إفاضة العوائد - ج ١

آية الله السيّد محمّد رضا الگلپايگاني

إفاضة العوائد - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد رضا الگلپايگاني


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٧٦
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي علمنا معالم الدين ومعارج اليقين ، وأنار قلوبنا بلوامع السنة والكتاب المبين ، ووفقنا لتمهيد القواعد والقوانين لاستنباط احكام سيد المرسلين ، والصلاة والسلام على أشرف سفرائه المقربين محمد خاتم النبيين وعلى اله الطيبين الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

أما بعد فيقول العبد المذنب المستجير برحمة ربه الكريم ، عبد الكريم الحائري غفر ذنوبه وستر عيوبه لما صنفت في سالف الزمان تصنيفا شريفا وتأليفا منيفا في علم الأصول ، وأودعت فيه غالب مسائلها المهمة ، مراعيا فيه غاية الايجاز والاختصار ، مع التوضيح والتنقيح ببيانات شافية وعبارات وافية ، بحيث يكون سهل التناول لطالبه مجتنبا عن ذكر ما لا ثمرة فيه ، وسميته ب‍ (درر الفوائد) فجددت النظر فيه فألحقت به ما خطر ببالي الفاتر وفكري القاصر أخيرا مما اختلف فيه رأيي ، وأرجو من الله ان يكون نافعا لاخواني من أهل العلم وان يجعله خير الزاد ليوم المعاد.

٣

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي فقهنا في الدين ، وفرض علينا معرفة أصوله وكلفنا بالعمل بفروعه ووفقنا لاستنباط احكام شريعته من كتابه وسنة نبيه وأوصيائه الأئمة الغر الميامين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد وعترته الطيبين الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

وبعد فيقول العبد الفقير إلى رحمة ربه الغنى محمد رضا بن محمد باقر الموسوي الگلپايگاني قد طلب إلي جمع من أفاضل الطلاب تدريسهم كتاب (درر الفوائد) تأليف المرحوم المبرور المغفور له شيخنا واستاذنا مؤسس الحوزة العلمية في مدينة قم المقدسة العلامة الفقيه والأصولي الشهير آية الله العظمى وحجته الكبرى الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي تغمده الله برحمته فأجبت الطلب وعلقت عليه ما خطر ببالي ابان الدرس وكان القسم الكثير منه في حياته والجزء الأخير منه بعد وفاته. وكنت قد دونته عندي لمراجعتي لدى الحاجة فرغب جمع في طبع المدونات فنزلت عند رغبتهم وذيلت المتن بها وأسميتها (إفاضة العوائد في التعليق على درر الفوائد) والله تبارك وتعالى أسأل وإياه أرجو أن ينفعني بها يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون الا من اتى الله بقلب سليم.

٤

(تعريف علم الأصول)

اعلم ان علم الأصول هو العلم (١) بالقواعد الممهدة لكشف حال الأحكام الواقعيّة المتعلقة بافعال المكلّفين ، سواء وقعت في طريق العلم بها ، كما في بعض القواعد العقليّة ، أو كانت موجبة للعلم بتنجزها

______________________________________________________

تعريف العلم

(١) المراد بالعلم في المقام هو اما مطلق الإدراك واما خصوص الإدراك الراسخ المعبر عنه بالملكة ، ولذا صح تعديته إلى (القواعد) بالباء. وليس المراد منه نفس (القواعد) قطعا بتلك القرينة. وهو وإن كان يطلق على نفس القواعد في كثير من الأحيان ، لكن ما لم يضف إلى الاسم الموضوع لذلك العلم ، كالنحو والصرف والأصول ونحوها فان النحو والصرف والأصول وأمثالها أسماء وضعت للقواعد المبحوث عنها في تلك العلوم ، ولها واقعيات في نفس الأمر ، سواء علم بها أحد أم لم يعلم ، ولذا يقال : فلان (عالم بالنحو) أو (ليس بعالم به).

وقد يطلق العلم ويراد به ما هو معنى (النحو والصرف والأصول) مثلا ، لكن ما لم يضف إلى تلك العلوم ، وأما مع إضافته إليها ، فلا يراد به الا الإدراك قطعا. وذلك واضح لا سترة فيه.

والأستاذ دام ظلّه في المقام قال في تعريف علم الأصول : (هو العلم بالقواعد)

٥

على تقدير الثبوت ، أو كانت موجبة للعلم بسقوط العقاب كذلك. ولعل هذا أحسن مما هو المعروف من أنه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة ، لاستلزامه الالتزام بالاستطراد في بعض المسائل المهمة ، مثل مسائل الأصول العملية ، (٢) ومسألة حجية الظن في حال

______________________________________________________

لا في تعريف الأصول ، فمن أراد تعريف الأصول يقول : (هو القواعد الممهدة.). كما عبر صاحب الكفاية (قدس‌سره) في مقام تعريف الأصول ، بأنه (صناعة.). وان أسند إلى القوم تعريف الأصول ب (العلم بالقواعد الممهدة) لكن لا يخلو ذلك عن مسامحة لا بد لها من بعض التوجيهات التي لا داعي لها.

كما أن تعريف العلوم بالصناعة ـ باعتبار أنها حرفة وشغل ، ثم توصيف الصناعة ب (تعرف بها القواعد) الظاهر في كون الباء للسببية ، ومغايرة الصناعة للمعرفة ـ مع أنها عينها ـ أيضا لا يخلو عن مسامحة والأمر سهل.

(٢) ـ أما العقلية منها مثل قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، أو وجوب رفع الضرر المحتمل ، والتخيير في دوران الأمر بين المحذورين فلوضوح عدم استنتاج حال الأحكام منها لا واقعيا ولا ظاهريا ، وليست هي إلّا أحكاما عقلية محضة لا يستكشف منها حكم شرعي حتى بقاعدة الملازمة ، لأن مجرى القاعدة ـ على القول بها ـ هو ما إذا كان للعقل في نفس الواقعة حكم يستقل به كالظلم حيث يستقل بقبحه ، والإحسان حيث يستقل بحسنه ، أمّا ما لا حكم له في نفس الواقعة ويجوز كونها ذات مفسدة ومصلحة لكن لعدم الحجة على العقاب يستقل بقبحه ، فلا يستكشف من ذلك الحكم حكم شرعي لنفس الواقعة ، وفي الحقيقة لا حكم للعقل في الواقعة حتى يستكشف منه حكم الشرع.

وأما الشرعية منها ، فان قلنا بأنها ليست إلّا أعذارا للمكلف فحالها حال العقلية ، وان قلنا بأنها أحكام شرعية ظاهرية فالظاهر دخولها في التعريف ـ بناء على أن «الأحكام الواقعيّة» في التعريف أعم من الظاهرية كما هو كذلك ـ لأن الأصول المقررة في الأحكام الكلية يبحث فيها لتمهيد قاعدة تستنبط منها الأحكام الكلية الفرعية ،

٦

الانسداد ، بناء على الحكومة ، (٣) لعدم تمهدها لاستنباط.

الأحكام كما هو واضح وانما قيدنا القواعد بكونها الممهدة لكشف

______________________________________________________

كما صرّح به في الكفاية في مبحث الاستصحاب.

نعم قد يقال : ان الظاهر لزوم مغايرة المستنبط مع المستنبط منه ذاتا ، والقاعدة المستنبط منها الأحكام الظاهرية مثل : «لا تنقض» و «كل شيء حلال». لا يغاير المستنبط ـ أعنى وجوب صلاة الجمعة المستصحب ، أو حلية المشكوك ـ إلا بالإجمال والتفصيل ، لأن المستنبط مصداق من مصاديق الكبرى المستنبط منها تلك الأحكام ، فلم يشمل التعريف تلك الأصول لكن سيأتي ما فيه في الفرق بين المسائل الأصولية والفقهية.

(٣) وبما ذكرنا في الأصول العملية ظهر حال الظن في حال الانسداد بناء على الحكومة ، فان العقل في تلك الحالة لا يحكم إلّا بقبح العقاب على الممتثل ظنا ، واستحقاق العقاب لتاركه على تقدير تحقق الحكم في الواقع ، وكذلك الثواب ، وأما على تقدير عدم التحقق ، فالممتثل منقاد والتارك متجر ، فلا يستفاد منها حكم شرعي.

وأما الملازمة فقد عرفت أنها في مورد حكم العقل مستقلا في الواقعة بحكم ، كالظلم حيث يحكم العقل بقبحه ، والإحسان حيث يحكم بحسنه ، وأما في أمثال المقام ـ التي لم يستقل بحكم نفس الواقعة ، بل يحكم مع فرض الجهل به بحكم ـ فلا يستكشف بها الا نفس ما أسند إلى الشارع في ذلك التقدير ، وهو عدم العقاب على تقدير المخالفة الواقعية ، وأما تحقق التقدير فمجهول بالفرض.

وأما التعريف المذكور في المتن فيدخل فيه جميع مسائل الأصول ، لأن البحث عن القواعد العقلية (كمقدمة الواجب ، أو الملازمة ، أو الضدين ، أو اجتماع الأمر والنهي ، أو النهي في العبادات ، أو القطع) يستكشف منها حال الحكم من حيث الثبوت أو العدم.

وأما بحث الحجية مطلقا ، سواء تعلق بتشخيص موضوعها (كالبحث في الظواهر في مباحث الألفاظ ، والبحث عما تثبت به الظواهر) أو تعلق بإثباتها

٧

.................................................................................................

______________________________________________________

(كالبحث عن حجية خبر الواحد وأشباهه مما يبحث عن حجية) فيستكشف منها حال تنجز الحكم الواقعي لو أدّى أحدها إليه على تقدير تحققه واقعا ، وعدم تنجزه فيما لو أدّى الطريق إلى خلافه.

وكذلك الأصول ، فان الأصول الجارية على خلاف الأحكام الواقعية ـ كأصل البراءة أو استصحاب العدم أو التخيير ـ يستكشف منها حال الأحكام من حيث عدم تنجزها ، الأصول الجارية في وفاقها ـ كالاحتياط أو الاستصحاب الموافق ـ يستكشف منها تنجزها.

فظهر شموله لجميع مباحث الأصول من أول مباحث الألفاظ إلى آخر مباحث الأصول العملية.

لكن مع ذلك في شمول ذلك التعريف لمباحث الاجتهاد والتقليد ما لا يخفى ، لأن البحث عن وجوب التقليد على العامي أو تقليد الأعلم عليه ، واشتراط العدالة والأعلمية وغير ذلك في المجتهد ، لا يستكشف منها حكم شرعي كما في تعريف القوم ولا وصف المجتهد كما في ذلك التعريف ، نعم يستكشف منها الحكم وحال المقلد على تقدير رجوعه إلى المجتهد ، ويكون البحث فيها حقيقة بحثا في حجية قول المجتهد أو خصوص الأعلم مع الشرائط المعتبرة في المقلّد.

وبذلك وجّه بعض المشايخ في رسالته في تقليد الأعلم دخوله في الأصول على تعريف القوم.

وقد تفطنت له ، لكنه أيضا لا يخلو عن شيء ، لأن مراد القوم من «القواعد الممهدة لاستنباط الأحكام» هي : القواعد الممهدة لاستنباط الأحكام للمجتهد لا للمقلد ، بل يمكن نفي الاستنباط عن فعل المقلد ، كما يشهد بذلك تعريفهم للاجتهاد والاستنباط وجعلهم المجتهد والمستنبط مترادفين. واما على هذا التعريف وان كان يصدق أن حال الحكم يستكشف للمقلد ، لكن هذا خلاف ظاهر المقام.

ولو فرض التزام من بصدد التعريف بأن المراد من كشف الحال هو الأعم من كشفه للمقلد والمجتهد ، لا لخصوص المجتهد كما هو ظاهر ، لا يتأتى ذلك التوجيه في بعض

٨

حال الأحكام ، لخروج مثل علم النحو والصرف وأمثالهما (٤) مما احتيج إليها في طريق كشف حال الأحكام ، وعلم الفقه أما الأوّل ، فلان مسائله ليست ممهدة لخصوص ذلك. وأما الثاني ، فلان مسائله هي

______________________________________________________

مسائله المهمة مثل البحث عن وجوب الاجتهاد ، وكونه عينيا أو كفائيا ، والبحث عن أصل وجوب التقليد ، فان المقلد لا يستكشف من ذلك الحكم وجوب التقليد ، فانه لو لم يكن بحسب طبعه مجبولا على التقليد لا يؤثر حكم المجتهد عليه بوجوب التقليد في وجوب التقليد عليه ، لأن وجوب التقليد في ذلك الحكم عليه أيضا يحتاج إلى التقليد إلى أن يتسلسل.

(٤) كالمنطق والمعاني والبيان مثلا ، فان لها أو لبعضها مدخلية تامة في استنباط الأحكام وقد تقع في طريق الاستنباط لكنها لم تمهد لذلك ، وبذلك يظهر ما في تعريف الأصول بأنها «صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق الاستكشاف» من عدم الانعكاس ، لشموله لتلك العلوم.

وقد تفصّي عن الإشكال بأن المراد بالقواعد هي : «الكبريات الواقعة في طريق الاستكشاف» والمسائل النحوية والصرفية وغير ذلك تقع صغرى لتلك الكبريات ، مثلا علم الصرف واللغة يبحث فيهما عن تشخيص الظاهر ، وفي الأصول يبحث عن حجية كل ظاهر ، وفي علم الرّجال يبحث عن تشخيص حال الرّواة وفي الأصول يبحث عن حجية خبر الثقة ، فيقال في الفقه : «هذا المخبر عن قول الإمام عليه‌السلام بوجوب صلاة الجمعة ثقة ، وكل ثقة يجب الأخذ بخبره فهذا الخبر يجب الأخذ بخبره ، فتجب صلاة الجمعة» وقس على ذلك.

لكن ذلك يستلزم استطراد مباحث الألفاظ من أول الوضع إلى آخر العام والخاصّ والمطلق والمقيد ، الا بعض المباحث العقلية منها كاجتماع الأمر والنهي والضدين وأمثال ذلك ، ولا وجه لاستطراد ذلك.

ويمكن أن يقال : ان ذلك التعريف أيضا لا ينعكس حيث يشمل علم الرّجال ، لأنه لم يمهد الا لكشف حال رواة الأحكام الشرعية.

٩

الأحكام الواقعية الأولية ، وليس ما وراءها أحكام أخر تستكشف حالها بتلك المسائل (٥).

إذا حفظت ما ذكرنا ، تقدر على دفع ما ربما يتوهّم من دخول بعض مسائل الأصول في الفقه كمسألة الاستصحاب (٦) بناء على أخذه من الاخبار وما يشابهها ، تقريره أن الاستصحاب على هذا ليس إلّا

______________________________________________________

وفيه ـ مع عدم اختصاص الغرض في الرّجال بكشف حال رواة الأحكام الشرعية ، بل لكشف حال جميع ما تضمنته الاخبار من التواريخ والأحكام الراجعة إلى الأصول والفروع وغير ذلك ـ أن المراد بالقواعد هي القواعد الكلية ، وعلم الرّجال يبحث فيه عن أحوال كل واحد من افراد الرّجال ، وليست قواعده أحكاما كلية كما هو واضح.

(٥) ـ المراد بالأحكام المستكشف حالها بقواعد الأصول هي الأحكام الكلية الفقهية ، كوجوب الصلاة كل يوم على كل مكلف ، وحرمة كل فرد من افراد الخمر على كل فرد من أفراد المكلفين ، وأمثال ذلك ، فيخرج بذلك الأصول الجارية في الموضوعات كالاستصحاب وقاعدة الطهارة فيها ، وقاعدة الشك بعد العمل ، وبعض قواعد الشكوك ، فانها وان كان يستكشف منها حال الأحكام الواقعية من حيث التنجز وعدمه ، لكن لا يستكشف منها إلا حال حكم جزئيّ جرت فيه إحدى القواعد المذكورة.

نعم قاعدة الطّهارة الجارية في الأحكام داخلة في التعريف ، فانه يستكشف منها حال أحكام كلية ، كطهارة خرء الخفاش مثلا إذا شككنا في طهارته ، وقد التزم الأستاذ في مجلس البحث بكونها أصولية ، ثمّ اعتذر عن عدم تعرضهم لها في الأصول بعدم كونها مسألة نظرية تحتاج إلى بحث مستقل ، وقد التزم به في الكفاية أيضا.

(٦) المراد هو الاستصحاب الجاري في الأحكام ، وأما الجاري في الموضوعات فقد مرّ أنه من القواعد الفقهية.

١٠

وجوب البناء على طبق الحالة السابقة ، بل يمكن هذا التوهم فيه حتى بناء على اعتباره من باب الظّن ، فيسري الإشكال في جل مسائل الأصول : كحجية الخبر والشهرة وظاهر الكتاب وما أشبه ذلك ، بناء على أن الحجية ليست إلّا وجوب العمل بالمؤدى.

______________________________________________________

وتوضيح الإشكال : ان الفقه على ما عرّفوه هو : «العلم بالاحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية» وموضوعه : «أفعال المكلفين» والاستصحاب حقيقته ليس إلّا وجوب العمل على طبق الحالة السابقة ، وهو حكم فرعي موضوعه عمل المكلف ، وكذلك كل ما يبحث فيه عن الحجية ، لأن الحجية ليست إلّا وجوب العمل بمؤدى الحجة.

وحاصل الجواب : ان المستنبط في المسائل الفقهية هي الأحكام التي تطلب نفسها للعمل ، وليس وراءها أحكام كلية أخر يستكشف حالها منها.

لكن لا يخفى أن ذلك الفارق أيضا لا يتم ، لأن قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» و «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» و «كل ما يصح بيعه تصح إجارته» وأمثال ذلك قواعد كلية ، ولا يبحث فيها لمطلوبية نفسها بل لاستكشاف أحكام كلية أخر ، مثل : «كل بيع يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» و «كل هبة لا يضمن بصحيحها لا يضمن بفاسدها» و «كل مجهول لا يصح بيعه مثلا لا تصح إجارته».

وقد أجيب عنه : بأن الظاهر من لفظ الاستنباط مغايرة المستنبط مع المستنبط منه ذاتا ، وفي مثل تلك القضايا لا مغايرة بينهما الا بالإجمال والتفصيل ، كما مرّ في الحاشية الراجعة إلى الأصول العملية فراجع.

لكن فيه : ان الالتزام بذلك يستلزم خروج مثل البحث عن «مقدمة الواجب» والبحث عن «كل ما حكم به العقل حكم به الشرع» وأمثال ذلك ، عن مسائل الأصول فان الكليات المستكشفة من تلك القواعد لا مغايرة ذاتية بينها وبين

١١

وحاصل الجواب أن مسائل الفقه ليست عبارة عن كلّ حكم شرعي متعلق بفعل المكلف ، بل هي عبارة عن الأحكام الواقعيّة الأوّلية ، الّتي تطلب من حيث نفسها ، فكل ما يطلب من جهة كونه مقدمة لإحراز حال الحكم الواقعي ، فهو خارج عن مسائل الفقه ولا إشكال في ان تمام مسائل الأصول من قبيل الثاني.

______________________________________________________

تلك القواعد ، ولم يلتزم أحد بخروج مثل ذلك عن الأصول.

ان قلت : في بحث المقدمة والملازمة يبحث عن الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته ، وعن الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع والحكم المستنبط منها (وهو وجوب الوضوء أو حرمة الظلم) يغاير الملازمة ذاتا.

قلت : في قاعدة «كلّ ما يضمن ...» أيضا يبحث عن الملازمة بين الضمانين ، وفي قاعدة «كل ما يصح بيعه ..» يبحث عن الملازمة بين الصحتين ، وهي غير الحكم بالضمان في البيع والحكم بعدمه في الهبة ، أو الحكم بصحة إجارة الأعيان وعدم صحة إجارة غيرها مثلا.

والحاصل ان بعض مسائل الأصول وان كان يغاير ما استنبط منه ذاتا ، لكن ليس كلها كذلك.

وقد يقال : بأن تطبيق الكبرى على الصغرى لا يسمى استنباطا ، بل الاستنباط يحتاج إلى إعمال نظر واجتهاد ، فلا يصدق على مثل المقام.

قلنا : أوّلا : فيه منع ، فان ذلك يستلزم خروج البحث عن الملازمة عن الأصول ، لأن العقل يحكم بقبح الظلم ، بلا إعمال للنظر وينطبق عليه «كل ما حكم به العقل حكم به الشرع» ولا يحتاج إلى إعمال نظر الا تطبيق الكبرى على الصغرى.

وثانيا : لو قلنا بلزوم الأعمال للنظر في صدق الاستنباط فانه يكفي فيه أن يكون بعض مقدماته نظرية ، ولو كان صغراه ، بأن كان موضوع القضية مأخوذا فيه حكم يحتاج إلى إعمال نظر ، مثل مقدمة الواجب واجبة ، فان تشخيص مقدمة الواجب يحتاج إلى إعمال النّظر لتشخيص الواجب فكذلك في المقام ، فان تشخيص ضمان

١٢

ولا يخفى عليك أن ما ذكرنا من الميزان أسلم مما ذكر : من أن مسائل الفقه عبارة عن كل حكم ، يقدر المقلّد على العمل به بعد ما أفتى به المجتهد ، كحرمة الخمر مثلا ونظائرها. بخلاف مسائل الأصول ، فإنّه لا يقدر على العمل بها ، وإن أفتى بها المجتهد ، كحجية خبر الواحد وأمثال ذلك ، فان هذا مخدوش بان قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده وبالعكس من القواعد الفقهية (٧). ومن المعلوم عدم تمكن المقلّد من العمل بها بعد فتوى المجتهد بتلك القاعدة ، بل يحتاج إلى تعيين ما هو صغرى لتلك القاعدة.

______________________________________________________

صحيح البيع يحتاج إلى نظر واجتهاد ، فبمئونته نستكشف حكم الفاسد منها مع ضميمة الكبرى.

والحاصل انه لا إشكال في صدق الاستنباط في المقام.

وبذلك يظهر عدم انعكاس ما في الكفاية ، حيث يشمل تلك القواعد التي ذكرت ، فانها تقع في طريق استنباط الأحكام ، ولا يندفع بمجرد تقييد الأحكام المستكشفة بالكلية ـ كما عن بعض ـ لأن الأحكام المستكشفة منها أيضا كلية كما لا يخفى.

(٧) بل مخدوش بمثل «الصلاة واجبة» أيضا ، حيث ان المقلد لا يقدر على العمل به ما لم يعلم بموضوعه ، ومعلوم ان موضوعه الواجد للاجزاء والشرائط من المستنبطات ويحتاج إلى إعمال نظر واجتهاد زائدا على وجوبه ، وكذلك بمثل «كل ما لا يؤكل لحمه لا يجوز استصحاب أجزائه في الصلاة» ، وكل حكم شرعي يتعلق بموضوع يحتاج إلى النّظر والاجتهاد ، أو إلى موضوع ذي حكم شرعي توقف استنباط حكمه على الاجتهاد وإعمال النّظر ، وكذلك ما كان ناظرا إلى الأدلة لتعميم حكمها أو تخصيصه بلسان الحكومة ، مثلا «لا ضرر» و «لا حرج» و «لا شك لكثير الشك» وغير ذلك ، فانها ناظرة إلى الأدلة ولا حظّ للمقلّد فيها قبل المراجعة إلى المجتهد.

١٣

(موضوع علم الأصول)

ثم اعلم ان موضوع هذا العلم (٨) عبارة عن أشياء متنه تعرضها تلك المسائل كخبر الواحد والشهرة والشك في الشيء مع العلم بالحالة السابقة والشك في التكليف مع عدم العلم بالحالة السابقة وأمثال ذلك مما يبحث عن عوارضه في هذا العلم ولا يجمعها الأدلّة لا بعنوانها ولا بذواتها.

______________________________________________________

موضوع علم الأصول

(٨) لمّا كان حقيقة موضوع كل علم هو نفس موضوعات مسائله مثل الصلاة والصوم والزكاة في الفقه ، والفاعل والمفعول والمبتدأ والخبر في النحو ، وما ذكر في المتن في الأصول ، وأمثال ذلك ، عبّر الأستاذ ـ دام بقاؤه ـ عن الموضوع بأشياء متشتتة إلخ. وأما الجامع فليس بما هو أولا وبالذات موضوع العلم ، بل ان كان بين تلك الموضوعات جامع ذاتي ومعلوم ، كالكلمة والكلام في النحو ، أو فعل المكلف في الفقه مثلا فيؤخذ به ويشار به إلى موضوعات المسائل تارة ويقال : «موضوع علم النحو الكلمة والكلام» و «موضوع علم الفقه هو أفعال المكلفين»

ويسند الموضوعية إلى نفس ذلك الجامع أخرى إذا أخذ لا بشرط ، باعتبار أن العارض لفرد من افراد الطبيعة عارض على نفس الطبيعة ، مثلا : لو كان فرد من أفراد

١٤

اما الأول فللزوم خروج مسائل حجية الخبر والشهرة والظواهر (٩).

______________________________________________________

الإنسان عالما يصح أن يقال : «الإنسان عالم» ولا يصح ان يقال : «الإنسان ليس بعالم» وان صح أن يقال : «الإنسان جاهل» باعتبار فرد آخر منه ، وأما طبيعة الجامع من حيث هي طبيعة الجامع فلم تكن موضوعا في مسألة من مسائل العلوم ، فان الصلاة في الفقه بما هي صلاة واجبة لا بما هي فعل المكلف ، وكذا الفاعل في النحو بما هو فاعل مرفوع لا بما هو كلمة وأمثال ذلك ، فالموضوع في الحقيقة اشخاص تلك الموضوعات ، والإسناد إلى ذلك الجامع أو الإشارة به إلى ذلك انما هو لتسهيل الأمر.

وان لم يكن بينهما جامع ذاتي معلوم فنعبّر عنه بجامع عرضي ، ولو بعنوان أنه : «ما يبحث في العلم عن عوارضه الذاتيّة» كما يعرّفون موضوع كل علم بذلك.

والمراد بالعرض الذاتي في المقام ما يعرض الشيء بلا واسطة في العروض ـ كما في الكفاية ـ وان لم يكن ذاتيا باصطلاح المنطق أو المعقول ، لأن الوجوب للصلاة ما يعرض فعل المكلف لذاته ، كإدراك الكليات العارض للناطق ، لا لجزئه المساوي أو الأعم منه كالإدراك العارض للإنسان بتوسط الناطق ، أو التحرك بالإرادة العارض له بتوسط الحيوان ، ولا لأمر مساو له كالضحك العارض للإنسان بواسطة التعجب ، بل أمر مجعول من قبل الشارع يعرضه من جهة أمر خارج أخص ، وهو كونه ذا مصلحة ملزمة ، وقس على ذلك حجية خبر الواحد في الأصول ، وغير ذلك من موضوعات مسائل العلوم.

وحيث علم عدم الدخل للجامع في الموضوعية ، يعلم عدم لزوم العلم بعنوان الجامع لو قلنا بتحققه قطعا ، لاشتراك جميع القضايا في تحصيل غرض خاص باعث على تدوين العلم ، مع تسليم أن الواحد لا يصدر إلّا من الواحد ، بل لا نحتاج إلى العنوان المذكور. ومن ذلك يعلم عدم لزوم الالتزام بأن موضوع علم الأصول هي الأدلة بعنوانها أو ذاتها حتى يورد عليه ما أورد.

(٩) وذلك لوضوح أن البحث عن الحجية بحث عن إثبات عنوان الدليل لا عن عوارضه ، فيدخل في المبادي ، وكذا يلزم عليه خروج الأصول العمليّة أيضا ، لأن

١٥

وأمثال ذلك مما يبحث فيه عن الحجيّة في علم الأصول ودخولها في المبادي بل للزوم ذلك في مسألة التعادل والتراجيح لأن الحالة جائز.

واما الثاني فلعدم تماميته في تمام المسائل كالأصول العملية (١٠) والالتزام بكونها استطرادا كما ترى وقد تكلف «شيخنا المرتضى ره» في إرجاع البحث عن حجية الخبر إلى البحث عن الدليل حيث قال (قده) ان البحث فيها راجع إلى ان السنة الواقعية هل تثبت بخبر الواحد أم لا (١١) وأنت خبير بان هذا على فرض تماميته في مسألة

______________________________________________________

البحث فيها ليس بحثا عن ذات الدليل فضلا عن عارضه ، لأن الشكوك ليست من الأدلة الأربعة ، وانما لم يتعرض لها لوضوحها ، خصوصا بعد ما تعرّض لخروجها على الثاني.

(١٠) ولعدم تماميته أيضا في مثل مباحث الألفاظ ، مثل ان الأمر للوجوب أو للندب ، والنهي للحرمة أو الكراهة ، والفور أو التراخي ، والمرة أو التكرار وأمثال تلك المباحث ، وكذلك البحث في العموم والخصوص ، والمطلق والمقيد ، والبحث عن حجية الظاهر ، فان موضوع تلك المباحث ليس ذوات الأدلة أيضا ، لأن البحث فيها لا ينحصر بخصوص أوامر الكتاب والسنة ، والعموم والخصوص والمطلق والمقيد الوارد فيها ، وكذلك البحث عن حجية الظاهر لا ينحصر بخصوص ظواهر الكتاب والسنة ، وان كان الغرض في جميعها معرفة أحوال الكلمات الواردة في الكتاب والسنة ، لكن الكلام في الموضوع لا في الغرض وخروج جميع المسائل المذكورة ـ مع تمام مسائل الأصول العملية عن علم الأصول ـ مما لم يلتزم به أحد.

(١١) قد أورد شيخنا الأستاذ ـ دام بقاؤه ـ على ما أفاده الشيخ رحمه‌الله بان اللازم علينا ملاحظة ان الموضوع والمحمول في القضية المبحوث عنها عند الأصولي ما ذا؟ ولا إشكال في أن المبحوث عنه في الأصول والموضوع في القضية هو : «خبر

١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الواحد» والمحمول «حجة» أو «ليس بحجة» وذلك خارج عن البحث عن الأدلة وأما إمكان إرجاع البحث إلى السنة حتى يدخل في البحث عنها فلا داعي له بعد ما عرفت من عدم الحاجة إلى الجامع المعلوم ، مع ان ما يمكن إرجاعه إليه ليس مناطا في تعيين البحث ، بل المناط فعلية البحث ، مثلا يمكن إرجاع البحث في «الصلاة واجبة» إلى ان «وجوب الصلاة ثابت أم لا» أو «إيجاب الله تعالى للصلاة ثابت أم لا» حتى يصير البحث كلاميا ، ولكن ذلك ليس مناطا في تعيين البحث.

وأورد عليه صاحب الكفاية ـ فيها وفي الحاشية ـ بما حاصله : ان المراد بالثبوت ان كان الثبوت الواقعي فالبحث عنه بحث عن ثبوت الموضوع بمفاد كان التامة ، والبحث في ذلك داخل في مبادئ العلم ـ ان لم ينقح في علم آخر سابق عليه رتبة ـ ولا يعد من مسائل العلم ، لأن المسائل لا بد أن يبحث فيها عن مفاد كان الناقصة ، وإثبات عرض للموضوع أو نفيه وان كان المراد الثبوت التعبدي (وهو وجوب العمل على طبقها) فهو وان كان من العوارض ولكنه من عوارض الخبر الحاكي لا السنة الواقعية ، لأن وجوب العمل على السنة الواقعية أيضا وان كان من العوارض لها ، لكن محل بحثه علم الكلام ، لا الأصول.

وأورد عليه شيخنا الأستاذ ـ دام بقاؤه ـ على تقدير الشق الأول : بعدم لزوم كون البحث في المسائل بحثا عن العوارض ومفاد كان الناقصة ، بل يمكن تدوين علم يبحث في جميع مسائله أو بعضها عن وجود شيء أو أشياء في العالم ، ولا مانع لذلك من عقل ولا غيره ، بل لا يبعد وقوعه في علم الكلام ، فان عمدة البحث فيه عن وجود الصانع ووجود المعاد بمفاد كان التامة ، وإرجاع البحث إلى ان : من الوجود : «الواجب» أو لا؟ ومن الوجود : «المعاد» أو لا؟ لا داعي له ، وان التزموا به لم يكن مناطا كما مر آنفا.

أقول : وان كان ذلك مصححا للبحث عن العوارض ، فنقول في المقام : هل من السنة : «الخبر المحكي بقول زرارة» أو لا؟ وعلى الشق الثاني : ان وجوب العمل وان كان من عوارض الخبر الحاكي ، ولكن يمكن جعله من عوارض السنة بمعنى ان نقول :

١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

«ماهية الخبر هل يجب العمل عليه ولو كان مشكوكا؟» مثل ما لو أخبر العادل برؤية الهلال يمكن ان يقال : «هل الهلال يثبت بقول العادل؟» ويمكن ان يقال : «هل قول زيد حجة أو لا؟» ومعنى الثبوت والحجية على التقديرين وجوب العمل على طبق ثبوت الهلال واقعا وان لم يكن محرزا.

أقول : اما كون مراد الشيخ رحمه‌الله بالثبوت الثبوت الواقعي بمفاد كان التامة فمما لا يرضى أحد ان ينسب إلى الشيخ ، وهل يمكن أن ينسب إلى الأصولي ان حقيقة قول المعصوم عليه‌السلام غير منوط بقول زرارة ، واما الثبوت التعبدي وان أمكن ان يوجه كما ذكرنا ، لكنه خلاف الظاهر كلامه.

والّذي يقوى في النّظر هو : أنّ المراد بالثبوت الثبوت في مرحلة الظاهر. وبعبارة أوضح : البحث في إثبات قول المعصوم عليه‌السلام لا في ثبوته ، والمقصود بالثبوت هو الثبوت عندنا لا في نفس الأمر ، كما يقول الحاكم : «ثبت ان المال لزيد» ومعلوم ان هذا البحث بحث عن مفاد كان الناقصة ، لأن ثبوت السنة عند تحققه واقعا من عوارضها.

فان قلت : كما أن الأصولي لا يرضى بالبحث عن ثبوت السنة بمفاد كان التامة لوضوح عدم ارتباطها بالخبر الحاكي ، كذلك لا يرضى بالبحث عن ثبوتها عندنا أيضا ، لأن من الواضح عدم ثبوت السنة الواقعية بالخبر الحاكي بذلك ، لأن الفرض انها بعد مشكوكة.

قلت : نعم ، نفس القول مشكوك صدوره عن الإمام عليه‌السلام لكن رأيه عليه‌السلام يتضح لنا على تقدير تحققه.

بيان ذلك : ان الإمام عليه‌السلام لو أمرنا بإتيان صلاة الجمعة واقعا ، ثم منع مانع عن وصول ذلك الخطاب إلينا ، فأمرنا بمتابعة قول زيد ، وقال زيد : «قال الإمام عليه‌السلام : صلاة الجمعة واجبة» وخالفنا قول زيد ، فيصح أن يؤاخذنا بترك صلاة الجمعة ، فان قلنا : ما كنا عالمين بذلك ، فيصح ان يقول : ألم تسمعوا مني وجوب متابعة زيد؟ فان قلنا : بلى ، فقد اعترفنا بكوننا عالمين بوجوب صلاة الجمعة ،

١٨

حجية خبر الواحد وأمثالها لا يتم في الأصول العملية (١٢) فالأوفق بالصواب ان يقال : لا نلتزم بكون الجامع بين شتات الموضوعات هو الأدلّة ولا بلزوم ان يكون للجامع بينها اسم خاص يعبر عنه.

فتلخص مما ذكرنا ان وحدة العلم ليست بوحدة الموضوع ولا

______________________________________________________

لأنه مصداق متابعة زيد ، وبالفرض كنا عالمين بوجوب متابعته ، فيصح ان يقال : لو كان خبر الواحد حجة (يعنى لو ثبت وجوب العمل به من المعصوم) يثبت نفس رأيه الواقعي.

لا يقال : وجوب المتابعة غير وجوب الجمعة ، وما هو معلوم وجوبها لا وجوب الجمعة وان كانا متحدين مصداقا ، كما إذا علم بوجوب إكرام العالم الهاشمي لكونه عالما لا لكونه هاشميا ، فيصح ان يقال : وجوب إكرام العالم معلوم ووجوب إكرام الهاشمي غير معلوم ، وان كان وجوب إكرام المصداق معلوما.

لأنا نقول : نعم ، لو كان الوجوبان حكمين مستقلين جعل كل منهما في موضوع في عرض الآخر صح ما ذكر. واما لو كان أحدهما طريقا وعلامة إلى الآخر ، فعلى تقدير المطابقة لم يكن الا نفس الواقع ، وقد علم بذلك ولو لم يكن في الواقع فليس الحكم الطريقي الا صوريا لا واقع له ـ كما صرح بذلك في الكفاية ـ وذلك معنى ما قلنا من ثبوت السنة الواقعية عندنا.

نعم ، يمكن ان يقال بأن السنة هي قول الحجة أو فعله أو تقريره ـ على ما قرّبه الشيخ رحمه‌الله ـ ومعلوم ان قول الحجة لا يثبت بالخبر الحاكي ، لما مرّ من أنه بعد مشكوك فيه ، وانما يثبت به رأيه عليه‌السلام لو كان الطريق موافقا ، فالسنة لم تثبت ، والثابت ليس بسنّة.

إلّا ان يوجّه بأن رأى الإمام عليه‌السلام أيضا دليل باعتبار كونه كاشفا عن حكم الله تبارك وتعالى ، فبذلك يتم التوجيه ، والظاهر ان ما قلنا أحسن حمل لكلامه ، زيد في علو مقامه.

(١٢) وكذلك لا يتم فيما ذكرنا عند قوله : واما الثاني ، فراجع.

١٩

بوحدة المحمول (١٣) بل انّما هي بوحدة الغرض المتعلق بتدوينه ولذلك يمكن ان يكون بعض المسائل مذكورا في علمين لكونه منشأ لفائدتين صار كل منهما سببا لتدوينه في علم.

هذا إذا عرفت ما ذكرنا فلنشرع فيما هو المقصود وقد رتبته على مقدمات ومقاصد ، اما المقدمات

(حقيقة الوضع)

فمنها ان الألفاظ ليست لها علاقة مع معانيها مع قطع النّظر عن الوضع وبه يوجد نحو ارتباط بينهما وهل الارتباط المذكور مجعول ابتدائي للواضع

______________________________________________________

(١٣) بعد ما التزم بعدم لزوم ان يكون للجامع بين شتات الموضوعات اسم خاص ، فلازم ذلك عدم صلاحية الموضوع لتمايز العلوم ، لأن ما هو غير معلوم بعنوانه كيف يميز به العلم ، وكذلك المحمول ، بل هو أسوأ حالا من الموضوع ، ولذا لم يعرف الالتزام به من أحد.

وحيث نفى التمايز بالموضوع والمحمول أثبت كونه بالغرض ، وجعل برهان ذلك إمكان ذكر بعض المسائل في علمين ، والمقصود ذكره فيهما مع اتحاد الموضوع والمحمول والحيثية ، مثل : قاعدتي التحسين والتقبيح العقليين في الأصول والكلام ، وقبح العقاب بلا بيان على الشارع فيهما ، وأمثال ذلك ، مثل كثير من مسائل النحو والبيان والأصول ، مثلا حقيقة معاني الحروف والأسماء يبحث عنها في الأصول والنحو والبيان ، وشطر من مباحث الأوضاع مما يذكر في البيان بعينها يذكر في الأصول بلا تغيير حيثية ، والالتزام بكونها مبادئ الأصول ـ كما عن بعض ـ مما لا وجه له ، فإمكان ذلك ووقوعه دليل مستقل على بطلان كون التمايز بالحيثيات كالموضوع والمحمول ، وان كان ذكر لبطلانه وجوه عقلية أخر لا مجال لذكرها.

٢٠