موسوعة القرآن العظيم - ج ١

دكتور عبد المنعم الحفني

موسوعة القرآن العظيم - ج ١

المؤلف:

دكتور عبد المنعم الحفني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة مدبولي
الطبعة: ١
ISBN: 977-208-442-2
الصفحات: ١٢٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

لغات أقوام من الأقليات المنتشرة فى العالم. ويساعد على ترجمة الأناجيل حركة التبشير التى تعم البسيطة كلها ، واشتغال القساوسة الدعاة بالوعظ بلغات الناس التى يتكلمونها يوميا ، ولذلك فقد ترجموا الأناجيل إليها دون أن يحفلوا بما نسميه بلاغة الترجمة ، فالمهم نقل المعنى بأبسط أسلوب يمكن أن يفهمه الناس. والقرآن اشتغل بترجمته المستشرقون أولا ، ليطعنوا فيه ، ويردّوا على ما جاء به من تصحيحات للديانات. وكان أول من بدأ الهجوم على القرآن يوحنا الدمشقى (نحو ٦٥٠ ـ ٧٥٠ م) ، وتوجه نقده للنسق العام للقرآن ، وتابعه إيثومس زيجابنيوس فى كتابه «العقيدة الشاملة». وكانت أول ترجمة للقرآن بين سنتى ١١٤١ و ١١٤٣ م ، وكانت اللغة اللاتينية هى لغة القساوسة والمشتغلين بالدراسات الإنسانية والأدب ، وترجم القرآن بها بناء على توصية من بطرس المبجّل راهب ديركلونى بفرنسا ، وقام بالترجمة روبرت لرتينى الإنجليزى ، وهيرمان الهركاشى الألمانى ، وراهب أسبانى عربى ، ولم تنشر هذه الترجمة إلا بعد أربعة قرون.

وتسبب هذا الهجوم على القرآن والإسلام من قبل إمبراطور بيزنطه جان كانتا كوزين ، فى إقدام كثيرين من النصارى على نقد القرآن بمختلف اللغات ، حتى باللغات السريانية والإرمينية والعربية. ولم يتوقف هذا الهجوم المدفوع إليه من قبل الدولة البيزنطية إلا بسقوط هذه الدولة وفتح القسطنطينية سنة ١٤٥٣ م ، واستمرت الهجمات النصرانية ، تحضّ على كراهية القرآن ، وتضرم نيران البغضاء لأهله ولنبيّه ، وكان للكنيسة الكاثوليكية قصب السبق فى ذلك ، وتزعم هذه الحملات الكردينال نيقولا دى كوسا ـ وهو المعدود من فلاسفة النصرانية (١٤٠١ م ـ ١٤٦٤ م) ، بإيعاز وتشجيع بابا روما بيوس الثانى ، ونشر رسالته الشائهة «غربلة القرآن» سنة ١٥٤٣ م ، وتوجه اهتمامه إلى استخراج الإقرارات الواردة فى القرآن بالنصرانية وبالمسيح والأناجيل ، واستعرض مخالفات القرآن للنصرانية كما تطرحها الكاثوليكية ، ونبّه إلى ما ظنه تناقضات وردت فى القرآن. وتوالت الكتب المعادية تباعا ، يحبّرها قساوسة الدومينكان والجزويت ، ومن ذلك بالفرنسية كتاب ميشيل نان «ضد القرآن والقرآنيين دفاعا وبرهانا» سنة ١٦٨٠ م ، غير أن أشرس النصارى هجوما كان لودفيجو ماراتش الإيطالى (١٦١٢ ـ ١٧٠٠ م) فى كتابه «عالم النصّ القرآنى» سنة ١٦٩٨ م فى مجلدين ، أعطى الأول اسم «مقدمة فى دحض القرآن» ، وقصر الثانى على ترجمة القرآن إلى اللاتينية ، وضمّن الكتاب حواشى للتفسير والشرح والنقد ، وأرفق بالترجمة النص العربى ، وفيما يبدو فإن ماراتش هذا كان يعرف العربية وإنما معرفة عرجاء ، فجاءت ترجمته سيئة للغاية ، وحافلة بالأخطاء ، ونقده ساذجا وغير منطقى ويعتمد على المغالطات.

١٠١

وترجم القرآن شفيجر النورمبرجى إلى الألمانية سنة ١٦١٦ م ، ثم ترجمه سيور دوريز إلى الفرنسية سنة ١٦٤٩ م ، وعن هذه الترجمة قدّم الإنجليزى الكسندروس ، قسيس كاريسبروك ، سنة ١٦٤٩ م ، أول ترجمة إنجليزية ، ثم ظهرت ترجمة لاتينية ثانية للأب مارتشى البادوى سنة ١٦٩٨ م ، وطبعت هذه الترجمة فى انجلترا أربع مرات فى السنوات ١٧٣٤ ، و ١٧٦٤ ، و ١٨٠١ م ، وصدرت أول ترجمة روسية سنة ١٧٧٦ ، ثم نشرت ترجمة ثانية بالفرنسية سنة ١٧٨٣ م ، وترجمة ثالثة سنة ١٨٤٠ ، وأعيد طبعها سنة ١٨٤١ ، ثم سنة ١٨٦٧. وتعتبر الترجمة الألمانية الصادرة سنة ١٨٤١ أول ترجمة يمكن أن توصف بالجودة وقد توفر عليها فلوجل ، وتميزت الترجمة الإنجليزية التى أصدرها رودويل سنة ١٨٦١ بترتيب السور بحسب نزولها تاريخيا. وفى سنة ١٩٢٩ صدرت ترجمة أخرى إيطالية لبونللى ، ثم ترجمة تشيكية لنيكل ١٩٣٤ ، ثم ترجمة شير علىّ الباكستانى الإنجليزية سنة ١٩٥٥ ، وترجمة بالتيمور الإنجليزية سنة ١٩٥٦ ، وهناك غير ذلك ترجمة خالد شلدريك الإنجليزى المسلم بلغة الاسبرانتو سنة ١٩١٤ ، وتوفر مجمع البحوث الإسلامية فى مصر على إصدار ترجمات إنجليزية وألمانية وروسية ، وكانت هناك محاولات ترجمة إلى التركية والأوردية والفارسية والجاوية والملوية والصينية ، بخلاف ترجمات أخرى كثيرة صدرت مؤخرا مثل ترجمة جاك بيرك الفرنسية. وكانت أكثر الترجمات بالإنجليزية ، ثم الفرنسية ، فالألمانية ، فالإيطالية ، ويا ليت هناك ترجمات بالسواحلية ، ولغات جمهوريات آسيا الوسطى ، ودول أوروبا الشرقية والغربية ، ودول أمريكا اللاتينية. وأحصيت خمس ترجمات بالفارسية وبالتركية ، وأربع بالصينية ، واثنتان بالأفغانية ، وواحدة بالجاوية ، وأخرى بالأوردية.

ولوحظت فى كل هذه الترجمات عيوب خطيرة وأخطاء فاحشة مما رجّح الرأى الذى يدعو إلى عدم ترجمة القرآن ، وكثير من هذه الأخطاء متعمدة. والترجمة فى الاصطلاح تفسير بلغة المترجم ، إلا أن شرط الترجمة أن تفى بجميع معانى النصّ القرآنى وبكل مقاصده. والترجمة كعلم إما حرفية وإما تفسيرية ؛ والحرفية هى التى يراعى فيها الأصل من حيث نظم الكلام وترتيبه ، وتقوم على اختيار المرادفات للألفاظ الأصلية ، وأما التفسيرية فهى ترجمة للمعانى ، ولذا تسمى كذلك الترجمة المعنوية ، وإنما تسميتها بالتفسيرية لأنها تشبه التفسير. ويقتضى حسن الترجمة أن يكون المترجم ملما إلماما واسعا باللغة التى يترجم منها ، واللغة التى يترجم إليها ، وأن يحيط علما بأساليبهما وخصائص كل لغة ، فإذا ترجم استوفى المعانى بأصولها ومقاصدها ، وراعى أن لا تكون الترجمة حرفية أى محاكية

١٠٢

للأصل ، وإنما تستقل بنفسها ، كأنما قد ألّفت بهذه اللغة ولم تنقل عن لغة أخرى ، مع الأمانة فى النقل وعدم التزيّد فى الشرح أو التفسير ، وإنما الاقتصار على الأصل دون استطرادات. والمقصود بمعانى القرآن معانيه الأصلية ومعانيه التابعة ، والترجمة التفسيرية هى التى تلزم المعانى جميعها ، ومقاصد القرآن التى ينبغى المحافظة عليها فى الترجمة ، مداها أنه كتاب فى الهداية ، وأن آياته يتعبّد بها ، وأنه معجزة تشهد بنبوة محمد ، وأنه صاحب رسالة ، وعلى ذلك فإن الترجمة التى تراعى معانى القرآن ومقاصده باعتبارها أداة تبليغ للرسالة ، وتعريف بأحكام الإسلام ، وبيان للناس بمرادات الله بالقرآن ، هى ترجمة مشروعة ، فإذا كانت الترجمة تراعى اللفظ أولا دون إخلال بالمعانى ولا المقاصد فإنها جائزة. وقد تكون الترجمة تفسير للقرآن بمفهوم المفسّر لكتاب الله ، وباللغة التى يتقنها وينقل إليها ، أى أنه يحكى عمّا فهمه من آياته ، وما يعرفه من تاريخه ، ومن حياة النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمجريات التى وقعت فى مختلف المشاهد ، وهذا جائز كذلك ، لأن التفسير فى اللغة هو البيان والتوضيح ، والمترجم استوفى ذلك. وفى كل هذه الأحوال ينبغى التنبيه بأن يكون العنوان الوارد على الكتاب هو «ترجمة معانى القرآن» أو «تفسير القرآن بلغة كذا» ، وأن ينبّه إلى ذلك فى المقدمة ، فبمثل ذلك يمكن تفادى اللبس على القارئ ، ويتيسر عليه فهمه ، وبذلك يمكن دفع شبهات المتخرّصين على الإسلام وأعدائه ، وتنوير الراغب فى التنوير منهم ، وإزالة السدود والعوائق التى زادت وربت على مرّ السنين بتأثير المبشّرين القوّالين. ومن الواجب أن يعرف العالم عن القرآن ، وأن نسهّل قراءته على الناس بلغاتهم. والدعوة للإسلام لا تقتصر على العرب ، والله تعالى ربّ العالمين ، وهو تعالى خلق الناس شعوبا وقبائل ليتعارفوا ، والأولى أن يعرف الآخر عن الديانة التى نلتزمها ، والتبليغ واجب على كل مسلم ، والمسلمون أمة بلاغ ، وإذا تعذرت الترجمة على المسلم لمعانى القرآن التابعة ، فلا تثريب عليه لو اقتصر على ترجمة المعانى الأصلية ، وإن كان الاقتصار على المعانى الأصلية دون التابعة فإنها لا تسمى ترجمة ، فشرط الترجمة كما قلنا استيفاء المعانى كلها أصلية وتابعة.

وقد روى أن سلمان الفارسى كتب لأهل فارس ترجمة للفاتحة بالفارسية ، فكانوا يقرءون بترجمته فى الصلاة ، فمن كان لا يعرف العربية ويتعتع فيها فلا تثريب عليه أن يكون كلامه بالقرآن فى الصلاة ترجمة. غير أن مختلف المذاهب الإسلامية تحرم ذلك ، فالشافعية قالوا لا تجوز قراءة القرآن بغير لسان العرب ، وقالت المالكية والحنابلة نفس الشيء ، وكذلك الحنفية. ومن رأى الشافعى أن قراءة الفاتحة فى الصلاة لا بد أن تكون بالعربية ، فإذا

١٠٣

لحن المصلى الأعجمى بلهجته الأعجمية فى غير ذلك من القرآن لا تبطل صلاته ، يعنى أن اللسان الأعجمى بعد قراءة المفروض من القرآن وهو الفاتحة ، لا يبطل الصلاة ، وقد عمّم ذلك فصارت أسماء الله وصفاته والمتشابه من الحديث لا بد فيها أن تقرأ كما هى بالعربية ، ولا يجوز ترجمة معانيها.

* * *

١٣١. ثلاثة ليس لها أصل : التفسير والملاحم والمغازى

هذا كلام أحمد بن حنبل ، وفى رواية أخرى قال : ثلاثة كتب لا أصل لها : المغازى ، والملاحم ، والتفسير. ويقصد بذلك أن ينبّه إلى الوضع فى أحاديث هذه الأبواب الثلاثة ، وكذلك ما تخلل هذه الأحاديث والتفسيرات من إسرائيليات. وكلام الإمام أحمد فيه ما يجعل المتلقى للتفسير والملاحم والمغازى لا يأمن الكذب فيها ، إلا أنه قد أورد فى مسنده أحاديث كثيرة فى التفسير ، فكيف ينفى مصداقية الأحاديث فى التفسير وهو نفسه قد اعتقد فيها وأورد عنها وأخرجها؟ ومن غير المعقول أن كل ما ورد بشأن المغازى والسّير مكذوب ومنتحل ، وفيما يبدو فإن مقصود الإمام أحمد أن ما جاء عن هذه المغازى والسير ، وما ورد من التفاسير للقرآن ، كان مكذوبا فى كتب بعينها. وقول القائلين إن هذا الحديث لا يصحّ ، أو لم يثبت ، هو من اصطلاحات الإمام. وكلامه محمول على كتب بعينها ، أشهرها تفسير الكلبى ، وتفسير مقاتل بن سليمان ، وقال فى الأول : من أوله الى آخره كذب لا يحل النظر فيه. وعلى ذلك لا يجوز الاستشهاد بعبارة الإمام أحمد للتشكيك فى أحاديث التفسير كلها ، وإنما فى بعضها.

* * *

١٣٢. هل يحتاج القرآن إلى تفسير؟ وهل كانت كتب التفسير

مصدر للّبس والخلط ونشر الخرافة والترويج للإسرائيليات؟

القارئ للقرآن ، الطالب لفهمه واستيعاب معانيه ، فى حاجة إلى القراءة فى كتب التفسير ، والتفسير مطلب عام لكل الكتب الدينية ؛ وكان لليهود والنصارى فيه باع طويل ، إلا أن كتب النصارى أقل عددا من كتب اليهود فى التفسير ، لأن الأناجيل صغيرة الحجم ، والتصدّى لها بالتفسير قد يكشف عن تناقضها وتخالفها.

وأسفار العهد القديم تفرض على القارئ لها أن يلجأ الى ما يعينه على فهمها ، إلا أن طول الأسفار جعل من الصعب المجازفة بتفسيرها ، والكتب التى تصدّت لذلك قليلة.

وفى الإسلام تكثر كتب التفسير ، وأصبح التفسير عند المسلمين علما من العلوم ،

١٠٤

وقالوا فيه : إنه العلم الذى يعرف به نزول الآيات وشئونها وأقاصيصها ، والأسباب النازلة فيها ، ثم ترتيب مكيّها ومدنيّها ، ومحكمها ومتشابهها ، وناسخها ومنسوخها ، وخاصها وعامّها ، ومطلبها ومقصدها ، ومجملها ومفسّرها ، وحلالها وحرامها ، ووعدها ووعيدها ، وأمرها ونهيها ، وأمثالها إلخ.

وذهب آخرون الى أن التفسير : هو علم كيفية النطق بألفاظ القرآن ، ومدلولاتها ، وأحكامها الإفرادية والتركيبية ، ومعانيها التى يحمل عليها حالة التركيب وتتمّات ذلك. وقيل التفسير : علم يفهم به كتاب الله المنزّل ، وبيان معانيه ، واستخراج أحكامه وحكمه ، واستمداد ذلك من علوم اللغة ، والنحو ، والصرف ، والبيان ، وأصول اللغة ، والقراءات ، ويحتاج إلى معرفة أسباب النزول ، والناسخ والمنسوخ.

وكلما بعد الناس عن اللغة العربية ظهرت الحاجة أكثر إلى التفسير ، ومثلما على المؤمن أن يقرأ القرآن امتثالا لآيات كقوله تعالى : (اقْرَأْ) (العلق) ، وقوله : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) (٢٠) (المزمل) ، وقوله : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) (٢٠) (المزمل) ، وقوله : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) (٩٨) (النحل) ، وقوله : (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً) (٤٥) (الإسراء) ، وقوله : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) (١٠٦) (الإسراء) ، فكذلك عليه أن يقرأ فى التفسير ليتدبر معانى القرآن وأحكامه ، كقوله : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٢٩) (ص) ، وقوله : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (٢٤) (محمد) ، والله تعالى خاطب الناس بما يفهمونه ، وأرسل إليهم الرسل بألسنة أقوامهم ، وأنزل كتبه على لغاتهم ، وإنما احتيج إلى التفسير والشروح على مرّ الزمان كلما عسر فهم مراد الآيات ، فيكون من الواجب إظهار المعانى الدقيقة. وقد تكون هناك تتمات للمسائل وشروطها من علوم تغيرت مضامينها وتوسعت مجالاتها ، فيحتاج الشارح لبيان المتروك. وقد يحتمل اللفظ معان عدة فيحتاج الشارح إلى بيان الغرض من اللفظ فى سياقه. والقرآن نزل بلسان عربى مبين فى زمن فصحاء العرب ، وكانوا يعلمون ظواهره وأحكامه ، وأما بواطنه فكانوا يسألون عنها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الأكثر ، وأما نحن فما أحوجنا إلى الشروح لقصورنا عن مدارك أحكام اللغة. ولهذا كان علم التفسير من أشرف العلوم عند المسلمين ، ويحتل عندهم مكانة لا يعرفها عند اليهود والنصارى. ويتأتى شرفه من أن موضوعه هو كلام ربّ العالمين ، أصل كل حكمة وفضيلة. وغرضه من أشرف الأغراض وهو الاعتصام بكتاب الله ، والأخذ بما حرّم وحلّل ، وما أمر ونهى. وعلم التفسير عسير يسير ، فأما عسره فلأن

١٠٥

القرآن كلام متكلم لم نصل إلى مراده بالسماع منه ، وتفسير القرآن على وجه القطع كان الأحرى أن يسمع به من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو يسمع ممن سمع منه ، وهو متعذّر فى كل القرآن ، ولم يبق إلا العلم بالمراد بالاستنباط بالأمارات والدلائل ، والحكمة فى ترك ذلك إلى العباد إنما لكى يتفكّروا فيه ، ولذلك لم يأمر الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتنصيص على تفسيرات دون تفسيرات ، وإنما كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصوّب رأى المفسرين ، فصار ذلك دليلا على جواز التفسير من غير سماع من الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

* * *

١٣٣. من يجوز له الاضطلاع بالتفسير؟

وهل ذلك جائز لكل أحد؟ ومن هم أشهر المفسرين؟

لما كان التفسير علما فالمضطلع به لا بد أن يكون من أصحاب هذا العلم ، وإلا فليس له أن يتقوّل فى التفسير إلا بما هو مأثور عن السلف. والتفسير على أقسام ، الأول : أن يعرف المسلم الحلال والحرام مما ورد فى القرآن ، وهذا لا يعذر أحد بجهالته ؛ والثانى : التفسير للألفاظ والعبارات بالمعهود منها فى اللغة ؛ والثالث : تفسير العلماء. وهذه الأقسام الثلاثة محدودة المجال ، ويتجاوزها التفسير الذى يهدف إلى تجلية هدايات القرآن وبيان تعاليمه ، وحكمه ما اشترعه الله على الناس ، يدفع به المفسر إلى الاهتداء يهدى الله ، وهو التفسير الخليق باسم التفسير ، وبمثله تنكشف كنوز القرآن وذخائره ، ويتوفر فهمه وتدبّر آياته ، واستلهام رشده ، وانطباع مطلوباته فى النفوس ، ونقشها بالعقول ، فتعلو بها الهمم ، وتتهذب بها الأخلاق ، ويكون التذكّر والاعتبار.

وقد ذهب البعض إلى تعديد المفسرين بحسب ما ذهبوا إليه فى تفاسيرهم ، فالذى يلجأ إلى بيان ما فى القرآن بروايات من السنّة ، أو كلام الصحابة فتفسيره بالمأثور ، وكانت لكبار الصحابة تفسيرات للقرآن ، واشتهر من هؤلاء عشرة مفسّرين ، هم : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلىّ ، ثم ابن مسعود ، وابن عباس ، وأبىّ بن كعب ، وزيد بن ثابت ، وأبو موسى الأشعرى ، وعبد الله بن الزبير. وكان هناك آخرون من الصحابة أدلوا بدلوهم فى التفسير ولكنهم مقلّون. وليس كل ما يذكر عن التفاسير عن علىّ وابن عباس قد صدر منهما فعلا ، فالمتقوّلون عليهما أكثروا فى ذلك ، والوضّاع أسهبوا فى الوضع ، والصحيح مما نسب إلى الصحابة قليل بالنسبة لغير الصحيح. والرواة عن ابن عباس لم يكونوا على درجة كبيرة من الإتقان ، وفى ذلك قال الشافعى : لم يثبت عن ابن عباس إلا شبيه بمائة حديث. وعلىّ أسرف الشيعة بشأنه ، فنسبوا إليه ما هو برىء منه ، ودسّوا عليه الكثير.

١٠٦

وكان لمكة مفسروها الذين اشتهرت بهم من التابعين ، وهؤلاء رووا عن ابن عباس ، كمجاهد ، وعطاء بن أبى رباح ، وعكرمة مولى ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وطاوس وغيرهم. وكان للمدينة مفسروها المشهورون ، ومنهم : زيد بن أسلم ، ومالك ، وأبو العالية ، ومحمد بن كعب القرظى وغيرهم. واشتهر من علماء العراق : مسروق بن الأجدع ، وقتادة ، والحسن البصرى ، وعطاء ، ومرّة الهمذانى الكوفى وغيرهم. ويعيب تفسيرات هؤلاء التابعين أن الرأى فيها كثير ، واشتملت على الكثير من الإسرائيليات والخرافات. وكان التفسير بالمأثور فرصة لأعداء الإسلام من اليهود والفرس ، أن يدسّوا ما يشاءون من المرويات ، ولفّق أصحاب المذاهب ما يروّجون به لآرائهم ، واختلط الصحيح بغير الصحيح ، وهيأ لذلك أن العرب كانوا حديثى عهد بالإسلام ، وكانوا أمة أمّية غلبت عليهم البداوة ، فصدّقوا أمثال : كعب الأحبار ، ووهب بن منبّه ، وعبد الله بن سلام ، من اليهود الذين أعلنوا إسلامهم ، وأخذوا عنهم مروياتهم بسلامة نية ، ونسب هؤلاء تلك المرويات للتوراة ، ولم نجد منها شيئا فى التوراة!! وتمثّل إسهام التابعين فى التفاسير المشهورة المنسوبة لأمثال : ابن عيينة ، ووكيع الجرّاح ، وابن راهويه ، والبخارى وغيرهم. وتتابعت المصنفات الكبيرة كما عند : الطبرى ، وابن أبى حاتم ، وابن ماجة ، والحاكم ، وابن مردوية ، وابن حبّان ، وأبى الليث السمرقندى ، وابن كثير ، والبغوى وغيرهم. وكانت هناك تفاسير أهل الأهواء والبدع كالجبائى ، والقاضى عبد الجبّار. وتروج الآن التفاسير التى تعتمد على الاجتهاد ، وذلك لازم مع تغيّر حاجات المسلمين ، والمجتهد مهما كان ، مأجور وإن أخطأ ، وهو يطلب المعنى من القرآن والسنّة والمأثورات ، ويطابق بين سياق الآيات وما هو معروف من العلوم ، بهدف بيان المعنى والأحكام بحسب العصر. ومن أهم تطبيقات الاجتهاد : تفاسير الجلالين ، والبيضاوى ، والرازى ، والطحاوى ، والألوسي ، وتفسير الخازن ، والنيسابورى ، والنسفى وغيرهم. وهناك تفاسير أخرى للفرق المختلفة ، وللصوفية : كتفسير ابن عربى ، وتفاسير المعتزلة ، مثل الكشاف ، وتفاسير الشيعة ، كتفسير الكازلانى ، المسمى مرآة الأنوار ومشكاة الأسرار.

ومع غلبة التوجهات العلمية الحالية بدأت تظهر الكثير من التفاسير التى تمازج بين معانى القرآن والكشوف العصرية والنظريات الكونية مثل تفسير الدكتور مصطفى محمود ، وأخذ فيه بما يتقن من ثقافة عصرية ، ولغات أجنبية ، واطّلاعات موسوعية ، وما يعرف من العلوم ، والسنن الاجتماعية ، والسياسية والاقتصادية ، والتشريعات المدنية والجنائية. ونحا الدكتور زغلول النجّار منحى علميا محضا يفسّر به الآيات الكونية ويستخدم فيه أحدث ما

١٠٧

وصلت إليه علوم الفضاء والجيولوجيا ، أطال الله فى عمره وأثابه عنا خير الثواب. وكان الشيخ طنطاوى جوهرى قد بدأ هذا الاتجاه ، ووجد صدى كبيرا لدى المثقفين والمستشرقين وأساتذة الجامعات ، وكان محل دهشة غير المسلمين. ولم تتوقف حركة التفسير مع استمرار تقدّم العلوم ، وستظهر شروح جديدة مع كل تقدم جديد ، وعلى مدار الأحقاب وتسلسل الأزمان ، وهو الدليل على إعجاز القرآن ، فمثل ما كتاب الكون المنظور لا تنتهى عجائبه ، فكذلك كتاب الله المقروء لن تنتهى عجائبه ، وسيجد أهل العلم فى ألفاظه وآياته صدى لمعارف الكون وعلومه : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (٤٢) (فصلت) ، فشرط المفسر للقرآن : هو المعرفة الواسعة ، والصدق فى النية والقصد ، والاطّلاع على وجوه النقد التى يتولاها المستشرقون خاصة والعلمانيون ، ممن يقال فى تسميتهم الآن أنهم مستشرقون محليون ، أى ميولهم استشراقية وإن كانوا محسوبين على الإسلام ، ولسانهم عربى ، ولهم أسماء مسلمين ، وهؤلاء جعلوا هدفهم الاستخفاف بالقرآن والنبوة ، وانتقاص التراث. وصار على القارئ أن يحذر فى كتب التفسير القديمة الخرافات والإسرائيليات ، وفى كتب التفسير الحديثة أن يخرج المفسّر عن النص ، ويقنع بالاستطراد فى شرح المعارف الجديدة.

* * *

١٣٤. رشيد رضا وتفسير (المنار)

السيد محمد رشيد بن السيد على رضا ، من مواليد القلمون من جبل لبنان سنة ١٢٨٢ ه‍ ، نشأ فى طرابلس الشام ، وهاجر إلى مصر ، واتصل بالشيخ محمد عبده سنة ١٣١٥ ه‍ ، وكان أول ما اقترح عليه أن يكتب تفسيرا للقرآن بطريقته التى عرفت عنه ، والتى كان يكتب بها فى جريدة العروة الوثقى. وبدأ الشيخ فى إلقاء دروس التفسير على طلّاب الأزهر ، وكان الشيخ رشيد يحضرها ، ويكتب بعض ما يسمع ويزيد عليه ، ثم قام بنشر ما كتب فى مجلة المنار ، وطبعة فى أجزاء تحت اسم «تفسير القرآن الحكيم» ، واشتهر باسم «تفسير المنار» ، وظهر منها حتى وفاته سنة ١٣٥٤ اثنا عشر جزءا ، انتهت عند قوله تعالى : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (١٠١) (يوسف).

ولم يتقيّد الشيخ بأقوال السلف من المفسرين ، ولم يستعن بالإسرائيليات ، ولم يحاول أن يتعرّض للمبهمات فى القرآن بالحكايات ، واكتفى بشرح الآيات ، والرّد على الشبهات ، واهتم أن يصل بين معانى الآيات والأوضاع الاجتماعية العصرية ، بدعوى أن السابقين

١٠٨

عليه انصرفوا إلى أشياء أخرى تشغل عن هذه المعانى وإحالاتها على الواقع ، كاهتمامهم بمباحث الإعراب أو غيره ، مما يحجب مضمون ومقاصد القرآن الحقيقية. وانتقد الشيخ رشيد انغماس الصحابة فى الإخبار عن القصص مما توحى به مجريات الآيات ، وهو ما كان يرويه أمثال كعب الأحبار ، ووهب بن منبه ، وجمع منها السيوطى فى كتابه «الدّر المنثور» ست صفحات من القطع الكبير ، ليس منها شىء تصحّ عليه التسمية أنه من الدّر. فمثلا ذكر فى تفسير الآية : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) (١٦٠) (الأعراف) : أن كتب التفسير تروى أن موسى كان يحتفظ معه بحجر كان يضرب به الأرض فتنفجر العيون ، فقال رشيد : إن ذلك كان من الخرافات التى اختلقها وهب ، وليس لها أصل عند المسلمين ولا عند اليهود. وقال فى تفسير الآية : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ) (١٢٤) (البقرة) : أن المفسرين لم يألوا فى تفسير هذه الكلمات التى أتمها إبراهيم والخبط فى تعيينها ، وقال ابن عباس : إنها ثلاثون خصلة من خصال الإسلام ؛ وقال آخرون : إنها مناسك الحج ؛ وقال آخرون : هى خصال الفطرة العشر ؛ وقال رشيد : إن الأولى الأخذ بما أخبر الله كما هو ، ولا ينبغى تعيين المراد. ومنهج الشيخ رشيد فى التفسير عقلانى ، حتى أنه لينكر الإسرائيليات ، والكثير من القصص ، كقصص الجسّاسة ، والدجّال ، ونزول عيسى ، وأحاديث الفتن ، وأشراط الساعة. ولجأ فى تفسير الآيات المتعلّقة بالبقرة ، مثل : (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٧٣) (البقرة) إلى المجاز ، فقال : إن الإحياء معناه يحييها بالشريعة ، كقوله تعالى : (وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) (٣٢) (المائدة) ، وقوله : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) (١٧٩) (البقرة) ، فالإحياء هنا ليس إحياء حقيقيا بعد موت تسلب فيه الروح ، ولكنه إحياء حكمى ، بمعنى الاستبقاء ، ولذلك قال بعد ذلك : (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) (٧٣) (البقرة) ، يعنى بما يفصل بها فى الخصومات ، ويزيل أسباب الفتن والعداوات ، كما فى الآية : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) (١٠٥) (النساء) ، فالغرض إذن من قصة كقصة البقرة : هو ضرب المثل الحسّى للإحياء المعنوى بالشريعة ، وقصص القرآن على ذلك إنما لتقريب المعانى وتصويرها تصويرا يقرّبها إلى الأفهام.

* * *

١٣٥. القشيرى والتفسير الصوفى للقرآن

يعدّ كتاب «لطائف الإشارات» من أروع الكتب فى التفسير الصوفى للقرآن ، وصاحبه عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة ، ولقبه زين الإسلام ، وشهرته القشيرى ، المولود

١٠٩

سنة ٣٤٦ ه‍ ، والمتوفى سنة ٤٦٥ ه‍ ، ونسبه إلى قبيله قشير العدنانية المتصلة بهوازن ، وعاش فى نيسابور من فارس. والتفسير الصوفى سبق إليه سهل بن عبد الله التسترى ، المتوفى سنة ٢٨٣ ه‍ ، وكتابه هو «تفسير القرآن العظيم» فيما لا يزيد على مائتى صفحة ، وأبو عبد الرحمن السلمى ، المتوفى سنة ٤١٢ ه‍ ، وكتابه هو «حقائق التفسير» يقول فى دوافعه إلى تأليفه : لمّا رأيت المتوسمين بعلوم الظاهر قد سبقوا فى أنواع فرائد القرآن من قراءات وتفاسير ، ومشكلات وأحكام ، وإعراب ولغة ، ومجمل ومفصل ، وناسخ ومنسوخ ، ولم يشتغل أحد منهم بفهم الخطاب على لسان الحقيقة إلا آيات متفرّقات ، أحببت أن أجمع حروفا استحسنها من ذلك ، وأضم أقوال مشايخ أهل الحقيقة إلى ذلك ، وأرتّبه على السور حسب وسعى وطاقتى. واتّهم أهل التفسير «السلمى» بالزيغ والابتداع والتحريف ، وبالقرمطة ، والتشيع ، والتأويلات الباطنية ، ووصفه ابن تيمية بالكذب ، وعدّه السيوطى من أهل البدع. ثم كان كتاب «عرائس البيان فى حقائق القرآن» لروزبهان البقلى المتوفى سنة ٦٠٦ ه‍ ، وكتاب «التأويلات النجمية» لنجم الدين داية ، المتوفى سنة ٧٣٦ ه‍ ، أبرز كتابين فى التفسير الصوفى. وأما كتاب لطائف الإشارات للقشيرى ، فهو الأفضل فى بابه ، من حيث التوفيق بين علوم الحقيقة وعلوم الشريعة ، وباعتبار المصطلح الصوفى الذى أفلح القشيرى فى ردّه إلى أصوله القرآنية ، فلا تملك إلا أن تحكم بأن علوم الصوفية هى علوم مستقاة من القرآن ، وأما ما يكون من الآيات خاليا من المصطلح فإنه يعمد إلى أن يستخرج منه إشارات فى الصحبة الصوفية ، والصاحب ، والشيخ والمريد ، والرياضات والمجاهدات والمواصلات ، والكشوفات.

ورغم أن القشيرى اشتهر بالرسالة ، إلا أن كتابه فى التفسير الصوفى للقرآن قمة من القمم. وقيل فى تسمية الكتاب : إنه «لطائف الإشارات فى حقائق العبارات» ، ومنهجه فيه يعتمد على استبطان خفايا الألفاظ ، والكشف عن معانيها المجردة ، ولطائف أسرارها ، وخفىّ رموزها ، تصعيدا من القلب ، إلى الروح ، إلى السّر ، ثم إلى سرّ السرّ ، أو عين السرّ ، متقيدا مع ذلك بالعلوم العقلية والنقلية ، والحرص على النصّ القرآنى ، مستخرجا الإشارات الثمينة مما فى الآيات من الأحكام والعبارات ، وأسباب النزول ، والأخبار والقصص. والعبارات فى الآيات للعموم ، والرموز والإشارات للخصوص ، فمثلا استقبال القبلة إشارة إلى أن تكون القبلة مقصود النفس ، والله تعالى مقصود ومشهود القلب ، فلا يتعلق القلب بالأحجار والآثار ، وإنما يتفرّد لله. وأيضا فإن الحج على لسان العلم هو القيام بأركانه وسننه وهيئته ، ولكنه على لسان أهل الإشارة هو القصد ، فقصد إلى بيت الحق ، وقصد إلى الحق ، والأول حجّ العوام ، والثانى حجّ الخواص وهكذا.

١١٠

وفى الصيام يقول القشيرى : الصوم على ضربين ، صوم ظاهر هو الإمساك عن المفطرات مصحوبا بالنية ، وصوم باطن هو صون القلب عن الآفات ، ثم صون الروح عن المساكنات ، ثم صون السرّ عن الملاحظات. وهكذا .. والخلاصة أن تفسير القشيرى للقرآن فريد فى بابه ، إلا أنه للصوفية وليس للناس ، كل الناس ، واهتمام القشيرى فيه بالمعانى النفسية للألفاظ دون المعانى العقلية ، والقارئ لهذا التفسير لا يخرج منه بشيء مفيد ، وخاصة إن كان من أهل العصر المتخصصين فى العلوم ، والذين اعتادوا على المنهج العلمى دون سائر المناهج النفسية التى يعوّل عليها التصوف. ولا يخلو الكتاب مع ذلك من الشطحات والتهويمات.

* * *

١٣٦. كم استغرقت" مدة الوحى" بالقرآن؟

يقول ابن عباس : نبّئ نبيّكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الاثنين : ويقول عن أنس : استنبأ النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الاثنين. وعن أبى جعفر قال : نزل الملك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحراء يوم الاثنين لسبع عشرة خلت من شهر رمضان سنة ٤١ من مولده صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ويؤرّخ لنزول أولى آيات القرآن من سورة اقرأ بهذا اليوم ، وتؤكد ذلك الآية (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٤١) (الأنفال) ، وكان لقاء الجمعان يوم بدر فى ذكرى يوم نزول القرآن ويوافق ١٧ رمضان. وسئل أبو أيوب الأنصارى عن يوم بدر فقال : إما لسبع عشرة خلت ، أو لثلاث عشرة بقيت ، أو لإحدى عشرة بقيت ، أو لتسع عشرة خلت. يعنى إما يوم ١٧ ، أو ١٩ من رمضان. ـ وهذا عن يوم بدر ، ومثله يوم حراء ، إلا أن يوم حراء كان سنة ٤١ من مولده صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فإذا كانت آخر آية من القرآن نزلت هى : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ) (تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٢٨١) (البقرة) ، وكان نزولها قبل وفاته بتسع ليال ، وكانت وفاته فى يوم الاثنين ١٢ من ربيع الأول ، فإن تاريخ نزول آخر آية يكون ٣ من ربيع الأول سنة ٥٤ من مولده صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتكون مدة البعثة فى مكة اثنتى عشرة سنة وخمسة شهور وثلاثة عشر يوما ، ومدة الوحى فى المدينة تسع سنوات ، وتسعة أشهر ، وثلاثة أيام ، ويوافق ذلك القول بأن مدة رسالته فى مكة كانت نحو ثلاث عشرة سنة ، وفى المدينة نحو عشر سنوات ، وأن مدة الوحى جميعها استغرقت نحو ثلاث وعشرين سنة.

* * *

١٣٧. معنى النزول

فى الآية : (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً) (١٠٥) (الإسراء) يسخر

١١١

المستشرقون من القول فى الإسلام بأن القرآن منزّل على محمد من الله؟ ويتعجّبون من استخدامنا اصطلاح «التنزيل» هذا ، ومقصدهم الخبيث تفويض هذا القول الذى هو أساس الإيمان بالقرآن ، وأساس التصديق بنبوة محمد ، وأساس الاعتقاد بأن الإسلام هو الدين الحق ، فلو أنهم استطاعوا زعزعة هذا اليقين عند المسلمين لتمكنوا من القضاء على الإسلام. والنزول تأتى فى القرآن بمعان شتى ، فمن ذلك قوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) (٢٩) (المؤمنون) ، وقوله : (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) (٥٣) (طه) ، وليس كذلك معنى نزول القرآن ، وإنما نزوله بالمعنى المجازى والاستعارى ، بمعنى الإعلام به.

ويروى عن ابن عباس أنه قال : أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ليلة القدر ، ثم أنزل بعد ذلك فى عشرين سنة ، ثم قرأ قوله تعالى : (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) (٣٣) (الفرقان) ، وقوله : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) (١٠٦) (الإسراء). أخرجه النسائى والحاكم البيهقى. وعن ابن عباس أيضا ، قال : أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا ، وكان بمواقع النجوم ، وكان الله ينزّله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعضه فى أثر بعض. أخرجه الحاكم والبيهقى. فلما قيل لابن عباس أن القرآن جاء فيه قوله : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) (١٨٥) (البقرة) ، وقوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (١) (القدر) ، وقوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) (٣) (الدخان) ، أى أن نزوله كان فى ليلة القدر ، فكيف يستقيم ذلك مع ما يعرفه المسلمون من أن نزوله تعاقب على الشهور المختلفة؟ قال ابن عباس : إنه ـ أى القرآن ـ أنزل فى رمضان فى ليلة القدر جملة واحدة ، ثم أنزل على مواقع النجوم رسلا فى الشهور والأيام». أخرجه ابن مردوية والبيهقى. ورسلا يعنى رفقا ، وعلى مواقع النجوم ، أى نزل على مساقطها مفرقا ، أى منجما على مدار الشهور على النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وروى الإمام أحمد عن واثلة بن الأسقع : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أنزلت صحف إبراهيم فى أول ليلة من رمضان ، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان ، والإنجيل لثلاث عشر خلت من رمضان ، وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان».

والسؤال الآن : من أين أنزلت هذه الكتب ، ومنها القرآن؟ والجواب عند الأوائل تفسيرا للآية : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) (٢٢) (البروج) ، وفى اللوح المحفوظ يجيء عن ابن عباس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله تعالى خلق لوحا محفوظا من درّة بيضاء ، صفحاتها من ياقوتة حمراء ، قلمه نور ، وكتابه نور ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيه كل يوم ستون وثلاثمائة

١١٢

لحظة ، يخلق ويرزق ، ويميت ويحيى ، ويعزّ ويذل ، ويفعل ما يشاء» أخرجه الطبرانى. ـ وهذا اللوح المحفوظ هو الكتاب المقصود بالآية : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (٢٢) (الحديد) ، ، وهو المسطور فيه كل شىء كما فى الآية : (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) (٥٣) (القمر) ، فهو كتاب جامع لكل ما قضى الله وقدّر. والقرآن تنزّل من اللوح إلى السماء الدنيا جملة فى ليلة القدر فى رمضان ، وهى الليلة المباركة ، ثم تنزّل من بعد على النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مفرّقا على مدى عشرين أو ثلاث وعشرين ، أو خمس وعشرين سنة ، وفى ذلك يقول ابن عباس : فصل القرآن من الذكر ، فوضع فى بيت العزة من السماء الدنيا ، فجعل جبريل ينزل به على النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. أخرجه الحاكم. ويأتى فى القرآن : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) (١٠٦) (الإسراء) ، (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (١٩٥) (الشعراء). ولقد تعلمنا أنه كلما كان التفسير بسيطا ومختصرا كلما كان أقرب إلى الصدق ، وهذه التفسيرات موقوفة على ابن عباس وابن الأسقع ، وفيها الكثير من الإسرائيليات ، والأكثر معقولية أن هذه التنزيلات كما جاء فى القرآن هى سجل للأحداث ، وتكتب فى الألواح وتحفظ ، لتنشر يوم القيامة كتبا لا تغادر صغيرة ولا كبيرة إلا وتحصيها ، وأنها كقرآن يتعبّد به ، وفيه الحكمة للناس ، ينزل كل ليلة قدر بما يناسب السنة ، ثم ينزل بعد ذلك منجما فى جميع السنة ، والأكثر معقولية من ذلك أن يقال : إن بداية نزول القرآن كان فى الليلة المباركة ـ ليلة القدر ـ من رمضان ، ثم تتابع من بعد على الشهور : شوال ، وذى القعدة ، وذى الحجة ، والمحرم ، وصفر ، وربيع .. فهذه إذن هى حكاية النزول أو التنزّل للقرآن ، وليس من ذلك شىء ، لا فى التوراة ، ولا فى الأناجيل إطلاقا ، فالتوراة أو الناموس ألّفه عزرا ، وساعده رجال المجمع الكبير وكان ذلك بعد السبى الثانى وعودة عزرا إلى أورشليم سنة ٤٥٨ قبل الميلاد ، وبقية كتب العهد القديم وهى : أسفار يشوع ، والقضاة ، وصموئيل ، والملوك ، أول وثان وثالث ورابع ، والأخبار أول وثان ، وإشعيا ، وإرميا ، وحزقيال ، والمزامير ، والأمثال ، وأيوب ، والنشيد ، والجامعة ، وراعوث ، ويهوديت ، واستير ، ودانيال ، وعزرا ، ونحميا ، والأحبار ـ وعدد هذه الأسفار ٢٤ سفرا ـ وضعها مؤلفوها بعد سنة ٤٥٨ ق. م ونسبت إليهم وحملت أسماءهم. وأما الأناجيل الرسمية فهى أربعة ، وتنسب لواضعيها : متّى ، ومرقس ، ولوقا ، ويوحنا. وكلّ من هؤلاء كتب قصة المسيح من وجهة نظره ، فمتّى كتبها من وجه نظر يهودية ؛ ومرقس كتبها من وجهة نظر الرومان ؛ ولوقا كان يكتب للمثقفين من اليونان ؛ وأما يوحنا فكان داعية بسيطا

١١٣

يكتب للناس العاديين. فأن يأتى القرآن وينسبه محمد إلى الله ، فهذا ما أوغر صدور اليهود والنصارى على محمد ، ثم كان كتابه فى النقد على اليهود والنصارى ، فزاد من بغضائهم. وكان إنجيل لوقا هو أول الأناجيل المكتوبة ، ووجّهه لوقا إلى شخص يدعى ثاوفيلس من غير اليهود ، ويقدّر النصارى كتابته نحو سنة ٦٠ ميلادية ، وكتابة إنجيل متى نحو ٦٥ ميلادية ، وإنجيل مرقس نحو سنة ٦٨ ، وإنجيل يوحنا حوالى سنة ٩٠ أو ما بعدها ، فلا مجال إذن لمقارنة نزول القرآن وجمعه ورصده بتآليف اليهود والمسيحيين الدينية ، وإظهارها باعتبارها كتبا سماوية تضاهى بالقرآن وحسبنا الله.

* * *

١٣٨. جبريل أخذ القرآن عن الله ، فكيف أخذه عنه؟ وما الذى أخذه؟

فى الحديث عن النواس بن سمعان ، عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا تكلم الله بالوحى أخذت السماء رجفة شديدة من خوف الله ، فإذا سمع أهل السماء صعقوا وخروا سجدا ، فيكون أولهم يرفع رأسه جبريل ، فيكلمه الله بوحيه بما أراد ، فينتهى به إلى الملائكة ، فكلما مرّ بسماء سأله أهلها : ما قال ربّنا. قال : الحق. فينتهى به حيث أمر» أخرجه الطبرانى. وفى الحديث أن الله يكلم الملائكة وجبريل وحيا ، وفى القرآن : (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ) (١٢) (الأنفال) ، وفيه أيضا : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) (٥١) (الشورى) ، و (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَ) (٦) (فصلت) ، فإن كان القرآن هو كلام الله فقد تنزّل منه تعالى على جبريل ، ثم من جبريل على محمد ، وقد وهم من قال إن جبريل كانت معانى القرآن تتنزل عليه فينقلها معان إلى محمد ، فيعبّر عنها محمد بلغته ؛ أو أن جبريل كان يترجم المعانى إلى لغة ويلقيها على محمد ، وتلك أفكار اليهود والنصارى والمستشرقين ، فلو أن جبريل أو محمدا نقل أىّ منهما المعانى إلى لغة من إنشائه ، لما انتسب القرآن لله ، ولما كان معجزة الإسلام ، وإنما هو معجزة الإسلام لأنه كلام الله ، وما من فضل فيه لجبريل إلا أنه نقله إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما من فضل فيه للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا أنه وعاه ، وحفظه ، وبلّغه ، وقام بتفسيره ، وأجرى أحكامه على الناس ، وما كان له أن يبدّل فيه ، كقوله تعالى : (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) (١٥) (يونس) ، ولا أن يتقوّل على الله ما لم يقله ، كقوله : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) (٤٥) (الحاقة).

* * *

١٣٩. الفارق بين القرآن والحديث القدسى والحديث النبوى

القرآن ، والحديث النبوى ، والحديث القدسى ، جميع ذلك من عند الله ، والفرق بين

١١٤

الثلاثة : أن القرآن كلام الله بألفاظه ، كقوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) (٦) (النمل) ؛ والحديث النبوى : كلام الله بمعانيه يتنزّل به جبريل أيضا ، ويؤدّيه وحيا بالمعانى وليس بالألفاظ ، كقوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) (٣) (النجم) ، فشمل ذلك كل ما ينطق به من قرآن وأحاديث يؤديها بألفاظه ، وبعض هذه الأحاديث يشتهر باسم الأحاديث القدسية ، يحكيها النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ربّه ، وأوحيت إليه ألفاظها من الله على المشهور ؛ إلا أن القرآن يتميّز عليها بإعجاز ألفاظه وعباراته ، فإذا لم تكن ألفاظ القرآن وعباراته من الله لذهب إعجازه. وعلى عكس كتب العهد القديم اليهودية ، وكتب العهد الجديد النصرانية ، والتلمود ، ورسائل أنبياء النصارى ، فجميعها ألفاظ ومعانى لم تتنزّل من عند الله ، ليس فيها أى إعجاز ، والكثير منها ممل وركيك فى التركيب ، ومعانيه متهافتة ويرفضها العقل. ونحن نعلم أن أسفار موسى الخمسة كتبها عزرا الكاتب وآخرون ، وأن بقية الأسفار كتبها أصحابها ، كسفر حزقيال كتبه حزقيال ، وسفر إرميا كتبه إرميا ؛ وأن الأناجيل روايات تنسب لمؤلفيها الأربعة : متى ، ومرقس ، ولوقا ، ويوحنا ؛ وأن الرسائل أملاها أصحابها الرسل متضمنة أحكاما صاغوها بأنفسهم. وهذا هو الفرق ، فلم يكن فى كتب اليهود والنصارى تواتر ولا إسناد ، على عكس القرآن والحديث.

والقرآن : هو المسجّل بين دفتى المصحف ، وتحدّى به النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم المكذّبين ، ولم يحدث ذلك مع التوراة والأناجيل ، والمسلمون يتعبّدون بتلاوة القرآن ، وهو معصوم من الله لم يلحقه تحريف ، وسيظل كذلك إلى أبد الدهر ، على عكس الأحاديث القدسية ، فمع أنها من الله تعالى ، إلا أنها ليست معجزة فى ألفاظها ولا عباراتها ، ولا يتعبّد المسلمون بتلاوتها ، ولا تصحّ بها صلاة ، ولم تصلنا بالتواتر القطعى ، وبعضها صحيح أو حسن ، وبعضها ضعيف أو موضوع ، كالحديث : «عبدى أطعنى أجعلك ربّانيا تقول للشيء كن فيكون». ومن نماذجها الصحيحة ما أخرجه الترمذى من حديث أنس بن مالك ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قال الله : يا ابن آدم إنك ما دعوتنى ورجوتنى غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالى! يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتنى غفرت لك ولا أبالى. ولو أتيتنى بقراب الأرض خطايا ثم لقيتنى (أو أتيتنى) لا تشرك بى شيئا ، لأتيتك بقرابها مغفرة». وموضوعات هذه الأحاديث كما ـ ترى ـ تتميز بأنها عن الله تعالى ؛ بينما الأحاديث النبوية تشتمل على نفس موضوعات القرآن : فى التوحيد ، ومعانى الإيمان والأخلاق ، وأخبار الأمم ، وأنباء الغيب ، وآيات الكون ، والجنة والنار ، ويوم القيامة ، والحشر والنشور ، والحساب والصراط ، والعبادات وثوابها ،

١١٥

والتوبة والذكر ، والجهاد والصبر ، والتحاب فى الله والأخوة ؛ فكأن الأحاديث النبوية تشرح القرآن وتفسيره ، وتؤكد معانيه ، والجميع ـ سواء كانت قرآنا ، أو أحاديث قدسية أو نبوية ، فيوضات موحى بها ، إلا أن الوحى بالقرآن بالمعنى واللفظ معا ، وبالحديث القدسى بالمعنى دون اللفظ ، والنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعبّر عن المعنى ببيانه المفرد ، وأما الأحاديث النبوية فهى ما ينسب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من قول أو فعل أو حكم أو تقرير ، ومن ذلك مثلا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خيركم من لم يترك دنياه لآخرته ، ولا آخرته لدنياه ، ولكن خيركم من أخذ من هذه وهذه» ، فالكلام فى الحديث النبوى جامع لشروط البلاغة ، وفيه الحكمة العالية ، إلا أنه أقل بلاغة من القرآن ، وكلاهما القرآن والأحاديث النبوية يشكلان معا الإسلام.

والفرق بين التناول القرآنى وبين التناول النبوى للموضوعات الواحدة ، أن القرآن يأتى مجملا ، وأن السنّة مجملة ومفصّلة ، ومن ذلك مثلا قوله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١٠٤) (آل عمران) ، ونفس المعنى يأتى به الحديث : «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» رواه مسلم. ومعانيه استلهمها النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القرآن من هذه الآية ، ومن غيرها من الآيات التى يحفل بها القرآن وتتطرق إلى نفس الآداب ؛ ولا غناء عن السنّة لمعرفة القرآن ، ولا مندوحة عن الرجوع إلى القرآن لبيان أصل السنة.

* * *

١٤٠. ميزة القرآن على سائر الكلام

القرآن قرّة عين المسلم ، وفى الحديث القدسى عن أبى سعيد الخدرى : «من شغله القرآن عن ذكرى وعن مسألتى أعطيته أفضل ما أعطى السائلين». وفى الحديث عن أبى هريرة «فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه». وعن أبى سلمة عن عثمان : «خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه». وفى الحديث عن أبى موسى الأشعرى : «مثل الذى يقرأ القرآن كالأترجة ، طعمها طيب وريحها طيب ، والذى لا يقرأ القرآن كالثمرة ، طعمها طيب ولا ريح لها ، ومثل الفاجر الذى يقرأ القرآن كمثل الريحانة ، ريحها طيب وطعمها مرّ. ومثل الفاجر الذى لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ، طعمها مرّ ولا ريح لها». فأقسام الناس من القرآن ـ وهم مسلمون ـ أربعة : منهم اثنان مؤمنان ، واثنان فاجران ، فأما المؤمنان : فأحدهما على الإيمان ويقرأ القرآن ويعمل به ، وعمله لذلك طيّب وما يقوله طيب ، والثانى على الإيمان ولكنه أمى لا يقرأ ولا يكتب ، ومن ثم لا يعرف ما عليه عمله ، فلأنه مؤمن فما يصدر منه

١١٦

طيب ، ولأنه أمى لم يقرأ فهو لا يعرف ، وليست له أقوال طيبة تؤثر عنه ؛ وأما الفاجران : فالذى يقرأ منهما القرآن له أقوال طيبة ، ولكن لا يعمل بها ، والفاجر الذى لا يقرأ لا قول له يؤثر عنه ، ولا عمل يحتسب له. والتشبيه بالأترجة لأن مذاقها حلو ، ورائحتها طيبة ، ولحمها وقشرها وحبّها جميعا ينتفع به. والحنظلة مرّة المذاق ولا رائحة لها. والتمثيل فى الحديث ليس عن الذى يقرأ القرآن وكفى ، وإنما يقرأه ويعمل به ، وتقسيم الناس جاء على هذا الأساس ، والفاجر هو المنافق قد يقرأ ولا يعمل ، وقد لا يقرأ ولا يعمل. وفى الحديث فضل حامل القرآن ، وفضل العمل به.

وعن سالم بن عبد الله ، عن أبيه ، أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس : أوتى أهل التوراة ، التوراة فعملوا حتى إذا انتصف النهار عجزوا ، فأعطوا قيراطا قيراطا ؛ ثم أوتى أهل الإنجيل الإنجيل ، فعملوا إلى صلاة العصر ثم عجزوا ، فأعطوا قيراطا قيراطا ، ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس ، فأعطينا قيراطين قيراطين. فقال أهل الكتابين : أى ربّنا ، أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين ، وأعطيتنا قيراطا قيراطا ، ونحن أكثر عملا؟ قال الله عزوجل : هل ظلمتكم من أجركم من شىء؟ قالوا : لا. قال : فهو فضل أوتيه من أشاء» ، يعنى أن من أفضال القرآن أن من يعمل به أجره أكبر من أجر من عمل بالتوراة أو بالإنجيل ، وأنه قد يستحق بعمل البعض أجر الكل ، مثل الذى يعطى على عمله من العصر إلى الليل أجر النهار كله.

* * *

١٤١. قيل إن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أوصى بالقرآن ، فكيف ذلك؟

فى الحديث عن طلحة : أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أوصى بكتاب الله» ، أى أن يحفظ حسّا ، ومعنى ، فيكرم ويصان ، ويتّبع ما فيه ، فيعمل بأوامره وتجتنب نواهيه ، ويداوم على تلاوته وتعلّمه وتعليمه. وهذه هى الوصية.

* * *

١٤٢. القرآن معجزة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مقارنا بمعجزات السابقين من الأنبياء

معجزات موسى كما توردها أسفار اليهود عشرون معجزة ، هى : ١ ـ معجزة أن يكلّمه الربّ فى حوريب ؛ ٢ ـ معجزة العصا الثعبان (الخروج ٧ / ١١) ؛ ٣ ـ معجزة انقلاب ماء النهر والخلجان والمناقع دما (الخروج ٧ / ٢٠) ؛ ٤ ـ معجزة إصعاد الضفادع أرض مصر كلها (الخروج ٨ / ٧) ؛ ٥ ـ معجزة إطلاق البعوض على جميع أرض مصر (الخروج ٨ / ١٨) ٦ ـ معجزة الذباب يملأ أرض مصر بالوباء (الخروج ٨ / ٢٢) ؛ ٧ ـ معجزة قتل

١١٧

البهائم فى جميع أرض مصر (خروج ٩ / ٦) ؛ ٨ ـ معجزة إصابة المصريين وبهائمهم بالقروح والبثور (تكوين ٩ / ٩) ؛ ٩ ـ معجزة البرد والمطر فى كل مصر ، وإتلاف الزروع (تكوين ٩ / ٢٢) ، ١٠ ـ معجزة الجراد يملأ مصر ويأكل ما تبقى من زروعها (تكوين ١٠ / ١٥) ؛ ١١ ـ معجزة ضرب مصر بالظلام ثلاثة أيام (خروج ١٠ / ٢٣) ؛ ١٢ ـ معجزة موت كل بكر فى أرض مصر ، يستوى فى ذلك أبكار البشر أو الحيوان (خروج ١١ / ٥) ؛ ١٣ ـ معجزة انشقاق البحر لموسى وانفلاقه على المصريين وغرقهم (خروج ٢٤ / ٢٧) ؛ ١٤ ـ معجزة المن والسلوى (١٥ / ١٣) ؛ ١٥ ـ معجزة ضرب الصخرة وخروج الماء (خروج ١٧ / ٦) ؛ ١٦ ـ معجزة كلام الله فى برية سيناء (خروج ١٩ / ٣) ؛ ١٧ ـ معجزة رؤية الله ١٨ ـ معجزة كلام الله على جبل سيناء (خروج ٢٥ / ١٦) ؛ ١٩ ـ معجزة اللوحين كتبهما الله (خروج ٣١ / ١٨) ؛ ٢٠ ـ معجزة كلام الرّب فى الخباء (خروج ٣٣ / ٣). وكل هذه المعجزات وقتية ، ومقصور الإيمان بها على من عاينها ، وهؤلاء ماتوا ولم يحدثنا أحد منهم بما عاين ، ولم يرو عنهم أحد بالتواتر ممن يعرف عنهم الصدق ، والتصديق بها محل خلاف ، ولا يوجد ما يجعلنا تصدّقها أو نؤمن بها لأنها من الغيب ، ولم يوجد منها شىء على الآثار المصرية ، والمؤكد أنها قد جرت على أرض جاسان من أقاليم مصر (محافظة الشرقية الآن) ، وأن المقصود بالمصريين هم المستوطنون من الأشوريين الآسيويين ، وهؤلاء لم تكن لهم آثار.

وأما معجزات المسيح ، كما توردها الأناجيل الأربعة ، فهى تسع وعشرون معجزة ، كالآتى : ١ ـ ولادة المسيح من عذراء بلا أب (لوقا ١ / ٢٦ / ٣٨) ؛ ٢ ـ تحويل الماء إلى خمر (يوحنا ٢ / ١ ـ ١١) ؛ ٣ ـ شفاء رجل به روح نجس (لوقا ٤ / ٣١ ـ ٣٧) ؛ ٤ ـ شفاء حماة بطرس (متى ٨ / ١٤ ـ ١٥) ؛ ٥ ـ شفاء كثيرين من كفر ناحوم (مرقس ١ / ٣٢ ـ ٣٤) ؛ ٦ ـ شفاء الأبرص (يوحنا ٥ / ١٢ ـ ١٦) ؛ ٧ ـ شفاء المفلوج (متّى ٩ / ١ ـ ٨) ؛ ٨ ـ شفاء مريض بيت حسدا (يوحنا ٥ / ٥) ؛ ٩ ـ شفاء الرجل ذى اليد اليابسة فى السبت (مرقس ٣ / ١ ـ ٦) ؛ ١٠ ـ شفاء عبد قائد المائة (لوقا ٧ / ١) ؛ ١١ ـ شفاء من به روح نجس (متّى ١٢ / ٢٢ ـ ٣٧) ؛ ١٢ ـ معجزة إسكات العاصفة (لوقا ٨ / ٢٢ ـ ٢٥) ؛ ١٣ ـ شفاء الأعميين (متّى ٩ / ٢٧ ـ ٣١) ؛ ١٤ ـ شفاء الأخرس المجنون (متى ٩ / ٣٢ ـ ٣٤) ؛ ١٥ ـ مشيه على الماء (متى ١٤ / ٢٢ ـ ٣٣) ؛ ١٦ ـ شفاء ابنة الكنعانية (متى ١٥ / ٢١ ـ ٢٨) ؛ ١٧ ـ شفاء الأصم الأخرس (مرقس ٧ / ٢٤ ـ ٣٠) ؛ ١٨ ـ إطعام الأربعة آلاف (متّى ١٥ / ٣٢ ـ ٣٨) ؛ ١٩ ـ شفاء الأعمى (مرقس ٨ / ٢٢ ـ ٢٦) ؛ ٢٠ شفاء الصبى الممسوس (لوقا ٩ / ٣٧ / ٤٣) ؛ ٢١ ـ

١١٨

إخباره بموته وقيامته (متّى ١٧ / ٢٢ / ٢٣) ؛ ٢٢ شفاء المرأة المريضة المنحنية (لوقا ١٣ / ١٠ / ١٧) ؛ ٢٣ ـ شفاء البرص العشرة (لقوا ١٧ / ١١) ؛ ٢٤ ـ إقامة لعازر (يوحنا ١١ / ٤٤) ؛ ٢٥ نبوءته بسقوط أورشليم ومجيئه الثانى (متّى ٢٤ / ١ ـ ٣١) ؛ ٢٦ ـ التنبؤ بإنكار بطرس وتشتت التلاميذ (متّى ٢٦ / ٥٨) ؛ ٢٧ ـ شفاء الأعميين بالقرب من أريحا (متى ٢٠ / ٢٩) ؛ ٢٨ ـ ظهوره لتلاميذه (مرقس ١٦ / ١٤) ، ويوحنا ٢٠ / ٢٥ ـ ٢٩ ، ٢١ / ١ ـ ٢٣) ؛ ٢٩ الصعود (مرقس ١٦ / ١٩ ـ ٢٠ ، ٢٤ / ٥٠ ـ ٥٣). وكما ترون فإنها معجزات لا تلزم من لم يعاينها فى غير مكانها وفى غير وقتها.

وأما معجزة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهى القرآن ، وسيظل القرآن أبدا يتحدى المكذّبين والمشركين ، وسيبقى شاهدا عليهم ، وحجة ضدهم ، فمن لم يعاصر محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويسمع منه ، فهذا هو القرآن الذى بلغه وفيه كل ما جاء به! فإن لم يكن يعرف العربية لغة القرآن ، فليقرأه مترجما إلى كافة لغات العالم! وحسبنا الله.

* * *

١٤٣. القرآن يثبت إعجازه ويتحدى أهل زمانه وغير زمانه

المعجزة للأنبياء : من الإعجاز ، وهى فى الشرع أمر خارق للعادة مقرون بالتحدّى ، مع عدم المعارضة فى شاهد الدعوى ، فإذا لم تكن مقرونة بالدعوى فهى كرامة ، والكرامات للأولياء. والسحر والشعوذة من الخوارق إلا إنهما من كذبة فى دعوى الرسالة : ومن شروط المعجزة : أن لا يقدر عليها إلا الله ، وألا يأتى أحد بمثلها ، وما جرى من معجزات للرسل قبل النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مضى عصرها بموت هؤلاء الرسل ، ولم يتبق لنا سوى أخبارها ، ولم نشهد صحتها وحصولها فلا تلزمنا ، على عكس معجزة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهى القرآن ، فإنه ما يزال قائما ، وتواتر إلينا بسند صحيح ، من شهود لم يعرف عنهم الكذب فيما ينقلونه ويسمعونه ، وكانوا كثرا ، فوقع لنا العلم به ضرورة ، وتحدّى القرآن الناس فى زمن تنزّله فقال : (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) (٣٤) (الطور) ، وتحدّاهم أكثر من ذلك ، فقال : (قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) (١٣) (هود) ، فلما عجزوا حطّهم عن هذا المقدار إلى مثل سورة من السور القصار ، فقال : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) (٢٣) (البقرة) ، وأفحموا عن الجواب ، وتقطّعت بهم الأسباب ، وعدلوا إلى الحروب والعناد ، ولو قدروا على المعارضة لكان أبلغ فى الحجة ، وما يزال التحدى قائما باستمرار القرآن وبقائه ، فالقرآن معجزة دائمة ، على عكس معجزات الأنبياء وخاصة موسى وعيسى ، فإنها كانت وقتية ، ولا تلزم المعاصرين لأنهم لم يعاينوها ، والقرآن ما نزال نعاينه ، وسيستمر كذلك إلى أبد

١١٩

الآبدين ، فعلم السابقون ، ويعلم الحاضرون ، أن القرآن ليس من نظم محمد ، ولا من اختراع بشر ، وأنه لا يمكن إلا أن يكون من لدن الله ، فما كان نظمه معهودا كالنظم السابق ، فلما وضعوه على أقراء الشعر لم يلتئم على لسان أحد أنه شعر ، ولم يكذّبه الكهنة ، وسمعه السحرة فأقروا بأنهم لم يسمعوا مثله قط. وقد تكلم المستشرقون والأحبار والقساوسة فى القرآن من جهة الأسلوب ، فأجزموا بأنه مخالف لجميع الأساليب الماضية والحاضرة ، وأن جزالة لفظه لم تصحّ لمخلوق ، واجتمع فى كل سورة وآية من النّظم ، والأسلوب ، والجزالة ، ما أذهل السابقين واللاحقين ، وامتلأ القرآن بأخبار الأمم الغابرة ، وقصّ القصص عن الأنبياء ، فلم يقل إلا حقا ، وما من وعد وعد به إلا تحقق ، وأخبر عن أمور من المستقبل ، ووعد بإظهار الدين فحدث ، وذكر أطرافا من العلوم فما جاء منها أثبته العلم الحديث ولم يعارضه ، وتوافق ما ظهر منه وما بطن ، فلم يدع لشىء ظاهرا وأبطن نقيضه ، فلما عارضه المعارضون فشلوا ، لأن ما شغلهم هو الأسلوب ، وأما المعانى والأخبار فقد حاروا فيها ، فكيف يأتون بها وعلمهم هو علم بشر ، وما كانت لديهم من قصص وأخبار عن السابقين. ولنتأمل سورة مثل سورة الكوثر ، وهى أقصر سور القرآن ، فلم تزد عن ثلاث آيات قصار ، ومع ذلك أخبرت عن مغيّبين هما الكوثر ، والوليد بن المغيرة الذى كان يكن البغض لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان الوليد هذا عند نزول الآية صاحب مال وعيال ، فنزل فيه : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً) (١٤) (المدثر) ، فأنبأ أنه يهلك ماله وولده وينقطع نسله ، وقد كان. وكان الخبر عن أبى لهب وامرأته تحديا لهم ، وكان باستطاعتهما أن يكذّبا السورة بإعلان إسلامهما ، فلم يفعلا ، وصدق قوله تعالى فى القرآن فيهما علما وعدلا.

وانظر إلى آية من الآيات ، ولتكن مثلا : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) (٧) (القصص) ، فقد جمعت فى كلماتها القليلة أمرين ، ونهيين ، وخبرين ، وبشارتين ، فدلّت على أن بلاغة القرآن فى القمة ، ولو كان القرآن من تأليف محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما ادّعى المدّعون ، لكان أسلوب القرآن أقل مرتبة ، فلمّا كان يتجاوز الإرباء والزيادة ، فلا بد أنه من تأليفه تعالى وليس من تأليف بشر.

وقارن بين آخر ما يمكن أن يبلغه علم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وملكته ، وبين حال القرآن فى العظمة والسمو والرفعة ، فمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال مثلا عن الجنة : «فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» أخرجه مسلم ، بينما قال تعالى فى القرآن : (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) (٧١) (الزخرف) ، (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) (١٧)

١٢٠