادة ، ويكون معنى مريم فى المصرية القديمة هو العابدة ، أو التقيّة ، أو العفيفة ، وكانت حياة مريم أخت موسى كذلك. وأم السيدة مريم كانت عمرانية ، أى تحمل التراث العبرانى المصرى ، فأسمت ابنتها مريم تيمّنا باسم مريم أخت موسى ، يعنى أنها العابدة. وفى القرآن ما يؤكد ذلك ، فقد ورد عنها أن الملائكة قالت لها : (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ

١١١٢

(٤٢) (آل عمران) ، فلما ولدتها أنبتها ربّها نباتا حسنا ، وعلّمها أن تقنت وتسجد وتركع مع الراكعين : (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) (٤٣) (آل عمران) ، (كَفَّلَها زَكَرِيَّا) (آل عمران ٣٧) ، ولما حان الحين جاءها جبريل برسالة ربّها ، وبشّرها بكلمة منه تعالى (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) (آل عمران ٤٥) ، ودافع عنها الله تعالى ضد اليهود وبرّأها ، ووصف ما قالوه فيها بأنه بهتان عظيم (وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً) (١٥٦) (النساء) ، وضرب بها المثل وقال فيها أكرم وصف يمكن أن يقال عن امرأة : (الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) (التحريم ١٢) ، ورفعها مكانا عليا ، فكلما ذكر ابنها قيل فيه إنه ابن مريم ، تأكيدا لبشريته ، وإعزازا بانتسابه إليها ، وذلك كله يثبت أن مريم كانت فعلا «العابدة» كما أشار إلى ذلك اسمها بالاعتبارات الإيتيمولوجية المصرية وليس بالاعتبارات اليهودية ولا النصرانية. وبهذا الاسم «مريم» ، تلخّصت حياتها وتأكد مستقبلها. ومريم إذن هى «خادمة الربّ» ، كرّستها أمها لهذه الخدمة ، فهى آناء الليل والنهار فى المعبد للصلاة والذكر والصيام. ونزّهها القرآن تماما على عكس ما فعل إنجيل لوقا ، فلم يزوّجها القرآن من أحد ، ولم يرد فيه أنها تزوجت إطلاقا ، وربما لم يكن لزواجها تأثير على أمومتها لعيسى فلم يذكر ذلك عنها ، وإنما الزواج يناقض أنها كانت منذورة لله ولخدمته ، ويتناقض أيضا مع إنجابها لأربعة أولاد بخلاف المسيح (متّى ١٣ / ٥٥)! وفى الأناجيل أن مريم تزوجت يوسف النجار وهى حامل فى المسيح ، وولدته ونسبته إلى يوسف ؛ وقيل إنه لمّا علم بحملها وكانت آنذاك مخطوبة له ، فكّر فى فسخ الخطوبة من غير ضجة ودون فضائح ، وبلا أى أذى يلحق مريم أو يشين اسمها ، وانتهى به الأمر إلى الزواج منها وهى حامل ، ولكنه لم يقربها كزوج ، فلما قاربت على الوضع أخذها من الناصرة إلى بيت لحم لتلد هناك فلا يعلم بولادتها أحد ، ويصونها من ألسنة الناس وثرثرة الجيران (لوقا ٢ / ١ ـ ٥) ، واضطر للهرب بها وبابنها إلى مصر ، وظل بها إلى وفاة هيرودس. وقيل إن أولاد مريم الأربعة بخلاف المسيح لم يكونوا أولادها على الحقيقة وإنما أولاد زوجها يوسف من زواج سابق ، وأما مريم فبحسب العقيدة ظلت عذراء برغم ولادتها للمسيح! (متّى ١ / ٢٥) ، ويقال عنها أحيانا مريم البتول أى تاركة الزواج. وهاتان الصفتان «العذراء» و «البتول» من الصفات المتصلة بالجنس والبكارة ، فكأن ما يهمّ النصارى هو التأكيد على أن مريم «عذراء» وأنها «بكر» وهى مما يهتم لهما المهمومون بالجنس ، فلما ذا إذن نقد المستشرقين لختان البنات عند المسلمين والقول بمحورية الجنس عندهم لاهتمامهم بالختان سواء عند الإناث أو الذكور؟! فالحال من بعضه كما يقولون. والخلاصة : أنه شتّان

١١١٣

بين نظرة القرآن لمريم وأقواله فيها ، وبين نظرة الأناجيل لها وأقوالها فيها ، والفرق بينهما كالفرق بين السماء والأرض! (انظر أيضا سبب تسمية المسيح بعيسى).

* * *

٩٠٥. هل أخطأ القرآن أن جعل مريم أختا لهارون؟

ينتقد المستشرقون من اليهود والنصارى على السواء ، القرآن باعتباره كتابا تكثر به الأخطاء ، من ذلك أنه جعل مريم ـ أم المسيح ـ أختا لهارون شقيق موسى فى الآية : (يا أُخْتَ هارُونَ) (مريم ٢٨) ، مع أن ما بين مريم وبين أخت هارون أمد بعيد!! ولم يكن جديدا ما قاله المستشرقون ، فقد أثار آخرون مثله فى حياة النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واعتبروا هذه الآية زلّة تاريخية من النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولهذا شنّع بها من أقطاب الكنيسة أمثال يوحنا الدمشقى ، ونيقولا القوساوى ، ويوحنا أندرياس ، وآخرون ، وأرجعوا الخطأ إلى أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أميا ، وجهل لهذا السبب الفرق فى الزمن بين موسى وعيسى!! ولم يأت فى الأناجيل أن مريم أم المسيح كانت أختا لمن يدعى هارون ، أو أن لها أخا يدعى هارون. وفى صحيح مسلم عن المغيرة بن شعبة قال : لما قدمت نجران سألونى فقالوا : إنكم تقرءون «يا أخت هارون» ، مع أن موسى كان قبل عيسى بكذا وكذا!! وقال : فلما قدمت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سألته عن ذلك فقال : «إنهم كانوا يسمّون بأنبيائهم والصالحين قبلهم». وفى رواية أخرى أنهم قالوا للمغيرة : إن صاحبك يزعم أن مريم أخت هارون ، مع أن بينهما فى المدة ستمائة سنة؟! قال المغيرة : فلم أدر ما أقول! ـ إلى أن جاء المغيرة إلى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال له وردّ عليه بالقول السابق ـ بما يعنى : أن مريم كانت من ولد هارون أخى موسى ـ أى من نسله ، فنسبت إليه بالأخوة لأنها من ولده ، كما يقال للتميمى : يا أخا تميم ، وللعربى : يا أخا العرب. وفى القرآن يأتى : (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) (الأعراف ٦٥) ، ولم يكن هود أخاهم فعلا ، ولكنها التقاليد تجعلهم ينادونه هكذا ، وكذلك : (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً) (الأعراف ٧٣) ، وكذلك : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً) (الأعراف ٨٥) وفى الريف فى بلادنا شىء من ذلك ، فينادون الناس احتراما : «يا خال» أو «يا عمّ فلان» ، أو «أبونا فلان» ، وهم ليسوا كذلك فعلا ولكنها التقاليد احتراما للناس. بل إنه فى إنجيل متى يأتى فى الفصل الثانى والعشرين فى العبارة ٤٢ : ما ذا تظنون فى المسيح؟ ابن من هو؟ قالوا له : ابن داود». والمسيح لم يكن ابنا لداود! وبينه وبين داود أمد بعيد! إلا أنها التقاليد ، ينسبون إلى الأصول ، وكذلك فى آية مريم فى القرآن ، قالوا : (يا أُخْتَ هارُونَ) يعنى : «يا من تنتمى إلى

١١١٤

بيت هارون» ، ومع ملاحظة أن مريم كانت قد وهبت للخدمة ، أى أنها اعتبرت ضمن الكهنوت كالأحبار ، ورئيس الأحبار الأول أو الكاهن الأول هو هارون وسمى باللاوى ، وموسى هو الذى نصبه كذلك ، وجعل فى أولاده خدمة الهيكل ، فيمكن لذلك أن تنادى مريم باسم من تنسب إليه وتتبعه على الطريقة والمذهب ، وفى الإسرائيليات عن كعب الأحبار اليهودى المخضرم والدسيسة على الإسلام ، أنه كان يتكلم بحضرة عائشة فقال : إن مريم ليست بأخت هارون أخى موسى! فقالت له عائشة : كذبت! فقال لها : يا أم المؤمنين ، إن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاله فهو أصدق وأخبر ، وإلا فإنى أجد بينهما من المدة ستمائة سنة!! قال : فسكتت ، بمعنى أنه أفحمها ، غير أن عائشة لم تكذب ، ولم يكذب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا القرآن ، لأن مريم فعلا أخت هارون ، أى من بيت هارون ، نسب دين أو نسب دنيا ، وإلا فما بين مريم أم المسيح وبين مريم أخت هارون وموسى ، زمان مديد ، وقيل : ستمائة سنة ، وقيل : ألف سنة أو أكثر ، فلا يتخيّل أن مريم أم عيسى كانت أخت موسى وهارون! والذهاب إلى أنها أخت موسى وهارون هو الحمق بعينه! وإنما التفسير السليم أنها كانت هارونية ، من طائفة هارون ـ الطائفة الكهنوتية ، أو كانت من نسل بيته ومن ذريته ، والثابت فى الإنجيل : أن مريم من عائلة عمران أو عمرام والد موسى وهارون ، وأنها تنحدر من جهة أمها من عائلة هارون ، والثابت أنها قريبة لليصابات زوجة زكريا ، واليصابات من بيت هارون شقيق موسى ، ومن ثم كانت مريم من بيت هارون (لوقا ١٥) ، ولذلك لا يستغرب أن ينسبها القرآن إلى عائلة هارون ، كما ينسب الإنجيل المسيح إلى داود ويسميه أباه ، وقال : «وسيعطيه الربّ الإله عرش داود أبيه» (لوقا ١ / ٣٢) ، فهل كان داود أبا للمسيح؟ أم المقصود أنه ينحدر منه؟ ثم إن قول بولس فى رسالته إلى أهل رومية عن المسيح : «عن ابنه الذى صار من ذرية داود بحسب الجسد ، الذى حدّد أن يكون ابن الله بالقوة بحسب روح القداسة بالقيامة من بين الأموات وهو يسوع المسيح ربّنا» (١ / ٢ ـ ٤) ، لا يعنى أن المسيح ابن الله على الحقيقة ، ولكن بالقوة ، بحسب روح القداسة ، يعنى أن النبوّة مسألة روحية ، لأنها تعنى التبعية الروحية ، فكذلك قول القرآن «أخت هارون» قد يعنى بمنطق بولس أن مريم ليست أخت هارون بحسب الجسد وإنما بالتبعية الروحية والصفة الكهنوتية! فأف لهؤلاء المستشرقين ولما يعبدون من دون الحق ، أفلا يعقلون؟

* * *

٩٠٦. مريم التى أحصنت فرجها

ضرب الله مثلا فى الإيمان والعفة عند الإناث من البشر بمريم ابنة عمران ، وقال فيها :

١١١٥

(وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) (١٢) (التحريم) ، فلما حملت فى المسيح وولدته اتهمها قومها من اليهود بالزنا ، وأن ولدها عيسى ابن زنا ، مع أنها كانت من المحصنات ، ولأنه تعالى قال أنه تعالى أرسل جبريل إليها فنفخ فيها من روحه ، فإنه تعالى أكد أن إحصانها كان أكثر ما يكون لفرجها ، فلم يأتها منه أحد ، وصانته عن مقارفة الفواحش ، فظلت عذراء لمّا حملت ، وينفرد القرآن بالقول أن الحمل كان بالنفخ فى الفرج وليس بالمجامعة والإيلاج ، وتأكد أنه كان نفخا فى الفرج ، لأن الفرج هو الطريق إلى الرحم الذى يكون فيه الحمل ، والنفخ هو مجرد أن يتنفس جبريل بكلمة «كن» ، فكان أن حملت. والمحصنة هى العفيفة ، وأحصنت فرجها حمته وحرزته فكان منيعا ، أى حصينا ، وقيل : إن جبريل تنفّس فى جيب قميصها فوصل ذلك إلى فرجها ، والجيب يسمى فرجا كما فى قوله تعالى : (وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦)) (ق) ، والفرج هو الشق ، والجيب شق أو فرج فى الثوب. وما كان من الممكن أن ينفخ جبريل فى جيبها أو فرجها لو لا أنها صدّقت بكلمات ربّها لمّا قال لها : (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) (مريم ٥) ، وصدّقت بكتبه ، يعنى بالتوراة ، وكانت قانتة لم يعرف عنها إلا كل الطاعة ودماثة الخلق ، واشتهرت بذلك بين أترابها وأهلها.

* * *

٩٠٧. المستشرقون وقوله تعالى عن مريم : (وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ)

فى الآية : (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) (١٢) (التحريم) قال المستشرقون : كان ينبغى أن يقول محمد : «وكانت من القانتات» ، والصحيح أنه تعالى لم يرد من القانتات ، لأنه أراد «وكانت من القوم القانتين» ، أو أن المقصود أنها كانت من القانتين من أهل بيتها وهم رجال ، ومنهم زكريا ، ومنهم الذين تقدّموا ليكفلوها وذكرهم القرآن : (يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) (آل عمران ٤٤) وهم أنفسهم رجال آل عمران ، فكانت مثلهم من «القانتين» ، وفى العادة أن القانتات قليلات ، ولمّا ولدت أم مريم وكانت قد نذرت ما تلد لله ، وتبين لها أنها أنثى أصابتها الحيرة فقالت كلمتها المشهورة (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) (آل عمران ٣٦) ومع ذلك ضمّتها للمتعبدين وصارت منهم ومن «القانتين» حتى كانت لا تبارح المحراب.

* * *

٩٠٨. هل مريم نبيّة

يقول القرآن : (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي

١١١٦

إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٣٧) (آل عمران) ومعنى أنها نذرت ما فى بطنها محرّرا ، أنها نذرته لخدمته تعالى ، أو بالأحرى للخدمة فى الكنيس أو المعبد. وكانت كبيرة لا تلد ، وتنتسب لبيت عمران ، وهو بيت والد موسى وهارون ورأس العمرانيين ، والناس ينادون المرأة (والرجل على السواء) ، باسم عشيرتها إذا كان زوجها نكرة. ولأن الأم عمرانية ، وتخصيصا هارون أى من نسل هارون ، فإنها كانت تقية ومتعبدة ، والهارونيون هم أحبار إسرائيل وكهنتها ، فإنها نذرت إن حملت أن تهب حملها لله ، وتخصصه لخدمة المعبد وينحبس عليه ، ويتفرّغ للعبادة ، فلما وضعت مريم كانت تعرف أن الأنثى ليست كالذكر ، لأنها تحيض ولا تصلح لمخالطة الرجال. والنساء يطلبن الولد للأنس والاستنصار ، وامرأة عمران طلبته نذرا لله ، وقالت فيه : «محررا» ، فحرّرته من رقّ الدنيا وأشغالها. فلما وضعتها أنثى سمّتها «مريم» أى «التقيّة» ، وقيل «المنذورة» فلما حملت مريم فى المسيح اختلف الناس بإزائها : هل كانت نبيّة؟ والجواب طبعا للأعراف اليهودية عن النبيّات فى بنى إسرائيل ، ومثلها مثل مريم أخت موسى ، وديبورا ، وحنّة أم صموئيل ، وخلدة امرأة شالوم ، فهى نبيّة بمقتضى المقاييس اليهودية ، وكذلك بمقتضى المقاييس النصرانية ، مثلها مثل حنّة بنت فنوئيل ، وبنات فيلبس الأربع ، وهؤلاء جميعا كن زاهدات ، ولا يفارقن الهيكل ، ويتعبّدن بالصلاة والصيام والقيام فى الليل ، وكذلك كانت مريم ، إلا أن الأناجيل لم تجعلها نبيّة ، وزوّجتها من يوسف النجّار ، وحوّلت حياتها من حياة الزهد والتقوى إلى حياة الأسرة ، وجعلتها تلد أربعة إخوة للمسيح من زوجها النجّار ، وسمّتهم «إخوة الربّ» ـ والربّ هو المسيح ، وسمّت مريم «أم الربّ» وذكرت أنها مباركة فى النساء ، وأنها منعم عليها بنعمة عظمى هى أمومتها للمسيح ، وجعلتها قدوة للنساء. وأما القرآن فإنه وصفها الوصف الكامل فقال : إنها «صدّيقة» فما معنى صدّيقة التى انفرد بها القرآن؟

* * *

٩٠٩. مريم صدّيقة

القرآن انفرد بهذا التكريم لمريم ، قال : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ

١١١٧

الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) (المائدة ٧٥) ، ومريم إذن لم تكن نبيّة ، وليس معنى صدّيقة أنها أقل حظّا من النبيّات ، ولكن النبيّة تتنبأ مثلما كانت بنات فيلبس الأربع يفعلن ، ومريم لم تتنبأ ، وكانت أظهر صفاتها تصديقها لما يقال لها ، فلما جاءها الملك جبريل صدّقته فورا ، ولمّا قال لها ابنها ما قال عن نفسه ، صدّقته ، وكانت تسارع إلى تصديق آيات ربّها. والصدّيقة إنسانة كغيرها من البشر ، ومريم كانت تأكل الطعام ، وكذلك ابنها ، ولم يكن المسيح إلها وإنما إنسان رسول ، وعبد من عباد الله ، والاثنان كانا مخلوقين محدثين ، ولم يحدث أن دفع أحدهما هذه الصفة عن نفسه ، وهل يصلح المربوب أن يكون ربّا؟ غير أن النصارى قالوا : مريم بشر ، ولكن المسيح نصفه إله ونصفه بشر ، فإذا كان يأكل كالبشر ، ويفعل مثلهم ، فإنما كان أكله وشربه وتغوّطه بناسوته لا بلاهوته! ونقول : فكيف فعل روح القدس ـ وهو الله ـ الحمل فى مريم؟ هل كان له ناسوت ليختلط بناسوتها؟ ولا يتصور عاقل اختلاط إله بغير إله ، وانقسام شخص على نفسه إلى قسمين متنافرين ومتضاربين ، وإذا كانت مريم تأكل مما يأكله ابنها ، فإن عليهما أن يتغوّطا ويتبوّلا ، وهذا دليل على بشريتهما ، واستحالة اختلاط الله بهما. وقوله تعالى : إن مريم صدّيقة ينفى عنها إذن نفيا تاما أنها كانت نبيّة.

* * *

٩١٠. كرامات مريم

كرامات الأولياء ثابتة على ما دلّت عليه الأخبار الثابتة والآيات المتواترة ، وفى حق مريم كانت الفواكه عندها لا تنقطع ، وقد تظهر لها الفواكه الشتوية فى الصيف ، والصيفية فى الشتاء ، فرزقها دائم ، والخير عندها عميم ، كقوله تعالى : (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) (آل عمران ٣٧) ، ولمّا جاءها المخاض أمرت النخلة فأثمرت لتوّها ، قال تعالى : (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا) (٢٥) (مريم) ، ولم تكن مريم نبية ، والأنبياء لهم «المعجزات» بينما الأولياء والصدّيقون لهم «الكرامات» ، ومريم كانت صدّيقة بقوله تعالى : (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) (المائدة ٧٥) ، والفرق بين المعجزة والكرامة : أن الكرامة من شرطها الاستتار ، فكذلك كانت كرامات مريم ، والمعجزة من شرطها الإظهار ؛ والكرامة تظهر من غير دعوى ، وكذلك كانت كرامات مريم ، والمعجزة تظهر عند دعوى الأنبياء فيطالبون بالبرهان.

* * *

١١١٨

٩١١. اصطفاء مريم على نساء العالمين

يقول تعالى : (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) (٤٢) (آل عمران) ، فهل كانت مريم مصطفاة على نساء زمنها ، أم على نساء الدنيا كلها إلى يوم الدين؟ ونلاحظ تكرار كلمة اصطفاء ، والأولى تعنى اصطفاءها واختيارها لعبادته ، والثانية هى اصطفاؤها واختيارها لولادة عيسى ، وفى الحديث : «كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء غير مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون ، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» أخرجه مسلم. والكمال هو التناهى والتمام ، والكمال المطلق لله تعالى خاصة ، وأكمل نوع الإنسان هو «الإنسان العابدhomo religiosus» ، والأنبياء هم أخصّ العبّاد ، ويليهم الأولياء ، ثم الصدّيقون ، ثم الشهداء ، ثم الصالحون ، ثم المؤمنون. وإذا كان ذلك صحيحا فيلزم أن تكون مريم وآسية بحسب الحديث ، كل منهما نبيّة ، لأنهما بلغتا حدّ الكمال فى النساء. ومريم أوحى إليها الله كما أوحى إلى الأنبياء ، غير أن الوحى وحده لا يكفى ، فالله أوحى إلى النحل ، وإلى الحواريين ، وإلى الأئمة ، وإلى أم موسى ، وهؤلاء جميعا ليسوا أنبياء ؛ ولا كانت مريم ولية ، ولم يرد أنها كذلك ، وإنما جاء فيها أنها «صدّيقة» ، كقوله تعالى : (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) (٧٥) (المائدة) ، وقوله : (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) (١٢) (التحريم) ، فشهد لها الله تعالى بالصدّيقية ، وبالتصديق ، وبالقنوت. وفى حين بشرّ زكريا بالغلام فتساءل : أنّى يكون له هذا وامرأته عاقر؟ وطلب تأكيد الوعد بآية ، فإن مريم بشّرت بالغلام فلحظت أنها بكر لم يمسسها بشر ، فكان الردّ عليها : (كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ) (٢١) (مريم) ، فاقتصرت على ذلك ، وصدّقت بكلمات ربّها ، ولم تسأل آية كما سأل زكريا. ولم تنل مريم شهادتها بالصدّيقية والتصديق إلا كمرتبة قريبة دانية من الله تعالى ، وليس سببها أنها نبيّة ، فالنبوة وظيفة ، وإنما سببها الاصطفاء ، وأنها اختيرت لذلك من ربّها ورشّحتها صفاتها الذاتية ، ولمّا كان ما حدث لها لم يحدث مثله من قبل ولا من بعد ، فإنها تكون فعلا «قد اصطفيت على العالمين» ، بفرادة الحدث الذى جرى لها ، وخصوصا على «نساء العالمين» بولادتها المعجزة للمسيح عليه‌السلام.

* * *

٩١٢. حمل مريم كان فى المحراب

يقول القرآن : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ

١١١٩

تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١) فَحَمَلَتْهُ) (٢٢) (مريم) ، والخطاب إلى النبىّ محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، تذكيرا له بأن يقصّ على قومه قصة مريم ، ليعرّفهم بكمال قدرة الله تعالى. وقوله تعالى : (انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها) يعنى اتخذت لنفسها مكانا تعتزل نفسها فيه عنهم ، وهو محراب الكنيس ، ففصلت نفسها عن رواد المكان المشتغلين فيه بستار. واصطلاح «الانتباذ» أقوى من اصطلاح «الاعتزال» ، لأن الاعتزال يعنى الانفصال عنهم ، وأما الانتباذ فهو ابتعاد وانفراد. وقد نسأل : ولم انتبذت؟ وربما كان السبب أن مريم كانت موقوفة على سدانة الكنيس وخدمته والعبادة فيه ، فإذا أتاها ما يأتى النساء من الحيض ، انتبذت لتطهر ، وربما أنها اختارت أن تكون صومعتها فى الكنيس إلى جانب المحراب فى شرقيه لتخلو للعبادة ، وكانوا يبنون المحاريب إلى جهة الشرق ، والشرق المكان الذى تشرق منه الشمس ، خصّوا العبادة بالشرق لأنهم كانوا يعظّمون جهة المشرق من حيث تطلع الأنوار ، والجهات الشرقية عندهم هى أفضل الجهات ، ويؤثرونها على غيرها ، ولمّا حضروا إلى مصر اختار لهم يوسف الإقليم الشرقى مقاما لهم ، وهو محافظة الشرقية الآن ، وكان اسمها من قديم أرض جاسان ، وعاصمتها تانيس أو أفاريس. والهكسوس اختاروا الشرقية لمقامهم كذلك لأنهم ساميون مثل العبرانيين ، والتفكير السامى يؤثر الشرق فى كل شىء ، وكل أحداث قصة موسى مع الفرعون جرت فى الشرقية وليس فى منف. وروى عن ابن عباس أنه قال : إنى لأعلم الناس لم اتخذ النصارى المشرق قبلة؟ لقول الله عزوجل : (إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا) (١٦). والأمر كان أكبر من ذلك ، لأن السؤال يظل كما هو لم يردّ عليه ابن عباس : فلم اختارت مريم الجهة الشرقية؟ والجواب فى التراث العبرانى ، وهو إيثارهم جهة الشرق وأن تكون محاريبهم إلى الشرق. وقال ابن عباس : لو كان شىء من الأرض خيرا من المشرق لوضعت مريم عيسى عليه‌السلام فيه ، وهذا صحيح. وهذا المكان الشرقى يقول فيه إنجيل لوقا ، الفصل الأول ، إنه الهيكل ، ومن عادة الكهنوت أن يدخلوه للتبخير ، وفى ذلك الوقت كان جمهور الشعب يصلى خارجا ، وفيه ظهر ملاك الربّ لزكريا واقفا عن يمين مذبح البخور. غير أن لوقا لا يقول إن مريم ظهر لها جبريل فى المحراب ، ولا نعرف من الأناجيل ، بخلاف القرآن ، أين ظهر لها؟ وهذا من الفروق بين قصة القرآن وقصص الأناجيل.

* * *

١١٢٠