إفاضة العوائد - ج ٢

آية الله السيّد محمّد رضا الگلپايگاني

إفاضة العوائد - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد رضا الگلپايگاني


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٠
الجزء ١ الجزء ٢

البراءة ، (١٣٣) بخلاف موضوع البراءة فانه ينتفي بورود الحكم المستفاد من دليل الاستصحاب.

هذا كله في الاستصحابات الجارية في الأحكام. واما الشبهات الموضوعية ، فتقدم الاستصحابات الجارية فيها على أصالة البراءة أوضح ، لأن الشك فيها في الحكم مسبب عن الشك في الموضوع ويأتي تقدم الأصل الجاري في السبب على الأصل الجاري في المسبب مطلقا إن شاء الله تعالى.

المقالة السابعة

(في تعارض الاستصحابين)

ومحصل الكلام في المقام أن الشك في أحدهما إما أن يكون مسببا عن الشك في الآخر. وإما أن يكون الشك فيهما مسببا عن ثالث ، وأما كون الشك في كل منهما مسببا عن الشك في الآخر ، فغير معقول ، فالاستصحابان المتعارضان على قسمين :

(الأول) ـ ما إذا كان الشك في أحدهما مسببا عن الشك في الآخر ، وحكمه تقديم الاستصحاب الجاري في الشك في السبب ، ورفع اليد عن الحالة السابقة للمستصحب الآخر ، مثاله لو غسل ثوب نجس بماء كان طاهرا قبل ، وشك في بقاء طهارته حين غسل الثوب به ، فالثوب بعد الغسل بالماء يشك في طهارته ونجاسته ، ولكن هذا الشك إنما نشأ من الشك في طهارة الماء حين غسل الثوب به ، إذ لو علم طهارة الماء حين الغسل ، لكانت طهارة الثوب قطعية. والوجه في تقدم الاستصحاب الجاري في الشك السببي أمر ان :

(أحدهما) ما أسلفناه سابقا في وجه تقدم الطرق المعتبرة على الأصول. وحاصله أن الشك المأخوذ في موضوعها بمعنى عدم الطريق ، فإذا ورد طريق معتبر

______________________________________________________

(١٣٣) سيجيء الإشكال في تقديم أحد الأدلة على الآخر ، من جهة تقدم

٣٤١

يرتفع موضوعها. وفي المقام نقول أيضا إن دليل اعتبار الاستصحاب بملاحظة شموله للشك السببي لم يبق للاستصحاب في المسبب موضوع ، لأنه بعد حكم الشارع بطهارة الماء الّذي غسل به الثوب ، (١٣٤) يحصل لنا طريق إلى طهارة الثوب أيضا. ولا عكس ، بمعنى أنه لو فرض شموله للشك في الثوب لا تترتب عليه نجاسة الماء ، لأن نجاسة الماء ليست من آثار نجاسة الثوب ، لأن المفروض العلم بان الماء لم يتنجس بالثوب. نعم لو علم ببقاء نجاسة الثوب ، يكشف عن نجاسة الماء. وحينئذ فالامر دائر بين التخصيص والتخصص ، والأول مخالف للقاعدة بخلاف الثاني.

(الثاني) ـ تقدم الشك السببي على المسببي طبعا ، (١٣٥) لأن الثاني معلول

______________________________________________________

الرتبة في تقديم الاستصحاب السببي على المسببي ـ إن شاء الله تعالى ـ.

(١٣٤) إن كان المراد الطريق إلى الطهارة الواقعية ، فمعلوم أن الاستصحاب ليس بطريق وغاية ما يمكن أن يقال : إن اليقين السابق والشك اللاحق نزّل ، منزلة اليقين بالواقع في جميع الآثار ، حتى في نقضه لليقين السابق ، وذلك على فرض تسليمه لا يكون إلا مصداقا للحكومة ، كما أفاده الشيخ (قدس‌سره). وإن كان المراد قيام حكم الشارع على طهارته ـ ولو في الظاهر ـ فهو حق إلا أن (لا تنقض) يثبت حكم الشك ، مع قطع النّظر عن الحكم المجعول من قبل نفسه ، إلا أن يتمسك بتنقيح المناط أو القضية الطبيعية.

(١٣٥) لا يخفى أن تقدّم الرتبة في مقام تحقق الخارج يؤثر ذلك الأثر ، بمعنى أنه لا يعارض ما في رتبة المعلول ما هو في رتبة العلة ، لعدم المانع للثاني في رتبته ، بخلاف الأول ، فانه لم يوجد إلا في الرتبة المتأخرة عن الثاني. والمفروض عدم اجتماع الثاني معه ، فلا محالة يتحقق ما هو في رتبة العلة ، ولا يتحقق ما هو في رتبة المعلول.

وأما في مقام استكشاف أن أيّ الموضوعين محكوم بذلك الحكم عند المتكلم لبّا ، فلا يؤثر ذلك ، فانه يمكن أن يكون الشك المتأخر رتبة موضوعا للحكم ، بخلاف

٣٤٢

للأول ، ففي رتبة وجود الأول لم يكن الثاني موجودا ، وإنما هو في رتبة الحكم المرتب على الأول ، فالأوّل في مرتبة وجوده ليس له معارض أصلا ، فيحرز الحكم من دون معارض. وإذا ثبت الحكم في الأول ، لم يبق للثاني موضوع. وبهذا البيان الثاني تعرف وجه تقدم الاستصحاب الجاري في السبب ، وان قلنا بالأصول المثبتة.

توضيح المقال أنه بناء على ذلك ـ وإن كان يترتب على الاستصحاب الجاري في الثوب نجاسة الماء ، ويرتفع به موضوع الاستصحاب في الماء ، وليس على هذا من قبيل دوران الأمر بين التخصيص والتخصص ـ إلا أن التقدم الطبعي للشك السببي أوجب إحراز الحكم وارتفاع موضوع الآخر من دون عكس. ومن هنا يعلم أن الاستصحاب ـ إن قلنا باعتباره من باب الظن أيضا ـ لكان المقدم الاستصحاب في السبب. ويظهر أيضا من جميع ما ذكرنا أن هذا الحكم ليس مختصا بالاستصحاب ، بل كل أصل جار في الشك السببي مقدم على كل أصل جار في الشك المسببي ، حتى أنه في المثال المذكور لو أحرزنا طهارة الماء بأصالة الطهارة ، نحكم بطهارة الثوب ، ونرفع اليد عن السابقة فيه ، مع أن

______________________________________________________

المتقدم لبّا عند الحاكم ، فالكاشف وهو العدم يدل على تحقق الحكم وتعلق الإرادة بكلا الموضوعين ، لكن العقل ـ حيث يقطع بعدم إمكان اجتماعهما في الواقع ، وحيث يمكن دخول كل واحد منهما وخروج الآخر لبا ـ يتوقف. ولا ترجيح لأحدهما عند العقل.

نعم لو اقتضت إحدى القواعد اللفظية خروج أحدهما ودخول الآخر ، كتقدم التخصص على التخصيص ، فهو ، وإلّا فلا ترجيح.

ان قلت : هذا من المسلمات أن الموضوع علة تامة للحكم ، والمفروض تقدم رتبة الشك السببي على الشك المسببي ، والرتبة المتأخرة عنه التي هي رتبة الشك المسببي تكون في رتبة الحكم السببي ، فيصير كالتكوينيات عينا. وقد اعترفت أن تقدم الرتبة فيها مؤثر.

٣٤٣

الاستصحاب مقدم على قاعدة الطهارة إذا كانا في مورد واحد.

القسم الثاني ما إذا كان الشك في كليهما ناشئا من امر ثالث. ومثاله لو علم إجمالا بنقض الحالة السابقة في أحد المستصحبين.

ومحصل القول في ذلك أن العمل بالاستصحابين (تارة) يوجب مخالفة عملية قطعية لذلك العلم الإجمالي ، و (أخرى) لا يوجب ذلك. (الأول) كما لو علم بنجاسة أحد الإناءين الطاهرين في السابق. والثاني ، كما لو توضأ غافلا بمائع مردد بين الماء والبول ، فان بقاء طهارة البدن والحدث وان كان مخالفا للقطع ، ولكن لا يلزم من البناء عليهما بمقتضى الاستصحابين مخالفة عملية.

أما القسم الأول فالتحقيق فيه أن عموم أدلة الاستصحاب يشمل كلا من طرفي العلم الإجمالي ، لأن الموضوع فيما اليقين بأمر في السابق ، والشك في بقاء ذلك الأمر في اللاحق. وهذا المعنى محقق في كل واحد منهما ، لكن لما كان العمل بعموم الدليل المذكور في المقام موجبا لمخالفة قطعية عملية ، ولا يجوز عند العقل تجويز ذلك ، فلا بد من رفع اليد عنه في مجموع الطرفين. نعم الترخيص في البعض لا بأس به ، لكن إخراج بعض معين وإبقاء الآخر كذلك ترجيح بلا مرجح ، إذ نسبة الدليل إلى كلا الطرفين على حد سواء ، وإبقاء واحد منهما على نحو التخيير غير مدلول الدليل ، لأن موضوعه الآحاد المعينة. ومقتضى ذلك التساقط ، والرجوع إلى مقتضى العلم الإجمالي بالتكليف ، وهو موجب للامتثال

______________________________________________________

قلت : نعم مع العلم بأن الشك السببي موضوع للحكم في لبّ المتكلم ، نعلم بأنه علة تامة له ، لكن مع الشك في ذلك نشك في عليّته أيضا ، ونحتمل علية المسببي في لب المتكلم. والمفروض انه ممكن أيضا.

وان شئت توضيح ذلك فإليك هذا المثال لو قال أحد لشخص : إن هذا ابني ، وقال أيضا أنا لا اضرب ابني أبدا ، ثم رأيناه أنه يضربه ، فنقطع بعدم صدق إحدى القضيتين واقعا ، لكن هل يوجب ـ مجرد كون الأولى محققة لموضوع الثانية ـ العلم بكذب الثانية ، لتقدم رتبة موضوعها عليها؟ فافهم فانه دقيق.

٣٤٤

القطعي.

فان قلت ترخيص أحد الطرفين وإن لم يكن مدلول الدليل ، إلّا أنه يجب الحكم بالترخيص من جهة العقل ، لأن مقتضى الترخيص في كل منهما موجود بمقتضى عموم الأدلة ، والمانع إنما منع عن الجمع ، فالمقتضي في أحدهما يكون بلا مانع يجب تأثيره بحكم العقل. ونظير هذا يقال فيما إذا تزاحم الغريقان ، ولم يتمكن المكلف من إنقاذهما ، ولم يكن لأحدهما مرجح.

قلت هذا في مثال تزاحم الغريقين صحيح. والوجه فيه أن مقتضى الإنقاذ في أحدهما موجود ، ولا يكون له مانع يقينا ، بخلاف ما نحن فيه ، لأنا نقطع بعدم المانع ، إذ لعل العلم الإجمالي الّذي يقتضى الاحتياط يمنع عن تأثير مقتضى الترخيص مطلقا في نظر الشارع.

اللهم إلا أن يقال بالترخيص في أحدهما ، لا من جهة ما ذكر ، بل من جهة الأخذ بإطلاق دليل الترخيص في كل من الطرفين ، وتقييد كل منهما بمقدار الضرورة. بيان ذلك أن مقتضى عموم الدليل الترخيص في كل من الإناءين المشتبهين مطلقا ، أعني مع ارتكاب الآخر وعدمه ، والمانع العقلي إنما يمنع هذا الإطلاق ، ولا ينافى بقاء الترخيص في كل واحد منهما بشرط عدم ارتكاب الآخر.

فان قلت لازم ذلك أن من لم يرتكب شيئا منهما ، يكون مرخصا في ارتكاب كليهما. وهذا إذن في المخالفة القطعية.

قلت : الأحكام لا تشمل حال وجود متعلقاتها ولا حال عدمها ، (١٣٦)

______________________________________________________

(١٣٦) لا يخفى أن الإطلاق في المقام لا ربط له بإطلاق الحكم وشموله لحال عدم متعلقه ، لأن المقصود إطلاق الحكم وشموله لكل فرد في حال عدم فرد آخر ، وإن كان المقصود أن الحكم المجعول في القضية ـ حيث جعل لجميع الافراد في عرض واحد ـ فلا يمكن شمول كل حكم لحال عدم متعلق الآخر ، لأنه بمنزلة شموله لعدم متعلقه ، فهو انما يتم لو قيل بلزوم اللحاظ في الإطلاق ، حيث يستلزم لحاظ عدم متعلق

٣٤٥

لأن الشيء المفروض الوجود ليس قابلا لأن يتعلق به حكم من الأحكام ، وكذا الشيء المفروض العدم. مثلا بعد فرض الوجود الخارجي لشرب التتن لا يصح الأمر به ، ولا المنع عنه ، ولا الترخيص فيه ، لأنه بعد هذا الفرض خارج عن تحت قدرة المكلف ، وكذا بعد فرض عدمه الخارجي ، فالدليل المذكور لا يمكن شموله للترخيص حتى في صورة فرض عدم ارتكاب متعلقه ليكون ترخيصا في المخالفة القطعية. هذا. وقد أشرنا إلى ذلك في الشبهة المحصورة ، فراجع وتأمل.

وأما القسم الثاني فهو على قسمين : أحدهما أن يكون مقتضى الاستصحاب في أحد الطرفين ثبوت التكليف وفي الآخر عدمه ، ونحن نعلم بعدم التكليف بينهما. والثاني أن يكون مقتضاه في الطرفين ثبوت التكليف. ونحن نعلم بعدمه في أحدهما.

______________________________________________________

فرد آخر لحاظ عدم متعلق نفسه أيضا ، لمكان وحدة متعلقهما في نظر الجاعل ، وأما لو قيل بعدم احتياج الإطلاق إلى اللحاظ. بل يكفيه عدم لحاظ قيد معه ، فلا يلزم محذور أصلا ، فتأمل ، لئلا يختلط.

وليكن هذا آخر ما أردنا تحريره من التعليقات على ما صنّفه الأستاذ العلامة ـ أعلى الله في الخلد مقامه ـ من أول مبحث الألفاظ إلى آخر الاستصحاب.

ويتلوه الكلام فيما يتعلق بالتعادل والترجيح ـ إن شاء الله تعالى ـ وقد وقع الفراغ منه في الليلة السادسة عشرة من محرّم الحرام السنة السادسة والخمسين وثلاثمائة بعد الألف من الهجرة.

وقد توفّي (قدس‌سره الشريف) في ليلة السبت السابع عشر من شهر ذي القعدة الحرام السنة الخامسة والخمسين وثلاثمائة بعد الألف هجرية في بلدة قم الطيبة ، ودفن في مدرسه المشهور بدار السيادة المتّصل بما هو معروف ب (مسجد بالأسر) في جوار بضعة الأحمد المختار ، وحرم الأئمة الأطهار ، قرب مرقد فاطمة بنت الإمام الهمام موسى بن جعفر عليهما الصلاة والسلام. والحمد لله أولا وآخرا.

٣٤٦

أما الأول فلا مانع فيه من الأخذ بمقتضى كلا الأصلين ، لعدم المخالفة القطعية العملية التي كانت مانعة في المثال السابق. ومجرد العلم بأن مقتضى أحد الاستصحابين مخالف للواقع لا يؤثر شيئا.

نعم لو علمنا بعدم التفكيك حتى في مرحلة الظاهر ، يقع التعارض بينهما ، كما أنه قد يقال في الماء النجس المتمم كرا بماء طاهر بقيام الإجماع على اتحاد الماءين في الحكم ، حتى بملاحظة الظاهر. فحينئذ مقتضى استصحاب نجاسة المتمم بالفتح ـ بضميمة الإجماع المدعى على الملازمة ـ نجاسة الكل ، ومقتضى استصحاب طهارة المتمم بالكسر ـ بضميمة الإجماع المذكور ـ طهارة الكل ، فيقع التعارض بينهما ، ويحصل التساقط ، فاللازم في المثال الرجوع إلى قاعدة الطهارة.

واما الثاني فالأخذ بالاستصحاب فيه وإن لم يكن مخالفا لتكليف واقعي معلوم ، كما هو المفروض ، لكن لما كان الاستصحاب حكما ظاهريا ـ وليس له فائدة الا تنجيز الواقع على تقدير الوجود ، فيما إذا كان مثبتا للتكليف ، وإسقاطه كذلك فيما إذا كان نافيا له ـ لا يمكن جعل الاستصحابين في المثال ، للقطع بعدم ثبوت الواقعين ، فيكون أحدهما لغوا.

نعم لو فرض لهما أثر آخر غير تنجيز الواقع لأمكن الأخذ بكل منهما ، لترتب ذلك الأثر ، كما في استصحاب نجاسة كل من الطرفين لإثبات نجاسة ملاقى كل واحد من المشتبهين ، إذ لو لا ذلك لكان الملاقى محكوما بالطهارة ، إلا إذا حصل العلم الإجمالي في الملاقى ، كما إذا لاقى شيء أحد الطرفين ، وآخر الطرف الآخر.

هذا ما عندنا في هذا المقام وعليك بالتأمل التام. وقد تم الكلام في أحكام الشك بأسرها ، مع مراعاة الاختصار ، والاجتناب عن الزوائد والتكرار ، ونسأل الله أن يصلح نياتنا ويتجاوز عن زلاتنا ، إنه عزيز غفار. ويتلوها الكلام في التعادل والترجيح إن شاء الله تعالى.

٣٤٧

التعادل والترجيح

البحث في تعارض الدليلين

وهو عبارة عن تنافي مدلوليهما بحيث لا يمكن صدق كليهما بحسب الواقع. ومن هنا يعلم أنه لا تعارض بين مفاد الدليل الحاكي عن الواقع ، والدليل الدال على حكم الشك ، وإن كان على خلاف الواقع ، لإمكان صدق كليهما. مثلا يمكن أن يكون شرب التتن حراما ، ومع الشك في حرمته حلالا ، لاختلاف رتبتيهما. وقد أوضحنا ذلك في مبحث حجية الظن ، عند التعرض لكلام ابن قبة ، فلا نطيل الكلام بتكراره ، فراجع.

ثم إنه لو كان الدليل الدال على الواقع مفيدا للقطع ، فلا إشكال ، وإلا يقع التعارض بحسب الصورة بين دليل حجية ذلك الدليل ، وبين ما يدل على حكم الشك ، لأن مقتضى دليل حجية الخبر الحاكي عن الواقع وجوب الأخذ بمؤداه في الحال التي عليها المكلف ، وهي حال الشك في الواقع. ومفاد ذلك الخبر حرمة شرب التتن مثلا ، ومقتضى الدليل الدال على حكم الشك في هذا الحال حليته ، وليس بينهما اختلاف الرتبة ، كما كان بين الحكم الواقعي والحكم المتعلق بالشك ، لأن كلا منهما حكم ثانوي مجعول للمكلف في حال الشك في الواقع الأولى.

هذا وقد فرغنا فيما تقدم أيضا عن ورود أدلة حجية الطريق على

٣٤٨

الأصول العملية ، فلا نعيد. ومن أراد فليراجع. واما العام والخاصّ المطلق ، فالتعارض بين مدلوليهما واضح ، لعدم إمكان صدق كليهما.

ومحصل الكلام فيهما انهما على أقسام ، لأنهما إما ان يكونا قطعيي السند ، أو يكونا ظنيين ، أو يكون العام قطعي السند دون الخاصّ ، أو بالعكس. وعلى أي حال إما أن يكون الخاصّ قطعيا من حيث الدلالة ، ومن حيث جهة الصدور ، أو يكون ظنيا من هاتين الجهتين ، أو من إحداهما ، فهنا أقسام لا بد من التعرض لها.

(القسم الأول) ما إذا كان العام مقطوع الصدور ، والخاصّ أيضا مقطوع الصدور والجهة والدلالة ، فلا إشكال في تقديم الخاصّ المذكور على هذا العام ، لأن حجية ظهور العام موقوفة على عدم العلم بالخلاف ، والخاصّ المفروض يوجب العلم بالخلاف ، كما هو واضح.

(القسم الثاني) ما إذا كان العام مقطوع الصدور والخاصّ ظني الصدور فقد اختلفت العلماء في ذلك.

ومن جملة مصاديق هذا القسم تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد ، وهم بين قائل بتخصيص العام به ، وقائل بالعكس ، ومتوقف ، لأن لكل منها جهة رجحان.

وقال شيخنا المرتضى قدس‌سره في وجه التخصيص المذكور ما محصله : (إن دليل اعتبار السند حاكم على أصالة العموم إن بنينا على أن اعتبار الظهور إنما هو من حيث أصالة عدم القرينة ، فان مقتضى دليل اعتبار السند جعل هذا الخاصّ المفروض كونه نصا بمنزلة النص الصادر القطعي ، فالشك ـ في تحقق القرينة الّذي كان موضوعا للأصل المذكور ـ بمنزلة العدم ، بحكم دليل اعتبار السند. وأما إن قلنا بان اعتباره من جهة الظن النوعيّ بإرادة الحقيقة الحاصل من الغلبة أو غيرها ، فالظاهر أن النص وارد عليه مطلقا ، وإن كان ظنيا ، لأن الظاهر أن دليل حجية الظن الحاصل من إرادة الحقيقة الّذي هو مستند أصالة الظهور مقيد بصورة عدم وجود ظن معتبر على خلافه. ويكشف عن ذلك أنا لم نجد

٣٤٩

ولا نجد من أنفسنا موردا يقدم فيه العام من حيث هو على الخاصّ ، وإن فرض كونه أضعف الظنون المعتبرة) انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

أقول وفيما ذكره قدس‌سره نظر. أما أولا فلأنه بناء على اعتبار العموم من باب أصالة عدم القرينة أيضا لو قدمنا الخاصّ ، فلا يكون وجه تقدمه الا الورود ، لعدم تعقل الحكومة في اللبيات ، كما لا يمكن القول بالتخصيص ، فلا بد ان يلتزم القائل ـ بتقدم الخاصّ الظني السند على العام في هذا الفرض ـ بان أصالة عدم القرينة معتبرة ، ما لم يدل دليل معتبر على القرينة ، وان كان غير علمي.

وأما ثانيا فلأنه قدس‌سره وان أصاب فيما أفاد من انه لا نجد من أنفسنا موردا يقدم فيه العام من حيث هو على الخاصّ ، وان كان أضعف الظنون المعتبرة ، ولكنا أيضا لا نجد من أنفسنا كون حجية الظواهر بحسب الشأن والاقتضاء مقيدة بعدم وجود ظن معتبر على خلافها. نعم نرفع اليد عنها في بعض الموارد ، وان لم يعلم بالقرينة ، لكن ليس ذلك من جهة قصورها في الحجية ، بل من جهة تقديم ما هو أقوى منها.

والحاصل أن تقديم الخاصّ الظني على العام ، وإن كان نجده من أنفسنا كما أفاده ، ولكن وجهه ليس ما أفاده قدس‌سره ، كما أنه مما نجده من أنفسنا أيضا. والّذي يخطر بالبال في المقام في وجه التقديم هو أن دليل اعتبار السند يجعل ظهور العموم في الخاصّ بمنزلة معلوم الخلاف ، (١٣٧) فان الأخذ

______________________________________________________

التعادل والترجيح

(١٣٧) لا يخفى أن ذلك التقريب بالاخرة يرجع إلى حكومة دليل اعتبار السند على دليل حجية الظواهر ، كما يظهر بأدنى تأمل وهو ينافي ما أفاده (أعلى الله مقامه) آنفا من عدم تعقّل الحكومة في اللبيات ، فالأولى ما ذكره الشيخ (قدس‌سره) من تقيد الحجية الفعلية للظواهر في نظر العقلاء بعدم وجود حجة معتبرة أقوى منها من حيث الدلالة ، ولو كان سندها أو جهة صدورها مستندا إلى غير العلم ، وهذا معنى الورود. والظاهر عدم الفرق في ذلك بين استنادهم في ذلك إلى أصالة عدم القرينة أو أصالة الظهور ،

٣٥٠

بسند الخاصّ ـ الّذي لا احتمال فيه بعد الأخذ بالسند سوى المعنى الخاصّ الّذي هو في مقابل العام ـ يكون معناه جعل هذا المضمون بمنزلة المعلوم ، فتحصل غاية حجية الظواهر بنفس دليل اعتبار السند ، بخلاف دليل حجية الظاهر ، فانه ليس معناه ابتداء جعل الغاية لحجية خبر الواحد ، بل مقتضاه ابتداء هو العمل بالظاهر ، وأنه مراد من العام.

نعم لازم كونه مرادا من العام عدم كون خبر الدال على خلافه صادرا عن الإمام عليه‌السلام ، إذ المفروض كونه نصا من جميع الجهات ، فدليل حجية السند موضوع محقق في رتبة تعلقها به ، بخلاف دليل حجية الظاهر ، فانه يرد معه ما يرفع موضوع الحجية. ومعلوم أنه إذا كان مع الحكم ما يرتفع به موضوعه ، لا يصح تحقق ذلك الحكم.

وبعبارة أخرى يرفع دليل حجية السند موضوع حجية الظاهر بنفس وجوده ، بخلاف العكس ، فان دليل حجية الظاهر لا يرفع موضوع حجية السند بنفس وجوده ، إذ من الواضح أنه ليس معنى جعل الظاهر مرادا واقعيا هو عدم صدور ذلك الخاصّ من الإمام عليه‌السلام نعم يرفع موضوع حجية السند في الرتبة المتأخرة عن مجيء الحكم ، ففي المرتبة الأولى لا مانع من مجيء دليل اعتبار السند ، لتحقق موضوعه في هذه الرتبة ، فإذا جاء هذا الدليل لتحقق موضوعه ، يرتفع به موضوع ذلك الدليل. فليتدبر جيدا.

ومما ذكرنا يظهر وجه تقدم الخاصّ الّذي يكون نصا في المدلول الاستعمالي ، ولم يكن مقطوعا به من حيث وجه الصدور ، فان ما ذكرنا في تقدم الخاصّ الظني السند جار فيه أيضا. نعم لو كان الخاصّ ظنيا من جهة المدلول الاستعمالي ، لم يجر فيه ما قلناه ، ضرورة كون أصالة الظهور في كل من العام والخاصّ في عرض واحد.

فتحصل مما ذكرنا أن الخاصّ إذا كان نصا في مدلوله الاستعمالي ، فهو

______________________________________________________

فان التقيّد بعدم وجود حجة أقوى حاصل على كلتا الصورتين.

٣٥١

مقدم على العام ، سواء كان مقطوعا من سائر الجهات أو مظنونا أو مختلفا ، وسواء كان العام قطعي الصدور أم لا ، فيبقى الكلام في الخاصّ الظني بحسب الدلالة اللفظية.

فنقول : إن كانا متساويين في الظهور ، فلا إشكال في التوقف ، لأن أصالة ظهور كل منهما معارضة بمثلها ، وإن كان أحدهما أظهر ، ففي تقديم الأظهر ـ وجعله قرينة على صرف الظاهر أو التوقف كالمتساويين ـ إشكال. وما يمكن أن يكون وجها للأول أحد امرين على سبيل منع الخلو.

(أحدهما) ـ ان يدعى أن بناء العرف على تقديم الأقوى عند التعارض ، فلا يكون متحيرا عند تعارض الأمارتين بعد أقوائية إحداهما ، خصوصا إذا كان منشأ الأقوائية ما يكون بنفسه حجة ، كما فيما نحن فيه ، فان منشأ الأقوائية إضافة ظهور هو حجة إلى ظهور آخر. وليس ذلك ببعيد. ولكنه يحتاج إلى تأمل.

(الثاني) ان يقال انا إذا أحرزنا ان المتكلم من عادته ذكر القرائن منفصلة عن كلامه ، بمعنى أنه كثيرا ما يفعل كذلك ، كما هو كذلك في كلمات الأئمة عليهم‌السلام تصير كلماته المنفصلة المنافي بعضها مع بعض بمنزلة المتصل ، (١٣٨) فكما أن اللفظ الّذي يكون أظهر دلالة على معناه من لفظ آخر إذا وقع متصلا بالكلام يكون قرينة صارفة كما في لفظ يرمى بالنسبة إلى الأسد ، كذلك هذا اللفظ إذا وقع منفصلا إذا فهمنا بالفرض أن من عادته أن يؤخر ما يكون صالحا للقرينية في الكلام. نعم فرق بين القرائن المتصلة والمنفصلة من جهة أخرى ، وهي أن الأولى تمنع عن انعقاد الظهور ، ويسرى إجمالها لو كان في الكلام

______________________________________________________

(١٣٨) قد مرّ أن العادة المذكورة لا تضرّ في ظهور اللفظ ، وليس المناط في رفع اليد عن الظهور الأول بالثاني إلا كونه أقوى ، وإلا كان مثل الأول أو أضعف ، أو كان مجملا يلزم أن يوهن الظهور الأول ، مع أنه يعمل بالأول في غير صورة التساوي ، وفيهما يعامل معهما معاملة المتعارضين المتساويين. والحاصل : أن صرف الظهور عن جهة تلك العادة مما لا يقبله الوجدان.

٣٥٢

بخلاف الثانية. هذا وأما الدليلان المتباينان بحسب المدلول فهما على أقسام.

(أحدها) ـ أن يكونا نصين في تمام مدلوليهما. والثاني ـ أن يكونا ظاهرين ، وهو على قسمين : (أحدهما) أن يكون لهما قدر متيقن ، بحيث لو فرض صدورهما تعين الأخذ به. و (الثاني) : أن لا يكون لهما قدر متيقن في البين أصلا. والأول منهما أيضا على قسمين (أحدهما) ـ أن القدر المتيقن المفروض إنما فهم من نفس الدليلين. و (الثاني) ـ أنه علم من الخارج ، فهذه أربعة أقسام.

لا إشكال في عدم إمكان الجمع إذا كانا نصين ، كما أنه لا إشكال في عدم إمكان الجمع أيضا إذا كانا ظاهرين في تمام مدلولهما ، فهذان القسمان داخلان في الخبرين المتعارضين ، ويعامل معهما معاملة التعارض ، من ملاحظة الترجيح في السند أو التخيير ، على التفصيل الّذي يأتي إن شاء الله. ولو كان كل منهما نصا في مقدار من مدلولهما ، وظاهرا في الآخر ، فمقتضى ما ذكرنا ـ في وجه تقديم الخاصّ المظنون السند على العام هو الأخذ بالنص في كلا الدليلين هنا وإلغاء الظاهر فيهما ، تحكيما للنص في كل منهما على الظاهر في الآخر. ولا فرق في ذلك بين كونهما مقطوعي السند ، أو مظنوني السند بالظن المعتبر ، أو كان أحدهما مقطوع السند والآخر مظنونا بالظن المعتبر.

أما في الأول فظاهر. وأما في الثالث فلوقوع التعارض بين ظهور الخبر المقطوع الصدور وسند الآخر. وما ذكرناه من الوجه في تقديم الخاصّ المعتبر على العام جار هنا بعينه.

واما في الثاني ، فلعدم كون المدلول مشمولا لدليل الاعتبار ، إلا بعد الفراغ عن اعتبار السند ، فيشمل دليل الاعتبار كلا السندين من دون معارض ، لأن ما يتوهم أن يكون معارضا للسند دليل اعتبار الظهور في الآخر. وظاهر أنه غير مشمول لدليل الحجية قبل الفراغ من اعتبار سنده. فالواجب أن يفرض السندان مقطوعي الصدور بمقتضى دليل الاعتبار الخالي عن المعارض ، كما عرفت ، ثم الأخذ بنص كل منهما وتحكيمه على ظاهر الآخر.

٣٥٣

وبعبارة أخرى قبل الأخذ بالسندين ليس المدلولان مشمولين لدليل الاعتبار ، وبعد الأخذ بهما لا مناص إلا الأخذ بنص كل منهما وطرح ظاهر الآخر. وبهذا البيان تعرف الحال في القسم الأخير أيضا ، وهو ما إذا كان لكل منهما على فرض الصدور قدر متيقن علم من الخارج ، لا بحسب مدلول القضية ، فان ما ذكرناه في السابق جار هنا أيضا.

والحاصل أن ميزان الجمع هو أن يكون الدليلان ـ بحيث لو فرض صدورهما ـ لم يكن تحير في مدلولهما. وقد يقال بالفرق بين القسمين الأخيرين :

بالالتزام بالجمع بين المدلولين في الأول ، ومعاملة المتعارضين في الثاني ، بملاحظة أن ثبوت المتيقن في كل من الدليلين من الخارج لا يخرجهما عن المتعارضين عرفا ، إذ ليس هذا الجمع هو الجمع المقبول عند العرف.

وفيه أن المراد من الجمع العرفي إن كان ارتفاع التعارض بينهما عرفا ، على فرض الصدور ، كما هو الحال في المخصص المتصل ، فظاهر أن هذا المعنى في القسم الأول أيضا مفقود ، بل ليس ذلك في العموم والخصوص المطلق المنفصل أيضا ، إذ ليس حال المخصص المنفصل كالمتصل في كونه موجبا لانعقاد ظهور آخر للكلام ، وإن كان المراد أن العرف ـ بعد فرض صدور الدليلين ـ لم يكن متحيرا في الأخذ بمدلولهما ، فالقسمان متساويان في ذلك. فثبت مما ذكرنا أن المتباينين ـ لو كان لكل منهما على فرض الصدور مقدار متيقن ، ولو علم ذلك من خارج اللفظ ـ لزم الأخذ بهما باتباع المتيقن منهما ، وطرح غيره في كليهما. وقال شيخ أساتيذنا العظام شيخنا المرتضى قدس‌سره في رسالة التعادل والترجيح بانحصار الجمع بين الدليلين ، فيما إذا كان مستلزما للتصرف في أحدهما ، كالعام والخاصّ والمطلق والمقيد ، دون ما كان مستلزما للتصرف في كليهما.

وحاصل ما أفاده قدس‌سره في وجه ذلك : أن أحد الدليلين مقطوع الاعتبار ، فيقع التعارض بين ظاهره وبين سند الآخر. ولا ترجيح لأخذ السند وطرح الظاهر.

٣٥٤

أقول ـ بعد تسليم كون أحد السندين مقطوع الاعتبار ـ فالوجه في تقديم سند الآخر على ظاهر ما فرض القطع باعتباره ما قلناه في تقديم سند الخاصّ على ظهور العام ، مضافا إلى منع حجية أحد السندين ، لأن حجيته في المدلول التعييني ترجيح بلا مرجح ، وحجية الأخذ بالمبهم لا معنى لها ، فيما إذا لم يكن هناك ثالث ، كما إذا قام الخبران على طرفي نقيض.

فان قلت : ان أحد الخبرين حجة بالإجماع ، لعدم القول بجواز طرحهما بين العلماء قدس‌سرهم ، لأنهم بين من يجمع المدلولين ، وبين من يأخذ بالترجيح لو كان ، وإلّا فالتخيير ، وبين من يحكم بالتخيير مطلقا.

قلت مدارك الأقوال المذكورة معلومة ، فمن اختار أحد المدارك المذكورة يلزمه حكمه ، فلم يبق له مجال للقول بحجية أحد الخبرين على سبيل الإبهام ، وتعارض ظهوره مع سند الآخر. ومن لم يختر أحد المدارك المذكورة ، فلا دليل له على حجية أحد الخبرين في مقام التعارض ، لا تعيينا ولا تخييرا ، ولا على سبيل الإبهام.

فان قلت إذا منعت حجية الواحد على سبيل الإبهام ، فبم يحكم بانتفاء الثالث فيما إذا كان لهما ثالث؟

قلت نفى الثالث لا يتوقف على حجية أحد الخبرين في المدلول المطابقي ، إذ كون دلالة اللفظ على اللازم ـ متفرعة على دلالته على الملزوم ـ لا يلازم كون حجية حكاية اللفظ عن اللازم متفرعة على حجية حكايته عن الملزوم ، إذ هما فردان من الكشف الحاصل من نقل الثقة ، فيشملهما دليل الاعتبار في عرض واحد ، ولو منع أحدهما مانع ليس في الآخر ، فلا وجه لسقوط دليل الاعتبار بالنسبة إلى ما ليس له مانع. (١٣٩)

______________________________________________________

(١٣٩) توضيح ذلك : ان دليل الاعتبار معناه حقيقة جعل إيجاب العمل على طبق مضمون الأمارة كالواقع ، فيجب ترتيب جميع آثار الواقع من المؤدّى ولوازمه في عرض واحد ، لأن جعل الحكم للملزوم ملازم لجعله للازم ، ولا ينفك عنه وجودا

٣٥٥

ومما ذكرنا يظهر أن ما اشتهر بينهم ـ من أن الجمع بين الدليلين مهما أمكن أولى من الطرح ـ إن كان المراد الإمكان العرفي ، فهو صحيح ، وينحصر مورده فيما إذا فرض صدور كلا الدليلين ولم يتحير العرف في المراد ، سواء كانا من قبيل العموم والخصوص أم غيره ، كما عرفت. وإن كان المراد غير ذلك ، فلا دليل عليه.

ثم إن الشهيد الثاني قدس‌سره ـ على ما حكى عنه في تمهيده ـ فرع على قضية أولوية الجمع الحكم بتنصيف دار تداعياها ، وهي في يدهما ، أولا يد لأحدهما ، وأقاما بينة انتهى.

وفي كون أول المثالين من فروع القاعدة ما لا يخفى ، لأن بينة كل منهما إنما هي معتبرة في النصف ، سواء حكمنا بتقديم بينة الداخل أو الخارج ، فالحكم بالتنصيف مقتضى حجية بينة كل منهما في النصف ، لا مقتضى الجمع. نعم يمكن أن يكون الثاني متفرعا على القاعدة ، وان كان للنظر فيه أيضا مجال ، حيث أنه يمكن أن يقال : إن الحكم بالتنصيف من جهة تساقط البينتين من الطرفين ، كما إذا لم تكن بينة في البين ، وتحالفا أو تناكلا.

وكيف كان فالذي ينبغي أن يقال في المقام : أن الجمع بين الدليلين في الاخبار الحاكية عن قول الإمام عليه‌السلام يتصور على وجهين :

أحدهما ـ التصرف في أحد الدليلين أو في كليهما على وجه يرتفع التنافي ، والثاني الأخذ ببعض المفاد من كل منهما أو من أحدهما. وذلك

______________________________________________________

وعدما وأما جعل الحكم للازم فليس ملازما لجعله للملزوم ، ولذا قد ينفك عنه ، كما في الأصول. وأيضا قد لا يكون في الملزوم أثر أصلا ، وينحصر اثره في اللازم ، كما إذا لم يكن لما أخبر به العادل مطابقة أثر شرعي أصلا ، لكن يؤدّي إليه بالملازمة ، فانه لا إشكال في وجوب العمل عليه ، وكذلك فيما يكون في المدلول المطابقي مانع لذلك الجعل من معارضة كانتفاء القدرة ، كما في المقام أو شيء آخر مثلا ، يبقى الجعل في المدلول الالتزامي بلا مانع.

٣٥٦

فيما لم يتطرق إليه التوجيه والحمل ، كالنصين. وأما الجمع بين مفاد قولي الشاهدين ، فينحصر في الثاني. أما إذا كان القولان نصين ، فواضح وأما إذا كانا ظاهرين أو أحدهما ظاهرا والآخر نصا ، فلان الجمع بهذا المعنى يتجه فيما إذا كان المتكلم واحدا أو في حكم الواحد (١٤٠) واما في صورة تعدد المتكلم ، فلا وجه للتصرف في ظاهر كلام أحدهما ، لنصوصية كلام الآخر أو أظهريته.

إذا عرفت هذا فنقول إن سلمنا كون القاعدة المعروفة موردا للإجماع ، فلا محيص في أمثال المقام من الأخذ بمفاد بعض قول كل منهما ، وطرح البعض الآخر ، لأن طريق الجمع منحصر في ذلك. ولا بد من الجمع بحكم القاعدة المفروض كونها إجماعية؟ وان لم نقل بذلك ـ كما هو الحق ، وقلنا بعدم الدليل على ذلك إلا في الدليلين اللذين لم يتحير العرف في استكشاف المراد منهما ، بعد فرض صدورهما ـ فاللازم التمسك بدليل آخر في أمثال المقام.

والّذي يمكن أن يكون وجها للحكم بالتنصيف في المسألة المذكورة ونظائرها ، هو أنا نعلم بوجوب فصل الخصومة على الحاكم. ولا وجه لأن يحكم لأحدهما على الآخر ، فالحكم بالعدل عرفا أن يحكم بالتنصيف.

ويمكن أن يستظهر ذلك أيضا من الرواية الواردة في الدرهم ، إلا أن يقال ان الحكم الوارد في الدرهم قضية في واقعة ، ولا يستكشف منها عموم الحكم لكل مال مردد بين اثنين. والوجه الأول لا بأس به ، إذا لم يكن في البين طريق شرعي لتعيين الواقع. وقد جعل الشارع القرعة لكل امر مشكل ، والمسألة محتاجة إلى مزيد تأمل.

ثم إنك قد عرفت مما مضى أن الجمع بين الدليلين ـ فيما إذا لم يكن

______________________________________________________

(١٤٠) وذلك لأن المفروض أن الجمع ـ بين كلامين من متكلم واحد ، بحيث يكشفان عما في ضميره ـ غير ممكن بحسب الإرادة ، ففي الحقيقة يكون ذلك كالقرينة عند العرف على إرادة بعض مدلول كلامه ، بخلاف ما إذا كان الكلام من متكلمين ، فانه لا مانع من إرادة كل منهما تمام مدلول كلامه ، كما هو واضح.

٣٥٧

العرف متحيرا في المراد ، بعد فرض صدور كليهما ـ أولى من طرح أحدهما والتخيير بينهما. وأما فيما إذا كان متحيرا على فرض الصدور ، فلا دليل على الجمع ، ولا يصح. وعلى هذا لا بد من التكلم فيما إذا تعارض الخبران ولم يمكن الجمع بينهما عرفا على نحو ما ذكرنا.

والكلام فيه يقع في مقامين : (الأول) فيما إذا كان الخبران متكافئين ، ولا مرجح لأحدهما على الآخر. (الثاني) فيما إذا كان لأحدهما مرجح على الآخر.

أما الكلام في المقام الأول ، فيقع في مقامين أيضا (أحدهما) ـ فيما تقتضيه القاعدة ، مع قطع النّظر عن الاخبار الواردة في الباب. والثاني فيما تقتضيه الاخبار.

أما الكلام في الخبرين المتكافئين على حسب ما تقتضيه القاعدة ، فمحصله أن حجية الخبر إما أن تكون من باب السببية ، وإما من باب الطريقية ، فان قلنا بالثاني ، فمقتضى القاعدة التوقف فيما يختص كل من الخبرين به من المضمون ، والأخذ بما يشتركان فيه. مثلا لو قام دليل على وجوب صلاة الظهر ، ودليل آخر على وجوب صلاة الجمعة ، فمقتضى القاعدة التوقف في الحكم الخاصّ المدلول لكل منهما بالخصوص ، والحكم بثبوت أحد المدلولين واقعا. وفائدته نفى الثالث ، فهنا دعويان :

إحداهما ـ لزوم التوقف في المدلول المختص لكل منهما. والثانية ـ لزوم الحكم بأحد المدلولين اللازم منه نفى الثالث. والدليل على الأولى منهما أمر ان (أحدهما) بناء العرف والعقلاء ، فإنا نراهم متوقفين عند تعارض طرقهم المعمول بها عندهم ، فان من أراد الذهاب إلى بغداد مثلا ، واختلف قول الثقات في تعيين الطريق إليه ، يتوقف عند ذلك ، حتى يتبين له الأمر. وهذا واضح من طريقتهم.

(الثاني) ـ أنه قد تحقق أن فائدة سلوك الطرق المجعولة هو تنجيز الواقع فيما لو كان هناك واقع مطابق لمؤداها ، وإسقاطه فيما لو كان هناك واقع على خلاف

٣٥٨

مؤداها ، ففيما إذا تعارض الخبران ، فالخبر الدال على الوجوب يقتضى تنجيزه لو كان ، والخبر الدال على الإباحة يقتضى إسقاطه كذلك ، وهكذا. ومقتضى ذلك سقوط كليهما عن الأثر. وهذا معنى سقوطهما عن الحجية.

هذا على تقدير القول بأن أدلة حجية الخبر تدل على حجيته من حيث هو ، مع قطع النّظر عن حال التعارض ، لا بمعنى تقييده بعدم التعارض ، حتى يخرج المقام عن تعارض الحجتين ، بل بمعنى عدم ملاحظة حال التعارض لا إطلاقا ولا تقييدا ، كما هو الظاهر من الأدلة.

وأما ان قلنا بإطلاق دليل الحجية لحال التعارض ، فلا وجه للتوقف ، بل الوجه ـ على هذا ـ هو التخيير ، لأن جعل الخبرين حجة حال التعارض لا معنى له إلا التخيير. ولا يتوهم أنه على هذا يلزم استعمال اللفظ في معنيين : حجية الخبر تعيينا في غير مورد التعارض ، وتخييرا فيه ، لأن استفادة التخيير هنا ليست من المدلول اللفظي ، بل هي من القرينة الخارجية ، فلا تغفل. هذا. ولكن الّذي يسهل الخطب عدم ظهور أدلة حجية الخبر في هذا الإطلاق كما لا يخفى.

فان قلت على تقدير تسليم عموم دليل الحجية لكل منهما ، يستكشف منه وجود المصلحة الطريقية في كل منهما تعيينا ، وعلى هذا. فمقتضى القاعدة التخيير لا التوقف ، كما هو الحال في الواجبين المتزاحمين اللذين استكشف وجود المصلحة التامة في كل منهما تعيينا.

قلت فرق بين المقام وبين تزاحم الواجبين ، إذ في الثاني قد علمنا باشتمال كل منهما على غرض من الشارع لازم الحصول ، وحيث لا يمكن الجمع ، فالعقل يحكم بوجوب تحصيل أحدهما ، لأنه مقدور. وفيما نحن فيه ليس كل من الطريقين مشتملا على غرض مستقل للشارع ، بل المقصود الأصلي هو الواقع. وقد علمنا بمخالفة أحدهما للواقع الّذي هو المقصود الأصلي للأمر ، فما هو مخالف للواقع قطعا ليس فيه مصلحة الطريقية أصلا. وحيث أن أحدهما المقطوع مخالفته للواقع ليس فيه مصلحة الطريقية ، فلا سبيل إلى الحكم بالحجية في المقام ، لا تعيينا ولا تخييرا ، مع قطع النّظر عن الأدلة الأخر المتكفلة لحال

٣٥٩

الخبرين المتعارضين. أما الأول فواضح ، لأن حجية كليهما غير ممكن ، وحجية أحدهما المعين دون الآخر ترجيح من غير مرجح ، إذ المفروض اجتماع شرائط الحجية في كليهما من دون تفاوت. وحجية أحدهما على التخيير ، تحتاج إلى دليل نقلي أو عقلي.

أما العقل فحكمه بالتخيير موقوف على وجود المصلحة في كل واحد منهما تعيينا ، حتى في حال التعارض. وقد عرفت عدم قابلية ما هو معلوم المخالفة للحجية.

وأما النقل فلا يدل على التخيير أيضا ، لما عرفت من أن دليل حجية الاخبار متكفل لحجيتها على التعيين في حد ذاته. وأما الأدلة الواردة لعلاج المتعارضين ، فهي وان كانت تدل على التخيير ، لكن الكلام هنا مع قطع النّظر عنها.

وأما الدليل على الثانية فهو أن حجية الخبر إنما هي من باب كشفه نوعا عن الواقع ، فالدليل المثبت لحجيته يوجب الأخذ بالكشف الحاصل منه ، لا أن معناه وجوب الأخذ بمؤدى قول العادل مثلا ، ولو لم يكن كذلك لكان الواجب الاقتصار على ما كان مدلولا لفظيا له ، ولم يكن وجه للأخذ بلوازمه وملزوماته وملازماته ، كما كان الأمر كذلك في الأصول العملية. والوجه في الأخذ بها ليس إلا ما ذكرنا ، وهو أن معنى حجية الطريق جعل الكشف الحاصل منه بمنزلة العلم. ولا ريب أنه إذا قام طريق على ثبوت الملزوم ، يحصل به الكشف عن اللازم ، كما حصل به الكشف عن ثبوت الملزوم. وكذا العكس ، وهكذا إذا قام طريق على أحد المتلازمين ، فالدليل الدال على حجية ذلك الكشف ، يدل على حجية الجميع في عرض واحد ، وان كان بعضه مرتبا على بعض في مرحلة الوجود.

إذا عرفت ذلك فنقول إن دل خبر على وجوب الظهر مثلا ، فقد حصل منه الكشف عما دل عليه بالمطابقة ، وهو وجوب صلاة الظهر ، وحصل منه الكشف أيضا عن لازمه الأعم ، أعنى عدم براءة ذمة المكلف عن تكليف إلزاميّ ،

٣٦٠