إفاضة العوائد - ج ٢

آية الله السيّد محمّد رضا الگلپايگاني

إفاضة العوائد - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد رضا الگلپايگاني


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٠
الجزء ١ الجزء ٢

النقيضين ، كما ان النزاع ليس فيه بالمعنى الثالث ، إذ الترديد والشك في تحقق شيء حاصل لبعض وغير حاصل للآخر ، وهذا ليس امرا قابلا للنزاع ، فانحصر الأمر في الثاني.

ثم لا يخفى أن المراد ـ من المحذور العقلي الّذي فرض عدم لزومه في الإمكان الوقوعي ـ انما هو الموانع العقلية لا عدم المقتضى ، وان كان يلزم من فرض وجود الشيء مع عدم المقتضى محذور عقلي أيضا ، لامتناع تحقق الشيء من دون علة ، لأنه لو كان المراد أعم من المقتضى وعدم المانع ، لكان العلم بالإمكان في شيء مساوقا للعلم بوجوده ، كما لا يخفى.

وعلى هذا فمن يدعى العلم بالإمكان بالمعنى المذكور ، فدعواه راجعة إلى العلم بأنه على فرض وجوده لا يترتب عليه محذور عقلي ، ولو شك في تحققه من جهة الشك في تحقق مقتضية ، ولا تصح هذه الدعوى إلا ممن يطلع على جميع الجهات المحسنة والمقبحة في المقام ، مثلا من يعتقد بامتناع اجتماع الحكمين الفعليين في مورد واحد ، لا يصح منه دعوى الإمكان بالمعنى المذكور ، إلا بعد القطع بعدم فعلية الأحكام الواقعية. وكذا الإلقاء في المفسدة قبيح بحكم العقل ، فمن يدعى إمكان التعبد بالظن ، لا بد وأن يعلم بأن في العمل به مصلحة أعظم من المفسدة التي قد يتفق وقوع المكلف فيها بسبب التعبد به ، ومتى يحصل العلم لأحد من طريق العقل. نعم لو ثبت بالأدلة التعبد بالظن نستكشف ما ذكرناه. وهذا غير دعوى الوجدان ، والقطع بعدم المحذور.

فالأولى أن يقال ـ بعد رد الوجوه التي تذكر في المقام للمنع ـ بأنا لا نقطع بالاستحالة ، فلا مانع من الأخذ بالأدلة التي أقيمت على حجية بعض الظنون ، كما ستطلع عليها في الأمر الثالث إن شاء الله تعالى.

٤١

الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي

وكيف كان قد استدل المانع بوجهين :

(الأول) انه لو جاز التعبد بخبر الواحد في الاخبار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لجاز التعبد به في الاخبار عن الله تعالى ، والتالي باطل إجماعا ، فالمقدم مثله.

بيان الملازمة أن حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز سواء ، ولا يختلف الاخبار بواسطة اختلاف المخبر عنه ، وكونه هو الله سبحانه أو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإذا لم يجز التعبد به في الاخبار عن الله تعالى ، لم يجز في الاخبار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والجواب منع بطلان التالي عقلا ، لجواز إيجاب الشارع التعبد باخبار سلمان وأمثاله عن الله تعالى ، غاية الأمر عدم الوقوع ، وليس هذا محلا للنزاع.

(الثاني) ان العمل بخبر الواحد موجب لتحليل الحرام وتحريم الحلال ، إذ لا يؤمن أن يكون ما أخبر بحليته حراما في الواقع ، وبالعكس.

توضيح الكلام أنه لا إشكال في أن الأحكام الخمسة متضادة بأسرها ، فلا يمكن اجتماع اثنين منها في مورد واحد. ومن يدعى التعبد بخبر الواحد يقول بوجوب العمل به ، وان أدى إلى مخالفة الواقع. وحينئذ لو فرضنا أن الأمارة أدت إلى وجوب صلاة الجمعة ، وكانت محرمة في الواقع ونفس الأمر ، فقد اجتمع في موضوع واحد ـ أعنى صلاة الجمعة ـ حكمان : الوجوب والحرمة ، وأيضا يلزم اجتماع الحب والبغض والمصلحة والمفسدة في شيء واحد ، من دون وقوع الكسر والانكسار ، بل

٤٢

يلزم المحال أيضا على تقدير المطابقة للواقع ، من جهة لزوم اجتماع المثلين ، وكون الموضوع الواحد موردا لوجوبين مستقلين ، وأيضا يلزم الإلقاء في المفسدة ، فيما إذا أدت الأمارة إلى إباحة ما هو محرم في الواقع ، وتفويت المصلحة فيما إذا أدت إلى جواز ترك ما هو واجب.

هذا كله على تقدير القول بأن لكل واقعة حكما مجعولا في نفس الأمر ، سواء كان المكلف عالما به أو جاهلا ، وسواء ادى إليه الطريق أو تخلف عنه ، كما هو مذهب أهل الصواب. وأما على التصويب ، فلا يرد ما ذكرنا من الإشكال ، إلا أنه خارج عن الصواب.

هذا ، والجواب عنه وجوه : ـ

(الأول) ما أفاده سيدنا الأستاذ طاب ثراه : من عدم المنافاة بين الحكمين إذا كان الملحوظ في موضوع الآخر الشك في الأول. وتوضيحه أنه لا إشكال في أن الأحكام لا تتعلق ابتداء بالموضوعات الخارجية ، بل انما تتعلق بالمفاهيم المتصورة في الذهن ، لكن لا من حيث كونها موجودة في الذهن ، بل من حيث انها حاكية عن الخارج ، فالشيء ما لم يتصور في الذهن لا يتصف بالمحبوبية والمبغوضية. وهذا واضح.

ثم إن المفهوم المتصور تارة يكون مطلوبا على نحو الإطلاق ، وأخرى على نحو التقييد. وعلى الثاني فقد يكون لعدم المقتضى في ذلك المقيد ، وقد يكون لوجود المانع (مثلا) قد يكون عتق الرقبة مطلوبا على سبيل الإطلاق ، وقد يكون الغرض في عتق الرقبة المؤمنة خاصة ، وقد يكون في المطلق ، إلا أن عتق الرقبة الكافرة مناف لغرضه الآخر ، ولكونه منافيا لذلك الغرض ، لا بد ان يقيد العتق المطلوب بما إذا تحقق في الرقبة المؤمنة ، فتقييد المطلوب في القسم الأخير إنما هو من جهة الكسر والانكسار ، لا لتضييق دائرة المقتضى ، وذلك موقوف على تصور العنوان

٤٣

المطلوب أولا ، مع العنوان الآخر المتحد معه في الوجود المخرج له عن المطلوبية الفعلية ، فلو فرضنا عنوانين غير مجتمعين في الذهن ، بحيث يكون المتعقل أحدهما لا مع الآخر ، فلا يعقل تحقق الكسر والانكسار بين جهتيهما ، فاللازم من ذلك أنه متى تصور العنوان الّذي فيه جهة المطلوبية يكون مطلوبا صرفا ، من دون تقييد ، لعدم تعقل منافيه ، ومتى تصور العنوان الّذي فيه جهة المبغوضية يكون مبغوضا كذلك ، لعدم تعقل منافيه ، كما هو المفروض. والعنوان المتعلق للأحكام الواقعية مع العنوان المتعلق للأحكام الظاهرية مما لا يجتمعان في الوجود الذهني أبدا (مثلا) إذا تصور الآمر صلاة الجمعة ، فلا يمكن ان يتصور معها إلا الحالات التي يمكن ان يتصف بها في هذه الرتبة ، مثل كونها في المسجد أو في الدار ، وأمثال ذلك. واما اتصافها بكون حكمها الواقعي مشكوكا ، فليس مما يتصور في هذه الرتبة ، لأن هذا الوصف مما يعرض الموضوع بعد تحقق الحكم ، والأوصاف المتأخرة عن الحكم لا يمكن إدراجها في موضوعه. فلو فرضنا أن صلاة الجمعة ـ في كل حال أو وصف يتصور معها في هذه الرتبة ـ مطلوبة بلا مناف ومزاحم ، فإرادة المريد تتعلق بها فعلا ، وبعد تعلق الإرادة بها تتصف بأوصاف أخر لم تتصف بها قبل الحكم ، مثل أن تصير معلومة الحكم تارة ومشكوكة الحكم أخرى. فلو فرضنا ـ بعد ملاحظة اتصاف الموضوع بكونه مشكوك الحكم ـ تحقق جهة المبغوضية فيه ، يصير مبغوضا بهذه الملاحظة لا محالة ، ولا تزاحمها جهة المطلوبية الملحوظة في ذاته ، لأن الموضوع بتلك الملاحظة لا يكون متعقلا فعلا ، لأن تلك الملاحظة ملاحظة ذات الموضوع مع قطع النّظر عن الحكم ، وهذه ملاحظته مع الحكم.

(فان قلت) العنوان المتأخر وان لم يكن متعقلا في مرتبة تعقل

٤٤

الذات ، ولكن الذات ملحوظة في مرتبة تعقل العنوان المتأخر ، فعند ملاحظة العنوان المتأخر يجتمع العنوانان في اللحاظ ، فلا تعقل المبغوضية في الرتبة الثانية مع محبوبية الذات.

(قلت) تصور ما يكون موضوعا للحكم الواقعي الأولى مبنى على قطع النّظر عن الحكم ، لأن المفروض كون الموضوع موضوعا للحكم ، فتصوره يلزم ان يكون مجردا عن الحكم ، وتصوره بعنوان كونه مشكوك الحكم لا بد وان يكون بلحاظ الحكم ، ولا يمكن الجمع بين لحاظ التجرد عن الحكم ولحاظ ثبوته.

وبعبارة أخرى صلاة الجمعة ـ التي كانت متصورة في مرتبة كونها موضوعة للوجوب الواقعي ـ لم تكن مقسما لمشكوك الحكم ومعلومه ، والتي تتصور في ضمن مشكوك الحكم تكون مقسما لهما ، فتصور ما كان موضوعا للحكم الواقعي والظاهري ، معا يتوقف على تصور العنوان على نحو لا ينقسم إلى القسمين ، وعلى نحو ينقسم إليهما. وهذا مستحيل في لحاظ واحد (٢٣).

فحينئذ نقول متى تصور الآمر صلاة الجمعة بملاحظة ذاتها ، تكون مطلوبة ، ومتى تصورها بملاحظة كونها مشكوكة الحكم ، تكون متعلقة لحكم آخر. فافهم وتدبر ، فانه لا يخلو من دقة.

______________________________________________________

الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي

(٢٣) ونظير ذلك تصوّر مفهوم الإنسان ، بحيث يقع موضوعا للكلية والجزئية ، فان الموضوع في الأول وان كان ذاتا عين موضوع الثاني ، لكن تصوّره ـ بنحو يصح حمل الكلّية عليه ـ لا يجتمع مع تصوّره بنحو يصح حمل الجزئية عليه ، لأنه في الأول يحتاج إلى تجريد النّظر عن جميع خصوصيات الذات حتى لحاظ التجريد ، وفي الثاني لا بد ان

٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

تلاحظ الذات مع الخصوصية ، وهما لا يجتمعان نعم يمكن النّظر إلى الموضوع في القضيتين بنظرة فوق النظرتين ، للحكم باتحادهما ذاتا ، وذلك لا ينافي عدم اجتماعهما في اللحاظ الأول.

وبما ذكرنا ظهر اندفاع ما توهم : من أن دخل حال تجرّد الذات ولو في الحكم يوجب القطع بعدم الحكم مع الشك ، وذلك ، لأن المشكوك في حكمه مع قطع النّظر عن صفة المشكوكيّة مشكوك في حكمه ، وذلك المشكوك فيه هو الحكم الواقعي. وفي هذا اللحاظ لا يرى موضوع الحكم الظاهري. ومع لحاظ الشك في حكمه الواقعي مقطوع الحكم ، وهذا المقطوع به هو الحكم الظاهري ، وفي هذا اللحاظ أيضا لا يرى موضوع الحكم الواقعي ، حتى يحكم بمشكوكية حكمه أو مقطوعيته.

ثم إنه لا يخفى عدم ابتناء الجمع بما ذكرنا على جواز اجتماع الأمر والنهي ، بل يجري على الامتناع أيضا ، لأن مناط الامتناع هو تضاد الأمر والنهي في الخارج إما لكون الخارج موطنا لهما ابتداء ، وإما لسرايتهما من الطبائع إلى الخارج على اختلاف فيه ، فمتعلقهما بالاخرة واحد شخصي خارجي ، ولو كان في الذهن متعددا ، وهو محال. بخلاف المقام ، فان الخصوصية المأخوذة في كل من الحكمين ذهنية ، ومعلوم أن الحكم المجعول للطبيعة مع خصوصية ذهنية لا يسري إليها مجردة عن تلك الخصوصية أو مقيدة بخصوصية أخرى ذهنية ، فالحكم المجعول للذات في لحاظ التجرد لا يسري إليها مع خصوصية مشكوكية حكمها ، نظير الحكم المجعول للغنم في لحاظ التجرّد عن الأوصاف الطارية كالغصبية ، فانه لا يسري إليه مع أخذ تلك الخصوصية فيه ، بخلاف النهي المتعلق بالحركة والتصرف في ملك الغير من دون لحاظ التجرد عن خصوصية فيه ، فانه يسري إلى الحركة الخارجية وان كانت مصداقا للصلاة.

نعم فرق بين المقام وما مثلنا به من حكم الغنم ، حيث انه تحدث في الغنم بسبب الغصب مفسدة تغلب على جهة الحلية ، بخلاف الحكم الظاهري ، فان الاعتبار يقتضى ان تكون المصلحة في نفس الجعل لا في ترك الواقع ، فالواقع يكون بحاله من دون معارضة شيء لمصلحته ، ولذا لا تصويب أصلا ، لأن الحكم الواقعي فعلي في حق

٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الجاهل كما هو ، ولا مانع من استحقاق العقوبة عليه الا رفع العذر عن المكلف ، وهو معنى حكم الله على العالم والجاهل سواء. وأما أنه لا حكم سواه حتى في مرتبة الظاهر ، فلا يكون إجماعيا ، بل عكسه يكون معلوما ظاهرا.

وأما الحكم الظاهري فحيث لم يكن في مرتبة الواقع ، فلا حب فيه ولا بغض ، بل كلما ينظر الآمر في المرتبة الأولى إلى الذات يرى البعث والزجر بالنسبة إليها فعليا ، وكلما ينظر في الرتبة الثانية إليها لا يراها محبوبة ولا مبغوضة ، وكذلك المكلف كلما يصرف النّظر إليها في الرتبة الأولى يراها مشكوكة الحكم ، وكلما يصرف النّظر إليها في الرتبة الثانية يراها مقطوعة الحكم.

فتحصل : انه لا منافاة بين الإرادة والترخيص لا في مقام المصلحة ، ولا في مقام الجعل ، ولا في مقال الامتثال.

أما الأول : فلعدم مصلحة في الحكم الظاهري في قبال الواقع ، وإنما المصلحة في الجعل ، كما مرّ مفصلا ، بل لا يمكن اختلاف مصلحة الذات بلحاظ حالات المكلف من الشك ، لأن المصلحة تابعة لتأثيرها.

وأما الثاني : فلما مرّ من تنظير الجعل في المقام بالحكم بالكلية في الكليات فراجع.

وأما الثالث : فلان المكلف ـ في حال يؤثر في نفسه الحكم الظاهري ـ لا يكون الحكم الواقعي محركا له.

لا يقال : كما لا يمكن اجتماع البعث والزجر ، كذلك لا يمكن البعث نحو المبغوض ، مثل ان يبعث الإنسان نحو قتل ولده ، فانه محال ، ولو مع عدم النهي ، فان النهي وان كان بنظر الآمر مقيدا بحال التقيد في هذا التقريب ، لكن المبغوضية حسب الفرض غير مقيدة ، فلا يمكن البعث الا مع الكسر والانكسار ، ولو مع مصلحة الجعل ، فان المبغوض من جهة قد تطرأ عليه المحبوبية الفعلية من جهة طرو مصلحة عليه ، كالأدوية المرّة المنفورة ، فانها تصير مطلوبة لتوقف ارتفاع المرض أو دفعه عليها ، مع الكسر والانكسار ، فالواقع يبقى بلا مصلحة غير مزاحمة ، فينجر الأمر إلى التصويب ، وكون

٤٧

الوجه الثاني ما أفاده طاب ثراه أيضا ، وهو أن الأوامر الظاهرية ليست بأوامر حقيقية ، بل هي إرشاد إلى ما هو اقرب إلى الواقعيات. وتوضيح ذلك ـ على نحو يصح في صورة انفتاح باب العلم ، ولا يستلزم

______________________________________________________

الحكم الظاهري بلا مصلحة لا في ذاته ولا في جعله ، ومع المصلحة فيه فيشبه هذا التقريب كلام شيخ الطائفة من ان كوننا ظانّين بصدق الراوي صفة من صفاتنا ، غاية الأمر ان المصلحة في الجعل لا في المجعول.

لأنه يقال : نعم إذا طرأت على نفس الفعل جهة ذات مصلحة أقوى أو مساوية مع الواقع ، فلا إشكال في الكسر والانكسار. وانما الكلام فيما إذا كانت بشيء خارج عن ذات الفعل ، كما في الضدين مثلا ، ولو كان أحدهما أهم ، فان أهميته لا تنافي فعلية المهم بالمعنى الّذي ذكرنا : من عدم المانع من قبل المولى في مطلوبيته ، فمصلحة الجعل من قبيل أحد الضدين ، وان كان أقوى بمراتب من الواقع ، لكن مع ذلك لا تنافي فعلية الواقع على ما هو عليه.

والحاصل : ان اللطف يقتضي الجعل للجاهل والغافل على طبق مصلحة الواقع ، بل وللعاصي مع العلم بعصيانه ، لأن درك المصلحة ليس علة للجعل حتى ينتفي الجعل بانتفائه ، وليست المصلحة متعلقة للإرادة ، حتى يلزم تخلّف المراد عنها ، بل نفس الجعل مطابقا للمصلحة لطف ، وكذلك قد تكون المصلحة في الجعل بخلافه أهم من إحراز الواقع ، خصوصا فيما يتوقف إحرازه بجعل الاحتياط ، حيث يمكن أن يكون المحذور فيه أشدّ من محذور ترك الواقع.

هذا كله حال الجهل بالواقع ، وأما العلم فلا يمكن دخل تجرّده في الحكم الواقعي وان كان في اختلاف الرتبة مع الواقع نظير الشك ، وذلك ، لأن حال الشك في الواقع حال لم يؤثر فيه الواقع ، فلا مانع للجعل بخلافه ، بخلاف حال العلم ، فان معنى التكليف ان يكون مؤثرا بعد العلم ورفع العذر ، فالتقييد بعدمه يستلزم نفي اسم التكليف عنه. ولا فرق في ذلك بين التفصيليّ والإجمالي بالنسبة إلى المخالفة القطعية ، واما الاحتمالية فسيجيء الكلام فيها في الاشتغال ـ إن شاء الله تعالى ـ وان مرت الإشارة إليها إجمالا في بعض المباحث السابقة.

٤٨

تفويت الواقع من دون جهة ـ ان نقول إن انسداد باب العلم ـ كما انه قد يكون عقليا ـ كذلك قد يكون شرعيا ، بمعنى أنه وإن أمكن للمكلف تحصيل الواقعيات على وجه التفصيل ، لكن يرى الشارع العالم بالواقعيات أن في التزامه بتحصيل اليقين مفسدة ، فيجب بمقتضى الحكمة دفع هذا الالتزام عنه ، ثم بعد دفعه عنه ، لو أحاله إلى نفسه ، يعمل بكل ظن فعلى من أي سبب حصل ، فلو رأى الشارع ـ بعد أن آل امر المكلف إلى العمل بالظن ـ أن سلوك بعض الطرق اقرب إلى الواقع من بعض آخر ، فلا محذور في إرشاده إليه. فحينئذ نقول اما اجتماع الضدين فغير لازم (٢٤) ، لأنه مبنى على كون الأوامر الطريقية حكما مولويا. واما الإلقاء في المفسدة وتفويت المصلحة ، فليس بمحذور ، بعد ما دار امر المكلف بينه وبين الوقوع في مفسدة أعظم.

الوجه الثالث ان يقال ان بطلان ذلك مبنى على عدم جواز اجتماع الأمر والنهي ، لأن المورد من مصاديق ذلك العنوان ، فان الأمر تعلق بعنوان العمل بقول العادل مثلا ، والنهي تعلق بعنوان آخر مثل

______________________________________________________

(٢٤) لكن يرد عليه : ان الأوامر الطريقية وان لم تكن باحكام ، لكنها مع إرشاديتها تستلزم الترخيص في ترك المطلوب الفعلي ، والاذن في إتيان المبغوض الواقعي. ولا يصح ذلك الا مع الالتزام بما التزمنا به من دخل حال التجرد عن الشك في الحكم الواقعي ، وإلّا عادت المحذورات السابقة ، كما لا يمكن حفظ فعلية الواقع مع الترخيص بالحرج ، بل قد يقال بأنه لا يمكن التصديق بذلك الإرشاد ، لأنه من علم بفعلية الحكم ـ على أيّ تقدير ، وظن وجوده في بعض أطراف العلم ـ كيف يصدق الإرشاد بإتيان الطرف الآخر ، مع كونه مظنون العدم عنده ، فان كان ولا بدّ ، فلا بد من الالتزام بدخل الشارع بعنوان الشارعية حتى ينحل العلم. وأما بعنوان الطريقية المحضة فلا يستقيم إلا بما قلنا : من دخل حالة التجرد فتدبّر جيدا.

٤٩

شرب الخمر ، وحيث جوزنا الاجتماع وبيناه في محله ، فلا إشكال هنا أيضا.

لا يقال جواز اجتماع الأمر والنهي على تقدير القول به إنما يكون فيما تكون هناك مندوحة للمكلف ، كالأمر بالصلاة والنهي عن الغصب ، لا فيما ليس له مندوحة. وما نحن فيه من قبيل الثاني ، لأن العمل بمضمون خبر العادل (مثلا) يجب عليه معينا ، حتى في مورد يكون مؤدى الخبر وجوب شيء ، مع كونه حراما في الواقع ، بخلاف الصلاة ، لعدم وجوب تمام افرادها معينا ، بل الواجب صرف الوجود الّذي يصدق على الفرد المحرم ، وعلى غيره.

لأنا نقول اعتبار المندوحة في تلك المسألة إنما كان من جهة عدم لزوم التكليف بما لا يطاق ، وفيما نحن فيه لا يلزم التكليف بما لا يطاق ، من جهة عدم تنجز الواقع ، فلم يبق في البين إلّا قضية اجتماع الضدين والمثلين ، وهو مدفوع بكفاية تعدد الجهة.

وفيه أن جعل الخبر طريقا إلى الواقع ، معناه أن يكون الملحوظ في عمل المكلف نفس العناوين الأولية (٢٥) (مثلا) لو قام الدليل على وجوب صلاة الجمعة في الواقع ، فمعنى العمل على طبقه أن يأتي بها على انها واجبة واقعا ، فيرجع إيجاب العمل به إلى إيجاب الصلاة على أنها واجبة واقعا ، فلو فرضنا كونها محرمة في الواقع ، يلزم كون الشيء الواحد من جهة واحدة محرما وواجبا ، فليس من جزئيات مسألة اجتماع الأمر والنهي التي قلنا بكفاية تعدد الجهة فيها. فافهم.

______________________________________________________

(٢٥) فظهر بذلك أن الأصح في تصوير إمكان الجمع هو التقريب الأول ، واما الالتزام يكون الواقع إنشائيا ـ كما التزم به المحقق الخراسانيّ (قدس‌سره) في حاشية

٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

الفرائد ـ ففيه : ما أورد عليه في الكفاية (تارة) بعدم لزوم الإتيان حينئذ بما قامت الأمارة على لزومه ، و (أخرى) باستلزام الجمع المذكور احتمال ثبوت المتنافيين ، وهو محال كالقطع به ، وإن كان الأول من الإيرادين لا يخلو من إشكال ، بعد تصديق قيام الأمارة مقام العلم في بلوغ الحكم بقيامها عليه مرتبة الفعلية ، لأن الأمارة حينئذ كالعلم ، والّذي أدّت إليه الأمارة كالمعلوم ، فيصير منجّزا ، ولا نحتاج إلى إثبات الحكم الّذي أدّت إليه الأمارة بالأمارة ، حتى يقال : لا يثبت بها إلا ذات الحكم ، بل يثبت أحد جزأيه ـ وهو الحكم ـ بالأمارة ، وجزؤه الآخر ـ وهو أداء الأمارة إليه ـ بالوجدان. نعم في كون الأمارة كالعلم في بلوغ الحكم مرتبة الفعلية إشكال ، لأن مؤدّى الأمارة ينزّل منزلة الواقع ، وبالفرض لا يكون الواقع الا إنشائيا ، فما الّذي جعله فعليا؟

وأما ما التزام به (قدس‌سره) في الكفاية من كون التعبد بالطريق عبارة عن جعل الحجية ، من دون استتباع لإنشاء أحكام تكليفية ، بل ليست الحجة الا الموجبة لتنجّز التكليف عند الإصابة ، ولصحة الاعتذار عند الخطأ.

ففيه : أن الحجية غير قابلة للجعل ، لأنها عبارة عن صفة يقطع بها العذر ، أما العلم فوجود هذه الصفة له تكويني ، لأن إراءة المعلوم ذاتي له ، وما ليس له تلك الصفة تكوينا لا يمكن جعلها له تشريعا ، ولو كانت الحجية قابلة للجعل ، لكان اللازم ان تكون متعلقة للعلم تارة وللجهل أخرى. ولازم ذلك عدم المعذورية حتى مع الجهل به ، وإلّا فلا معنى للحجية. وبطلان ذلك واضح ، لأن المعذورية من أثر العلم ، ولا يتوهم ان الحجية امر واقعي ، ولكن العلم متمّم لها ، فما لم تعلم لم تكن تامة ، لأن الإشكال في المتممية عين الإشكال في أصل الجعل ، فان العقاب بلا بيان قبيح ، ولا يمكن رفع قبحه بجعل ما ليس ببيان بيانا.

لا يقال : بنفس ذلك الجعل يتم البيان.

لأنه يقال : معنى ذلك الجعل ليس إلّا جعل العقاب بلا بيان ، اللهم إلّا ان يقال : انه عقاب بلا بيان ، مع قطع النّظر عن هذا الجعل. وأما معه والعلم به فيكون

٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

نفس ذلك بيانا ، فانه يصح ان يقول أحد : انى أعاقب مع الشك ، فان مرجع ذلك إلى إيجاب الاحتياط ، كما ان العقل يحكم بوجوبه معه ، بل يمكن ان يقال ان مرجع إيجاب الاحتياط إلى ذلك أيضا فتأمل.

واما ما التزم به (قدس‌سره) في موارد الأصول المرخصة ، من دون نظر إلى الواقع من فعلية الحكم الواقعي ، لكن بحيث لو علم به لتنجّز.

ففيه : ان التنجّز ليس مما يصح تعليقه من قبل الشارع ، بل الحكم به من وظيفة العقل ، ولو كان تعليقه من قبل الشارع ممكنا ، لصح تعليقه بالعلم الحاصل من سبب خاص مثلا ، ولا يلتزم به.

هذا إذا كانت الفعلية تامة. وأما إذا كان المقصود أن الفعلية ذات مراتب وليس الحكم الواقعي فيها بمرتبة يجب امتثاله.

فيرد عليه ما أورده من الإيرادين على الجمع المختار له في الحاشية ، لكن الظاهر ان المقصود كون الحكم فعليا تاما ، ومع ذلك كيف يمكن الترخيص بل تعود المحذورات كلا.

وأما ما أورد عليه من ان الحكم الظاهري إما حكم ، فيضاد الواقعي ، وإما ليس بحكم فلا يجب امتثاله ، فالظاهر عدم وروده عليه ، لأن المقصود أن الحكم الظاهري لما كان بلحاظ الواقعي ، ففي نفسه ليس بحكم حقيقة ، بل كالعلامة ان أخطأ ليس بشيء وان أصاب فهي عين الواقع.

لا يقال : على ذلك فهو مردّد بين الحكم واللاحكم ، فلا يعلم انه يجب امتثاله أم لا؟

لأنه يقال : إذا علم المكلف بالأمر ، يجب بحكم العقل امتثاله ، ما لم يعلم أنه لا حقيقة له ، فالعلم بالأمر موضوع لوجوب الإطاعة إلا بعد العلم بكونه صوريا. ومن ذلك يعلم عدم ورود إشكال آخر عليه ، وهو الإشكال بعدم الفرق بين الأصول الناظرة إلى الواقع وغيرها ، حيث التزم في خصوص الثاني بورود الإشكال ، ودفعه بما ذكر ، دون الأول ، وذلك لأن الأصول الناظرة ليس فيها ترخيص في قبال الواقع

٥٢

الأمر الثاني تأسيس الأصل المعول عليه في المقام

اعلم ان الحجية عبارة عن كون الشيء بحيث تصح به المؤاخذة والاحتجاج ، ولا ملازمة بين هذا المعنى وجواز التعبد (٢٦) إذ من الممكن تحقق هذا المعنى وعدم جواز التعبد به ، كالظن في حال الانسداد ، بناء على الحكومة. وهذا المعنى إن ثبت بالدليل ، فلا إشكال فيه ، وان شك فيه فهل لواقعه أثر على تقدير ثبوته أم لا؟ بل يكون ما شك في حجيته مع ما علم بعدم حجيته سواء ، وان كانت حجة في الواقع.

والحق فيه التفصيل. وبيان ذلك ان للحجة أثرين : (أحدهما) ـ إثبات الواقع وتنجيزه على تقدير الثبوت (ثانيهما) إسقاطه كذلك (الأول) ما يكون قائما على حكم إلزاميّ من الوجوب أو الحرمة ، وكان مطابقا للواقع ، فانه يصحح العقوبة على ذلك الحكم الواقعي.

(والثاني) ما يكون قائما على رفع الإلزام في مورد ، لولاه لكان مقتضى

______________________________________________________

حقيقة ، بل اما صوري واما عين الواقع ، بخلاف غيرها ، فانها حقيقة ترخيصات ، فلا بد لجمعها مع المنع الواقعي من محيص.

تأسيس الأصل

(٢٦) الحجية بالمعنى المذكور وان لم تكن ملازمة لجواز التعبد ، لكنها بهذا المعنى غير قابلة للجعل ، كما أوضحناه في الحاشية السابقة. والشك فيها ليس إلّا لعدم درك العقل لها ، وهو مساوق لعدمها ، وبالمعنى الّذي يمكن جعلها من قبل الشارع ، ويصح الشك فيها ملازمة لجواز التعبد بها من الشارع ، والحجة المشكوكة بعد الفحص لم يبق لها أثر إلا عدم جواز التعبد بها من الشارع ، ولعله لذلك عنون الشيخ (قدس‌سره) هذه المسألة بعنوان التعبّد فراجع.

٥٣

العقل الاحتياط ، كأطراف العلم الإجمالي.

(اما القسم الثاني) فلا ينفع الواقع المشكوك فيه قطعا مطلقا ، ضرورة أن من علم إجمالا بوجوب الظهر أو الجمعة عليه ، فلم يأت بالظهر مثلا ، وكان هو الواجب واقعا ، يصح ان يعاقب عليه ، وان كان الدليل على عدم وجوبه موجودا في الواقع ، بحيث لو اطلع عليه لكان حجة له على المولى.

(واما القسم الأول) فتارة يفرض بعد الفحص وعدم الظفر ، وأخرى قبل ذلك ، أما في الأول فالوجود الواقعي للدليل ليس له أثر في حقه قطعا ، إذ ليس الوجود الواقعي للحكم الطريقي أقوى من الوجود الواقعي للحكم الأولى ، فبعد الفحص وعدم الظفر بالحكم ولا بدليله ، يحكم العقل بالبراءة قطعا.

وأما في الثاني : فهو على قسمين (تارة) يكون بحيث لو تفحص عن الدليل لظفر به. و (أخرى) لا يكون كذلك ، فان قلنا بان الشك قبل الفحص كنفسه يصحح العقوبة على الواقع على تقدير الثبوت في كلا القسمين ، فوجود الدليل بحسب الواقع أيضا لا أثر له ، لأن المنجز فيما يكون الدليل موجودا في الواقع أيضا نفس الشك ، وان قلنا بان المصحح للمؤاخذة ليس نفس الشك ، بل وجود الدليل إن كان ، بحيث لو تفحص عنه لظفر به هو المصحح ، فالشاك مردد امره بين ان يكون له دليل يصل إليه بعد الفحص ، فتصح عقوبته ، أولا يكون ، فيقبح عقابه. ولما لم يكن جازما بقبح العقاب ، يجب عليه عقلا الاحتياط أو الفحص ، فالوجود الواقعي للدليل ـ لو كان بحيث لو تفحص عنه لظفر به ـ يثمر في حقه ، لأنه به يؤاخذ ويعاقب على المخالفة.

٥٤

فتحصل مما ذكرنا أن الطريق المشكوك بعد الفحص ليس بحجة قطعا ، لا إثباتا ولا إسقاطا ، وقبل الفحص ليس بحجة إسقاطا مطلقا ، وإثباتا ان قلنا بان الحجة نفس الشك قبل الفحص. وان لم نقل بذلك ، بل قلنا بان الحجة هو الدليل الّذي لو تفحص عنه لظفر به ، فما لم يكن الدليل الواقعي كذلك ، فهو غير حجة أيضا. وأما فيما إذا كان الدليل الواقعي بحيث لو تفحص عنه لظفر به ، فوجوده الواقعي حجة على المكلف ، وان كان مشكوكا فيه فعلا ، فتدبر.

حجية الظاهر

الأمر الثالث في الأمارات الثابتة حجيتها بالدليل أو قيل انها كذلك.

(فمنها) ما يعمل به في تشخيص مراد المتكلم بعد الفراغ عن المدلول العرفي للفظ.

اعلم ان الإرادة على قسمين : (أحدهما) إرادة الشيء في اللب ونفس الأمر (وثانيهما) إرادة المعنى من اللفظ في مقام الاستعمال ، وهما قد تتفقان ، كما إذا قال المتكلم أكرم العلماء وأراد من اللفظ إنشاء وجوب إكرام كل منهم ، وكان في الواقع أيضا مريدا له. وقد تختلفان ، كما انه في المثال لم يرد إكرام واحد منهم بالخصوص ، فحكمه ـ في مقام الإرادة الاستعمالية على ذلك الفرد ـ حكم صوري ، ولم يظهر الواقع لمصلحة في إخفائه. والمقصود الأصلي في هذا المقام تشخيص الإرادة الاستعمالية ، وما أراد من اللفظ في مقام الاستعمال. وبعد هذا التشخيص تطبيق هذه الإرادة على الإرادة الواقعية عند الشك بأصل آخر ، غير ما يتكلم فيه في المقام.

٥٥

إذا عرفت هذا فنقول إذا علمنا أن المتكلم كان في مقام تفهيم المراد ، وعلمنا انه مع الالتفات لم ينصب قرينة تصرف اللفظ عن ظاهره ، نقطع بان مراده هو ما يستفاد من ظاهر اللفظ ، إذ لو لا ذلك لزم الالتزام بأنه تصدى لنقض غرضه عمدا. وهذا مستحيل. ولا يختص ذلك بمورد يكون المتكلم حكيما ، بل العاقل لا يعمل عملا يكون فيه نقض غرضه ، سواء كان حكيما أم لا. وهذا واضح. فمتى شككنا في ان المتكلم أراد من اللفظ معناه الظاهر أو غيره ، فاما ان يكون الشك من جهة الشك في كونه في مقام التفهيم ، وإما من جهة الشك في وجود القرينة ، وإما من جهة كليهما.

فان كان منشأ الشك الشك في كونه في مقام تفهيم المراد ، فلا إشكال في ان الأصل المعول عليه عند تمام العقلاء كونه في مقام تفهيم مراده. وهذا الأصل لا شبهة لأحد منهم فيه ، ولا ينافى ما ذكرنا ، ما سبق في باب الإطلاق : من ان كون المتكلم في مقام البيان لا بد وان يحرز من الخارج ، وبدونه يعامل مع اللفظ معاملة الإهمال ، لأن الإطلاق امر زائد على مدلول اللفظ. وما ذكرناه هنا ـ من الأصل المتفق عليه ـ إنما هو بالنسبة إلى مدلول اللفظ ، فلا تغفل.

وان كان منشؤه الشك في نصب القرينة ، فهل لنا أصل يعتمد عليه أم لا؟ وعلى الأول فهل الأصل المعول عليه هو أصالة عدم القرينة أو أصالة الحقيقة؟ والثمرة بينهما تظهر فيما لو اقترن بالكلام ما يصلح لكونه قرينة ، فعلى الأول يوجب إجمال اللفظ ، لعدم جريان أصالة عدم القرينة مع وجوده.

وعلى الثاني يؤخذ بمقتضى ما يستفاد من الوضع ، حتى يعلم خلافه. ومبنى الإشكال في المقام هو أنه هل الطريق إلى إرادة المتكلم عند العقلاء

٥٦

صدور ذات اللفظ الموضوع ، أو هو مع قيد خلوه عن القرينة الصارفة؟ فعلى الأول وجود القرينة من قبيل المعارض ، وعلى الثاني لعدمها دخل في انعقاد الطريق على إرادة المعنى الظاهر ، كما انه لوجودها دخل في انعقاد الطريق على إرادة المعنى الغير الظاهر.

إذا حفظت ذلك فاعلم أن اعتبار الظهور الثابت للكلام ـ وان شك في احتفافه بالقرينة ـ مما لا إشكال فيه في الجملة ، كما تأتى الإشارة إليه. وأما كون ذلك من جهة الاعتماد على أصالة الحقيقة ـ كي لا يرفع اليد عنها حتى في صورة وجود ما يصلح للقرينية ـ فغير معلوم ، وإن كان قد يدعى أن بناء العقلاء على الجري على ما يقتضيه طبع الأشياء ، ما داموا شاكين في ثبوت ما أخرجها عن الطبيعة الأولية. ومن ذلك بناؤهم على صحة الأشياء عند شكهم في الصحة والفساد ، لأن مقتضى طبع كل شيء ان يوجد صحيحا ، والفساد يجيء من قبل امر خارج عنه. ولعله من هذا القبيل القاعدة المسلمة عندهم : (كل دم يمكن ان يكون حيضا فهو حيض) فان مقتضى طبع المرأة ان يكون الدم الخارج منها دم حيض ، وغيره خارج عن مقتضى الطبع.

وعلى هذا نقول ان مقتضى طبع اللفظ الموضوع أن يستعمل في معناه الموضوع له ، لأن الحكمة في الوضع تمكن الناس من أداء مراداتهم بواسطة الألفاظ ، فاستعماله في غيره انما جاء من قبل الأمر الخارج عن مقتضى الطبع ، لكن الإنصاف أن هذا البناء من العقلاء انما يسلم في مورد لم تحرز فيه كثرة الوقوع على خلاف الطبع ، واستعمال الألفاظ في معانيها المجازية ـ ان لم نقل بكونه أكثر من استعمالها في المعاني الحقيقية بمراتب ـ فلا أقل من التساوي ، فلم يبق الطبع الأولى بحيث يصح الاعتماد عليه.

٥٧

هذا وكيف كان فالمتيقن من الحجية هو الظهور المنعقد للكلام ، خاليا عما يصلح لأن يكون صارفا. ولا يناط بالظن الفعلي بالخلاف ، ولا تختص حجيته بمن قصد افهامه ، بل هو حجة على من ليس مقصودا بالخطاب أيضا ، بعد كونه موردا للتكليف المستفاد من اللفظ.

والدليل على ذلك كله بناء العقلاء ، وإمضاء الشارع. أما الأول فلشهادة الفطرة السليمة عليه ، فلو علم العبد بقول المولى أكرم كل عالم في هذا البلد ، واحتمل عدم إرادته معناه الظاهر ، إما من جهة احتمال التورية وعدم كونه في مقام افهام المراد ، وإما من جهة احتمال كون الكلام مشتملا على القرينة على خلاف الظاهر ، وخفيت عليه ، أو ظن أحد الأمرين من سبب غير حجة عند تمام العقلاء ، وفرضنا عدم تمكنه من الفحص عما يوجب صرف الكلام المذكور عن ظاهره ، فهل يصح له ان لا يأتي بمفاد اللفظ المذكور ، معتذرا بأني لم أتيقن ان المولى كان بمعرض تفهيم المراد ، أو بعدم اشتمال الكلام على قرينة صارفة ، بل كان وجودها عندي محتملا ، أو فهل يصح للمولى ـ لو أتى العبد مفاد الكلام المذكور في الفرض الّذي فرضنا ـ أن يعاتبه أو يعاقبه إن كان ما أتى به مبغوضا له واقعا؟ فان رأينا من أنفسنا انقطاع عذر العبد ـ في المثال المذكور ، في صورة عدم الإتيان ، وصحة احتجاج المولى عليه عند العقلاء ، وانقطاع عذر المولى في صورة الإتيان ، وصحة احتجاج العبد عليه عندهم ، كما هو الواضح بأدنى ملاحظة والتفات ـ كان هذا معنى الحجية عندهم ، إذ لا نعنى بحجية ظواهر الألفاظ كونها كالعلم في إدراك الواقعيات ، حتى يشكل علينا بان الأخذ بأحد طرفي الشك في ما كان المراد مشكوكا. أو الأخذ بطرف الوهم فيما كان موهوما ، كيف يكون كالعلم عند العقلاء؟

وكذا الكلام فيما لو قطع بكلام للمولى خاطب به غيره ، مع كونه

٥٨

موردا للتكليف المشتمل عليه ذلك الكلام ، مع بذل جهده فيما يوجب صرف الكلام عن مقتضى ظاهره ، فانه بعد مراجعة العقلاء يقطع بانقطاع العذر بين العبد والمولى بذلك الكلام ، وان كان العبد غير مقصود بالخطاب اللفظي.

هذا واما الثاني أعني إمضاء الشارع لهذه الطريقة ، فلان الطريقة المرتكزة في جبلة العقلاء لو لم يرض بها الشارع لكان عليه الردع ، ولم يصدر منه ما يصلح لكونه رادعا الا الآيات الناهية عن العمل بغير العلم ، وهي غير قابلة للردع عن العمل بالظواهر ، لعدم حجية مدلولها بالنسبة إليه قطعا ، لأن الظواهر إما أنها ليست بحجة أصلا ، وإما انها حجة ، فعلى الأول ظواهر الآيات أيضا ليست بحجة. لأنها منها ، وعلى الثاني تخصيصها بها معلوم ، فلا تغفل.

بقي الكلام في خصوص ظواهر الكتاب المجيد التي ادعى أصحابنا الأخباريون عدم حجيتها. والّذي يمكن أن يكون مستندا لهم أمور :

(الأول) الاخبار المدعى ظهورها في المنع عن العمل بظواهر الكتاب المجيد.

(الثاني) العلم الإجمالي بوقوع التحريف فيه ، كما يظهر من الاخبار الكثيرة أيضا.

(الثالث) العلم الإجمالي بورود التخصيص والتقييد في عموماته ومطلقاته ، ووقوع الاستعمالات المجازية فيه.

(الرابع) وجود المتشابه في الكتاب ، وعدم العلم بشخصه ومقداره ، والنهي عن اتباعه. ولا يصلح شيء من الأمور المذكورة للمنع.

أما الاخبار فلأنها على طوائف (منها) ما يدل على المنع عن التفسير بالرأي. و (منها) ما يدل على المنع عن مطلق التفسير و (منها) ما

٥٩

يدل على المنع عن الإفتاء بالكتاب ، معلّلا بعدم وجود علمه إلا عند أهله.

ولا ريب في أن الأوليين لا تمنعان عن العمل بالظواهر ، فان من عمل من أهل اللسان بعام صادر من مولاه ، لا يقال انه فسر كلام مولاه ، فضلا عن صدق التفسير بالرأي عليه.

وأما الثالثة فلأنه من المحتمل قويا كون المنع مختصا بمثل أبى حنيفة وأمثاله الذين كانوا يعملون بظواهر الكتاب ، من دون مراجعة من عندهم علمه. ولا إشكال عندنا في ان هذا النحو من العمل بظواهر الكتاب غير جائز.

(فان قلت) ان الظاهر من قوله عليه‌السلام ـ في مقام الاعتراض على أبي حنيفة : (تعرف كتاب الله حق معرفته ...؟) ـ ان المفتي بظواهر القرآن يجب ان يعرف القرآن حق معرفته ، وإلّا لا يجوز له الفتوى بها.

(قلت) ليس في الخبر ما يدل على عدم جواز الإفتاء بظواهر القرآن مطلقا ، بل المتيقن من مدلوله ان من اكتفى في مدارك فتاواه بالقرآن المجيد ، وأعرض عن مراجعة كلمات العترة عليهم‌السلام ـ كما كان ذلك دين أبي حنيفة وأمثاله ـ لا يجوز له ذلك ، إلا بعد العلم بحقيقة القرآن. ولما لم يكن هذا العلم عند أحد الا العترة الطاهرة ، فلا يجوز لغيرهم الاكتفاء بالقرآن ، فلا يدل الخبر على المنع عن العمل بظواهر الآيات في حق الخاصة الذين ديدنهم الفحص ومراجعة كلمات أئمتهم عليهم‌السلام ، ثم العمل بظواهر الآيات بعد عدم الظفر بما يوجب صرفها عن ظاهرها ، كما لا يخفى.

واما العلم الإجمالي بوقوع التحريف ـ بعد تسليمه ـ فيمكن ان يقال إنه في غير آيات الأحكام من الموارد التي يكون التحريف فيها مطابقا

٦٠