موسوعة القرآن العظيم - ج ١

دكتور عبد المنعم الحفني

موسوعة القرآن العظيم - ج ١

المؤلف:

دكتور عبد المنعم الحفني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة مدبولي
الطبعة: ١
ISBN: 977-208-442-2
الصفحات: ١٢٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

يكن مصريا ، ودليلنا ضمن أدلة أخرى أن مقولته هذه ليست من أركان النظام الدينى المصرى ، وإنما هى من أركان النظام الدينى الأشورى ، والدولة المصرية لم تحكم قط حكما ثيوقراطيا ـ أى دينيا ، أى لم تكن دولة قساوسة ، ولا فقهاء ، ولا ملالى ، ولكنها دولة قانون ، والمؤسسة الدينية فيها كالمؤسسة الحاكمة سواء بسواء ، ولم يحدث أن قال ملك من ملوك مصر أنه حورس ، أو ابن اوزيريس ، وإذا مات الملك فإنه يموت كإنسان ويحلّ محله إنسان آخر ، ولذا كثر أن يشطب اسم الملك الميت من الآثار ويكتب الملك الجديد اسمه مكانه ، ولم يكن خوفو ، وخفرع ، ومنقرع ، ورمسيس آلهة ولكنهم ملوك فقط ، إلا أنهم كانوا يعتبرون أنفسهم مختارين من السماء ، وأنهم معصومون عصمة الأنبياء فى عصرنا ، أو حتى عصمة ملوك فرنسا فى القرن التاسع عشر ، ولذلك فمقالة الفرعون : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) (النازعات ٢٤) و (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) (القصص ٣٨) لم يقلها ملك مصرى. وقلنا إن لفظة «فرعون» بمعنى الجبار ليست مصرية ، ولا هى فى اللغة المصرية القديمة ، وإنما اللفظة آشورية ، وآشور احتلت مصر ، وحكمتها لسنوات عديدة ممتدة ، واقتصرت غالبا على أرض جاسان ، وهى منطقة شرق الدلتا وتعرف الآن باسم محافظة الشرقية ، وتمتد من جوار أبى زعبل إلى البحر ، وإلى وادى توميلات ، ومنذ يوسف سكنها العبرانيون وامتلكوا الأراضى فيها (تكوين ٤٦ / ٣٤ ، و ٤٧ / ٦) ، وخروج ٨ / ٢٢) ، وفيها وقعت قصة الفرعون وموسى ، وهذا هو سبب عدم وجود رسوم ونقوش تسجل هذه القصة وأحداثها على الآثار المصرية ، وأحيانا كان استيلاء آشور على مصر كلها ، العليا والسفلى على السواء ، كما فى عهد آشور بانيبال. والملك فى آشور كان «الملك الإله» و «رئيس الكهنة» و «ممثل الله فى الأرض» ، ولذا أطلق ملوك آشور على أنفسهم اسم «ملوك الأراضين» ، أو «ملوك العالم» ، و «الممثلين لله فى الأرض» ، أى أن الملك الأشورى هو «الإله فى الأرض» مثلما الآخر «الإله فى السماء» ، ولذا كان المتوقع من الشعب أن يطيعهم طاعة عمياء ، واسم «حمورابى» هو اسم لا يصحّ إلّا لملك إله ، ومعناه هكذا : «الملك الربّ». وهذا هو الفرق بين الملك فى مصر وبين الملك فى آشور ، وهذا الفرق هو الذى يحدد جنسية فرعون موسى الذى قال : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) (النازعات ٢٤) ، فلا شك أنه كان ملكا آشوريا ولا يمت لملوك مصر بصلة. ولأن أرض جاسان كانت أرض مراع ، وكان شعبها من الرعاة ، أطلق مانيتون المؤرّخ اليهودى على ملوكها اسم «الملوك الرعاة» أو «الهكسوس». ومصر كلها لم تعرف فى تاريخها ملوكا رعاة أبدا. والخلاصة : أن قصة موسى لم تكن مع مصريين ، وورود اسم مصر أربع مرات فى القرآن لا يعنى أن القصة كان مكانها منف عاصمة مصر ، وإذا كانت

١٠٠١

قد جرت فى أرض جاسان فهى أرض مصرية رغم كل شىء ، وفى كل القصة وعلى اختلاف سور القرآن لم تحدث الإشارة إلى أن موسى كان يتعامل مع ملك مصر وإنما مع الفرعون ، وقوله : (يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ) (الزخرف ٥١) إشارة إلى ما آل إليه من أرض مصر وليس مصر كلها.

* * *

خريطة

(إمبراطورية آشور وشمولها لأرض جاسان من مصر)

فى عهد آشور بانيبال تصوير

١٠٠٢

٨٣٠. قصة امرأة فرعون

امرأة فرعون فى الأدب الدينى الإسلامى هى آسية بنت مزاحم ، وليس من مرجع موثوق به للاسم ، وليس فى التوراة عن ذلك شىء. وفى التوراة أن التى انتشلت موسى من الماء هى ابنة فرعون وليس امرأته ، وليس من شىء فى التوراة عن أن ابنة فرعون كانت على دين بنى إسرائيل ، ولما انتشلت موسى من الماء عهدت به إلى مرضعة عبرانية كانت أمه ، وأعطتها على ذلك أجرا. وأما فى رواية القرآن فهناك دافع خلاف الشفقة هو الذى دفع امرأة فرعون إلى إنقاذ الطفل موسى. وهذا الدافع هو آصرة الدين ، فلقد كانت تعبد الله على طريقة العبرانيين ، وعبادة الله كانت أثرا من آثار تعاليم يوسف ، وكان فى بلاط الفرعون من المؤمنين من أتباع ملة يوسف ـ غير آسية ـ مؤمن آل فرعون. وفرعون ـ كما قلنا ـ لم يكن مصريّا لا اسما ولا جنسا ، والناس فى جاسان أغلبهم عبرانيون ، والحكام آشوريون ، وعند ما أمرت آسية بسوق التابوت الذى به الطفل موسى إليها قبل أن يبعده البحر ، فتحته فرأت الطفل عبرانى السمت ، فعلمت أنه عبرانى مثلها ، وانفتح له قلبها ، ورحمته ، وأحبته ، وقالت لفرعون : (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) (القصص ٩) ، تدعو الله أن تكون لها وله فيه بركة ، فقد كانا لا ينجبان ، ربما لعيب فيه غالبا ، فاستوهبته الطفل فوهبه لها. وفى الآية : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (١١) (التحريم) يتأكد إيمان آسية حتى ليضرب بها المثل كمؤمنة ، ويتأكد كذلك أنها عبرانية ، وليس ذلك بكثير أن يتزوج الفرعون الهكسوسى بالعبرانية ، فكلاهما من الأغيار وليسا مصريين ، ومن سكان جاسان ، وديانة الفرعون كانت وثنية ، وديانة آسية هى التوحيد على طريقة الآباء : إبراهيم وإسماعيل وإسحاق والأسباط ، وكانت تصلى بطريقتها طريقة الآباء ، والفرعون لا يصلى ، ولأنهم وثنيون لم يترك الهكسوس فى مصر آثارا تذكر فى مجال الدين ، على عكس العبرانيين فقد آمن بديانة يوسف كثيرون ، وكان الخلاف العقدى عند آسية والفرعون ، بالإضافة إلى عدم الإنجاب ، مثار جدل دائم بينهما ونزاعات مستمرة ، فكان الفرعون يكاد يبطش بها ويعذّبها ، فسألت ربّها حسن الأجر لصبرها ، ودعت أن يخلّصها منه ، وأن ينجّيها من عمله ، فقد كان يفعل الظلم هو وقومه ، ولم تعرف مصر أذى كالأذى الذى لحقها من الملوك الفراعنة من الهكسوس ، وكان اسمهم الفراعنة بمعنى الملوك الجبابرة. وقصة امرأة فرعون مثل ضربه الله للمؤمنات من النساء ، كما ضرب المثل للكافرات منهن بامرأة نوح وامرأة لوط (التحريم ١٠). وفى قصة هذه المؤمنة

١٠٠٣

الفراعنة بمعنى الملوك الجبابرة. وقصة امرأة فرعون مثل ضربه الله للمؤمنات من النساء ، كما ضرب المثل للكافرات منهن بامرأة نوح وامرأة لوط (التحريم ١٠). وفى قصة هذه المؤمنة آسية تعزية لنساء النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم اللاتى كن يجدن مشقة فى الحياة فى بيت النبوّة بسبب قلة الزاد والمال ، وترغيبا لهن فى الثبات على الدين ، وتزيينا للطاعة لأمر الله وما قسم لهن. ثم إن فى قصة آسية وأمثالها حثّا للمؤمنين خصوصا والمؤمنات ، على الصبر فى الشدائد ، فلا يكونون أضعف من امرأة فرعون حين صبرت على أذى زوجها أعتى الجبابرة.

* * *

٨٣١. آيات موسى إلى فرعون : تسع

هى تسع آيات : ١ ـ العصا ، كقوله تعالى : (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) (١٠٧) (الأعراف) ؛ ٢ ـ واليد ، كقوله : (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) (النمل ١٢) ؛ ٣ ـ والطوفان ؛ ٤ ـ والجراد ؛ ٥ ـ والقمل ؛ ٦ ـ والضفادع ؛ ٧ ـ والدم ، كقوله : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) (١٣٣) (الأعراف) ؛ ٨ ـ والسنون ـ أى الجدوب ، كقوله : (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (١٣٠) (الأعراف) ؛ ٩ ـ وانفلاق البحر ، كقوله : (فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) (٦٣) (الشعراء) ، فهذه تسع آيات.

* * *

٨٣٢. زينة وأموال الفرعون ودعاء موسى

فى الآية : (قالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (٨٨) (يونس) ، وصف لأحوال الفرعون من ملوك الهكسوس فى الفترة التى حكموا فيها بعضا من أقاليم مصر ، فكان له ولقومه من زخرف الدنيا ، ومتع الحياة ، ومن الأموال ، الكثير ، قيل كان النيل يغل بالخير ، وكانت الأرض تغل بمعادن الذهب والفضة ، وكانت جبال البحر الأحمر تغل بالأحجار الكريمة ، وما كان عطاء الله له ولقومه عن رضا بل ليضلوا ويبطروا ويتكبّروا ، ودعا موسى عليهم بأن يعاقبهم على كفرهم بالطمس على أموالهم ، أى بإهلاكها ، وطمس الشيء : ذهابه عن صورته ، وطمس الأموال أن تضيع فيما لا فائدة منه ولا طائل ؛ والشّدّ على القلوب بتقسيتها والطبع عليها فلا تنشرح للإيمان.

* * *

١٠٠٤

٨٣٣. موسى أمر قومه أن يصلوا فى البيوت

زاد فرعون من تعذيب بنى إسرائيل لمّا أظهر موسى ، دعوته ، فعابوا عليه المشقة التى يعانونها بسببه وهو الذى جاء ليخلّصهم ، وكان فرعون وقومه يعرفون الإسرائيليين من سواهم بمعابدهم التى بنوها لصلواتهم ، وكانوا يهاجمون تلك المعابد ويقبضون على الأقوياء منهم للعمل عندهم ، وفى ذلك يقول الله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (٨٧) (يونس) ، ومصر فى هذه الآية هى أرض جاسان ـ أى محافظة الشرقية الآن ، باعتبار إطلاق الكل على الجزء ، وأمر موسى وهارون بنى إسرائيل ، بناء على وحى من الله ، أن يتخذوا من بيوتهم مساجد ، وأن يجعلوها إلى القبلة ـ أى فى اتجاه الشرق ، فقد كان الساميون جميعا يتوجهون فى الصلاة إلى المشرق أينما كانوا ، والمراد أن يصلوا فى بيوتهم سرا ليأمنوا على أنفسهم ، وفقه ذلك : أن الصلاة تكون فى المساجد ، فإذا خاف الناس مظالم الطاغية وجبروت عسكره ، فلهم أن يصلّوا فى البيوت. والمسلم له أن يصلى أينما كان ، وفى الحديث : «جعلت لى الأرض مسجدا وطهورا» ، فخصّ بذلك المسلمون ، ربما لحالات كهذه ، ومن فقه هذه الآية : أن الخائف على نفسه يعذر بخوفه ، ويجوز له ترك الجماعة والجمعة ، وكثير من المسلمين يفعلون ذلك الآن فى بلاد الإسلام وفى غير بلاد الإسلام ، فلقد صار الخوف من السلطان الجائر فى بلاد الإسلام أكثر منه فى غير بلاد الإسلام.

* * *

٨٣٤. الفرعون دائم الاستخفاف بقومه

الفرعون ـ كما عرفنا ـ هو الجبّار ، وهو لغة المستعمرين الهكسوس أطلقت خطأ على كل ملوك مصر ، والقرآن يقصد بالفرعون حكام أرض جاسان ـ أى محافظة الشرقية الآن من الملوك الرعاة. والمرادف للفرعون هو الطاغية ، من الطاغوت والطغيان ، ومن علامات الطغاة استخفافهم بأقوامهم ، يقول تعالى : (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) (٥٤) (الزخرف) ، يعنى استجهلهم ، فأطاعوه لجهلهم ، وقلة درايتهم. يقال : استخفّه الفرح ، أى حمله على إثبات أفعال الجاهلين ، ولم يكن عبثا أن كتب توفيق الحكيم «عودة الوعى» ، يقصد أن الطاغية من شأن جهازه الدعائى أن يغيّب عقول الناس ويستسهل ذلك لأميّتهم وانحطاط ثقافاتهم وأحوالهم المعيشية ، فإن أردت يا أخى أو يا أختى ، أن تتعرّف إلى نوع نظام الحكم فى بلدك ، فانظر كيف يتصرّف حاكمه فى أهله ، وكيف يسلكون إزاء جبروته وصلفه واستبداده ، وما إذا كانوا يصدّقون دعاواه دائما ولا يعارضونها أبدا. وقيل

١٠٠٥

فى تفسير «استخفّ قومه» أنه وجدهم خفاف العقول فاستعطبهم ، فدانوا له بالطاعة العمياء كالبهائم يسلس قيادها.

* * *

٨٣٥. لقاء التحدى بين موسى والفرعون : الزمان والمكان

هذا ما أوجزته الآيات : (وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (٥٦) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (٥٨) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) (٥٩) (طه) ، وقدّمت له بأسبابه : أن موسى بذل كل ما فى وسعه وقدّم له ما زوّده به ربّه من حجج تدل عليه تعالى ، أنه الواحد والقادر والناصر والقاهر ، وكذّب فرعون ما رأته عيناه ، وأبى أن يذعن لإملاء العقل ، وأنكر عنادا مع أنه رأى الآيات عيانا لا خبرا ، كقوله تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) (النمل ١٤) ، وسمّى ما رأى سحرا ، وحدّد ما فهمه من دوافع موسى ، بأنه ليوهم الناس أن آياته هى الأعلى ، وهى الأوجب للتّصديق ، فيؤمنون لذلك بإلهه ، فيغلب موسى الفرعون على أرضه ، ويحوزها منه ويمتلكها ويطرده منها ، وذلك دليل أكيد أن موسى كان يتعامل مع ملك أجنبى غير مصرى ، وعارضه الملك بسحر كالذى جاء به موسى ، ليبيّن للناس أن ما أتى به ليس من عند الله كما يدّعى ، ولكنه من ألاعيبه ، وطلب منه موعدا أو وعدا بلقاء آخر فى موعد أقرب ومكان أوسع ، والموعد اسم لزمان ومكان الوعد ، كقوله تعالى : (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ) (هود ٨١) ، فلا يخلف أيهما اليوم المعلوم والمكان المعروف ، واقترح لهما ـ واقتراحه أمر ـ أن يكون المكان ـ سوى ـ أى سوى هذا المكان الذى هما فيه وهو بلاط الملك ، فيكون نصفا وعدلا بينهما ، بين أبهة هذا المكان وبين رحابته ، ليتسع لعدد أكبر من الناس. وفى اللغة «سواء الدار» وسطها ، ووسط كل شىء أعدله كقوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة ١٤٣) ، أى وسطا بين الرأيين ؛ ويوم الزينة الذى حدده هو يوم عيد ، يتزيّنون فيه ويتهيئون له ، وأمثال هذه الأيام لم يعرفها المصريون ولكنها من عادات شعوب الشرق الأوسط الأخرى حول آلهتهم ، كآلهة الحصاد ، وآلهة الجمال ، وآلهة الشرب والصخب ، والمصريون ما كانت لديهم أعياد صخب واحتشاد إلا عيد وفاء النيل ، وقد جعل ذلك بعض المفسرين من العرب يقولون إن يوم لقاء موسى وهارون كان يوم وفاء النيل! أى كان فى الصيف. ووفاء النيل لم يحتفل به المصريون إلا مؤخرا ، وكان عيد عبادة وشكر ، ولا تليق فيه أعمال السحر ولم يعرف عن المصريين أنهم يهوون السحر ، أو أن لهم علم به ، فالسحر علم كاذب ، وعلم المصريين هو العلم

١٠٠٦

الصحيح ولذا تفوّقوا على الأمم ، وبذّت حضارتهم سائر الحضارات. وأما السحر فكان اختصاص العبرانيين والأشوريين ، فهؤلاء برعوا فيه واشتهروا به ، ولكل ذلك كان يوم العيد حتما هو يوم النيروز ، وهو أول يوم من أيام السنة الشمسية ، ويحتفل به الأشوريون والفرس والسريان واليهود ، وهو يوم الفرح ، وجعله أقباط مصر من بعد ذلك أول السنة القبطية ، والناس فيه يزدحمون ويتزاحمون ، وأوفق الأزمنة للاجتماع فيه والزحام على أشده فى الضحى الأعلى بعد طلوع الشمس ، لأن أول النهار هو الضحوة وليس الضحى ، واختيار النهار فى أوله ليكون فيه متسع لو امتد الأمر بين الفريقين المتنازعين ، وحشر الناس فيه ليكون زهوق الباطل على رءوس الأشهاد ، فتقوى رغبة من يرغب فى الحق ، وتسقط دعوى المبطلين وأشياعهم ، ويكثر المحدّثون بالأمر فى البدو والحضر ، وتشيع القصة بين أهل الوبر والمدر ـ أى فى كل مكان ، ووسط كل الطبقات والتجمعات والفئات.

* * *

٨٣٦. طريقة الفرعون هى المثلى

الفرعون لفظ أجنبى وليس مصريا ، وهو الملك الربّ ، والملوك فى مصر لم يحدث أن نادوا بأنفسهم أربابا ، منذ عهد مينا حتى آخر ملك من ملوك الأسرات ، واسم رمسيس مثلا هو رع موزيس ، ورع هو اسم أحد أسماء الله عندهم ، وموزيس أو موسى هو عبد هذا الإله ، ومثله تحتمس وهو عبد الإله توت ، كقولنا الآن عبد الله ، أو عبد الحافظ ، أو عبد الصمد ، فالملك ليس إلا عبدا لله. وأما عند ملوك آشور ، فالملك هو إله ، والتعبّد يكون للملك تجسيدا للإله الكونى ، فطريقة الأشوريين هى أنهم كانوا حسيّين وماديين ، والروحانية كانت منعدمة عندهم ، على عكس المصريين. وقولنا : إن ديانة موسى صورة من ديانة أخناتون المصرى ، لأن سمة الديانتين التجريد ، والتجريد لم تعرفه آشور ، والملك الأشورى ـ أى الفرعون ـ يسخر لذلك من طريقه موسى ، ومن قبل موسى اختصم مع طريقة المصريين ، ولم يرض بعبادة أى من آلهتهم ، لأنها آلهة قائمة على أساس المفهوم والتصور التجريدى لقوى الله. وقبل موسى كان يوسف ويعقوب ، والذين آمنوا بهما قليلون من أهالى جاسان وبلاط الفراعنة الهكسوس. ولم تعجب دعوة التوحيد هؤلاء ، لأنها تلغى الاستكبار الأشورى ، والاستعلاء الآسيوى ، وهما ما عرفت به طريقة الفراعنة من حكام آشور ، وهى فى ظنهم «الطريقة المثلى» سواء فى الحياة كأسلوب ، أو فى الدين كعقيدة ، أو فى الحكم كسياسة.

* * *

١٠٠٧

٨٣٧. لم يؤمن بموسى إلا القليل من ذرية بنى إسرائيل

عند ما دخل يعقوب أرض مصر كان كل من معه ، بما فى ذلك أولاده ونساؤهم وأتباعه وذرياتهم نحو السبعين فردا ، ومنهم يوسف وولداه (التكوين ٤٦ / ٢٨) ، وأقاموا بجاسان من محافظة الشرقية وتكاثروا جدا ، وظلوا فيها كما قيل أربعمائة سنة وثلاثين ، وقيل الصحيح حسابيا مائتى سنة وثلاثين ، وقيل إن من خرجوا مع موسى من ابن عشرين سنة فصاعدا ممن يمكن تجنيدهم للحرب كانوا ستمائة ألف وثلاثة آلاف وخمسمائة وخمسين ، غير أن من أظهر الإيمان مخافة بطش فرعون أقل بكثير ، كقوله تعالى : (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) (٨٣) (يونس) ، فلما كان الخروج خرجوا جميعا ، ولو حسبنا النساء والأطفال والشيوخ المرافقين لهؤلاء الشباب الذين فاق عددهم الستمائة ألف ، فإن عدد الخارجين ليبلغ أكثر من المليون! وهذا غير صحيح بالمرة.

* * *

٨٣٨. دعاء قوم موسى قبل الخروج

لمّا وصل الصدام بين الفرعون وموسى مداه ، قرّ قرار موسى على الخروج ببنى إسرائيل ، فأبلغ قومه : (وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) (٨٦) (يونس) ، فأسلموا أمرهم إلى الله ، ورضوا بقضائه وقدره ، وانتهوا إلى أمره ، وسألوه أن لا يمتحنهم بالعذاب على أيدى أعدائهم ، وأن يخلّصهم من فرعون وقومه.

* * *

٨٣٩. توحيد الفرعون لمّا أدركه الغرق

فى قوله تعالى : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) (٩٢) (يونس) أن فرعون جمع جنوده من القرى والنجوع والمراكز والمدن ولحق موسى وأدركه مصبحا ، يريد أن يبغى ويعتدى عليه ، طلبا للاستعلاء بغير حق فى القول ، وعدوا فى الفعل ، حتى إذا ناله الغرق صدّق وآمن ونطق بالشهادة : «لا إله إلا الذى آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين» ، والإيمان لا ينفع حينئذ ، والتوبة لا تقبل إلا قبل

١٠٠٨

رؤية البأس ، وأما بعدها فلا تقبل. ونجّاه الله ببدنه لا بنفسه ، ليكون للناس عبرة ويتّعظون ، قال تعالى : (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) (٩٢) (يونس) ، فأماته وألقى بجسده على البرّ ، وقيل إن رمسيس هو هذا الفرعون لعثورهم على موميائه ، غير أن المومياء ليس بها ما ينبئ عن واقعة غرق ، ولا يوجد بين ملوك مصر من يصدق عليه أنه مات غرقا ، وهذا دليل آخر على أن «قصة موسى والفرعون» كانت بين أغراب على مشارف أرض مصر بإقليم جاسان ، وكان أمر هؤلاء الأغراب ، سواء كانوا آشوريين أم عبرانيين ، لا يعنى المصريين.

* * *

٨٤٠. موجز قصة موسى مع الفرعون

تعدّ الآيات الثلاث : (وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ) (٤٠) (الذاريات) أو فى وأصغر إيجاز لقصة موسى مع الفرعون ، فبرغم طول القصة الشديدة إلا أن هذه الآيات لخّصتها فجاء ملخصها رائعا شاملا ، واعتبر من معجزات البيان القرآنى ، تماما كمعجزاته تعالى فى الكون. والآيات الثلاث تدعو للتأمل والتفكّر. وكانت حجة موسى البيّنة عصاه ذات السلطان ، وإنما من لم يكتب له الإيمان لم يؤمن ولو كانت الرسل إليه ملائكة ، وفرعون كان طاغية ، ومن الملعونين ، فلم يؤمن وأعرض مع كل معجزات موسى ، وانفرد بوزرائه ومستشاريه ، واجتمع بقواده ورؤساء عسكره ، واحتمى بمنعة آله ، وقال مقالته المشهورة التى يتّهم بها كل مفكر أو رسول أو مصلح عند ما تكون الحكومة التى يعارضها استبدادية : ساحر أو مجنون!! ـ يعنى أن هذا المفكر ، أو الرسول ، أو المصلح إما أنه ساحر يلعب بالعقول ويدلّس على الناس ، ويزيّف الحقائق ، وإما أنه مجنون أن يجرؤ على نقد الحكم ، أو نقض المذهب ، أو تقويض الملّة. وفرعون أجرم وجنوده ، لأنهم كانوا على الباطل ، وموسى على الحق ، فجرّ على نفسه وعليهم الوبال ، وظلم نفسه وظلمهم ، فلمّا أخذ لم يؤخذ وحده ، وقضى فيه وفيهم بالحق ، وكان ملوما كما كانوا ملومين ، واستحق أن يموتوا معا ، وألقى بهم فى اليم وكانوا من المغرقين ، وهذا ما أوجزته الآيات الثلاث خير إيجاز

* * *

٨٤١. دار الفاسقين ليست مصر

تأتى الآية : (سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) (١٤٥) (الأعراف) وكأن الله تعالى يتحدث عن

١٠٠٩

مصر ، وكأنه يخاطب بنى إسرائيل ، وبعض المستشرقين لذلك فرحوا بها باعتبار أنها تطعن فى مصر وتصفها بأنها دار الفاسقين. وكذلك ذهب بعض المفسرين هذا المذهب فى التفسير ، إلا أن بنى إسرائيل كانوا قد خرجوا من مصر ، ولم يعد فى الإمكان أن يروها حتى يصفها لهم الله تعالى بأنها دار الفاسقين ، وأنه سيريها لهم ، والخطاب فى الآية للعرب الذين دعاهم النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الإسلام ، فبعد أن قصّ عليهم قصة بنى إسرائيل مع الفرعون ، ذكّرهم بشيء مشابه : قصّتى عاد وثمود فى أرض العرب ، وآثار هؤلاء ما تزال هناك فى المسافة بين الحجاز والشام ، وهؤلاء هم المعنيون باسم الفاسقين ، ودارهم أو ديارهم ـ بمعنى بلادهم ـ وهى التى يرون آثارها كلما كانوا مسافرين إلى الشام.

* * *

٨٤٢. قصتا سامرىّ موسى وسامرىّ المسيح

قصة السامرى the samaritan فى القرآن ينفرد بها عن التوراة والأناجيل ، فلأول مرة يعترف اليهود بتفوّق القرآن عليهم ، وأنهم قد عرفوا عن طريقه لما ذا كان يهود السامرة منبوذين عندهم؟ ولما ذا يعاملونهم كمنبوذين؟ ولم يكن اليهود يعلمون السبب ، ولم يتضمنه كتابهم ، فأخبرهم القرآن به ، وهم يقتنعون بهذا السبب ويرددونه ، ونبّه إلى ذلك جولدتسيهر ، وجايجر ، وشبيار. وتأتى القصة فى القرآن فى سورة طه ، فى معرض فتنة قوم موسى وهارون ، قال تعالى : (فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (٨٨) أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (٨٩) وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (٩١) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٧) إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) (٩٨). وللمفسرين المسلمين تفسيرات عجيبة فى السامرى وديانته وأصله ، وكان الأسهل عليهم لو

١٠١٠

أنهم رجعوا إلى التوراة ، إلا أن ذلك كان فيما يبدو صعبا فلم يكن هناك شىء متاح عن السامرة ، ونسخة التوراة السامرية مثلا ، وهى التى يتعبّد بها أهل السامرة من فلسطين ، لم تترجم إلى العربية إلا فى القرن الحادى عشر الميلادى ، يعنى لم تكن فى متناول هؤلاء المفسرين ، وجهلهم قد يعذر لذلك. والسامرة اسم عبرانى معناه مكان الحارس أو الديدبان ، وهى موطن السامريين ، وعاصمة عشرة من الأسباط بنوها أيام عمرى بن أخاب ملك إسرائيل بحسب التوراة اليهودية ، وعمرى ـ كما تقول التوراة ـ كان ملكا من سنة ٨٧٦ إلى سنة ٨٤٢ قبل الميلاد ، وكان صاحب الأرض التى بنى عليها مدينته يدعى شامر أى حارس ، ومحتمل أن الحراسة كانت عمله ، وسميت المدينة بهذا الاسم ، وأضيف أهلها إليها فهم لذلك السامريون. وتقع المدينة على تل اسمه عمرى شوميرون ، وكان لها برج عظيم ، وسمى الجبل الذى أقيمت عليه جبل السامرة. وإقليم السامرة وسط فلسطين بين الجليل فى الشمال واليهودية فى الجنوب. ومنذ البداية كانت السامرة مدينة وثنية ، وبنى فيها آخاب هيكلا للبعل ، وظلت الوثنية سائدة حتى عهد يا هو ، ومارس السامريون عبادة الأصنام وخاصة العجل ، وادّعوا أن الهيكل فى جزريم وليس فى أورشليم ، واستحكم لذلك الخلاف بينهم وبين اليهود. وتختلف التوراة السامرية عن النصّ العبرى فى نحو ستة آلاف موضع. فهذا هو الخلاف بين السامريين والعبرانيين ، لكن لما ذا هم منبوذون؟ لا أحد منهم يدرى ، وإنما القرآن هو الذى قصّ القصة ، وبيّن أن النّبذ كان عقابا للسامريّ ، فإنه قد عاش فى أرض ساجان من مصر ، وعاشر الهكسوس ، وكان من عبدة الأوثان ، فرأى بعد موسى أن يصنع اليهود صنما يتعبّدون له كما فى مصر ، إيثارا منه للعينى عن المجرّد ، وللحاضر عن الغائب. وكان جبريل قد أتى موسى ، فرأى السامرى رؤية البصير أثره فى التراب ، فقبض منه قبضة ، ولمّا رأى أنهم يريدون صنما عجلا يحتفلون حوله ، طلب إليهم أن يخففوا عن كاهلهم أحمال الذهب الذى سرقوه من أهالى جاسان من المصريين وغيرهم ، فصهره وسبكه عجلا له جسد العجل وليس له روح ، وله خوار أو صفير إذا حرّك أو دخله الهواء ، وقال لهم : هذا إلهكم وإله آبائكم. فانظركم الفرق بين الرواية فى التوراة والرواية فى القرآن! وكيف هى مسطّحة وجرداء قاحلة فى التوراة ، بينما لها أبعادها وأعماقها وأهدافها الإيمانية فى القرآن! وكيف تجنّى جولدتسيهر على القرآن والنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ما قال : إن محمدا مدين بالقصة لبقايا اليهود من السامريين فى المدينة. ثم الأعجب أن جولدتسيهر وقد فهم من القرآن عقاب موسى للسامرى ، وهو العقاب الذى يؤرّخ لنبذ اليهود للسامريين ولم يعرف اليهود أسبابه ، لم تأته الشجاعة الأدبية ولا الأمانة العلمية أن

١٠١١

يشيد بالقرآن من أجل إيراد هذا العقاب غير الموجود فى أى كتاب من قبل القرآن! قال موسى : (فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ) (طه ٩٧) ، يعنى أنه صار منبوذا يخشى الناس أن يمسّوه ، وإلّا انتقلت إليهم اللعنة ، فصار يهيم على وجهه ، وكلما اقترب منه أحد قال : «لا مساس» ، أى لا تمسّنى ولا تقترب منى. وهذه الآية صارت مرجع قول الفقهاء بنفى صاحب البدعة. ومن نسل هذا السامرى ومن أتباعه كان السامريون ، وكانت كراهيتهم لليهود وكراهية اليهود لهم. والإنجيل على العكس يقول برواية أخرى عن سامرىّ آخر يناسب أن يجعل من المسيح أعظم الأطباء ، وفيها أن السامرى كان منبوذا لأنه أبرص! (لوقا ١٧ / ١١ ـ ١٩) ، وبديهى أن قصة سامرى موسى بخلاف قصة سامرى المسيح على الأقل بفارق الزمن بين الاثنين. وفى قصة الإنجيل أن المرضى بالبرص كانوا عشرة ، قصدوا المسيح ليبرئهم ، فمسّهم وبرءوا ، فانصرفوا ولم يشكروا ، إلا السامرى ـ وكان منهم ـ فقد عاد إليه يمجّده بصوت عظيم ، وخرّ عند قدميه شاكرا ، وكان كثيرا على المسيح أن لا يمجّده إلا سامرى ، إلا أنه قبل منه الشكر كما فعل مع الكنعانية لمّا أظهرت إيمانها الشديد به كإيمان هذا السامرى ، فقال لها المسيح : إن إيمانك قد خلّصك! فكذلك السامرى ، إيمانه قد خلّصه. فهذه قصة السامرى مع المسيح ولا دخل لها البتة بالقصة قيد التوراة والقرآن.

* * *

٨٤٣. قصة موسى وعبدة العجل

المصريون يعرفون العجل أبيس إله القوة البدنية والجنسية ، والعجل عموما كان معبود الكثير من الشعوب ، ولا يوجد شعب من شعوب الشرق الأوسط إلا وكان من عبدة العجول فى يوم من الأيام ، وفى الهند يعبدون البقرة رمز الخصب التناسلى ، والخصوبة التكاثرية ، والعطاء الأنثوى المتمثّل فى اللبن الغذاء الحيوى ، كقولنا الغذاء الملكى عند النحل. والعبرانيون لمّا كانوا فى أرض جاسان من مصر ، عبدوا العجل ، ليس نقلا عن المصريين وإنما عن الأشوريين الذين كانوا يحكمون جاسان وحكموا مصر كلها أو بعضها فى يوم من الأيام ، والبعض ينسب عبادة العجل فى مصر للآشوريين ، ويقصرها على إقليم جاسان ، والعبرانيون شعب أوثق صلة بالآشوريين منهم بالمصريين ، والطقوس العبادية التى أدخلها موسى الديانة الموسوية طقوس تنتمى للشام وليست لمصر ، ولكى ننبه إلى أصالة عبادة العجل عند الأشوريين وليس عند المصريين ، علينا أن نعرف أن مدنا من مدنهم كانت تنسب لعبادة العجل ، مثل عجلون (بالفتح) ، والاسم يعنى بالعبرية «يلد

١٠١٢

العجل» ، وكانت عجلون قرب الساحل إلى الشمال الشرقى من غزة ، ومكانها الآن خربة عجلان ، شمال تل الحسى وقرب أربد. وهناك أيضا عجلون (بالكسر) وتعنى «مثل العجل» ، وهو أحد ملوك موآب ، وله حكايات مع بنى إسرائيل. والأصول اللغوية لكلمة «عجل» عند العرب والعبرانيين والموآبيين والأشوريين واحدة ، واللفظة سامية ويهمنا فى قصة العجل : أن المصريين نادرا ما يشيرون إلى العجل أبيس ، وإنما صورة العجل متغلغلة فى الأدب الشعبى والرسمى العبرانى خصوصا ، والسامى عموما ، والقرآن نبّه إلى ذلك ، وعبادة العجل من مكونات اللاشعور العبرانى ، وهو رمز القوة الغاشمة والجنس والمال ، وعند ما نقول إنهم عبدة العجل الذهبى ، نعنى أن معبودهم هو القوة أو بالأحرى المال وجمعه. وفى التوراة أن هارون كان من عبدة العجل!! وصنع لبنى إسرائيل عجل الذهب وبنى له مذبحا (خروج ٣٢ / ١ ـ ٥) ، فى جاسان (خروج ٣٢ / ٤) ، وكذلك فعل يربعام بعد انقسام بنى إسرائيل إلى مملكتين ، فبنى تمثالين للعجل ، واحدا فى بيت إيل ، والآخر فى دان (ملوك ١٢ / ٢٦ ـ ٣٣) ، وظل شعب اليهود يعبد العجل ، وأيّد هذه العبادة جميع الملوك الذين تعاقبوا على المملكة الشمالية ما عدا الملك هوشيا ، وتحفل أسفار العبرانيين والنصارى بأوصاف العجول ، كما فى الأمثال (١٤ / ٤) ، وعاموس (٦ / ٤) ، ولوقا (١٥ / ٢٣) ، والعدد (١٩ / ١ ـ ٢٢) ، والرسالة إلى العبرانيين (٩ / ١٣ ـ ١٤) ، والتكوين (١٥ / ٩ ـ ١٧) ؛ ولما أراد إرميا وصف مصر لم تسعفه مخيلته إلا بأن يشبّهها بالعجلة ، ووصف شعب مصر بالعجول الصغيرة (٤٦ / ٢٠ ـ ٢١).

وعجل بنى إسرائيل يأتى عنه فى التوراة (خروج ٣٢ / ٢) أن هارون أمر الإسرائيليين أن ينزع النساء والأطفال حلقات الذهب فى آذانهم ، فأخذها وصهرها وصوّرها فى قالب ، وصنعها عجلا مسبوكا ، وفرح الشعب بأنه أخيرا صار له إله ، لأنه كان يكره المجرّد ويطلب العيانى ، لمادية تفكيره وحبّه لكل ما هو من مادة ، وسرّ هارون سرور الشعب ، فبنى للعجل مذبحا ، وأعلن أن الغد عيد للربّ ، وفى البكور أصعدوا المحرقات وقرّبوا الذبائح ، وجلسوا يأكلون ويشربون ، وقاموا يرقصون ، وكان موسى فى الجبل يتلقى عن ربّه ، وكان من المفروض أن يغيب ثلاثين يوما ولكنه زادها عشرة أيام ، فأمره الربّ أن يعجّل بالهبوط إلى شعبه ، لأنهم قد انحرفوا وكفروا ، وصنعوا عجلا مسبوكا ، وسجدوا له وذبحوا ، وعبدوه إلها. وكان الربّ غاضبا ، وصار موسى يدافع عن الشعب ، ويذكّره بوعده لإبراهيم وإسحاق وإسرائيل لعله يرضى ، ونزل بسرعة ومعه لوحا الشهادة ، وعاد معه يشوع ، ولما دنا من المكان وشاهد العجل والرقص ، غضب ورمى باللوحين وكسرهما ،

١٠١٣

وأخذ العجل وحطّمه وأحرقه وذرّاه على الماء وسقى منه الشعب كعقاب ، واعتذر هارون بأنه ما كان له إلا أن يفعل ما فعل ، بالنظر إلى فساد هذا الشعب ، فلما طلبوا إلها صنع لهم هارون واحدا ابتهجوا به ، ورقصوا حوله عراة. ولا تذكر لنا التوراة : لما ذا اختار هارون للإله أن يكون فى شكل عجل؟ ولما ذا من ذهب؟ ولما ذا حالة العرى التى صاروا إليها حوله؟ والدراسات النفسية والتحليل النفسى يثبتان بدائية هذا الشعب وحيوانيته ، وماديته وفساده ، حتى أن الربّ قال فيهم : «هم شعب قساة القلب» ، وقال فيهم هارون إنهم «شعب من الأشرار» ، ورغم أنهم أبدوا التوبة فإنهم عادوا إلى المعاصى ، وكأن موسى بعد أن أحرق العجل وذرّاه على الماء وسقى منه الشعب ، قد أشربهم العجل ، يعنى طبعهم على الجحود والظلم ، فصارا فى دمائهم وتخللا الشخصية اليهودية.

وحكاية القرآن عن العجل مختلفة تماما ، وهارون مبرّأ منها ، والمتهم هو السامرى (انظر قصة السامرى). يقول تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) (١٥٢) (الأعراف ١٥٢) ، والذلة : لأنهم ابتدعوا العجل رمز المذهب المادى ، وأشربهم موسى ماءه ليعرفوا به. وكانوا سرّاقا ، سطوا على زينة الأشوريين فى أرض جاسان وسلبوها (خروج ١٢ / ٣٥ ـ ٣٦) ، وذلك دليل على أنهم كانوا منهم فجميعهم ساميون ، وقذفوا الزينة ـ يعنى الذهب ـ فى النار ، وصاغ لهم السامرى منه العجل ، وقيل : كان السامرى قد أبصر جبريل وهو يعبر بهم البحر ، فقبض قبضة من التراب من أثره ، فألقاها فى ذوب الذهب ، فصار كأنما العجل دبّت فيه الحياة ، إلا أنه مجرد معدن وإن كان له خوار إذا صوّتوا فيه. والخوار هو صوت العجول ، وقيل : كانت الريح إذا اخترمت العجل تصوّت ، فكأنما العجل يخور. وقيل إن هارون مرّ به وهو يصنع العجل ، فدعا له ، وبدعوة هارون صار للعجل خوار ، قال : (هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى) (طه ٨٨) ، فلو لا ميلهم إلى التشبيه ما صدّقوا ، ولكنهم كانوا أول مشبّهة فى التاريخ ، وقال السامرى عن العجل : (بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) (٩٦) (طه) ، وقال موسى عنه للسامرى : (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً) (٩٧) (طه) ، وقيل لذلك : إن اليهود صارت لهم من يوم عبادة العجل مشكلة أو مسألة يقال لها المسألة اليهودية ، ولا حلّ لها إلا بإلغاء الملكية الفردية ، وأن تكون الملكية جماعية ، وأن يلغى رأس المال الخاص ويعمّم رأس المال العام ، فبذلك وحده تنتهى أسطورة عجل اليهود الذهبى ، أو عبادة اليهود للمال وجمعه ولو أدّى الأمر إلى سرقته وخراب الشعوب ودمار المجتمعات.

* * *

١٠١٤

٨٤٤. قصة هامان

تعرض قصة هامان فى القرآن فى ثلاث سور وست مواضع ، وتبرز القصة من خلال السرد القرآنى ، يقول الله تعالى : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) (٦) (القصص). واسم فرعون ليس من اللغة المصرية ، وكان اسما لملوك العماليق الذين حكموا مصر باسم الهكسوس. ولما قدم بنو إسرائيل مصر التقوا بيوسف ، وكان وزيرا لأحد هؤلاء الفراعنة من الهكسوس الذين كانوا يحكمون إقليم جاسان أو محافظة الشرقية من محافظات مصر ، بعد أن استولوا عليها ، ولم يرد اسم فرعون موسى لمّا كان موسى طفلا ، ولا اسم الفرعون الذى طارد موسى إلى خارج مصر ، وفى الحالتين كان من الملوك أو الحكام أو الأمراء الهكسوس أو الملوك الرعاة. وظل بنو إسرائيل فى أرض جاسان التى هى محافظة الشرقية إلى أن خرجوا من مصر ، ويبدو أن خروجهم كان مع أفول حكم الهكسوس ، فلم يكن المصريون راضين عما يجرى فى إقليم جاسان ، لأنه صار مرتعا للأجانب. ولمّا غرق جند الهكسوس لم تذكرهم الآثار المصرية ، ولا ذكرت حكاية بنى إسرائيل ، لأن هؤلاء جميعا كانوا أغرابا ، وكان المصريون يجاهدون لإجبارهم على الخروج. وفى سفر الخروج (الفصل الأول ١١ / ١٥) ، أن بنى إسرائيل استغلهم الملوك الهكسوس فى السخرة للبناء بالطين واللبن ، وفى سائر أعمال الأرض ، وأنهم شاركوا كعمال سخرة فى بناء قريتين من القرى المستخدمة كمخازن للغلال هما فتوم ورعمسيس. ومخازن الغلال كما نعلم كانت اهتمام يوسف وكانت تبنى بالطين كطريقة العبرانيين فى جاسان. ونخلص من هذه المقدمة إلى أن أرض جاسان هذه وقد كانت مستعمرة أو مستوطنة أجنبية ، كانت مساكن للهكسوس العماليق ولبنى إسرائيل ، وكان بها آشوريون وبابليون وفرس وعبرانيون ، ولم يكن عبثا أن أبطال قصة موسى كانوا ـ من جهة ـ ثلاثة ، هم : فرعون ، وهامان ، وقارون ؛ فأما فرعون فهو من العماليق الهكسوس كما يوحى اسمه ، وأما هامان فهو رجل حرب من الأشوريين ، وكانوا معروفين بأنهم محاربون وغزاة ، وأما قارون فكان عبرانيا من الأثرياء ثراء خرافيا ، ومن الجهة المقابلة ـ كان موسى وهارون ، وهما عبرانيان من بنى إسرائيل ، فقصة فرعون موسى ، أو موسى مع الفرعون : قصة عن جماعات حطت أرض مصر واعتركت عليها ، ولم يشارك فيها المصريون ، وكانوا جميعا محتلين. والأرض التى جرت عليها وقائع القصة هى أرض جاسان ، وهى محافظة الشرقية الآن من أقصى الشرق ، واليم فى القصة ليس النيل ، ولكنه البحر حيث كانت أرض جاسان أقرب إلى بحر القلزم ، أى البحر

١٠١٥

الأحمر منها إلى النيل ، وكان للنيل مع ذلك ترع تصب هناك ، ولكنها لم تكن ما اصطلحنا عليه باسم النيل. فأما هامان فيرد اسم كاسمه فى سفر إستير من أسفار اليهود ، ويحكى عن وزير بهذا الاسم كان يكره اليهود فى آشور وفارس ويكيد لهم. وقول فرعون لهامان : (يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ) (٣٦) (غافر) هو خير وأقوى دليل على أن هذا الفرعون هو من الهكسوس أو الأشوريين مثله مثل هامان ، وذلك أن تفكير الأشوريين كان نمطه بناء الأبراج ، مثل برج بابل الشهير ، وأول ما تبادر إليه ذهن هذا الفرعون أو الحاكم هو أن يعلو فى السماء بواسطة برج لينظر إله موسى ، كتفكير الناس فى بلده آشور وفارس ، ثم إن فرعون تأكيدا لما سبق ، قال أيضا : (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) (٣٨) (القصص) ، فلم يطلب من هامان صرحا أو برجا من الحجارة كطريقة المصريين ، ولكنه طلبه من الطين المحروق بالنار ، يعنى من الطوب اللبن ، يحرق حتى يحمر لونه كطريقة البابليين ، ولو كان مصريا لطلب من وزيره أن يعدّ له هرما ، أو مسلة من الحجارة ، ولكنه طلب صرحا أو برجا من الطين كعادة البابليين. وفى الآية بعد الآية السابقة : (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) (القصص ٣٩) ، فلو كان مصريا لاستكبر هو وكهنته ، لأن أكبر سلطة فى مصر كانت للكهنة. ولعل أكبر تحريف وتزوير فى التاريخ المصرى القديم أن المؤرخين من الإفرنج كانوا مدفوعين بحكم ثقافتهم التوراتية إلى الحديث عن مصر القديمة باسم «مصر الفرعونية» وطاوعناهم على ذلك ، ولم يضعوا فى اعتبارهم أن اسم فرعون أجنبيّ وليس مصريا. وكذلك لم يلحظ مفسرو القرآن أن الآية تقول «هو وجنوده» ولم تقل «هو وكهنته» ، ولو قالت : «هو وكهنته» لكان معنى ذلك أن الملك مصرى ، ولكن قولها «هو وجنوده» معناه أن هؤلاء كانوا مستعمرين ، وكانوا دائما كمستعمرين فى حالة طوارئ ، وأن أرض جاسان كانت مستعمرة أو مستوطنة عسكرية من هؤلاء الأغراب. وقوله تعالى بعد ذلك (فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ) (القصص ٤٠) دليل آخر على أن وقائع القصة لم تكن على أرض النيل فلم يحدث فى التاريخ أن تسمى نيل مصر باليم ، واليم كلمة كما قيل أجنبية وليست عربية ، وهى من لغة أهل بابل ، والمقصود بها الترعة. وفى الآية (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ) (١٠) (الفجر) دليل آخر على أن فرعون هذا لم يكن مصريا ، فمعنى «ذو أوتاد» ، أنه يسكن الخيام ، ولم يسكن المصريون الخيام إطلاقا ، وسكنى الخيام للبدو الرّحّل وليست للمزارعين ، فهذا دليل على أن فرعون وهامان لم يكونا مصريين ، مثلهما مثل قارون وموسى وهارون.

* * *

١٠١٦

٨٤٥. قصة قارون مع موسى

يأتى عن قارون فى القرآن أربع مرات فى سورة العنكبوت وغافر ، والقصص ، وتقرن قصته مع موسى بقصتىّ فرعون وهامان ، يقول تعالى : (وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ) (العنكبوت ٣٩) ، فقارون استكبر بالمال ، وفرعون استكبر بالسلطة ، وهامان استكبر بالقوة ، وكان قارون من أغنى الأغنياء وشحيحا مقترا إلا على نفسه ، وفرعون كان طاغية مستبدا وادّعى الألوهية ، وما كان لأحد أن يقضى فى أمر إلا بما يقول ؛ وهامان كان وزير فرعون وقائد جنده ، وله الهيلمان ، ويحكم فى الأرض بما يشاء. وبلغ من شدة كبر هؤلاء الثلاثة أن كذّبوا أنه يوجد من يعلو عليهم ، حتى وإن زعم موسى أن من يعلوهم جميعا هو الله ، وأنكروا البعث والحساب ، فقال موسى فيهم : (إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ) (٢٧) (غافر) ، والمتكبّر هو المتعظّم عن الإيمان بالله ، وصفه بأنه لا يؤمن بيوم الحساب ، واتهم الثلاثة موسى لما عجزوا عن معارضته بأنه «ساحر كذاب» ، وحملوا معجزاته على السحر ، وسخّفوا آياته ، وأنكروا حججه المرئية والمحسوسة وأبطلوها ، وأدانوا الذين آمنوا بموسى ، وقضوا فيهم بقتل أبنائهم ، واستحياء نسائهم.

فأما قارون وحده فتناولته سورة القصص فى سبع آيات ، تقول : (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ (٨٠) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) (٨٢) ، وقوله : (مِنْ قَوْمِ مُوسى) يعنى كان عبرانيا من بنى إسرائيل ، والذين قالوا إنه كان ابن عم موسى لا دليل لهم عليه ، وقال آخرون كان ابن خالته ، والصحيح أن قرابته الوحيدة بموسى هى قرابة العرق العبرانى ولا أكثر من ذلك. وقارون على وزن فاعول ، عبرانى ، مثل «هارون» ، و «شارون» ، وما راعى قارون قرابة العرق ، وبغى على قومه ، ولم

١٠١٧

يسلموا من جشعه وأذاه. ونمط قارون هو نمط الرأسمالى الدائب على جمع المال ، وفى سبيل المال استخفّ قومه ، وتكبّر عليهم ، وكان يعمل للفرعون محتسبا على بنى إسرائيل ، وهؤلاء كانوا يسكنون أرض جاسان من مصر (محافظة الشرقية الآن). أقطعهم إياها من قديم يوسف ، وغزاها الأشوريون وحكموها باسم الهكسوس كما أسماهم المؤرخ العبرانى مانيتو ، والهكسوس كانوا ملوكا رعاة ومحاربين ، وأطلقوا على أنفسهم اسم عماليق أو الجبابرة ، وأذاع العبرانيون اسمهم الفراعنة ، ككسرى والكياسرة ، وقيصر والقياصرة ، ولم يكن اسم الفرعون مصريا ، وما لقّب أحد من ملوك مصر باسم الفرعون ، وإنما انتشر الاسم بتأثير التوراة التى ورد بها ، وبلغ من غزو التوراة للفكر العالمى أن العالم صار يسمى ملوك مصر باسم الفراعنة ، وفسّر مفسّرو القرآن ، وقد تأثروا بالإسرائيليات ، الفرعون بأنه ملك مصر ، رغم أن هناك أكثر من دليل فى القرآن على أن قصة موسى والفرعون لم تجر فى أرض مصر وإنما فى جاسان. وقارون كان من العبرانيين سكان جاسان. وقارون كان من العبرانيين سكان حاسان. وقال تعالى فى ثرائه : (وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) (القصص ٧٦) يعنى مفاتيح خزائن ماله من الكثرة حتى أن ثقلها لينوء بالعصبة أولى القوة ، فما بالك بالكنوز نفسها؟ والعصبة عشرة كما فى سورة يوسف فى قوله تعالى : (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) (يوسف ٨) ، وهم إخوة يوسف العشرة بدونه. وهذا المال الكثير كان يسعده كسعادة تشايلوك فى مسرحية تاجر البندقية لشكسبير ، وجمع المال عند الجامع له ، اضطراب نفسى أكيد وليس مجرد عادة راسخة أو شطارة ، فالمال يشعره بتفوّقه ويشبع عقدة النقص فيه ، ولذا يسلك جامع المال أول ما يسلك ببطر وعجرفة ، والمال وجمعه يعطيانه ثقة ، ويجعلانه يعلو على الناس ويتكبّر ويزدريهم ، فلما تأذّى به قومه نصحوه أن لا ينسى الله الذى خلقه ، ولا يهمل أداء حق الناس فيما رزقه ، وكأنهم قالوا له إن المال مال الله وليس ماله ، وإنما رزق به اعتباطا وليس لذكائه ودرايته. وانبرى للدفاع عن نفسه ، ليثبت أنه جمع هذا المال بجهده وعرقه ، وبقدراته وفهمه لأصول التجارة ، وبطرق إدارة الأعمال والتعامل مع الناس ، ووقف قارون فى جانب وسواد الناس فى الجانب الآخر ، وقارون يصرّ على أن المال ماله ولا حقّ لله وللناس فى شىء منه ، وما كان يرى الإحسان ولا الزكاة ولا الصدقة ، ويعتبرها طرق احتيال يحتال بها أهل الدين ليعطوا الفقراء الخاملين مالا لم يجمعوه ، وما درى أن ما به هو غرور العظمة ، وأن التاريخ فيه من أمثاله كثيرون ، كانوا أشد منه ذكاء ، وأكثر جمعا ، ولو كان قارون حقا قد جمع هذا المال لخصائص فيه لاستطاع أن يحافظ عليه بمواهبه ، ولكن الله يوزّع الثروات فى الكون كيف يشاء وله حكمته. وقد غضب الله على من سبقوا

١٠١٨

قارون ودمّرهم وما جمعوا ، وأماتهم فلم ينفعهم المال ، وكانوا فى الآخرة فى عذاب مقيم ، فما كسبوا الدنيا ولا الآخرة ، وما استعتبوا فى الدنيا ، وما كانوا من المعتبين فى الآخرة ، وأمثال قارون ومن نمط شخصيته لهم سمات المجرمين يعرفهم بها الناس فى الدنيا ، وتميّزهم بها الملائكة فى الآخرة ، كقوله : (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) (محمد ٣٠) ، وقوله : (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) (الرحمن ٤١) ، لا يحسدهم فى الدنيا عاقل ولا مؤمن ، وكان كلما خرج على قومه فى زينته ، تمنّى الضعفاء والموتورون لو يكون لهم مثل حظه ، وقالوا فيه إنه ذو حظ عظيم ، وهال أهل العلم والدراية ما تردّى إليه الناس من أفكار فى قارون فيها الكفر الصريح ، وحذروهم من فتنته ، فثواب الله خير لهم من كل المال لو آمنوا وعملوا صالحا ، والأولى بهم أن يصبروا على ما قسم لهم من معيشتهم ، ويثابروا على العمل الصالح ولهم الجنة ، واشتدت على الناس «فتنة قارون» ، فخسف الله به وبداره الأرض ، وما نفعه ماله ولا أتباعه ، وما نصروه من غضب الله ، وأصبح الذين تمنّوا مكانه بالأمس يقولون : (وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) (٨٢) (القصص) ، و «وى» تقال للتعجب والندم ، فما تمنّوه بالأمس كان خطئا بعد ما شاهدوا ما نزل بقارون من الخسف ، وندموا على ما صدر منهم من التمنى ، فليس ما يستحق العجب ثراء قارون ، وإنما صنع الله فى الكون والبشر ، وكيف أنه تعالى يوسّع الرزق لمن يشاء بحسب مشيئته وحكمته ، وليس لكرامة هذا أو ذاك ، ويضيّق الرزق على من يشاء بحكمته وقضائه ، ابتلاء لا لهوانه عليه. ولو لا أن الله منّ على الناس الذين تمنّوا مثل حظ قارون ، لخسف بهم ، ولكان مصيرهم كمصير قارون ، والعجب فى فعل الله أن الكافرين لا يفوزون فى الدنيا ولا فى الآخرة. وهكذا تنتهى قصة قارون ، وهى قصة طغيان المال ، كما أن قصة فرعون هى قصة طغيان السلطة ، وقصة هامان هى قصة طغيان القوة وتختتم القصة بحاشية على أحداثها القصص الثلاث ، تقول : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٨٤) (القصص) ، فالدار الآخرة التى يسمع بها الناس هى «تلك الدار» (والإشارة بتلك للتفخيم والتعظيم) التى قيل فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، قد جعلها الله للذين لا يريدون علوا فى الأرض كعلو وتكبّر هؤلاء الثلاثة مضرب الأمثال : قارون وفرعون وهامان ، وهى العاقبة ولا تكون إلا للمتقين الذين يخشون الله ، والحسنات عند الله مضاعفة ، بينما لا يجزى الذين يعملون السيئات إلا ما عملوا بلا زيادة ولا نقصان.

١٠١٩

ويذكر من الأدب الشعبى فى مصر أن البحيرة فى الفيوم التى اسمها بحيرة قارون ، نسبة إلى قارون موسى ، ولم يحدث أن سكن قارون الفيوم ولا امتلك بحيرة فيها ، وإنما سميت كذلك بحسب القصة القرآنية ، فأرض الفيوم منطقة زلازل ، والأرض هبطت نتيجة لواحدة من هذه الزلازل ، وتكوّن تجويف البحيرة وامتلأ بالماء لانخفاضه عن سطح البحر ، ولتشابه الخسف الذى جرى لقارون بالخسف الذى جرى للأرض فى الفيوم ، وتكوين البحيرة فيه من ثم ، سميت البحيرة باسم قارون ، والصحيح أن لا صلة لها بقارون العبرانى هذا!

* * *

٨٤٦. قصة سورة غافر عن موسى ومؤمن آل فرعون

لم يذكر القرآن «لمؤمن آل فرعون» اسما غير هذا الاسم ، فكان مادة خصبة للإسرائيليات. ولمّا كان اسم فرعون من الأسماء الأشورية وليس اسما مصريا ، وكانت قصة موسى معه لتخليص بنى إسرائيل ، وكان هؤلاء يسكنون أرض جاسان ، وهى الإقليم الشرقى من مصر ، وكان «مؤمن آل فرعون» هذا من أقارب فرعون ، فإنه لا يكون لذلك مصريا. وسمّاه المفسرون بهذا الاسم من الآية : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ) (غافر ٢٨). والمشهد الذى تجرى عليه القصة هو أرض جاسان التى احتلها الهكسوس ، أو الملوك البدو أو الرعاة ، أو العماليق ؛ وطرفا القصة : موسى وهارون فى طرف ، والاثنان عبريان ، وفرعون وهامان وقارون فى الطرف المقابل ، والاثنان آشوريان ، والثالث عبرانى متحالف معهما. ولم يكن قوم موسى مصريين ، ولا كان الأشوريون المحتلون لجاسان من قومه ، وإنما قومه هم العبرانيون أو بنو إسرائيل ، جاء يخلصهم ـ ليس من المصريين ، وإنما من الأشوريين. وموسى نفسه كما فى السورة تربّى فى جاسان فى كنف أحد الفراعنة من العماليق ، ولما ضرب واحدا من أعدائه انتصارا للعبرانى المستضعف لم يذكر القرآن أن الذى من عدوه كان مصريا ، وتقول الآية : (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ) (القصص ١٥). وإذن فنحن إزاء أحداث جميع شخوصها من الأجانب ، و «مؤمن آل فرعون» كان أجنبيا ، ولذلك كان عجيبا أن يقول المفسرون العرب أن اسمه كان حبيب النجار ، يعنى كان عربيا! وقالوا اسمه شمعون ، أو سمعان ، أو حزقيل ، يعنى كان عبرانيا! وكيف يكون عربيا أو عبرانيا وهو من آل فرعون؟ والآل هم الأهل والأقارب والأتباع والأشياع. وقالوا كان قبطيا ـ يعنى مصريا ، وليس

١٠٢٠