إفاضة العوائد - ج ٢

آية الله السيّد محمّد رضا الگلپايگاني

إفاضة العوائد - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد رضا الگلپايگاني


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٠
الجزء ١ الجزء ٢

من الغاية فلا.

توضيح ذلك : أن قوله عليه‌السلام : (كل شيء طاهر) ـ مع قطع النّظر عن الغاية ـ بعمومه يدل على طهارة الأشياء بعناوينها الواقعية ، كالماء والتراب وغيرهما ، فيكون دليلا اجتهاديا على طهارة الأشياء ، وبإطلاقه ـ بحسب حالات الشيء التي منها حالة كونه بحيث يشتبه طهارته ونجاسته بالشبهة الحكمية أو الموضوعية ـ يدل على قاعدة الطهارة فيما اشتبهت طهارته كذلك.

وأن أبيت إلا عن عدم شمول إطلاقه لمثل هذه الحالة التي هي في الحقيقة ليست من حالاته ، بل من حالات المكلف ، وان كانت لها إضافة إليه ، فهو بعمومه ـ لما اشتبهت طهارته بشبهة لازمة له لا تنفك عنه أبدا ، كما في بعض الشبهات الحكمية والموضوعية ـ يدل بضميمة عدم الفصل بينه وبين سائر المشتبهات على طهارتها كلها ، وإلا يلزم تخصيصه بلا مخصص ، ضرورة صدق عنوان الشيء على هذا المشتبه ، كسائر الأشياء ، بلا تفاوت أصلا ، كما لا يخفى.

وليس التمسك به ـ فيما اشتبهت طهارته موضوعا ـ تمسكا بالعامّ في الشبهة المصداقية ، لأن التمسك به إنما هو لأجل دلالته على القاعدة وحكم المشكوك على ما عرفت ، لا لأجل دلالته على حكم الشيء بعنوانه الواقعي ، كي يلزم تخصيصه من هذه الحيثية بنجاسة بعض العناوين أو بعض الحالات. ولا منافاة بين جواز التمسك به للحكم بطهارة المشتبه من جهة وعدم جوازه من جهة أخرى كما لا يخفى.

ولا ضير في اختلاف الحكم بالنسبة إلى افراد العام ، وصيرورته ظاهريا بالنسبة إلى بعضها ، وواقعيا بالإضافة إلى بعضها الآخر ، لأن الاختلاف بذلك إنما هو من اختلاف افراد الموضوع ، لا من جهة الاختلاف في معنى المحكوم ، بل هو ـ بالمعنى الواحد والمفهوم الفارد ـ يحمل على ما هو واحد يعم تلك الافراد على اختلافها ، كما هو واضح من ان يخفى. فلا مجال لتوهم لزوم استعمال اللفظ في معنيين من ذلك أصلا ، فعلى ذلك يكون دليلا بعمومه على طهارة الأشياء بما هي بعناوينها ، وبما هي مشتبه حكمها مطلقا ، بضميمة عدم الفصل في المشتبهات بين ما يلزمه الاشتباه ، وبين ما لا يلزمه الاشتباه ، فلا حاجة في دلالته

٢٤١

على قاعدة الطهارة إلى ملاحظة الغاية. نعم بملاحظتها يدل على الاستصحاب.

(بيانه) ان قضية جعل العلم ـ بالقذارة التي تنافي الطهارة ـ غاية لها في الرواية هي بقاؤها واستمرارها ، ما لم يعلم بالقذارة ، كما هو الشأن في كل غاية ، غاية الأمر أن قضيتها لو كانت من الأمور الواقعية هو استمرار المغيا وبقاؤه واقعا إلى زمان تحققها ، ويكون الدليل عليها دليلا اجتهاديا على البقاء ولو كانت هي العلم بانتفاء المغيا هو بقاؤه واستمراره تعبدا. إلى زمان حصولها ، كما هو الحال في الغاية هاهنا ، فيكون بملاحظتها دليلا على استمرار الطهارة تعبدا ، ما لم يعلم بانتفائها ، ولا نعنى بالاستصحاب إلا ذلك كما لا يخفى.

فدل بما فيه من الغاية والمغيا على ثبوت الطهارة واقعا وظاهرا على ما عرفت على اختلاف افراد العام ، وعلى بقائها تعبدا عند الشك في البقاء ، من دون لزوم محذور استعمال اللفظ في معنيين ، إذ منشأ توهم لزومه ليس إلّا توهم أن إرادة ذلك من قوله : (كل شيء طاهر) لا يكاد أن يكون إلّا بإرادة الحكم على كل شيء بثبوت أصل الطهارة ، ما لم تعلم قذارته ، والحكم باستمرار طهارته المفروغ عنها أيضا ما لم تعلم قذارته ، باستعمال لفظ طاهر وإرادة كلا الحكمين منه.

وقد عرفت أن استفادة مفاد القاعدة من إطلاقه أو عمومه بضميمة عدم الفصل ، من غير حاجة إلى ملاحظة الغاية. واستفادة مفاد الاستصحاب من الغاية ، من جهة دلالتها على استمرار المغيا ، كما هو شأن كل غاية ، إلا أنها لما كانت هو العلم بانتفاء المغيا ، كان مفاده استمراره تعبدا ، كما هو الشأن في كل مقام جعل ذلك غاية للحكم ، من غير حاجة في استفادته إلى إرادته من اللفظ الدال على المغيا ، وإلّا يلزم ذلك في كل غاية ومغيا ، كما لا يخفى. مثلا : (الماء طاهر حتى يلاقي النجس) لا بد أن يراد منها على هذا طاهر بمعنى ثبوت الطهارة ، ومعنى استمراره كليهما ، مع أنه ليس بلازم لاستفادة الاستمرار من نفس الغاية ، كما لا يخفى. فلم لا يكون الحال في هذه الغاية على هذا المنوال. انتهى موضع الحاجة من كلامه دام بقاؤه (١).

٢٤٢

أقول : وفيه (أولا) ـ أن الجمع ـ بين الحكم بطهارة الأشياء بعناوينها الأولية وعنوان كونها مشكوكة الطهارة ـ لا يمكن في إنشاء واحد ، ضرورة تأخر رتبة الثاني عن الأول ، ولا يمكن ملاحظة موضوع الحكم الثاني في عرض موضوع الحكم الأول. وهذا واضح.

وأيضا على فرض تسليم الجمع يصير الحكم المجعول بملاحظة الشك لغوا ، لأن هذه القضية الجامعة لكلا الحكمين متى وصلت إلى المكلف ، يرتفع شكه ، من جهة اشتمالها على الحكم بطهارة جميع الأشياء بعناوينها الأولية ، فلا يبقى له شك ، حتى يحتاج إلى العمل بالحكم الوارد على الشك.

اللهم إلا أن تحمل القضية على الاخبار والحكاية عن الواقع ، دون الإنشاء. وعلى هذا يرتفع الإشكالان ، لأنه إذا فرض أن الشارع حكم على بعض الأشياء بعناوينها الأولية بالطهارة ، وعلى بعض آخر بعنوان أنه مشكوك فيه أيضا ، يصح أن يقول واحد في مقام الحكاية : كل شيء طاهر عند الشرع إما بالطهارة الواقعية وإما بالطهارة الظاهرية.

هذا. ولكنه لا يدل على أن المحكوم بالطهارة ما هو ، حتى يكون دليلا اجتهاديا على طهارة الأشياء بعناوينها الأولية ، كما نصّ عليه كلامه المحكي ، فيظهر أن ما قلناه في مقام التوجيه لا ينطبق على المستفاد من كلامه «دام بقاؤه».

ان مقتضى الغاية المذكورة في القضية أن الحكم فيها إنما هو ثابت في ما قبل الغاية ، وهو زمان عدم العلم بالقذارة ، وهذا الحكم الثابت للأشياء في زمان عدم العلم بالقذارة عبارة عن قاعدة الطهارة ، فأين حكم الاستصحاب الّذي هو عبارة عن إبقاء الشيء الموجود سابقا في حال طرو الشك ، والشيء الّذي فرضناه موجودا بهذه الرواية هو طهارة الأشياء في حال عدم العلم ، وهو حال الشك ، وبقاؤها ببقاء الشك ليس استصحابا قطعا ، لأن مقتضى الحكم المعلق على موضوع بقاؤه ببقائه ، ومن الموضوعات الشك ، وإذا أريد إفادة الاستصحاب ، فاللازم فرض شك آخر طارئ على هذا الحكم المتعلق بموضوع الشك ، والحكم ببقائه في حال ذلك الشك الطارئ ، كما إذا شك في ان هذا

٢٤٣

الحكم المتعلق بالشك هل نسخ أم لا؟ مثلا.

والحاصل : أنه لا ينبغي الشك في عدم إمكان الجمع بين القاعدة والاستصحاب في قضية واحدة ، بعد ملاحظة ما ذكرنا. وعليك بالتأمل والتدبر ، لئلا يشتبه عليك الحال.

الكلي

الأمر الثالث أن المتيقن السابق في استصحاب الكلي قد يكون جزئيا ، وقد يكون كليا ، والشك في بقاء الكلي (تارة) من جهة الشك في بقاء الفرد الّذي علم تحققه فيه ، و (أخرى) من جهة الشك في تعيين الفرد المتحقق في ذلك الكلي ، وتردده بين ما هو باق جزما ، وبين ما هو مرتفع ، و (ثالثة) من جهة الشك في وجود فرد آخر مع الفرد المتيقن أولا ، أو مقارنا لارتفاعه ، بحيث يحتمل عدم ارتفاع الكلي ، فان كان الشك في بقاء الكلي من جهة الشك في بقاء الفرد المعين كالمثال الأول ، فلا إشكال في جواز استصحاب الكلي إن كان ذا أثر شرعي ، ولا يغنى عن استصحاب الفرد ، وان كان بقاؤه مستلزما لبقاء ذلك الفرد ، فلو كان الفرد ذا أثر شرعي يجري فيه الاستصحاب مستقلا. وهل يغنى استصحابه عن استصحاب الكلي ، بحيث يترتب على الاستصحاب الجاري في الفرد أثر الفرد والكلي أم لا؟ وجهان من حيث أن الفرد عين الكلي في الخارج ، والأثر المترتب على الكلي سار في الفرد من جهة الاتحاد والعينية ، فالفرد مجمع لأثرين : (أحدهما) من جهة الكلي ، و (الثاني) من جهة نفسه. ومن حيث تغايره مع الكلي عند التعقل ، ولكل منهما أثر يمكن سلبه عن الآخر ، وان كانا متحدين في الخارج.

(مثلا) لو فرض أن وجود الإنسان في الدار يكون موضوعا لوجوب الصلاة ركعتين ، ووجود زيد يكون موضوعا لوجوب التصدق بدرهم ، يصح أن يقال : إن وجوب الصلاة ليس أثرا لزيد ، بل هو أثر لوجود الإنسان ، وكذلك يصح أن يقال : إن وجوب التصدق ليس أثر ، بل هو أثر لوجود زيد. وحينئذ نقول :

٢٤٤

إن إجراء الاستصحاب بالنسبة إلى زيد ـ لو شك في بقائه ـ لا يوجب إلّا ترتب الأثر المختص بزيد ، لا ما هو مترتب على حقيقة الإنسان ، كما في العكس.

وان كان الشك من جهة الشك في تعيين الفرد ، فهو على قسمين ، لأن الشك فيه إما راجع إلى الشك في المقتضى ـ كما لو كان الموجود أولا حيوانا مرددا بين ما يعيش ثلاثة أيام أو سنة ، فإذا مضى ثلاثة أيام يشك في بقاء ذلك الحيوان ـ واما راجع إلى الشك في الرافع ، كما لو خرجت منه رطوبة مرددة بين البول والمني ، ثم توضأ فيشك في بقاء حدثه وارتفاعه بواسطة الوضوء.

هذا إن قلنا بان الحدث الجامع بين الأكبر والأصغر موضوع لأثر شرعي ، وهو عدم جواز الدخول في الصلاة. وأما إن قلنا ان الموضوع للأثر خصوص الحالتين اللتين توجدان مع البول والمني ، إحداهما توجب المنع من الدخول في الصلاة إلا بالوضوء ، والأخرى توجب المنع إلا بالغسل. فالمثال الّذي ذكرناه أخيرا ليس من موارد استصحاب الكلي.

وكيف كان فالحق جواز استصحاب الكلي في كلا القسمين ان كان له أثر شرعا ، لعدم المانع إلا على مذاق من يذهب إلى اختصاص مورده بالشك في الرافع ، فمنع جريانه في القسم الأول. وقد عرفت أن التحقيق خلافه. نعم منع بعض علماء العصر ـ دام ظله ـ جريان هذا النحو من الاستصحاب مطلقا في حاشيته التي علقها على مكاسب شيخنا المرتضى قدس‌سره.

وحاصل ما أفاده هناك أن الشك في بقاء الكلي مسبب عن الشك في وجود الفرد الطويل ، وحيث ان مقتضى الأصل عدمه ، فلا يبقى شك في بقاء الكلي. ثم أورد على نفسه بان أصالة عدم وجود الفرد الطويل معارض بأصالة عدم وجود الفرد القصير ، وأجاب بأنه ليس في طرف القصير أصل حتى يعارض ذلك الأصل ، لعدم الأثر الشرعي للأصل الجاري في طرف القصير.

هذا. وفيه (أولا) ـ أن تقدم الأصل الجاري في السبب على المسبب إنما يكون فيما إذا كان الترتب شرعيا ، كالأصل الجاري في الماء بالنسبة إلى الثوب

٢٤٥

المغسول به ، فان غسل الثوب بالماء الطاهر شرعا يوجب طهارة الثوب شرعا ، بخلاف ترتب عدم الكلي على عدم الفرد في المثال ، فانه من جهة العلم بانحصار الموجود في فرد واحد وانه على تقدير عدم وجود الطويل وجد القصير وارتفع.

و (ثانيا) ـ ان عدم جريان الأصل في القصير مطلقا لا وجه له ، لأنه ان كان المراد انه مقطوع العدم في زمان الشك في بقاء الكلي ، فلا يقدح هذا القطع ، لأن ملاك المعارضة وجود الأصلين المتعارضين في زمان ، وإن انتفى مورد أحدهما فيما بعد ذلك ، كما لو خرج أحد أطراف الشبهة المحصورة ـ بعد تعارض الأصلين ـ عن محل الابتلاء. وإن كان المراد عدم جريان الأصل في القصير أصلا ، فهو لا يصح على الإطلاق. وانما يصح فيما إذا كان أثر الفرد القصير أقل من أثر الفرد الطويل ، كما إذا لم يعلم أن الثوب تنجس بالدم أو بالبول ، وقلنا انه في الأول يكفى الغسل مرة ، وفي الثاني يجب مرتين ، فان وجوب الغسل مرة مما يقطع به ، فلا يجوز استصحاب عدم تنجسه بالدم ، لنفي اثره. واما إذا لم يكن كذلك ، كما لو كانا متباينين في الأثر ، فلا وجه للقول بعدم جريان الاستصحاب في الفرد القصير ، فليتدبر جيدا.

ثم إنك قد عرفت أن إجراء الأصل في الكلي لا يثبت الفرد ، وان كان ملازما له ، لأن هذه الملازمة ليست بشرعية. وحينئذ فلو كان للفرد أثر خاص ينفى بالأصل ، إلا إذا كان للفرد الآخر أيضا أثر خاص ، فيتعارض الأصلان. وكذا لو علم ان الحكم ببقاء الكلي في الأثر ، والحكم بعدم الفرد كذلك مما لا يجتمعان في مرحلة الظاهر أيضا ـ وإن كان الشك من جهة وجود الفرد الآخر مع المتيقن أو مقارنا لارتفاعه ، ففي جريان الاستصحاب في الجامع بين الفردين المحتمل بقاؤه بقيام الفرد الآخر مقام المتيقن وجوه :

(ثالثها) ـ التفصيل بين القسمين المذكورين ، فيجري في الأول منهما ، نظرا إلى احتمال بقاء الكلي بعين ما وجد أولا ، دون الثاني ، للقطع بعدم بقائه كذلك ، كما ذهب إليه شيخنا المرتضى قدس‌سره واختار شيخنا الأستاذ دام بقاؤه عدم الجريان مطلقا.

٢٤٦

قال في تقريب ذلك : إن وجود الطبيعي وإن كان بوجود فرده ، إلا أن وجوده في ضمن افراد متعددة ليس نحو وجود واحد له ، بل وجود كل فرد منه نحو وجود له عقلا وعرفا ، كما إذا شك أنه في الزمان الأول كان موجودا بوجود واحد أو وجودين ، وفي ضمن فرد أو فردين ، لم يكن الشك في نحو وجوده ، بل الشك في وجوده بنحو آخر غير ما علم من نحو وجوده ، فما علم من وجوده فقد علم ارتفاعه. وما شك فيه فقد شك في أصل حدوثه ، فاختل أحد ركني الاستصحاب فيه على كل حال. ومنه يظهر الحال في القسم الثاني ، بل الأمر فيه أظهر. انتهى كلامه دام بقاؤه.

أقول : لو جعلت الطبيعة ـ باعتبار صرف الوجود ، مع قطع النّظر عن خصوصياته الشخصية ـ موضوعا للحكم ، كما أوضحنا ذلك في مسألة اجتماع الأمر والنهي ، فلا إشكال في أن هذا المعنى لا يرتفع إلّا بانعدام تمام الوجودات الخاصة في زمن من الأزمنة اللاحقة ، لأنه في مقابل العدم المطلق ، ولا يصدق هذا العدم الا بعد انعدام الوجودات. وحينئذ لو شك في وجود الفرد الآخر مع ذلك الموجود المتيقن ، واحتمل بقاؤه بعد ارتفاع الفرد المعلوم ، فمورد استصحاب الجامع. ـ بملاحظة صرف الوجود ـ متحقق ، من دون اختلال أحد ركنيه ، فان اليقين بصرف وجود الطبيعة غير قابل للإنكار ، وكذلك الشك في بقاء هذا المعنى ، لأن لازم الشك في كون فرد في الآن اللاحق الشك في تحقق صرف الوجود فيه ، وهو على تقدير تحققه في نفس الأمر بقاء لا حدوثا ، لأن هذا المعنى من الوجود في مقابل العدم المطلق ، فحدوثه فيما إذا كان مسبوقا بالعدم المطلق. والمفروض انه ليس كذلك ، فعلى تقدير تحققه بقاء ، فالشك فيه شك في البقاء ، نعم لو أريد استصحاب وجود خاص فهو غير جائز ، لأن المتيقن سابقا مقطوع الارتفاع ، والمشكوك لاحقا غير متيقن سابقا ، فاختل أحد ركني الاستصحاب.

ومما ذكرنا يظهر حال القسم الآخر ، وهو ما لو شك في وجود فرد آخر مقارنا لارتفاع الموجود من دون تفاوت أصلا.

٢٤٧

استصحاب التدريجيات

الأمر الرابع أن المستفاد من اخبار الباب أن مجرى الاستصحاب هو ما شك في تحققه لاحقا ، مع القطع بتحققه سابقا ، فحينئذ لا فرق بين ما يكون قارا بالذات وما يكون تدريجيا ، كالزمان والزمانيات ، كالتكلم والحركة وأمثالهما ، ضرورة ، أنها ـ ما لم تنقطع ـ وجود واحد حقيقي ، وان كان نحو وجودها أن ينصرم شيئا فشيئا. وحينئذ فلو شك في تحقق الحركة مثلا أو نفس الزمان ، بعد ما علم بتحققه سابقا ، فقد شك في تحقق عين ما كان محققا سابقا ، فلا يحتاج في التمسك بالأخبار إلى المسامحة العرفية.

نعم لو كان محل الاستصحاب الشك في البقاء ، أمكن أن يقال : ان مثل الزمان والزمانيات خارج عن العنوان المذكور ، (١٠٥) لعدم تصور البقاء لها إلا بالمسامحة العرفية ، لكن ليس هذا العنوان في الأدلة.

وبعبارة أخرى المعتبر في الأدلة صدق نقض اليقين بالشك ، ولا تفاوت في ذلك بين التدريجيات وغيرها.

قال شيخنا المرتضى قدس‌سره في الأمر الثاني من الأمور التي نبه عليها في

______________________________________________________

(١٠٥) لا يخفى أن المقصود من الزمان المستصحب إن كان الجامع بين الآنات المحدودة بين الحدّين ، كالكلي في المعيّن ، صح استصحابه ـ وإن قلنا باعتبار البقاء في صدق لا تنقض ـ لأن بقاء الجامع كما مرّ منه ـ دام ظله ـ ببقاء الافراد ، لكنه لا يصدق عليه اليوم والليل مثلا ، بل الظاهر أن كل آن جزء منهما لا جزئي لهما. وإن كان المقصود استصحاب ما هو موضوع له للفظ اليوم أو النهار ، فلا يصح إلّا بما ذكره الشيخ (قدس‌سره) من المسامحة في وجوده وتحققه ، مع قطع النّظر عن اعتبار البقاء ، لأن وجود اليوم حقيقة لا يتحقق إلّا بعد تحقق جميع اجزائه ولو عند العرف. وأما ما يرى من إطلاق اليوم على بعض النهار فليس إلّا من باب المسامحة ، فتأمل.

٢٤٨

باب الاستصحاب ما لفظه : (قد علم من تعريف الاستصحاب وأدلته : أن مورده الشك في البقاء ، وهو وجود ما كان موجودا في الزمان السابق ، ويترتب عليه عدم جريان الاستصحاب في نفس الأزمان ، ولا في الزماني الّذي لا استقرار لوجوده ، بل يتجدد شيئا فشيئا على التدريج. وكذا في المستقر الّذي يؤخذ قيدا له ، إلا أنه يظهر من كلمات جماعة جريان الاستصحاب في الزمان ، فيجري في القسمين الأخيرين بالطريق الأولى) انتهى كلامه رفع مقامه.

وقد عرفت صحة استصحاب نفس الزمان والزمانيات ، من دون احتياج إلى مسامحة. نعم لو انقطع الزماني بما لا يقيد به عرفا ، ثم وجد ، فعده شيئا واحدا ، يحتاج إلى المسامحة ، وإلّا فبحسب العقل قد انصرمت وحدته.

ويمكن أن يقال : إن الزمان إن لوحظ امرا محدودا ـ بأن يقال : ان الليل وكذا النهار عبارتان عن القطعة الخاصة المحدودة بالحدين المفروضين ـ أمكن تحقق اليقين ، فلا معنى للعلم به إلا بعد إحراز مجموع تلك القطعة ، وبعد إحراز وجود تمام تلك القطعة لا يبقى الشك فيه ، فلا يتحقق فيه ما هو ملاك جريان الاستصحاب.

نعم لو قلنا بان الليل والنهار عبارتان عن الآن السيال بين الحدين المفروضين ، أمكن تحقق اليقين والشك فيه ، وهكذا حال الحركة إن كان المقصود الحركة المحدودة المسماة بالحركة القطعية ، فلا يجتمع فيها اليقين والشك. وإن كان المقصود الحركة التوسطية ـ وهي كون الجسم بين الحدين ـ فيمكن كونها متعلقة لليقين والشك ، كما هو ظاهر.

فالأولى في المقام أن يقال : إن كان موضوع الأثر الّذي أريد استصحابه هو الزمان المحدود أو الزماني كذلك ، فاستصحابه يحتاج إلى المسامحة التي أفادها شيخنا المرتضى قدس‌سره من جعل المجموع موجودا فعليا ، لوجود جزئه ، وان كان القسم الآخر ، فلا يحتاج في الاستصحاب إلى تلك المسامحة.

وأما المستقر الّذي أخذ الزمان قيدا له ، فان أريد استصحابه في حال الشك في انقضاء الزمان المأخوذ قيدا ـ كما هو ظاهر كلامه قدس‌سره هنا ـ

٢٤٩

فحاله حال استصحاب نفس الزمان ، كمن وجب عليه الجلوس في النهار مثلا ، فجلس إلى ان شك في انقضاء النهار وبقائه ، إذ يصح أن يقال إن جلوسه كان سابقا جلوسا في النهار ، والآن كما كان ، فيترتب حكمه أعني الوجوب.

لا يقال : ان الجلوس في هذه القطعة من الزمان ليس له حالة سابقة ، ضرورة كونه مرددا من أول الأمر بين وقوعه في الليل أو النهار.

لأنا نقول : المفروض عدم ملاحظة الجلوس في القطعات من النهار موضوعا مستقلا ، بل اعتبر حقيقة الجلوس المتحقق في النهار موضوعا واحدا للوجوب. (١٠٦) وهذا واضح. وإن أريد استصحاب الموضوع المقيد بالزمان أو حكمه ، بعد انقضاء الزمان المأخوذ قيدا ، ـ كما هو ظاهر كلامه قدس‌سره بعد ذلك ، عند التعرض للقسم الثالث ، وهو ما كان مقيدا بالنهار ـ فلا شك في عدم جريان الاستصحاب ، ضرورة أن الجلوس ـ المقيد بالنهار ، وكذا حكمه ـ لا يبقى بعد انقضائه.

إذا عرفت ما ذكرنا فنقول : إن مراده قدس‌سره إن كان ما ذكر أولا ، فلا وجه للقطع بعدم جريان الاستصحاب ، كما أفاد ذلك عند تعرضه للقسم الثالث ، حيث يقول : (وأما القسم الثالث ـ وهو ما كان مقيدا بالزمان ـ فينبغي القطع بعدم جريان الاستصحاب فيه.) .. بل ينبغي القطع بصحة الاستصحاب فيه ، كما لا يخفى. وإن كان مراده قدس‌سره ما ذكرناه أخيرا ، فلا وجه لجعل الاستصحاب فيه أولى منه في نفس الزمان.

هذا وكيف كان فالظاهر عدم الإشكال في صحة الاستصحاب

______________________________________________________

(١٠٦) لا يخفى أن اعتبار تلك الحقيقة شيئا واحدا ، وإن كان مفيدا لاستصحاب نفسها إذا شك في بقائها ، لكن لا يفيد في إثبات كون ذلك الجلوس جلوسا في النهار ، كما هو المدّعى ، بل يكون إثبات ذلك نظير إثبات كون الزمان المشكوك فيه نهارا ، ويأتي منه ـ دام بقاؤه ـ عدم إثبات ذلك باستصحاب النهار ، فتأمل.

٢٥٠

في الأقسام الثلاثة إذا كان الأثر مترتبا على نفس بقائها ، من دون أن تحمل وتطبق على جزئيّ في الخارج. وأما لو أريد مع تطبيقه كذلك ، كما إذا أريد أن يحكم باستصحاب الزمان ، بكون هذا الزمان المشكوك فيه نهارا مثلا ، فلا يصح إلّا بالأصل المثبت.

وبعبارة أخرى : إن كان الحكم مرتبا على تحقق النهار ، ففي الآن الثاني يحكم به بالاستصحاب ، ويترتب عليه ذلك الحكم ، وإن كان مرتبا على كون الزمان المشكوك فيه نهارا ، فلا يثبت بذلك الاستصحاب ، لأن كون الزمان المشكوك نهارا امر آخر يلازم بقاء النهار عقلا. اللهم إلا ان يعد من اللوازم الخفية التي لا يراها العرف واسطة ، فلا يضر كما يأتي إن شاء الله تعالى.

ثم نقل «قدس‌سره» عن بعض معاصريه : أنه ـ في صورة تعلق الحكم بالموضوع المعتبر فيه الزمان ـ لو شك بعد انقضاء ذلك الزمان في بقاء الحكم ، فهناك استصحابان ، أحدهما وجودي ، والآخر عدمي ، فيعارض أحدهما الآخر. مثلا لو علمنا بوجوب الجلوس في يوم الجمعة إلى الزوال ، ثم شككنا بعد الزوال ، فهاهنا أصلان : أحدهما استصحاب وجوب الجلوس ، والآخر استصحاب عدمه.

ورد عليه «قدس‌سره» بان الزمان إن أخذ قيدا ، فليس هناك إلّا استصحاب العدم ، لأن الجلوس المقيد بما بعد الزوال لم يكن واجبا قطعا ، وإن أخذ ظرفا ، فليس هناك إلّا استصحاب الوجود ، لأن عدم الوجوب انقطع بنقيضه ، فلا يجري فيه الاستصحاب ، بخلاف الوجوب ، فانه كان ثابتا قبل الزوال ، فيشك في بقائه بعده ، انتهى ملخصا.

أقول : يمكن أن يوجه كلام المعاصر المذكور على نحو يسلم عما أورد عليه ، بان نختار الشق الأول. ونقول : بان الزمان وان أخذ قيدا في الموضوع الّذي تعلق به الوجوب ، إلا أن نسبة الوجوب ـ إلى المهملة عن اعتبار الزمان ـ صحيحة ، لاتحاد المهملة مع الأقسام ، كما بينا ذلك في محله ، وبنينا على ذلك صحة إجراء أصالة البراءة في القيد المشكوك ، فراجع مسألة الأقل والأكثر. وعلى هذا

٢٥١

نقول : لو وجب الجلوس المقيد بما قبل الزوال ، فبعد انقضاء الزوال ، فبعد انقضاء ، يمكن أن يقال : ذات الجلوس كان واجبا قبل الزوال ، ونشك في بقائه ، فيحكم ـ ببركة الاستصحاب ـ ببقاء الوجوب لأصل الجلوس فيما بعد الزوال ، ويعارض باستصحاب وجوب الجلوس المقيد بما بعد الزوال ، لأنه بهذا القيد مشكوك الوجوب ، أو نختار الشق الثاني.

ونقول : إن الزمان وإن اعتبر ظرفا في الدليل الّذي دل على ثبوت الحكم على الموضوع ، لكن بعد انقضاء ذلك الزمان كما انه يصح أن يلاحظ ذلك الفعل ، ويقال : انه كان واجبا في السابق ، ونشك في بقاء وجوبه ـ كذلك يصح أن يلاحظ مقيدا ، ويقال : ان هذا الموضوع المقيد لم يكن واجبا في السابق ، والآن كما كان ، فيتعارض الأصلان في طرف الوجود والعدم.

وفيه : ان الشق الأول وإن أمكن تصوره ، لليقين السابق بوجوب حقيقة الجلوس على سبيل الإهمال ، والشك اللاحق كذلك ، لكنه راجع إلى استصحاب القسم الثالث من الكلي. وقد سبق من شيخنا المرتضى «قدس‌سره» اختيار عدم جريانه. ونحن وان قلنا بصحته ، لكنه في المقام محكوم ، لأن الشك فيه مسبب عن الشك في وجوب فرد آخر من الجلوس (١٠٧) والأصل عدمه. وعلى كل حال لا يصح القول بالتعارض ، هذا في الشق الأول.

وأما الشق الثاني ، فاستصحاب الوجوب ليس له معارض ، فان مقتضى

______________________________________________________

(١٠٧) لا يخفى أن عدم كون الشك في بقاء الحقيقة مسببا عن الشك في وجوب فرد آخر فيما إذا احتمل كون وجوب ذلك المقيّد بما هو مقيّد من باب تعدد المطلوب ، فيكون الواجب بعد ذلك الزمان حقيقة الجلوس مثلا ، لا فردا آخر ، هذا مع عدم رفع الشك في المسبب بجريان الأصل في السبب ، فيما إذا كان مسببا ، لأن ترتّب عدم الجامع بعدم الفرد ليس بأثر شرعي ، كما لا يخفى. لكن يأتي فيه ما أجيب به عن الشق الثاني ، لأن وجوب الذات لا ينافي عدم وجوب المقيد ، فلا تعارض ، كما هو واضح.

٢٥٢

استصحاب عدم وجوب الجلوس المقيد بالزمان الخاصّ : هو أن هذا المقيد ليس موردا للوجوب على نحو لوحظ الزمان قيدا ، ولا ينافى وجوب الجلوس في ذلك الزمان الخاصّ على نحو لوحظ الزمان ظرفا للوجوب.

الاستصحاب التعليقي والتقديري الأمر الخامس

أنه قد يطلق على بعض الاستصحابات الاستصحاب التقديري والتعليقي ، وهو ان يثبت الحكم المشترط بشيء المتعلق بموضوع في الآن السابق المشكوك بقاؤه لذلك الموضوع ، لاختلاف حال من حالاته ، مثل أن العنب كان حكمه النجاسة المعلقة على الغليان ، وبعد ما صار زبيبا ـ والمفروض عدم صيرورته بواسطة الجفاف موضوعا آخر عند العرف ـ يشك في أن النجاسة ـ المعلقة على الغليان التي كانت ثابتة لهذا الموضوع حال كونه عنبا ـ هل هي باقية بعد صيرورته زبيبا أم لا؟ لا إشكال في صحة هذا الاستصحاب ، لعدم الفرق في شمول أدلة الباب بين ما يكون الحكم المتيقن في السابق مطلقا أو مشروطا.

ولا يتوهم أن الحكم المشروط قبل تحقق شرطه ليس بشيء ، إذ قد تقرر في محله تحققه ووجوده قبل وجود شرطه ، وكما أن وظيفة الشارع جعل الشيء حراما مطلقا مثلا ، كذلك وظيفته جعله حراما على تقدير كذا ، فإذا شك في بقاء الحرمة المعلقة في الآن الثاني ، يصح ان يجعل حرمة ظاهرية معلقة على ذلك الشرط. وإذا صح ذلك ، فشمول أدلة الاستصحاب مما لا ينبغي أن ينكر. وهذا واضح.

وانما الإشكال في تعارضه مع استصحاب الحكم الفعلي. مثلا الزبيب إذا غلى ، فهناك حالتان في السابق ، يصح استصحاب كل منهما إحداهما الحرمة على تقدير الغليان ، والثانية : الإباحة الفعلية الثابتة قبل الغليان ، فهل يكون لأحدهما تقدم على الآخر أم لا؟ قال شيخنا المرتضى قدس‌سره أن استصحاب الحكم التعليقي مقدم ، لحكومته على استصحاب الحكم الفعلي.

٢٥٣

أقول : عندي فيما أفاده «قدس‌سره» نظر ، فان الشك في بقاء الإباحة الفعلية وان كان مسببا عن الشك في جعل الحرمة التعليقية ، إلا أن ترتب عدم الإباحة من جهة أن العقل يحكم بثبوت الحرمة الفعلية ـ عند تحقق الشرط ـ وهي تضاد الإباحة ، وهذا الحكم العقلي ، وان كان من لوازم الحكم التعليقي ، سواء كان ظاهريا أم واقعيا ، نظير الحكم بلزوم الامتثال ، لكنه يصحح الأخذ بهذا اللازم ، وانه ليس قولا بالأصل المثبت ، ولا يصحح الحكومة ، لما عرفت من ان عدم الإباحة حينئذ من جهة عدم إمكان الجمع بينهما ، وكما يترتب على الاستصحاب التعليقي عدم الإباحة بحكم العقل ، كذلك يترتب على استصحاب الحكم الفعلي عدم الحكم التعليقي بحكم العقل ، إذ لا تجتمع الإباحة ـ ولو ظاهرا ـ مع ما يكون علة لضدها.

وبعبارة أخرى ليس العصير بعد الغليان محكوما بالحرمة بحسب الدليل شرعا ، مع قطع النّظر عن الشك ، حتى يكون حاكما على ما يقتضى إباحته بملاحظة الشك ، بل الحكم بالحرمة إنما جاء من حكم العقل بفعلية الحكم المعلق عند تحقق ما علق عليه. والمفروض أن الحكم المعلق ـ أيضا حكم مجعول للشاك ، فيصير فعليا للشاك أيضا بحكم العقل ، فتدبر.

ومما ذكرنا يظهر ما في كلام شيخنا الأستاذ «دام بقاؤه» من تصحيح الحكومة ، بكون اللازم من اللوازم العقلية الأعم من الواقعي والظاهري. نعم لو قلنا بتقديم الأصل في الشك في السبب. من جهة تقدمه على الشك في المسبب طبعا ، وإن لم يكن من آثار الأصل الجاري في السبب ، رفع الشك عن المسبب شرعا ـ صحت الحكومة هنا. وسيجيء ـ إن شاء الله تعالى عند ذكر تعارض الأصلين ـ زيادة توضيح للمطلب فانتظر.

استصحاب حكم الشريعة السابقة الأمر السادس

أنه لو شك في بقاء الحكم الثابت في الشريعة السابقة ، فهل يحكم بالبقاء بواسطة الاستصحاب أم لا.

٢٥٤

توضيح المقام أن هذا الشك (تارة) يفرض بعد القطع بنسخ أصل الشريعة السابقة ، و (أخرى) يفرض بواسطة الشك في ذلك. أما الأول ، فالحق جواز إجراء لاستصحاب ، والحكم ببقاء الحكم المشكوك فيه في هذه الشريعة ، فان المقتضي ـ أعني عمومات الأدلة ـ موجود ، وليس في المقام ما يصلح للمانعية عدا أمور ، توهم كونها مانعة.

(منها) ـ أن الحكم الثابت لجماعة لا يمكن إثباته في حق آخرين ، لتغاير الموضوع ، فان ما ثبت في حقهم مثله لا نفسه.

والجواب (أولا) ـ بالنقض باستصحاب عدم النسخ ، فان الحكم المفروض كان ثابتا لجماعة ، وثبت بالاستصحاب في حق الآخرين.

و (ثانيا) ـ بالحل ، وهو أن المستصحب كان حكما ثابتا للعنوان الباقي ، ولو بتبدل الأشخاص لا نفس الأشخاص ، ليلزم تعدد الموضوع ، هاهنا كالموضوع في الوقف على العناوين من الفقراء والطلبة وغيرهما.

هذا ملخص ما أجاب به شيخنا المرتضى قدس‌سره وهو كلام متين.

وأجاب أيضا بأنا نفرض الشخص الواحد مدركا للشريعتين ، فإذا ثبت في حقه حكم في الشريعة السابقة ، وشك في بقائه في اللاحقة ، يجري في حقه الاستصحاب ، ويكون هذا حكم الشخص المفروض ، وبعد وجود المعدومين في عصره ، يسرى الحكم المذكور إليهم ، لقيام الضرورة على اتحاد حكم أهل العصر الواحد.

وهذا بظاهره مخدوش ، كما أفاد شيخنا الأستاذ في حاشيته ، لأن قضية الاشتراك تقتضي كون الاستصحاب حكما كليا ثابتا في حق كل من كان على يقين من شيء فشك ، دون من لم يكن كذلك ، فتسرية الحكم الثابت بالاستصحاب ـ في حق من كان موضوعا له إلى من لم يكن موضوعا له ـ مما لا وجه له أصلا.

ويمكن ان يكون نظره إلى ان المعدوم الّذي يوجد في زمن المدرك للشريعتين متيقن لحكم ذلك المدرك في الشريعة الأولى ، وشاك في حكمه أيضا

٢٥٥

في هذه الشريعة ، فيحكم بأدلة الاستصحاب ببقاء ذلك الحكم للشخص المدرك للشريعتين ، ثم يحكم بثبوته لنفسه بواسطة الملازمة الثابتة بالشرع.

وبعبارة أخرى الحكم الثابت لمدرك الشريعتين بمنزلة الموضوع لحكمه ، وهذا الاستصحاب في حق المعدوم الّذي وجد في عصره من الأصول الجارية في الموضوع. فافهم. (١٠٨)

و (منها) ـ أن هذه الشريعة ناسخة لغيرها من الشرائع ، فلا يجوز الحكم بالبقاء.

وفيه أن نسخ جميع الأحكام غير معلوم ، ونسخ البعض غير قادح.

(لا يقال) انا نعلم بنسخ كثير من الأحكام السابقة. والمعلوم تفصيلا ليس بالمقدار المعلوم إجمالا حتى ينحل.

(لأنا نقول) الأفعال التي تعلق بها حكم الشرع : بين ما علم تفصيلا بنسخ الحكم الثابت له في الشريعة السابقة ، وبين ما لم يعلم بذلك. والثاني على ضربين ، لأنه إما أن يعلم الحكم الشرعي الثابت له في هذه الشريعة ، وإما لا ، والثاني على ضربين ، لأنه إما لم يعلم حكمه في الشريعة السابقة أيضا وإما يعلم ذلك. ومجرى الاستصحاب هو القسم الأخير فقط. وقد تقرر جواز إجراء الأصل في بعض أطراف العلم ، وان كان سليما من المعارض. ودعوى العلم الإجمالي ـ بوقوع النسخ في القسم الأخير ـ مما لا يصغى إليها ، لأنه في غاية الندرة ، كما لا يخفى.

و (منها) ـ ما حكى عن المحقق القمي قدس‌سره أن جريان الاستصحاب مبنى على القول بكون حسن الأشياء ذاتيا ، وهو ممنوع ، بل التحقيق أنه بالوجوه والاعتبارات. والظاهر أن مراده قدس‌سره بكون حسن الأشياء ذاتيا

______________________________________________________

(١٠٨) وجهه واضح ، حيث ان موضوع الاشتراك هو شخص المكلف بما هو إنسان ، لا بما هو متصف بصفة ليس في غير المدرك. والحكم الاستصحابي موضوعه المتيقن في السابق ، وليس غير المدرك شريكا له بالفرض.

٢٥٦

ـ الّذي جعله مبنى لصحة الاستصحاب ـ ليس كونها علة تامة للحسن ، وإلا لكان النسخ محالا ، ولم يقع موردا للشك ، حتى يثبت عدمه بالاستصحاب ، بل مراده قدس‌سره كونها مقتضية.

وحاصل مرامه على هذا أن صحة استصحاب عدم النسخ مبنية على القول بأن الفعل الّذي كان حسنا في السابق ، كان من جهة اقتضائه لذلك ، حتى يرجع الشك في نسخه إلى الشك في وجود المانع. وأما إن قلنا بالوجوه والاعتبارات ، فلا يجري الاستصحاب ، لاحتمال أن يكون للزمان دخل في حسن ذلك الفعل ، فمقتضى بقاء الحسن غير محرز. هذا غاية توجيه كلامه.

وفيه (أولا) ـ أنه على هذا المبنى لا يصح استصحاب عدم نسخ حكم الشريعة اللاحقة أيضا ، لو شك في ارتفاعه ، لعين ما ذكر.

و (ثانيا) ـ أنا قلنا فيما مضى أنه لا فرق على القول بأخذ الاستصحاب من الاخبار ـ بين أن يكون الشك في المانع أو في المقتضى فراجع.

وامّا الثاني : أعني صورة كون الشك في بقاء الأحكام السابقة ، من جهة الشك في نسخ أصل الشرع. فنقول أنه لو فرض بقاء هذا الشك بعد التفحص الّذي هو شرط للعمل بالاستصحاب ، فجواز التمسك به لهذا الشاك يبتنى على أحد امرين. إما أن يعلم أن هذا الحكم الاستصحابي حكم في كل من الشريعتين ، وإما أن يعلم أن هذا الحكم ثابت في الشريعة اللاحقة ، لأنه على الأول يعلم أن هذا الحكم غير منسوخ ، وعلى الثاني يعلم أن المجعول في حقه مثلا الإبقاء على الحكم السابق ، إما لكونه حكما واقعيا له ، وإما لكونه حكما ظاهريا. (١٠٩)

______________________________________________________

(١٠٩) لا يخفى أنه على تقدير اختصاص حجية الاستصحاب بالشريعة اللاحقة ، يعلم عدم حجية ذلك الاستصحاب ، إما لعدم ثبوته ، وإما لانتقاضه على تقدير حجيته ، فيما إذا كان المشكوك فيه نسخ أصل الشريعة. نعم لو كان المشكوك فيه نسخ بعض الأحكام فله وجه.

٢٥٧

فائدة

حكي عن بعض السادة أنه ابتلي بمخاصمة وقعت بينه وبين بعض علماء اليهود ، فتمسك العالم اليهودي لإثبات دينه باستصحاب نبوة موسى عليه‌السلام ، لاعتراف المسلمين بأصل ثبوتها وحقيتها ، قال فعلى المسلمين إقامة الدليل على ارتفاعها وانقطاعها. وهذه الشبهة قد أشار إليها الجاثليق لإثبات نبوة عيسى عليه‌السلام في مجلس المأمون ، فأجابه الرضا عليه‌السلام بأني مقر بنبوة عيسى عليه‌السلام وكتابه وما بشر به أمته وما أقرت به الحواريون ، وكافر بنبوة كل عيسى لم يقر بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وكتابه ولم يبشر به أمته ، فأجابه الفاضل المذكور على حسب ذلك بأنا نقول بنبوة موسى الّذي أقر بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا نقول بنبوة كل موسى لم يقر بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاعترض عليه اليهودي بان موسى بن عمران حاله معهود وشخصه معروف ، قد ادعى النبوة وجاء بدين وشريعة ، وأنتم تعرفون صحتها ، ولا يتفاوت ثبوت ذلك بين أن يقول بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أولا يقول بها ، فنحن نقول بنبوة ذاك الشخص المعهود وبقائها بحكم الاستصحاب ، فعليكم بإبطاله انتهى حكاية المخاصمة بين اليهودي وبعض السادة. وقد أجابوا عن إشكال اليهودي بأجوبة لا يهمنا ذكرها.

والحق في الجواب أن اليهودي المذكور (تارة) يريد أن يتمسك بالاستصحاب لتكليف نفسه فيما بينه وبين ربه. و (أخرى) يريد إلزام الخصم ، فان كان غرضه تكليف نفسه.

فنقول بقاء نبوة موسى عليه‌السلام ـ الراجع إلى بقاء أحكامه في نفس الأمر ـ ملزم لأمرين (أحدهما) ـ وجوب الاعتقاد والعلم بذلك الّذي هو مقتضى الإيمان (ثانيهما) ـ وجوب العمل بتلك الأحكام ،

فان أراد إثبات اللازم الأول بالاستصحاب ، فهو غير معقول ، لأنه حكم مجعول للشاك بوصف أنه شاك. ولا يمكن الإيجاب تحصيل العلم والاعتقاد بأمر على من هو شاك في ذلك الأمر يوصف انه شاك نعم يمكن ان يجب على

٢٥٨

الشخص في حال الشك تحصيل العلم ، كما أنه يجب على العباد تحصيل العلم بالمبدإ والوسائط والمعاد. ولكن هذا التكليف راجع إلى إيجاب إزالة تلك الحالة أعني الشك ، لا أنه تكليف متعلق بموضوع الشاك. والأول امر ممكن واقع ، والثاني محال ، لرجوعه إلى اجتماع النقيضين.

وان أراد إثبات اللازم الثاني ، فهو ممكن ، إلا انك عرفت أن التمسك بالاستصحاب مشروط بالفحص ، ولو تفحص اليهودي ورفع اليد عن لعصبية وما أخذ من آبائه تقليدا لظهر له حقية مذهب الإسلام ، لوضوح الأدلة والبراهين القائمة على صدقه ، بحيث لم تبق له حيرة ولا شك ، حتى يحتاج إلى التمسك بالاستصحاب ، وهذا امر مقطوع به لا ريب فيه أصلا.

نعم لو فرض محالا بقاء الشك له بعد الفحص ، فالتمسك بالاستصحاب ـ لعمل نفسه بالاحكام السابقة. إن كان الحكم الاستصحابي مجعولا في الشريعتين ، أو الجري على التكاليف الثابتة في شريعة موسى ، من جهة أنه إما تكليف واقعي له أو ظاهري ـ مما لا مانع له ، ولا يضر ذلك أحدا. ولا ربط له في إبطال مذهب الخصم وحقية مذهبه ، كما هو ظاهر.

هذا إذا كان غرضه إثبات تكليف نفسه. واما إن كان غرضه إلزام الخصم ـ كما هو ظاهر قوله فعليكم إقامة الدليل إلخ ـ فنقول من الأمور المعتبرة في الاستصحاب المجعول في حقنا اليقين بأمر في الزمن السابق ، والشك في ذلك الأمر في الزمن اللاحق. ونحن لو قطعنا النّظر عن اخبار نبينا وكتابه الّذي أخبر بنبوة موسى ، لا نعلم بوجود موسى ، فضلا عن نبوته ، ونعلم بنسخة أيضا ، فكيف تلزم أيها اليهودي بالاستصحاب جماعة ليس لهم علم بالأمر السابق على تقدير ، وليس لهم شك في انقطاع ذلك الأمر على تقدير آخر.

الأصل المثبت

الأمر السابع ان نقض اليقين بالشك ليس امرا اختياريا للمكلف ، حتى

٢٥٩

يقع مورد التكليف ، فالقضية ـ بعد القطع بعدم كون ظاهرها مرادا ـ محمولة بحكم العرف على النهي عن النقض عملا ، فمحصل المعنى حرمة اليقين ، ووجوب الإبقاء في حال الشك من حيث العمل ، فيختص مورد التكليف بما إذا كان لليقين السابق ـ على فرض بقائه ـ عمل يصح للشارع ان يجعله موردا للتكليف ، وحيث أن هذه القضية وردت لرفع تحير المكلف من جهة تكليفه الواقعي ، لزم أن يكون لليقين السابق ـ على تقدير بقائه ـ عمل متعلق للتكليف الشرعي ، وان لم يكن في السابق كذلك ، فخرج اليقين الّذي لم يكن له ـ على تقدير بقائه ـ عمل أصلا ، وكذا ما لم يكن له عمل متعلق للتكليف الشرعي.

إذا عرفت هذا فنقول : إن كان المتيقن في السابق حكما من الأحكام الشرعية متعلقا بموضوع من الموضوعات ، أو موضوعا خارجيا تعلق به الحكم الشرعي ، من دون واسطة ، فدخوله في مورد الاخبار مما لا إشكال فيه ، لأن اليقين بالحكم له عمل ، وهو الإتيان بموضوع متعلق للحكم الشرعي. وكذا اليقين بموضوع مورد للتكليف بلا واسطة ، مثلا لو تيقن بكون مائع خمرا ، فعمل هذا اليقين من حيث الطريقية ترك شرب ذلك المائع ، وإبقاء عمل اليقين في الحالة الثانية ترك شربه أيضا ، فيرجع قوله لا تنقض اليقين بالشك ـ فيما لو كان المتيقن وجوب الصلاة مثلا ـ إلى إيجاب الصلاة ، وفيما لو كان كون المائع خمرا فشك فيه إلى حرمة شربه ، لأن ترك الصلاة في الأول نقض لليقين بالوجوب عملا ، وكذا شرب ذلك المائع في الثاني.

وبهذا تعرف معنى ما هو المعروف من أن الاستصحاب في الأحكام الشرعية عبارة عن جعل الحكم المماثل للمتيقن ، وفي الموضوعات عبارة عن جعل آثارها ، مع وحدة الدليل الدال على ذلك ، فاضبطه فانه حري به ذلك.

ثم ان ما قلناه من أنه لا بد أن يكون لليقين عمل ، ليس المراد كون ذلك العمل متعلقا للتكليف الشرعي مستقلا ، بل المراد أعم منه ومن أن يكون له دخل وربط بالموضوع المتعلق للحكم ، بنحو من أنحاء الربط ، كالقيد والشرط ، فالميزان أن يكون لليقين عمل بواسطة الشرع ، سواء كان من جهة كون شيء موضوعا

٢٦٠