موسوعة القرآن العظيم - ج ١

دكتور عبد المنعم الحفني

موسوعة القرآن العظيم - ج ١

المؤلف:

دكتور عبد المنعم الحفني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة مدبولي
الطبعة: ١
ISBN: 977-208-442-2
الصفحات: ١٢٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

٨٦٦. قصة صاحب الجنتين

بداية القصة فى سورة الصافات ، أو أن لها مثيلا فيها ، حيث يخبر تعالى عن أهل الجنة ، يقول : (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٦٠) (الصافات) ، وأصل القصة فى سورة الكهف ، ضرب الله بها مثلا لهذا المؤمن وقرينه الكافر ، والقرين هو الشيطان ، ويحدث أن يكون للمؤمن فى الدنيا صاحب من أهل الشرك يوسوس له كالشيطان ، فيقول له : أئنك لمن المصدّقين بالبعث والنشور ، والقيامة والساعة ، والحساب والجزاء؟ وهل إذا متنا وأصبحنا حطاما نخرة ، نجازى ونحاسب على أعمالنا؟ وفى الآخرة يطّلع المؤمن وهو فى الجنة على أهل النار ، فيجد صاحبه فيها ، فلا يملك إلا أن يقول له : والله إنك كدت لتهلكنى لو أطعتك! ولو لا فضل الله ، لكنت مثلك فى سواء الجحيم ، محضر معك فى العذاب ، ولكنه تعالى رحمنى فهدانى للإيمان ، وأرشدنى لتوحيده ، وها أنا ذا فى الجنة لا موت فيها إلا الميتة الأولى ، ولا عذاب ، وذلك هو الفوز العظيم. وقيل هذا المؤمن هو أبو سلمة زوج أم سلمة قبل النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان له قرين هو أخوه الأسود بن عبد الأسد ، وورث الأخوان أباهما ووزّعا التركة بينهما ، وكان نصيب كل واحد منهما أربعة آلاف دينار ، إلا أن أبا سلمة ضيّع ماله فى سبيل الله ، فاشترى بألف دينار رقيقا وأعتقهم ، وبألف دينار ثيابا ووزعها على العرايا والمساكين ، ونصب الموائد للفقراء ، فأنفق على الطعام لهم ألف دينار أخرى ، وبنى بالباقى مساجد لله ، وكان أخوه يهزأ منه ، ويستخف ما يفعل ، ويحاوره فى الله والبعث والآخرة والثواب والعقاب ، وكان يعيّر أخاه بأنه غبى ولهذا أضاع ماله ، ولو فرضنا وكانت هناك آخرة فعلا فإنه سيكون فيها من المقرّبين والفائزين لأنه الأذكى ، وذكاؤه يضمن له ذلك. وفى سورة الكهف ضرب الله مثلا بهذين الأخوين أو الصاحبين ، قال : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً) (٣٢) (الكهف) ، واستغرقت القصة اثنتى عشرة آية ، تقول : إن الأخ أو الصاحب الكافر الغنى كانت له جنّتان وارفتان ومثمرتان ، فتاه فخرا على أخيه أو صاحبه باعتباره الأكثر مالا ، والأعز نفرا ، ودخلا الجنتين الواحدة بعد الأخرى ، يتعالى على أخيه بهما كما لو كانتا لا يمكن أن تبيدا ، باعتبار الدنيا دائمة وخالدة ، وأخوه أو صاحبه يستنكر قوله ، فالله هو خالق كل شىء ، وهو باق والدنيا إلى

١٠٤١

زوال ، والفضل فى كل شىء لله ، فهو الذى أخرج ثمر الجنتين ، بل وخلقه هو نفسه ولم يكن شيئا ، فهو ربّه رضى أخوه أو لم يرض ، وهو لن يشرك كأخيه ، فلولا أن يدخل جنته فيقر بالشكر لله ويحمده على عطائه؟ وأمّا أنه أقل مالا وولدا ، فالله قادر أن يؤتيه خيرا من جنته وماله وولده وأنفاره ، وبوسعه أن يرسل على جنته عذابا من السماء ، فتبيد وتمتلئ بالماء ، وتصبح بلقعا ترابا أملس لا يثبت فيه قدم ، وكالجرز لا ينبت شيئا ، أو يصبح ماؤها غائرا فى الأرض لا يستطيع طلبا له. ويستمر الحوار والكافر يكاد يغلب المؤمن ، ويكاد يرديه فى الكفر ، ولكن المؤمن يستمسك بإيمانه ، ويستعصم على الكفر ، وإذا بالعقاب ينزل على الكافر فى الدنيا مثلما يتوعده فى الآخرة ، فيحاط بثمره ويندم على ما فرّط فى حق ربّه ، وما كان له من ينصره من دون الله ، ويوم البعث لا تكون الولاية إلا لله ، وهو خير ثوابا وخير عقبا.

* * *

٨٦٧. قصة أصحاب الجنة

هؤلاء كانوا فى اليمن ، وكانت الجنة لرجل من أهل هذه البلاد ، والجنة هى البستان ، وكان الرجل صالحا يؤدى حقّ الله من جنّته ، فلما مات صارت إلى أولاده ، فمنعوا الناس خيرها ، وبخلوا بحق الله فيها ، فأهلكها الله من حيث لم يمكنهم دفع ما حلّ بها. قال تعالى : (إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (١٧) وَلا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (٢٣) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (٢٥) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٢٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (٣٠) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (٣١) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) (٣٢) (القلم) ، وبلوناهم المقصود بهم أهل مكة ، أعطاهم الله الأموال ليشكروا لا ليبطروا ، فلما بطروا وعادوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابتلاهم بالجوع والقحط كما ابتلى أصحاب الجنة. قيل : كان هؤلاء ـ أى أصحاب الجنة ـ بعد رفع عيسى بيسير ، وكانوا بخلاء ، فكانوا يجدّون التمر ليلا حتى لا يراهم المساكين ، فلما أرادوا حصاد زرعها دبّروا أن لا يدخلها اليوم عليهم مسكين ، فغدوا عليها فإذا هى قد اقتلعت من أصلها فأصبحت كالصريم ـ أى كالليل البهيم من أثر الحريق ، وكأنها قد صارت حمأة ، وأضحت خرابا يبابا. والذى طاف عليها هو قضاء الله فيها ، وقيل : هو جبريل اقتلعها ثم وضعها فى

١٠٤٢

الطائف ، فسميت «الطائف» باسمها ذاك لهذا السبب ، وليس فى أرض الحجاز بلدة فيها الشجر والأعناب والماء غيرها. وقيل : إن صاحب الجنة الأول قد أورثها أولاده الثلاثة ، وكانت العادة أن المساكين لهم كل ما يتعداه المنجل فلم يجذّه من الكرم ، فإذا طرح على البساط ، فكل شىء سقط عن البساط فهو أيضا للمساكين ، وهذه الطريقة يهودية ومذكورة ضمن زكاة الزرع فى كتابهم التوراة (سفر التكوين ٢٣ / ١٠) ، الأمر الذى يجعلنا نقول إن القصة عن جماعة من بنى إسرائيل ، خاصة وأن اليمن كان بها الكثير منهم ، وكانوا إذا درسوا فللمساكين كل شىء انتثر ، وفعل أبوهم ذلك والتزم الشريعة ، فلما مات شحّوا ، فقلّ مالهم وكثر عيالهم ، فتحالفوا ليغدون غدوة قبل خروج الناس ثم ليصرمنّها فلا يعرف المساكين ، و «الصرم» هو القطع والحصد ، و «عدم استثنائهم» أنهم لم يقولوا إن شاء الله. وقيل : كان حرثهم نخلا أو عنبا. وقيل : عدم استثنائهم أنهم لم يجنّبوا حق المساكين ، فلما جاءوا ليلا لتنفيذ ما عزموا عليه ، وجدوها مسودة قد طاف عليها طائف من ربّهم وهم نائمون. والطائف قد يكون جبريل ، وقد يكون الجزاء من ربّهم. وكان من شدة حرصهم أن كانوا يسيرون متخفّين ، وإذا تكلموا تسارّوا حتى لا يسمعهم المساكين ، وكانوا كأنما قد نجحوا فى مسعاهم ، والحرد الذى غدوا عليه قيل قصدهم الذى كاد أن يتحقق ، وقيل هو اسم قريتهم ، فما رأوا ما آلت إليه الجنة حتى أنكروها وشكّوا فيها ، وكأنما قد ضلوا الطريق إليها ، وتبينوا من بعد أنها جنّتهم ، وأنهم حرموها ، وفى الحديث : «إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به رزقا كان هيئ له» ، ثم تلا : «فطاف عليها طائف من ربّك». وقال أوسطهم معاتبا : ألم أقل لكم قولوا إن شاء الله؟! والأوسط هو الأمثل فى القرآن ، وهو الأعدل والأعقل. ولقد ظلموا أنفسهم لمّا ظلموا المساكين ، وتلاوموا أنهم كفروا نعم الله فلم يشكروه ، ثم تعاهدوا أن ينصلح حالهم ويتوبوا إليه ، فإن أبدلهم الله خيرا منها فعلوا الصلاح والخير ، ثم دعوا وتضرّعوا واستغفروا. وظاهر الآية أن الله قبل توبتهم واستغفارهم ، ورزقهم وهو خير الرازقين ، وقولهم : «إنا إلى ربّنا راغبون» دليل إيمان ، وربما هو نتيجة ما يصيب المشركين إذا أصابتهم شدّة أو لحقهم ضرّ. وفى الآية مواعظ وعبر ودرس مستفاد : أن الإنسان لا يعزم إلا الخير ، وأن يستثنى فيقول إن شاء الله ، وأن العزم مما يؤاخذ به. ونظير هذه القصة قوله تعالى : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) (٢٥) (الحج).

* * *

١٠٤٣

٨٦٨. قصة الذى ندم حين لا ينفعه الندم

هو الذى مداره الآيات : (تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) (٥٩) (الزمر) ، فهذه ثلاثة أصناف من البشر ، وفيهم القصة : كان رجل عالم فى بنى إسرائيل وجد ورقة مكتوبا فيها : إن العبد ليعمل الزمن الطويل بمعصية الله ، ثم يختم له عمله بعمل رجل من أهل الجنة ، فيدخل الجنة. فقال : ولأى شىء أتعب نفسى؟ فترك عمله ، وأخذ فى الفسوق والمعصية ، وقال له إبليس : لك عمر طويل ، فتمتع بالدنيا ، ثم تتوب! فأخذ الرجل فى الفسوق ، وأنفق ماله فى الفجور ، فأتاه ملك الموت بغتة ومن غير توقع وهو فى ألذّ ما كان ، فلما رآه قال : يا حسرة على ما فرّطت فى جنب الله؟! ذهب عمرى فى طاعة الشيطان ، وظننت أن العمر سيطول فخاب ظنى. وندم الرجل حين لا ينفع الندم ، فأنزل الله خبره فى القرآن هذه الآيات ، وقيل لهذا : الناس أصناف : فصنف منهم قال : (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) (الزمر ٥٦) ؛ وصنف قال : (لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (٥٧) (الزمر) ؛ وقال آخر : (لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (٥٨) (الزمر) ، فقال الله تعالى ردا على كل منهم : (بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) (٥٩) (الزمر) ، وبلى جواب النفى ، وليس فى الكلام لفظ النفى ، ولكن معنى «لو أن الله هدانى» : أنه ما هدانى ، وكأنه قال : ما هديت ، فقيل : بلى ، قد بيّن لك طريق الهدى ، فكنت بحيث لو أردت أن تؤمن أمكنك أن تؤمن!

* * *

٨٦٩. أصحاب القرية من سورة يس

تروى القصة الآيات من قوله تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) (١٤) (يس) إلى قوله تعالى : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) (٣٢) (يس) ، والقصة كما تعرضها هذه الآيات كانت مادة خصبة للإسرائيليات ، وأكبر مروّجيها كان كعب الأحبار ووهب بن منبّه ، وكانا من اليهود وأسلما ، وهذان كانا يزعمان لنفسيهما علم الأوائل ، وكان المسلمون يسألونهما عما استغلق على أفهامهم من قصص القرآن ، وعمّن مضوا من الغابرين. وشاعت تفسيراتهم حتى غلبت على كتب التفسير ، وما من

١٠٤٤

سند من التاريخ أو المراجع العلمية يؤيد أقوالهما وما ذهبا إليه ، وصار ما قالاه هو السند والمرجع لمن يتصدّى بالتفسير لهذه الآيات. وتستغرق قصة أصحاب القرية فى القرآن سبع عشرة آية ، ويستغرق التعليق عليها ثلاث آيات ، فيكون مجموع آيات القصة ، والدرس المستفاد منها عشرين آية ، أى نحو ربع سورة يس ، وتأتى فى سياق تحذير أهل مكة من مغبة الكفر بنبيّهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتشبّههم بأصحاب هذه القرية ، وهى ليست قرية بعينها ، فلو كان اسمها مهمّا لأوردته السورة. وفى القصة أن الله بعث لهم نبيّين فكذبوهما ، فعززهما بثالث ، فيحتمل أن النبيّين هما موسى وهارون ، وأن الثالث هو عيسى ، وأن القرية إذن هى العالم بأسره. وفى تفسير كعب ووهب أنها أنطاكية. وقيل : كان يحكمها فرعون اسمه انطيخس ، والفرعون اسم على إطلاقه ، ويعنى الطاغية المستبد. ويذهب الطبرى ، وهو الآخر من أساتذة الإسرائيليات ، إلى أن الرسل الثلاثة إلى هذه القرية كانوا : «صادق» ، و «صدوق» ، و «سلوم». وقال غيره : الاثنان هما «شمعون» و «يوحنا» ، أو أنهما «سمعان» و «يحيى». ويجوز أن تكون القصة من باب الأمثال تضرب للناس للعظة وليست قصة واقعية ، وتقع كالمثل كل يوم ، فالداعون إلى الله كثر ، والمكذّبون لهم أكثر ، والسجون ملأى بآلاف الداعين ، ومنهم من يحكم عليه بالإعدام ، ومنهم من تصدر الأوامر إلى الشرطة بقتلهم قصدا وعمدا ، فالقصة تحصيل حاصل ، ووقوعها من الأخبار العادية حيثما كانت الدعوة إلى الله. وقيل : إن القصة حقيقية فعلا ، ووقعت لبعض رسل عيسى عليه‌السلام ، وأنهما اثنان كانا يدعوان له باعتباره الله أو ابن الله ، ولهذا قالوا لهما (ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) (يس ١٥) ، لأن رسل عيسى كانوا يشيعون أن روح القدس يسرى فيهم ، وأنهم أوتوا المعجزات بالوكالة عن عيسى. غير أن القرآن لا يمكن أن يستشهد بداعيين لعيسى باعتباره إلها ، فبحسب القصة فى القرآن أن الرسولين كانا على الحق ، وأن الثالث الذى عزّزهما أيّد ما جاءا به ، والقصة تأتى فى القرآن فى مجال أن يضرب النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها المثل لمشركى مكة ، أن يؤمنوا ، وإلّا حلّ بهم ما حلّ بكفّار هذه القرية ، فكيف يضرب لهم مثلا بأناس يدعون إلى تأليه عيسى؟ وقيل فى التفاسير : إن وهب بن منبّه ذكر أن عيسى لمّا أرسل الرسولين التقيا شيخا يرعى غنيمات له ، وهو حبيب النجّار ، «صاحب يس» فاستمع لهما ، وأتيا المعجزات فآمن. وواضح أن كعبا ووهبا لم يقرءا الأناجيل ، فقد كانا فى الأصل يهوديين ، وفى الأناجيل قصة ربما تشابه هذه القصة وإن كانت الخلافات بين الأناجيل أكثر من المشابهات ، وربما تفسّر سبب استهواء أنطاكية للمفسرين ، فلقد كانت انطاكية مركزا من مراكز المسيحية الكبرى بعد أورشليم ، والواقع أن لدينا مدينتين باسم أنطاكية أسّسهما

١٠٤٥

«سلوقس الأول نيكاتور» ، من قواد الإسكندر الأكبر ، فى أوائل القرن الثالث قبل الميلاد ، تخليدا لاسم والده أنطيوخس ، الأولى فى سوريا على مصب نهر العاصى ، والثانية فى تركيا فى اتجاه نيسيدية ، وما يعنينا هو أنطاكية سوريا ، وكان أهلها يعبدون الأصنام : «تيخى» إلهة الحظ ، و «أبولو». وفى أنطاكية كانت ترتكب باسم الدين والتدين الكثير من النجاسات والممارسات الجنسية الفاضحة ، وفيها كانت تعيش جالية يهودية كبيرة ، كان منهم من اعتقد فى المسيح ؛ وفيها دعى التلاميذ «مسيحيين» لأول مرة (سفر الأعمال ١١ / ٢٦) ، وأرسلت الكنيسة ـ وليس عيسى كما تقول الرواية ـ رسولين يتبعانها : برنابا ، ومعه بولس ، ليدعوا الناس ، فمحتمل أن أصحاب كتب التفسير الإسلامية تأثروا بقصة برنابا وبولس ، وقالوا : إنهما الرسولان المعنيان فى آيات سورة يس ، خاصة أن من أنطاكية كان «أغناطيوس» الذى استشهد فى روما ، و «يوحنا فمّ الذهب» ـ هكذا اسمه وكان من كبار الدعاة ، فمحتمل أيضا أنهما الرسولان المعنيان. وأيضا فإن برنابا وبولس زارا أنطاكية التركية وأهاج اليهود فيها الناس عليهما ، لأنهما يقولان : إن المسيح هو الله ، أو ابن الله. فطردوهما من المدينة (سفر الأعمال ١٣ / ٤٢ ـ ٥٠). وفى تلك الأيام قام واحد من الرسل اسمه «آغابيوس» (الأعمال ١١ / ٢٨) ، فأنبأ بالروح. والمستشرقون على القول بأن آغابيوس هو الرسول إلى القريتين. غير أن دعوة آغابيوس لغير الله لا تجعله صالحا ليضرب به المثل فى القرآن ، وكذلك برنابا وبولس لا يصلحان كمثلين فقد كانت دعوتهما للمسيح وليس لله ، وقصة القرآن للوعظ بأناس صالحين وليس بأناس مطعون فيهم. وأصحّ من ذلك كله أن القصة كما جاءت فى القرآن «مثل» كقوله تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) (يس).

* * *

قصة طالوت

٨٧٠. طالوت فى التوراة والقرآن

المستشرقون على القول بأن القرآن أخذ من التوراة ، ومن ذلك قصة النبىّ صامويل والملك طالوت Talut. وفى القرآن لا ذكر لاسم النبىّ ، وأنه صمويل ، أو صموئيل ، أو شموئيل Samuel ، ومعنى «صمويل» «هبة الله» أو «المنذور لله» ، حيث إيل اسم من أسماء الله الواحد ، فكأن اسم النبىّ إشارة إلى الله ، ومقتضى الاسم أنه «المؤتمن نبيّا للربّ» ، وكان أبوه قد تزوج امرأتين ، إحداهما حنّة فلم تنجب ، فدعت ونذرت إن أنجبت ولدا أن تهبه لله ، وأطلقت عليه صمويل لذلك ، فكان عبدا مخلصا ، ولكنه كان متزمتا ومتطرفا شديد

١٠٤٦

التطرف ، وعاش فى الهيكل ، فلما لمس فساد الأسرة الحاكمة دعا عليهم ، واستعلن له الله فصار قاضيا ، واستفحل أمره حتى كان الحاكم والمدافع والرئيس وممثل يهوه الربّ ، ولما كبر فى السن وشاخ أقام ولديه قاضيين يستخلفهما بعده ، فأساءا ، فظل يبحث عن ولى لعهده إلى أن وجده فى شاول Saul الذى هو طالوت فى القرآن ، واسم «شاول» يعنى «المسئول أمام الله» ، وأما اسم «طالوت» العربى فكما نقول : «أبو طويلة» ، وهو الاسم الذى يبدو أنه كان مشهورا به ، لأنه كان فارع الطول ، وأطول بنى قومه ، ولمّا نصّب ملكا اجتهد رأى نفسه ولم يكن يرجع إلى صمويل مما أغضب صمويل فعافته نفسه ، وصرف عنه تأييده ، واستبدله بداود ، وحزّ ذلك فى نفس شاول فصارت الحرب بينه وبين داود. ومات صمويل أثناء ذلك ، وانهزم شاول أمام الفلسطينيين فلم يجد إلا أن ينتحر بأن سقط على سيفه ، وانتحر معه بنوه الثلاثة وجميع رجاله. (الملوك الأول ـ الفصول من واحد إلى واحد وثلاثين).

فلما ذا اختار صمويل شاول ليكون ملكا مع أنه من أبناء الفقراء ، وقيل كان حمّارا ، والعهد بالملوك أن يكونوا من الأغنياء؟ والجواب : لأنه كان حسن السمت وقورا ، ولم يكن فى الإسرائيليين من هو أكثر احتراما منه ، وكان طويلا وأطول من أى من رجال إسرائيل ، وله ماهية ، وكان عقله راجحا ولذا اختاره صمويل للملك رغم أصله المتواضع ، وتشكك الناس فى صلاحيته (الملوك الأول ٩ / ٢ و ١٠ / ٢٤) ، ولما باركه صمويل صار باستطاعته أن يتنبأ مثله ، فعجبوا منه وسخروا أن يكون نبيا بعد أن أصبح ملكا ، وقالوا : أشاول أيضا من الأنبياء؟ فذهبت مثلا (ملوك أول ١٠ / ١٢) ، وازدروا شاول ، وتصامّوا عنه (ملوك أول ١٠ / ٢٧) ، إلا أنه ظهر لهم حنكته ، وأبان لهم عن علمه وقدرته ، ونصرهم وطرد عدوهم ، فصاروا يقولون : من الذى قال : أشاول يملّك علينا؟! وكان صمويل قد تنبأ بأن شاول هو مخلص إسرائيل من أعدائهم ، ولكنه انقلب عليه ، وبدا كأنه قد كذب فى نبوءته. فلما ذا تنكّر له وعاداه؟ الجواب : أن شاول لم يعمل بوصايا صمويل ، فقدّم الذبائح والمحرّمات ، ولم يطع الربّ ، ولمّا حارب الفلسطينيين لم يعمل القتل فى أغنامهم ، واختار أحسنها يضحّى بها ، وعفا عن ملكهم ، فكأنه تنكر للشريعة ، فاستغضبه ، فخلعه ونصّب داود (صمويل ١٥ / ١ ـ ٣٥) ، ولعنه حتى صار نجسا ، وبذلك كذبت فيه نبوءته (ملوك أول ٩ / ١٦). فهل هناك شبه بين القصة فى القرآن وقصة التوراة؟

فى القرآن فكرة النبىّ تختلف تماما عن فكرتها فى التوراة ، وفيها ـ أى فى التوراة ـ يأتى أن النبىّ هو الرائى ، فهكذا كانوا يسمونه قديما فصار اسمه فى عهد صمويل نبيّا ، فالنبىّ فى عرف الإسرائيليين هو العرّاف الذى يتنبّأ ، وصمويل فى قصة التوراة نبىّ وقاض

١٠٤٧

يحكم بالتوراة ، وفقيه يجتهد رأيه ، وعرّاف يتنبأ بالمستقبل ، ودعّاء يسترضى الربّ بكلماته ، وكان «أول نبىّ بعد موسى ويشوع» ، كما كان «آخر القضاة». وقصته يتضمنها سفرى الملوك الأول والثانى ، ويسمونهما لذلك سفرى صمويل. ولا ذكر لكل ذلك فى قصة القرآن إلا أنه نبىّ ، وبصفته اختار لهم شاول ملكا. يقول القرآن : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٢٤٦) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٤٧) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٤٨) فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) (٢٥١) (البقرة). وكما ترى فإن القرآن ينصرف اهتمامه إلى مضمون القصة ، والموعظة المستفادة منها ، ولا تعنيه التفاصيل ، ويتفق القرآن والتوراة فى اختيار النبىّ صمويل لشاول أو طالوت كملك لاعتبارات ، منها الطول ، إلا أن القرآن ينبّه صراحة إلى صفة العلم فى شاول ، ويجعلها قبل صفة الطول ، ويعبر عن ذلك التعبير البليغ : (إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) (البقرة ٢٤٧) فقدّم الاصطفاء على أية معايير مغايرة للاختيار. واتفق مع التوراة فى طلب الإسرائيليين من نبيّهم أن يجعل لهم ملكا كسائر الشعوب يقودهم ضد أعدائهم. وأيضا فإن قصة التابوت كما هى فى التوراة (يشوع ٣ / ١٤ ـ ١٧) تتشابه ومثيلتها فى القرآن ، إلا أن القصة القرآنية تجعل من حكاية طالوت مع التابوت آية ملك طالوت ، ودليلا على حسن اختيار صمويل له ملكا. ويأتى فى سفر يشوع حكاية مماثلة عن التابوت جعلت المفسرين العرب تضطرب رواياتهم حوله ، حتى قالوا إن صمويل اسمه كذلك يشوع ، مع أن يشوع بخلاف طالوت أو شاول ، وهناك فارق زمنى كبير

١٠٤٨

بينهما ، فيشوع أول الأنبياء وصمويل آخرهم. ويشوع عبر نهر الأردن ، وكلمة «نهر» فى القصة بلبلت الرواة والمفسّرين العرب ، ولا وجود للأردن فى قصة طالوت القرآنية. ومع ذلك فإن طالوت يصدق عليه أنه أتى بالتابوت ليسكنه فى مكانه بعد أن استولى عليه الفلسطينيون واحتفظوا به لديهم سبعة أشهر ، إلا أنهم أعادوه من تلقاء أنفسهم ، واستقر التابوت فى قرية يعاريم ، واستمر بها مصونا طوال فترة حكم شاول التى استمرت سنتين ، وهى آية لا شك فيها لكثرة ما نقل التابوت من مكان إلى مكان ، ولطول ما تبادلته الأيدى ، ولاستقراره فى حكم شاول. ثم إن شاول وقد كان معه التابوت (ملوك أول ١٤ / ١٨) ، أراد العبور به بينما الفلسطينيون يتربصون به الدوائر ، ولم يكن معه إلا فئة قليلة من الجند كما ذكر القرآن ، وأحصاهم التوراة ستمائة رجل (ملوك أول ١٤ / ٢ ـ ٦) ، فلأنهم قلة اعتراهم الخوف من عدوهم ، ولكنهم غامروا وعبروا وانتصروا وإنما بالحيلة. ويأتى فى القرآن أنهم شربوا من النهر إلا قلة ، والمقصود بالنهر على الحقيقة نهر الشريعة ، وكان ذلك من شاول أنه حلف عليهم أن لا يذوقوا طعاما قبل أن ينتصروا ، فلما صادفتهم غابة واخترقوها كان عسل النحل يجرى فى أشجارها أنهارا ، لكنهم خافوا أن يقربوه لأنهم أقسموا ، ولم يكن ابن شاول قد سمع بالقسم فمد يده بعصا يأخذ من نهر العسل ويتذوقه ، وفعل مثله آخرون وكانوا قلة ، وقلّدهم آخرون ، وشربوا من نهر العسل ، ثم إنهم لمّا انتصروا وغنموا الغنائم ذبحوا الذبائح حتى سالت دماؤها أنهارا ، فشربوا من نهر الدم ، ومن أجل أنهم نكثوا بأيمانهم غضب عليهم شاول وعاقبهم ، فالنهر فى القرآن هو هذا النهر الذى ذكرنا.

وأما حكاية جالوت مع شاول فإنه لمّا خرج مبارزا لجماعة شاول وكانوا قلة ، وصاح فيهم ما سمعوه جميعا ، فلو كانوا بالآلاف لما بلغهم صياحه ، فكانوا قلة فعلا (ملوك أول ١٧ / ١٠ ـ ١٢). واسم جالوت أو جليات بالعبرية معناه السبىّ بالسريانية ودخل العبرية بهذا المعنى ، وقيل : كان جالوت من عبيد الفلسطينيين. والأصح أن جالوت هو تصحيف عبرى للفظ الجوّال من جال بمعنى الكرّار ، الذى يجتال بسيفه ويلعب به ويديره على جوانبه.

والقصة القرآنية فى غاية البلاغة والإحكام والإيجاز ولاتدانها قصة التوراة ، وأنهاها الحق تعالى بعبارة هى فصل الخطاب ، قال : (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٢٥٢) (البقرة) أى هذه آيات الله التى قصصنا عليك من أمر الذين ذكرناهم بالحق ، والواقع الذى كان عليه الأمر المطابق لما بأيدى أهل الكتاب مما يعلمه علماء بنى إسرائيل ، وهو ما يثبت أنك يا محمد من المرسلين.

* * *

١٠٤٩

قصة جالوت

٨٧١. جالوت فى التوراة والقرآن

اسم جالوت يأتى فى كتب اليهود قبل القرآن ، وقيل هو اسم ، والحقيقة أنه ليس اسما ولكنه صفة ، من جلت السريانية يعنى ضرب ، وجالوت هو المقاتل الذى يحترف القتال ، ويأتى فى العبرية جليات أو جوليات Goliath ، قال المستشرقون إن قصته مع داود أخذها القرآن من التوراة ، مع أن قصة جالوت لم ترد فى التوراة وإنما فى سفر صمويل الأول ، بعد التوراة بزمن طويل ، فى الفصلين السابع عشر والواحد والعشرين. واسم جالوت هو تصحيف عربى للاسم السريانى ، واليهود على أن الاسم جليات يعنى أنه السبىّ ، أى أنه لم يكن سيدا فى قومه ولكن من الموالى ، وكان من بلدة فلسطينية تدعى جت ومعناها المعصرة ، فقد كان أهلها يعملون بعصر الزيتون ، ومعاصره لا يصلح لها إلا الأقوياء ، والعمل عليها أحرى بالموالى ، ولذا كان جالوت قويا ، وكانت المدينة حصنا من الحصون ، فكان جالوت وغيره من الموالى الأشداء يتعلمون فنون القتال للدفاع عن مدينتهم ضد اليهود الغزاة ، فقد كان اليهود كما هم الآن يغزون جيرانهم لتكون لهم أرض ودولة. وغالى صموئيل فى وصف جالوت ، تهويلا ومبالغة ، وربط بين اسمه جليات وبين أنه من الجبابرة ، وقال إن طوله كان تسعة أقدام يعنى ٢٧٠ سم! ولا يوجد إنسان فى أى عصر من العصور كان بهذا الطول! وقيل كانت أدوات حربه مناسبة لطوله ، وجعلها صمويل صاحب السفر الذى يحكى عن جالوت ـ أسطورة ، وضخّم فيها ليثبّت فى أذهان اليهود أنهم أهل حيلة وإن كان خصومهم أقوى ، وبالغ فى وصف الخوف الذى اعترى المقاتلين اليهود لمّا رأوا جالوت يبرز لهم. وقال صمويل على لسان شاول الملك إن داود كان غلاما ، وهو ليس صحيحا ، وإنما كان راعيا لغنم أبيه وإن كان أصغر إخوته الثمانية ، ويصف نفسه مباهيا فيقول إنه قتل أسدا ودبّا ، وما كان من المعقول أن يزوّجه الملك ابنته وهو غلام حدث ، ثم إنه سرعان ما نصّب ملكا وكان فى الثلاثين! وفى مشهد القتال استخدم داود السخرية لاستمالة قلب الملك شاول إليه ، فيرضى أن يخرج لقتال الفلسطينى جالوت. وغالى صموئيل فى وصف جمال داود ، ونعرف من بعد أن داود كان يعانى من اضطرابات نفسية تصيبه بالهوس الدورى ، وكان كثير الأخطاء والاستغفار ، ويستعذب أن ينزل بنفسه العقاب. ولم يخرج داود بأدوات قتال إلا من مقلاع وبعض الحجارة وعصا الرّعى ، فصوب مقلاعه إلى جوليات أو جالوت ، وأصابه الحجر منه فى جبهته ، وانغرز فيها ، وسقط جوليات على الأرض ، فعدا داود إليه وأخذ سيفه وقطع رأسه ، وانتهت الحرب

١٠٥٠

الحرب بين الفلسطينيين واليهود على ذلك ، لأنها لم تكن موقعة على الحقيقة ، ولكنهم كانوا جماعة من هؤلاء وأولئك يقفون فى صفين متقابلين ، فيخرج من هؤلاء واحد فيلاقيه واحد من أولئك ، فلما خرج جوليات تصدّى له داود بأدوات بدائية ، وبسبب جسارته وحيلته ، صار داود ملكا ، واعتبر خلعه للباس الحرب الذى ألبسه إياه شاول ، دليل ذكاء يحسب له كمحارب ، لأن جوليات كان يضع عدّة الحرب فكانت ثقيلة تبطئ حركته ، فاستغل داود تلك السلبية فيه ، وأسرع يلتف حوله ليتمكن منه.

ويعرض القرآن لقصة جالوت مع داود ضمن سورة البقرة وخلال سرده لقصة طالوت الذى هو شاول بالعبرية ، فقد كان شاول وجنوده قد جاوزوا النهر إلى جت ، فلما علموا أنهم ملاقو جالوت وجنوده قالوا : (لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٢٥١) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٢٥٢) (البقرة). وبمقارنة قصة صموئيل السالفة بقصة القرآن هذه ، يتبين الاختلاف بينهما كأوسع ما يكون الاختلاف ، والقصص فى الروح اليهودية للسرد تفصيلا وتهويلا بقصد إظهار عظمة شعب اليهود لا غير ، وأما فى الروح العربية فالقصص للعبرة والتدبّر ، وفيها الحكم ، وعباراتها تزجى كالأمثلة ، ومنها الكثير مما يعد من جوامع الكلم. ولم يورد القرآن اسم جالوت كشخصية تاريخية ، وإنما كرمز للقوة الغاشمة ، وفساد فرط الثقة بالنفس ، وعقم البغى وبطلان العدوان ، اعتمادا على القوة بلا إيمان. وجنود جالوت فى الرواية القرآنية هم أصحابه من جنسه وهيئته وصنعته. وليس فى الروايتين اليهودية والقرآنية أى ذكر لعدد الجنود من الجانبين. وفى الرواية اليهودية أن اليهود كانوا غالبية يملؤهم الخوف وإيمانهم على حرف ، ولم يرد أى شىء عن المؤمنين. وفى الرواية القرآنية فإن الدليل على قلة إيمان هذه الغالبية ، قولهم لا طاقة لنا بجالوت وجنوده ، غير أنه كان ضمن هؤلاء ثلة شديدة الإيمان ، وهؤلاء هم القلة الذين اجتازوا النهر وأطاعوا طالوت فلم يتناولوا من مائه ولو شربة ، وقال فيهم القرآن : (قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ) (البقرة ٢٤٩) ، والظن يتوسط الشك والوهم ، فالشك سلبى ، والظن لا هو بالسلب ولا بالإيجاب ، فإن مال للإيمان وللإيجابية صار يقينا ، وإن نحا إلى السلبية فهو الشك ، وإن كان على خطأ ظاهر فهو الوهم. وظن هؤلاء كان يقينا ، لأنهم قالوا : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ

١٠٥١

غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً) (البقرة ٢٤٩) ، والفئة هى الجماعة ، وقولهم تحريض على القتال ، واستشعار للصبر ، واقتداء بالمصدّقين من الأماثل ، وهؤلاء القلة هم الربّانيون المعنيون بالآية : (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (١٤٦) (آل عمران) ، ولذلك دعوا فى موقفهم القتالى فقالوا : (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) (٢٥٠) (البقرة) مثلما دعا غيرهم ، قالوا : (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) (١٤٧) (آل عمران) ، فهزموهم ، وإنما كان ذلك بإذن الله بحسب القرآن ، وافتقدنا مثل ذلك فى رواية صموئيل. وفى رواية القرآن قتل داود جالوت جهادا ، فكان أن آتاه الله الملك والحكمة وعلّمه مما يشاء ، وليس ذلك فى رواية صموئيل ، ثم يأتى فى القرآن هذا القول الحكيم والبديع كأبدع ما تكونا الحكمة : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) (٢٥١) (البقرة) ، فيتضح أن شرّ الظالمين والكافرين والمعتدين والبغاة يدفعه الله بالمؤمنين والصالحين والأخيار. وهذا هو الدرس المستفاد من قصة جالوت مع داود ، والذى حجب عن صموئيل فلم يره ولم يأت ذكره على لسانه ، ولم يتضمنه كتابه ، وآتاه الله النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى قوله : (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٢٥٢) (البقرة) ، تأكيدا بأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبىّ مرسل ، ولو لا ذلك ما أعطى زبدة الموضوع وخلاصته ، ولما أوتى هذه الحكمة التى حرمها صموئيل ، لأن صموئيل لم يكن نبيا على الحقيقة ولا رسولا ، وإنما كان كما قال الروائى والفيلسوف هيربرت چورچ ويلزH.G.Wells عن أنبياء إسرائيل : لم يكونوا أنبياء فعلا ولكنهم رجال دولة يخططون لتثبيت أركان دولتهم لا غير!

* * *

قصة داود بن يسى

٨٧٢. هل كان نبيّا ملكا أو ملكا فقط

بحسب التوراة فإن داود كان ثانى ملوك إسرائيل ، ويأتى بعد طالوت أول ملوكهم ، واسم هذا الأخير عند اليهود شاول ، وشاول هو الذى اختار داود ضمن أتباعه ، وكان داود من سبط يهوذا ، ويهوذا هو الذى وصفه يعقوب أبوه بأنه شديد البأس ، يميل إلى العنف ، وهو ابن ليئة ، وهو الذى أوعز إلى إخوته أن يبيعوا يوسف للإسماعيليين ، وهو أيضا الذى دخل على زوجة ابنه : «شيلا» باعتبارها بغيا ، وحملت منه سفاحا وولدت توأمين. فهذا إذن هو أصل داود كما تقصّه التوراة. واسمه داود يعنى «المحبوب» ، ويوصف مغالاة بأنه

١٠٥٢

وسيم ، وكان أصغر أبناء أبيه الثمانية. وفى سفر صموئيل تبدو شخصيته مضطربة ولا تخلو من لوثات خطيئة ، وكذلك كان طالوت ولى نعمته ، وكان داود يعالج طالوت بالموسيقى ، فكلما أتت طالوت نوبات الجنون ، أسرع داود بالعزف والغناء له على قيثار ، وتعلّم السياسة فى بلاط طالوت ، واشتهر بحربه مع الفلسطينيين ، وقتاله جالوت بمقلاع وهو ابن أربع عشرة سنة ـ وهذا الكلام أيضا من باب المغالاة ، فاليهود صنعوا منه أسطورة ـ وانهزم جالوت لثقل ما عليه من دروع ، وكافأه شاول ـ أى كافأ داود ـ بأن زوّجه من ابنته ، وازدادت شهرة داود ، وغار منه شاول ، وأراد أن يقبض عليه فهرب ، وجمع حوله مجموعة من المطاريد والمضطهدين ، وانهزم شاول فى جلبوع أمام الفلسطينيين ، ومات فى المعركة أبناؤه الثلاثة ، وجرح جرحا خطيرا ، فانتحر بأن أسقط نفسه على سيفه ، وخلفه داود وكان فى الثلاثين من عمره ، وشبّت حرب أهلية بسبب توليه الملك ، وتزوج كثيرا وأنجب الكثير من الأولاد ، ووضع تصميم الهيكل وبنى مدينة داود ، وكان عدوانيا فدخل فى حروب مع جيرانه ، وعمل على أن يخلفه ابنه سليمان.

وتختلف صورة داود فى كتب اليهود عن صورته فى القرآن ، فعند اليهود هو من الملوك وليس من الأنبياء ، وفى القرآن هو «نبىّ ملك» ، وفيه قال تعالى : (وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) (٢٥١) (البقرة) ، أى آتاه ملك طالوت الذى هو شاول ، كما آتاه نبوة صموئيل ، وتعلم فى بلاط شاول سياسة الملك والحرب والدين ، ودفع الله به البلاء عن قومه ، ولو لا ذلك لهلكوا. وفى القرآن : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) (٢٦) (ص) ، يعنى أن الله ملّكه ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، فتخلف من كان قبلك من الأنبياء والأئمة الصالحين ، ولتحكم بما أنزل الله. وقيل إنه لمّا ظلم أوريا الحثّى ودفعه إلى الحرب ليقتل ويتزوج امرأته ، كانت له فى الخليل سبع نساء بخلاف السرارى ، ولما سكن أورشليم تزوج خمس زوجات بالإضافة إلى السابقات ، وكانت له سرارى كذلك ، ورغم كل هذا العدد من النساء طمع فى امرأة أوريا فكان مثله مثل الأخوين صاحبى النعاج ، كقوله تعالى : (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) (٢٥) (ص) ،

١٠٥٣

وقيل إنه كان فى المحراب عند ما نظر من الكوة فأشرف على امرأة تغتسل فلما رأته غطت جسدها بشعرها ، فوقعت فى قلبه ، وبنى بها فحملت ولكنها أجهضت ، فعرف أن الله غاضب عليه ، ولازم المحراب حتى عفا عنه ربّه ـ فهكذا قال له الكهنة ، فحملت المرأة منه ثانية ، وفى هذه المرة ولدت ابنه سليمان! وقيل فى تشبيهه بالأخ صاحب التسع والتسعين نعجة ، هو أحسن تعريض فما كانت هناك نعاج ، ولم تكن لداود تسع وتسعون امرأة ، وربما كان هذا هو عدد نسائه جميعهن زوجات وسرارى ، والمقصود فى كل الأحوال ضرب المثل. ومعنى «اكفلنيها» أنزل لى عنها ، و «عزّنى فى الخطاب» أى غلبنى ، و «الخلطاء» ، الأصحاب. ولقد علم داود أنه قد فتن فاستغفر ربّه وتاب من خطيئته. وقيل إن داود مكث أربعين ليلة ساجدا حتى نبت العشب من دموعه على رأسه! وأكلت الأرض من جبينه! وهذا كلام يستحيل أن يتحقق! وهو من باب الأساطير الدينية اليهودية! وكان يقول فى سجوده : يا ربّ ، داود زلّ زلّة بعد بها ما بين المشرق والمغرب. ربّ ، إن لم ترحم ضعف داود وتغفر ذنبه جعلت ذنبه حديثا فى الخلق من بعده! ـ وكأنه لا يهمه إلا كلام الناس عنه. وقيل : لمّا غفر الله له قرّبه ، وضرب به المثل فى الصبر ، فقال تعالى مخاطبا النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (١٧) (ص) ، والصبر دليل النبوّة ، وكان داود ذا أيد ، يعنى قوى فى عبادته ، يصوم أشد الصوم وأفضله ، ويصلى أطول صلاة ، ويرتل أجود الترتيل ، فأعطاه الله المزامير ، يعنى ألهمه ، وقال : (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (١٦٣)) (النساء) ، والزبور هو المزامير ، وكانت تتنزل عليه بوحى من السماء ، وهى حكم ومواعظ وتسابيح وحمد وثناء على الله ، ولعن فيها الكافرين ، كقوله : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) (المائدة ٧٨). وحرّفت هذه المزامير مثلما حرّفت التوراة ، وزيد فيها وأنقص منها. وقيل : كان داود لا يأكل إلا من عمل يديه ، كقوله : (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) (سبأ ١١) ، ومحتمل أن أكله من عمل يديه أنه كان صاحب ورشة يعمل فيها العمال. والسابغات التى كان يصنعها هى الدروع السابغة أى الكاملة ، وكانت قبله صفائح ، فكانت ثقالا ، فأمر بالتقدير فيها بحيث تجتمع فيها الخفة والحصانة ، فلا تقصد الحصانة فيها فقط فتثقل ، ولا تقصد الخفة فقط فتزول المنعة ، والسرد حلق الدرع ، ولذلك يسمى صانع الدروع بالسرّاد ، وقال تعالى : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) (سبأ ١٣) ، والخطاب فى الآية لداود وأهله ، وشكرهم لما حباهم به ربّهم فقال : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) (١٠) (سبأ) ، وفضله تعالى عليه فى تسعة أمور : الأول : النبوة ؛ والثانى : الزبور أو المزامير ؛ والثالث : العلم ، قال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ

١٠٥٤

وَسُلَيْمانَ عِلْماً) (النمل ١٥) ؛ والرابع : القوة ، فقال : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ) (ص ١٧) ؛ والخامس : تسخير الجبال والناس ، قال : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ) (سبأ ١٠) ، والسادس : التوبة ، قال : (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) (٢٥) (ص) ؛ والسابع : الحكم بالعدل ، قال : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ) (ص ٢٦) ؛ والثامن : إلانة الحديد ، قال : (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) (١٠) (سبأ) ؛ والتاسع : حسن الصوت ، فقال : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ) (سبأ ١٠) ، ويشبّه النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلاوة أبى موسى الأشعرى وحسن صوته بما كان عند داود فقال له : «لقد أوتيت مزمارا من مزامير داود» ، والمزمار حسن الصوت ، وبه سميت آله الزمر. وقال تعالى : (سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) (١٨) (ص) ، وتسبيحها ترديدها لتراتيله. وأهل الحكمة على القول بالاقتداء بداود وأن نتعلم الصنائع ، فالتحرّف لا ينقص من المناصب ، وهو زيادة فى الفضل ، ويحدث التواضع ، والاستغناء عن الغير وكسب الحلال تعبير عن الامتنان ، وفى الحديث : «إن خير ما أكل المرء من عمل يده ، وإن نبىّ الله داود كان يأكل من عمل يده». ورغم كل هذه الفضائل لداود ، فقد كان سليمان أعلم منه وأكثر حكمة ، يعنى أكثر إصابة فى اجتهاداته وأحكامه. وفى القرآن قضية الأغنام التى نفشت فى الحرث بالليل ، فحكم داود بأن تدفع الغنم إلى صاحب الحرث ، والحرث إلى صاحب الغنم ، فلما خرج الخصمان على سليمان وكان يجلس على الباب قالا له : قضى بالغنم لصاحب الحرث. فتوجه سليمان إلى أبيه وقال له : يا نبى الله ، رأيت ما هو أرفق بالجميع ، فادفع الغنم إلى صاحب الحرث فينتفع بألبانها وأصوافها ، وادفع الحرث إلى صاحب الغنم ليقوم عليه ، فإذا عاد الزرع إلى حاله فى السنة المقبلة ، يردّ كل واحد منهما ماله إلى صاحبه ، وسرّ داود لتساوى القيمتين ، فذلك قوله تعالى : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) (الأنبياء ٧٩). فانظر يا أخى إلى عظمة قصة القرآن عن داود ، وعباراتها التى كلها حكم ، والدروس المستفادة منها ، وانظر إلى قصة داود كما تعرضها التوراة ، وينصرف اهتمامها إلى التفاصيل ، شأن الروايات المكذوبة ، فكلما زادت التفاصيل فاعلم أن الراوى يريد أن يثبت الكذبة بكذبة أكبر منها وهكذا. (انظر أيضا قصص جالوت ، وطالوت ، وسليمان).

* * *

٨٧٣. قصة داود وأوريا الحثى

تأتى هذه القصة فى القرآن من الأدب الرمزى ، يقول تعالى : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى

١٠٥٥

بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) (٢٥) (ص). والخصم الذين تسوّروا المحراب ـ برواية التوراة ـ هما ملكان فى صورة إنسيين ، فعلا ذلك كى لا يراهما أحد ، فما درى داود وهو فى الصلاة إلا وهما بين يديه جالسين. وكان سبب ذلك حكاية بتشابع بنت اليعام امرأة أوريا الحثّى ، وكان داود عند المساء قد قام عن سريره يتمشى على سطح بيت الملك ، فرأى من السطح امرأة تستحم وكانت هى بتشابع ، وكانت جميلة جدا ، فأرسل يسأل من تكون ، وبعث من أحضروها له ، ودخل عليها ، ورجعت إلى بيتها. وحملت المرأة فأرسلت تخبر داود ، فأرسل إلى قائد جيشه ليرسل إليه زوجها ، ولمّا جاء استخبره عن الجيش والحرب ، ثم أرسله ليبيت فى بيته مع امرأته ، لكن أوريا رفض أن ينام مع امرأته بينما الجيش فى الحرب ، وأعطاه داود إجازة يومين ، فأصر أن لا يبيت فى بيته طالما زملاؤه فى الحرب ، وسهر معه وأسكره وأرسله إلى بيته فلم يفعل ، فاضطر داود أن يرسل كتابا معه إلى قائد الجيش يأمره أن يوجه أوريا إلى حيث يكون القتال شديدا كى يموت ، وفعلا قتل أوريا ، وعلم داود ، وناحت امرأة أوريا على زوجها ، ولما تمت أيام مناحتها ضمّها داود إلى بيته واتخذها زوجة ، وولدت له ابنا ، وساء ما صنعه فى عينىّ الربّ ، فجاءه النبىّ ناتان وقال له حكاية عن رجلين ، أحدهما فقير والآخر غنى ، وكان للغنى غنم وبقر كثيرة جدا ، ولم يكن للفقير سوى نعجة صغيرة ، اشتراها وربّاها وكبرت عنده مع بنيه ، وتأكل من لقمته ، وتشرب من مائه ، وترقد على حصيره ، وكانت عنده كابنته. وحدث أن نزل بالغنى ضيف فاستخسر أن يذبح له من غنمه وبقره ، واستولى على نعجة الفقير وذبحها ليقدمها للضيف. واستمع داود للقصة فغضب على الغنى ، وقال لناتان : إن هذا الغنى يستحق القتل! وحكم بأن يعطى الفقير ثمن النعجة أربعة أضعاف! فقال له ناتان : أنت هو الرجل. أعطاك الربّ كل شىء فلم تقنع ، وطلبت المزيد ، وفعلت المنكر ، وقتلت أوريا الحثىّ بالسيف ، وأخذت امرأته! وحكم عليه ناتان : أن لا يفارق السيف يديه إلى الأبد ، جزاء أنه ازدرى شريعة الربّ وأخذ زوجة غيره لنفسه بعد أن تآمر على قتله ، ولذلك سوف يأتيه الشرّ من داخل بيته ، وسيأخذ أزواجه غيره ، ولمّا كان قد فعل ما فعل خفية ، فإن الربّ يفعل فيه مثلما فعل مع «أوريا» فى العلن وعلى مرأى من جميع إسرائيل ، وفى وضح النهار ، وأن الابن الذى يولد له سوف يموت. وبالفعل مرض الابن ، وصام داود وارتمى على الأرض يتضرّع إلى الله ،

١٠٥٦

وظل كذلك أسبوعا ، ثم مات الصبى ، فقام وادّهن ، وارتدى ثيابه ، ودخل بيت الربّ فسجد ، وعاد إلى بيته فأكل ، وحار فيه عبيده وقالوا له : لمّا كان الصبى حيا صمت وبكيت ، ولمّا مات قمت وأكلت؟ فقال : لما كان حيا صمت وبكيت لعله يشفى ، فلما مات ، فلما ذا أصوم؟ هل أستطيع أن أردّه؟ وعزّى امرأته بتشابع وضاجعها ، فحملت وولدت ابنا سمّاه سليمان! (٢ ملوك ١١).

فهذه هى قصة التوراة عن داود مع بتشابع امرأة أوريا ، وما فعله ليصل إليها ، وكيف بنى بها وأنجب منها سليمان ، وداود فيها زان ، ومصرّ على الزنا ، وابنه سليمان ابن سفاح ؛ ورواية القرآن نقيض ذلك تماما ، وتصوّر مجمل القصة أجمل تصوير ، وتختصرها بلا إخلال ، وتركز أحداثها ، ثم تستنبط الدروس المستفادة من القصة وتنبّه إليها ، فلو لا أن الله غفور لكان داود قد لحقه دمار أى دمار بما فعل ، ولكن حسناته كانت أكثر من سيئاته ، وكان به علم وحكمة برغم كل شىء ، وتكفيه المزامير شفيعا له عند ربّه.

* * *

٨٧٤. الزبور كتاب داود

يأتى فى القرآن عن داود والزبور قوله تعالى : (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) (١٦٣) (النساء) ، وقوله : (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) (٥٥) (الإسراء) ، والزبور عموما هو «الكتاب» من زبرت أى كتبت ، تقول : أنا أعرف تزبرتى ، أى كتابتى ؛ والجمع «زبر» كقوله تعالى : (جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) (١٨٤) (آل عمران) ، وقوله : (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) (٥٢) (القمر). والزبور تقرأ مفتوحة الزاى أو مضمومة ، والأصل فى معناها أنها تفيد التوثيق ، أى أن الزبور هو الكتاب الموثق المضمون. وقيل : الزبور من الزّبر وهو الزّجر ، تقول : زبرت الرجل أى انتهرته ، وزبرت البئر أى طويتها بالحجارة. والزبور : هو الكتاب الصعب غليظ الكتابة. وقيل : الزبور ككتاب مقصور على الحكم العقلية دون الأحكام الشرعية ؛ والكلمة بحسب الأصول الأجنبية هى مزمور ، والجمع مزامير ، وهى الأناشيد التى تغنّى بمرافقة المزمار ، وكانت هذه الآلة أيام داود ، وكان يحب أن ينفخ فيها ويغنى بمرافقتها. ويتألّف المزمار من سبع أو ثمانى قطع من القصب مختلفة الطول ، وأكثر ما يستخدمه الرعاة فى الإنشاد أو الغناء فى الوديان. والمزمور له شكل الدعاء أحيانا وأحيانا أخرى له شكل الموال ، والكثير من دعاء النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأنه مزامير يصحّ الإنشاد أو التغنى به.

ومزامير داود سفر من أسفار كتب العهد القديم ، واليهود يسمونه سفر المزامير ، أو كتاب الحمد ، ودعاه المسيح كتاب المزامير ، واشتهر باسم مزامير داود ، وورد به ١٥٠

١٠٥٧

مزمورا ، منها ٧٣ ينسبونها لداود. وتقسّم إلى خمس مجاميع أو خمسة كتب ، تنتهى كل منها بدعاء ، ويأتى فى نهاية اثنين منها لفظة آمين تتكرر مرتين ، وآمين لم تكن ضمن المتن ، ولكن جامعى الكتاب هم الذين أضافوها. متى؟ لا ندرى. وهذا التقسيم الخمسى يرمز إلى أسفار موسى الخمسة ، وكأن جامعى الكتاب أرادوا أن يجعلوا للمزامير مكانة كمكانة كتب التوراة الخمسة ، وهذه الأقسام تبتدئ بالمزامير ١ ، و ٤٢ ، و ٧٣ ، و ٩٠ ، و ١٠٧ على الترتيب. والقسم الأول منها ٣٧ مزمورا لداود ، أربعة منها ، وهى ١ ، ٢ ، ١٠ ، ٣٣ ، لمؤلفين غير معروفين ، ويدعونها لذلك المزامير اليتيمة. والقسم أو الكتاب الثانى يتضمن ٣١ مزمورا ليس منها شىء لداود ، وكذلك القسم الثالث يتضمن ١٧ مزمورا ليس منها شىء لداود ، والرابع ١٧ مزمورا من ٩٠ إلى ١٠٦ ، منها مزمور واحد لموسى هو المزمور ٩٠ ، ومزموران لداود هما : ١٠١ و ١٠٣ ، والبقية لمؤلفين غير معروفين. والخامس ٤٤ مزمورا ، منها ١٥ لداود ، وواحد لسليمان ، والباقى لمؤلفين غير معروفين. فهذه ١٤٦ مزمورا فقط ، منها خمسون مزمورا لداود. وبعض المزامير يتكرر ، وبعض خواتمها فى غير أماكنها. ومن الواضح أن كل محاولات الجمع والإضافة والتأليف والتحريف وغيره قد تمّ بعد سبى بابل ، أيام عزرا ، ولذا يلاحظ أن العواطف والمشاعر التى تعبر عنها المزامير ليست واحدة ولكنها بأساليب متغايرة ، وتتوافق مع أحداث على مر أزمان عديدة منذ عصر داود إلى ما بعد السبى ، أى نحو الألف سنة أو أكثر ، ومنها ما لا يمكن فهمه. وقسّموها بحسب موضوعاتها إلى : مزامير الحمد والتسبيح ، ومزامير الشكر ، ومزامير التوبة ، ومزامير الدعاء ، ومزامير أساسها وعود الله ، ومزامير تعليمية.

وكما ترى فإن كتاب الزبور ، أو المزامير الحالية ، ليست كلها لداود ، وليست جميعها على وتيرة واحدة وبأسلوب واحد ، ومع ذلك فهى دعوات للخير وإن كان التعصب فيها للإسرائيليين شديد ، ولكنها تصلح للدعاء لأى جماعات أو أفراد من أية ديانات مع تعديل بسيط.

* * *

٨٧٥. هل اقتبس القرآن من مزامير داود

يأتى فى القرآن : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) (١٠٥) (الأنبياء) ، والمستشرق هوروفتس على القول بأن القرآن اقتبس الآية من مزامير داود ، وأنها تكاد تكون طبق الأصل للعبارتين منها : «إن الذين يباركهم يرثون الأرض» (٣٦ / ٢٢) ، «والصدّيقون يرثون الأرض ويسكنونها إلى الأبد» (٣٦ / ٢٩). وفارق بين

١٠٥٨

الصياغتين العبريتين والصياغة العربية ، فأولا نسب القرآن المعنى للزبور ، وقال : «كتبنا» أى أن الأمر وحى من الله ، و «الذكر» هو التوراة ، فالقضية سواء بطرح التوراة أو الزبور (المزامير) أو القرآن ، الأصل فيها الله ، ونسبة العبارة للمزامير دليل على صدق القرآن ، وهى له وليست عليه ، وكان الأحرى بهوروفتس أن يصدّق القرآن ، طالما أن القرآن يصدق ما قبله : (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) (البقرة ٩٧) ، أى نزل مصدّقا لما سبقه من التنزيل. وما كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد اطّلع على ترجمات للمزامير ، فأول ترجمة لها بالعربية كانت فى القرن الثانى الهجرى ، فكيف كان يتسنّى لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعرف ما فى المزامير؟ ثم إن المزامير ١٥٠ مزمورا ، منها ٧٣ فقط نسبت لداود ، ومنها المزمور ٣٦ الذى قيل إن العبارة السابقة منه ، يعنى أن القرآن يصدق مرة ثانية فى نسبة العبارة للزبور الذى هو كتاب داود فلم يخطئ ونسب إلى داود شيئا لم يقله ، ومزامير داود هو هذه المزامير التى عددها ٧٣ دون غيرها من المزامير المضافة عليها مجهولة المؤلف. وثمة اختلاف آخر : أن عبارتى المزامير بشارة للأخيار الذين يباركهم الربّ ، والكلام فى المزمور كله عن استئصال الأشرار وتمكين الأخيار. وأما فى الآية القرآنية : فالكلام قضية منطقية كلية صادقة ، يقول : (الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) (١٠٥) ، ويقول بعدها : (إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦) وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (١٠٧) (الأنبياء) ، فجعل هذه القضية من قضايا الإعلام الإسلامى ، ينبّه إليها الجميع ، وكان بلاغ توريث الأرض أحد البلاغات الكثيرة الصادرة عن الله تعالى خلال بعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجعل توريث الأرض للصالحين أصلا من الأصول فى السياسة الإسلامية ، وفى الاقتصاد والحكم ، وجعل الصلاح سببا لاستحقاق الوراثة ، فلم يجعلها بالعصب وإنما بالصلاح. ووجّه البلاغ للعالمين ليحيطوا به علما ، ولتعمل بمتقتضاه جماعة المؤمنين ، وفى ذلك كل الرحمة بهم ، وكان المبلّغ بها ـ وهو محمد ـ بمقتضى هذه البشارة والنذارة معا التى حمّلها ، رحمة للعالمين كذلك. فهل مثل هذه المعانى السياسية والتربوية والاقتصادية مما يمكن أن يتضمّنه نصّ المزمور؟ والجواب بالنفى وإنما هو مجرد نصّ بدلالة ضحلة ، والقرآن وسّع دلالته وصنع من عبارتى المزمور ومن غيرهما علما استنباطيا إضافيا هو علم الإسلام السياسى.

* * *

٨٧٦. الإسرائيليات فى تفسير آية توريث الأرض للصالحين

الآية : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) (١٠٥) (الأنبياء) مصدر خلاف بين المفسرين لغلبة الإسرائيليات على توجهات الكثيرين منهم من

١٠٥٩

القدامى ، قالوا : إنه طالما أن الآية ذكر فيها الزبور فالمقصود بعبادى الصالحين اليهود الصالحون ، والأرض على ذلك هى الأرض المقدسة. ذكر ذلك الماوردى. وقال آخرون إن الأرض هى الجنة ، وقال أهل الإسلام إن الآية عامة ، وإن الأرض هى أرض الأمم الكافرة يرثها المؤمنون عامة : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها) (الأعراف ١٣٧) ، وذلك هو الصحيح وليس أن الأمر قاصر على اليهود الصالحين دون غيرهم كما تزعم الإسرائيليات ، وهو أيضا واقع الحال والمشاهد عبر التاريخ : أن صلاح الأمم يكون معه علوها وسيادتها.

* * *

٨٧٧. نموذج من زبور داود من سفر المزامير

يقول داود : التّقىّ من لم يجالس المنافقين ، ولم يعاشر الخطّائين ، ولم يجد نفسه مع المستهزئين بالدين ، وهواه مع كتاب الله يتلوه بالليل والنهار ، وهو كالشجرة المزروعة على مجرى الماء ، تؤتى ثمرها فى أوانه ، وورقها لا يذبل ، ونقيض ذلك المنافق ، وطريقه طريق الهلاك.

ويقول : يا أيها الملوك تعقّلوا ، واتّعظوا يا قضاة الأرض ، واعبدوا الربّ بخشية ، فطوبى للمعتصمين بالله.

ويقول : ب السلام اضطجع وأنام ، لأنك أنت يا ربّ وحدك فى طمأنينة أنزلت علىّ السكينة. إنّ سافك الدماء والماكر يمقته الله. فابعدوا عنى يا جميع فاعلى الإثم ، فإنى فى كل ليلة أبكى وتغرق دموعى سريرى ، وإن جسمى ليذبل من الكرب ، وما أعانى من الندم أهرمنى ، فاسمع يا ربّ تضرّعى ، واقبل صلاتى ، وخلّصنى من مضطهديّ ، ونجّنى من الشرير الذى يحفر الآبار فلا يسقط فيها إلا هو ، وضرره يرتد على نفسه ، وعلى هامته يقع جوره.

ويقول : يا ربّ ، يا سيدى ، ما أعظم اسمك فى كل الأرض. فأنت ملجأ الملهوف ، وملاذ من يعانى الضيق ، والعارفون بك يتوكلون عليك ، ولم تخذل من دعوك ، ومن نسى الله نساه ، وفى الجحيم أرداه ، وليس على الدوام ينسى المسكين ، ولن ينقطع رجاء البائسين.

ويقول : أحبّك يا ربّ ، يا قوتى ، وصخرتى ، وملجئى ، ومنقذى. أثابنى الربّ بحسب برّى وطهارة يدى ، لأنى لم أعصه ، فأحكامه أراعيها ، وسننه لا أحيد عنها ، فأثابنى الربّ بحسب برّى ، وأنت يا ربّ سراجى ومنير ظلمتى.

* * *

١٠٦٠