إفاضة العوائد - ج ٢

آية الله السيّد محمّد رضا الگلپايگاني

إفاضة العوائد - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد رضا الگلپايگاني


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٠
الجزء ١ الجزء ٢

الّذي لا نقول. به اللهم إلا أن يدعى أن رفع الوجوب ـ عن جزء المركب بعد فرض وجوب الباقي ـ يفهم منه عرفا ان الباقي واجب نفسي (٩٤) ويؤيد ذلك قول الإمام عليه‌السلام في خبر عبد الأعلى : (يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله ، ما جعل عليكم في الدين من حرج ، امسح على المرارة) حيث أن الإمام عليه‌السلام دلنا على ان المدلول العرفي للقضية رفع ما يكون حرجا ، وهو مباشرة اليد الماسحة للبشرة الممسوحة ، وإثبات الباقي ، وهو أصل المسح.

وهنا نقول أيضا بأن المجهول مرفوع ، والتكليف ثابت في الباقي ، بمدلول قضية رفع ما لا يعلمون ، وحديث الحجب. ومن هنا يظهر وجه التمسك بهما لنفي القيد المشكوك ، فان التكليف بالمقيد ، وان كان تكليفا واحدا ، لكن يصح تحليله عند العقل ، ويقال إن تعلق التكليف بأصل الطبيعة معلوم ، والخصوصية الزائدة غير معلومة ، فتنفى بمقتضى الخبرين ، ويثبت الباقي كما ذكرنا.

هذا ، وينبغي التنبيه على أمور

(الأول) أنه إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير ، بأن يكون تعلق الوجوب على موضوع معلوما ، وشك في أنه على نحو التعيين أو التخيير ، فالأصل يقتضى أيهما؟ فيه وجهان.

(لوجه الأول) أن تعلق التكليف بهذا الموضوع معلوم ، ويشك في أنه هل يسقط بإتيان شيء آخر أم لا؟ فمقتضى الاشتغال بالحكم الثابت فراغه عن عهدة التكليف يقينا.

______________________________________________________

(٩٤) لا يخفى أن الالتزام بهذه الدعوى دونه خرط القتاد. وأما الاستدلال الإمام عليه‌السلام فالتجاوز عن مورده مشكل ، ولذا اقتصر غير واحد على المورد.

٢٠١

(لوجه الثاني) أن الشك في المقام راجع إلى الشك في الإطلاق والتقييد ، ووجهه أن الشيئين إذا اتحدا في الأثر ، فاللازم عند العقل أن يكون ذلك الأثر مستندا إلى القدر الجامع ، فحينئذ مرجع الشك في التعيين والتخيير إلى أن التكليف هل هو متعلق بالجامع بين الفردين ، أو بخصوص ذلك الفرد؟ وبما أنا قلنا بالبراءة هناك نقول بها هنا أيضا.

(والحق) هو الأول ، لأن التخيير وإن كان راجعا إلى تعلق الحكم بالجامع عقلا وفي عالم اللب ، ولكن لو كان مراد المولى ذلك العنوان الخاصّ الّذي جعله موردا للتكليف على وجه التعيين ، لم يكن للعبد عذر ، وليست المؤاخذة عليه مؤاخذة من دون حجة وبيان ، حيث أنه يعلم توجه الخطاب بالنسبة إلى العنوان الخاصّ.

ومن هنا تعرف الفرق بين المقام وبين دوران الأمر بين المطلق والمقيد ، حيث أنه في الثاني لا يعلم بتوجه الخطاب بالمقيد ، فيؤخذ بالمتيقن ، ويدفع القيد بالبراءة ، بخلاف ما نحن فيه ، حيث أن المفروض العلم بصدور الخطاب المتعلق بالعنوان الخاصّ ، فلا تغفل.

(الثاني) أنه لما فرغنا عن الشك في الجزئية والقيدية في الشبهة الحكمية ، فاللازم التكلم في الموضوعية منها مفصلا ، لكون بعض مصاديقها محلا للابتلاء ، وموردا لأنظار العلماء.

فنقول وبالله المستعان إن جعل طبيعة جزءا للمأمور به يتصور على أنحاء : (منها) جعلها باعتبار صرف الوجود ، أعنى الوجود اللابشرط من جميع الخصوصيات ، الّذي يكون نقيضا للعدم المطلق.

وبعبارة أخرى الّذي ينتقض به العدم ، فيكتفى بإتيانه في ضمن فرد واحد ، ضرورة تحقق ذلك المعنى اللابشرط في ضمن فرد واحد.

و (منها) ـ جعلها باعتبار وجودها الساري في جميع الافراد.

٢٠٢

و (منها) ـ جعلها باعتبار مجموع الوجودات ، بحيث يكون مجموع افراد الطبيعة جزءا واحدا للمأمور به ، والأقسام المذكورة كلها متصورة بالنسبة إلى الشرط والمانع.

إذا عرفت هذا فنقول إن جعل شيء جزءا أو شرطا للمأمور به بالاعتبار الأول ، فلا ريب في وجوب إحرازه ، وعدم جواز الاكتفاء بالمشكوك ، لأن الاشتغال ـ بالمركب من اجزاء معلومة أو المشروط بالشرط المعلوم ـ معلوم بالفرض ، ولا تتحقق البراءة إلا بإتيان ما يعلم انطباقه عليه. وهذا في الوضوح والبداهة بمكان.

وان جعل جزءا أو شرطا بالاعتبار الثاني ، فلا إشكال في أن مرجع هذا النحو من الجعل إلى جعل كل واحد من افراد الطبيعة جزءا مستقلا أو شرطا كذلك ، وان القضية الدالة على ذلك تنحل إلى قضايا متعددة ، فهل يحكم ـ في الفرد المشكوك كونه جزءا أو شرطا ، من جهة الشك في انطباق المفهوم المعلوم كونه جزءا أو شرطا عليه ـ بالبراءة أو الاحتياط؟ وجهان تعرف الحال بعد بسط المقال في الشك في المانع أيضا. وكذا الحال فيما إذا جعل بالاعتبار الثالث.

وان جعل شيء مانعا بالاعتبار الثالث ـ أعني اعتبار مجموع الوجودات ـ فيرجع إلى اشتراط ترك واحد من افراد ما جعل مانعا. ولا إشكال في وجوب إحراز ذلك إحراز ذلك الترك ، لأن أصل الاشتراط معلوم ، فاللازم العلم بوجود الشرط. وهذا أيضا واضح.

وان جعل مانعا بأحد الاعتبارين الأولين ـ أعني اعتبار صرف الوجود ، أو الوجود الساري ـ فلو شك في كون شيء مصداقا للمفهوم الّذي جعل مانعا ، فهل الأصل يقتضى الاحتياط والاجتناب عن ذلك الشيء المشكوك كونه فردا ، أو البراءة؟

٢٠٣

مثال ذلك إذا علمنا ان الشارع جعل ـ لبس الجلد أو الصوف أو الوبر لغير ما يؤكل لحمه من الحيوان ـ مانعا للصلاة ، وشككنا في ان اللباس الخاصّ هل هو مأخوذ مما يؤكل لحمه أو من غيره؟ المشهور ـ كما قيل ـ على الاحتياط ، وذهب بعض الأساطين إلى البراءة وعدم وجوب الاحتياط. منهم سيد مشايخنا الميرزا الشيرازي في أواخر عمرة وهذا هو الأقوى.

اللباس المشكوك

(وتوضيح المقام) على نحو يكشف الستر عن وجه المرام : أن جعل اجزاء ما لا يؤكل لحمه مانعا في الصلاة ـ بعد القطع بعدم كون المانع هو مجموع وجودات تلك الطبيعة ـ لا يخلو من أمرين إما حمله على نحو السريان ، فالمجعول مانعا ـ على هذا ـ كل فرد من افراد تلك الطبيعة. والمفروض أن لتلك الطبيعة افرادا معلومة ، قد علم تقييد الصلاة بعدم كل واحد منها ، فمرجع الشك هنا إلى أن المأمور به هل قيد بعدم هذا الفرد زائدا على ما علم اعتباره فيه أم لا؟

وبعبارة أخرى مرجع هذه الشبهة إلى الشبهة في اشتراط امر آخر ، سوى الأمور المعلومة ، غاية الأمر أن هذه الشبهة نشأت من أمور خارجية. وحينئذ نقول : إن لهذه الشبهة جهتين : (إحداهما) أنها من مصاديق الشبهة في الأقل والأكثر (والثانية) أنها من مصاديق الشبهة الموضوعية ، فان كان المانع من إجراء البراءة فيها الجهة الأولى ، فقد فرغنا عنها ، وان الحق فيها من هذه الجهة البراءة ، وكل ما أقمناه حجة هناك جار هنا ، فلا نطيل الكلام بإعادته. وإن كان المانع الجهة الثانية فقد مر أيضا الكلام فيه ، وان ما يشك في كونه محرما ـ من جهة الشك في انطباق العنوان عليه ـ

٢٠٤

حكمه حكم ما يشك في كونه محرما من جهة الشبهة الحكمية.

والحاصل أنه بعد ما فرضنا قبح المؤاخذة على ارتكاب المحرم المجهول ، فلا فرق في ذلك بين ان يكون المرتكب جاهلا بالصغرى ، وأن هذا خمر مثلا ، وبين أن يكون جاهلا بالكبرى ، بان لا يعلم حرمته ، فالقائل بوجوب الاحتياط إن كان نظره إلى ان هذا المورد مما دار الأمر فيه بين الأقل والأكثر ، فقد أجبنا عن اشكاله في الشبهة الحكمية ، وان كان نظره إلى كون المقام من الشبهات الموضوعية ، فقد أجبنا عن اشكاله في الشبهة الموضوعية ، ولا يعقل ان يحدث ـ اجتماع الجهتين ليست واحدة منهما موجبة للاحتياط ـ إيجاب الاحتياط.

هذا إن حملنا دليل المانع على الوجود الساري ، كما هو ظاهر النواهي الشرعية عرفا ، سواء كانت نفسية أو غيرية ، وان حملناه على صرف الوجود ، فقد يتوهم ان مقتضى القاعدة الاحتياط ، حيث ان تقييد الصلاة بعدم تلك الحقيقة معلوم ، وهو تقييد واحد ، سواء كثرت افرادها أم قلت. ولا يتحقق ذلك العدم الا بعدم جميع الافراد ، كما إذا قيدت الصلاة بالطهارة من الحدث ، ولم يعلم بأنه هل يتحقق بالمركب من الغسلتين والمسحتين أو به وبشيء آخر.

والحاصل أنه لو كان التكليف بشيء واحد معلوما ، ودار الأمر في محصل ذلك الشيء بين الأقل والأكثر ، فلا شك في لزوم الاحتياط. والسر في ذلك أن محط التكليف ليس هذا المركب ، حتى يؤخذ فيه بالقدر المتيقن ، ويكون الشك في الباقي شكا في أصل التكليف ، بل التكليف متعلق بذلك المعنى الواحد ، فالذمة مشغولة به يجب الفراغ عنه ، لكن التحقيق يقتضى عدم الفرق بين الصورتين ، ومقايسة ذلك بالطهارة

٢٠٥

ومحصلها ليست في محلها (٩٥).

توضيح ذلك أنه قد يكون التكليف متعلقا بالعنوان المتولد من السبب الخارجي ، ويشك في ان سبب حصول ذلك العنوان المكلف به ، هل هو الأقل أو الأكثر ، فيجب حينئذ الاحتياط بإتيان الأكثر ، حتى يعلم تحقق العنوان. والأمر بالطهارة من هذا القبيل ، لأنها امر معنوي يتحصل من افعال خارجية. وكذلك لو أمرنا بالتأديب ، ولم نعلم أنه يحصل بضربة أو بضربتين مثلا ، وهكذا. وقد يكون التكليف متعلقا بما هو عين الخارج ، لا انه يتحصل به ، كما فيما نحن فيه ، فان صرف الوجود الّذي جعلناه متعلقا للنهي الغيري هو عين الوجودات الخارجية ، والنهي المتعلق به في الحقيقة راجع إلى النهي عن تلك التحصلات الخارجية.

فحينئذ يقال : أنا نعلم من جهة ذلك النهي تقييد الصلاة بعدم تلك التحصلات المعلومة ، ونشك في تقييدها بالزائد ، ومقتضى الأصل البراءة. والفرق بين هذا الفرض وسابقه أنه في السابق كانت الشبهة من مصاديق الشبهة في الأقل والأكثر من حيثية واحدة ، وفي هذا الفرض من حيثيتين : (إحداهما) من جهة ارتباط القيد بالصلاة (والثانية) من جهة الارتباط الموجود في نفس القيد. ولا ضير بعد ما لم تكن هذه الجهة منشأ للاحتياط. هذا ما استفدناه من سيدنا الأستاذ طاب ثراه في بيان الأصل العقلي ، نقلا عن سيد مشايخنا الميرزا الشيرازي قدس‌سره.

______________________________________________________

(٩٥) لا يخفى منافاة التقريب المذكور لما مرّ منه ـ دام بقاؤه ـ من الالتزام بالاشتغال ، على قول الصحيحي ، مع أن ما وضع له اللفظ ـ على هذا القول ـ ليس غير الجامع الّذي هو عين الخارجيات لا شيء يحصل بها ، فراجع ، فان ما ذكر ـ دليلا للاشتغال هناك ـ بعينه جار في المقام ، ولا مجال لتكراره فعلا.

٢٠٦

فان قلت إن ما ذكرته صحيح على تقدير جعل لبس غير مأكول اللحم مانعا في الصلاة. واما لو جعل اللباس ـ على تقدير كونه من اجزاء الحيوان ـ شرطا ، سواء كان ذلك الشرط كونه مأكول اللحم أم عدم كونه من غير مأكول اللحم ، فالقاعدة تقتضي الاحتياط ، فانه ـ بعد حصول التقدير ، وهو ما إذا لبس المصلى شيئا من اجزاء الحيوان ـ اشترط هذا اللباس الخاصّ بشيء معلوم ، وهو كونه مما يؤكل أو عدم كونه مما لا يؤكل. والشك إنما هو في وجود الشرط ، وليس هنا قدر متيقن ، حتى يؤخذ به ، ويصير الشك في الزائد شكا في أصل الاشتراط كما لا يخفى على المتأمل.

وحينئذ نقول إن موثقة ابن بكير ـ التي هي أصل في عدم جواز لبس غير مأكول اللحم في الصلاة ـ وان كان صدرها ظاهرا في مانعية لبس غير مأكول اللحم في الصلاة ، ولكن بعض فقراتها تدل على خلاف ذلك ، وهو قوله عليه‌السلام (لا يقبل الله تلك الصلاة حتى تصلي في غيره مما أحل الله أكله) لأن هذه الفقرة ـ بعد القطع بعدم كون ظاهرها مرادا ، كما هو واضح ـ ان تحمل على الشرطية التقديرية. والمعنى ـ على هذا ـ لا يقبل الله تلك الصلاة على تقدير لبسك شيئا من الحيوان ، حتى تصلي فيما أحل الله أكله فحينئذ لا يجوز الاكتفاء بالصلاة في اللباس المشكوك.

قلت لا يخفى ـ على العارف بأسلوب الكلام ـ ان هذه الفقرة ليست مما تفيد مطلبا آخر سوى ما استفدناه من صدر الرواية ، لأن قول الإمام عليه‌السلام هذا تفريع على ما مر منه عليه‌السلام في صدر الرواية. ومحصل المعنى : أنه لما كانت الصلاة في اجزاء ما لا يؤكل لحمه فاسدة ، لا يقبل الله تلك الصلاة حتى يصلى في غيره ، وانما ذكر ما أحله الله من

٢٠٧

جهة كون الصلاة فيه أحد مصاديق الصلاة المقرونة بعدم المانع.

ثم إنه على تقدير تسليم كونه في مقام بيان الاشتراط نقول : الظاهر منه توقف صحة الصلاة على كونه في مأكول اللحم ، وبعد القطع بعدم اشتراط ذلك بقول مطلق ، فاللازم حمله على الاشتراط المعلق ، يعنى أن المصلى ـ على تقدير لبسه شيئا من اجزاء الحيوان ـ لا تصح صلاته إلا أن يصلى فيما أحله الله وحينئذ نقول يكفى في صدق هذا الشرط أن يكون معه لباس مما أحله الله يقينا ، وان كان معه أيضا ما يشك كونه كذلك ، فانه بعد إحراز الشرط ـ المستفاد من ذيل الرواية على الفرض ـ ليس لنا شك الا من جهة مانعية اللباس الآخر للصلاة. وقد قلنا إنه من تلك الجهة مورد للأصل.

اللهم إلا أن يدعى أنه ـ على تقدير القول بأن ذيل الرواية تفيد الشرطية ـ ليس معناه مجرد اشتراط الصلاة فيما أحله الله ، بل المراد أن المصلى ـ على تقدير لبسه جزءا من الحيوان ـ يشترط كون ذلك الجزء الملبوس مما يؤكل ، ففي الجزء المشكوك أصل الاشتراط معلوم. وإنما الشك في وجود الشرط. واللازم في مثله الاحتياط.

وكيف كان نحن في سعة مما ذكر ، لما قلنا من ان العمدة مفاد صدر الرواية ، وان الذيل لا يفيد شيئا الا التفريع على ما ذكر. هذا تمام الكلام في الأصل العقلي.

واما الأصل النقليّ ، فيدل على المقصود كل ما دل على البراءة في الشبهة الحكمية ، بالتقريب الّذي مر بيانه هناك ، فلا نطيل الكلام بإعادته ، مضافا إلى إمكان أن يقال ان مثل قوله عليه‌السلام ـ (كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال ، حتى تعرف الحرام منه بعينه) أيضا ـ يدل على المقصود.

٢٠٨

تقريبه ان الحل والحرمة كما يطلقان على النفسيين ، كذلك يطلقان على الغيريين ، وقد شاع استعمالهما في هذا المعنى في الاخبار ، مثل قوله عليه‌السلام في رواية عبد الله بن سنان : (كل ما كان عليك أو معك مما لا يجوز فيه الصلاة منفردا.). وكذا قوله عليه‌السلام : (لا يجوز الصلاة في شيء من الحديد) وفي رواية إبراهيم بن محمد الهمدانيّ : (لا يجوز الصلاة فيه) وفي صحيحة عبد الجبار : (لا تحل الصلاة في الحرير المحض) وفي صحيحة أخرى له : (لا تحل الصلاة في حرير محض) وفي صحيحة علي بن مهزيار : (هل يجوز الصلاة في وبر الأرنب ـ إلى ان قال ـ فكتب عليه‌السلام لا يجوز الصلاة) وفي رواية الحلبي : (كل ما لا يجوز الصلاة فيه وحده) إلى غير ذلك من الموارد التي يقف عليها المتتبع.

والحاصل أن الحل والحرمة ـ في لسان الأئمة عليهم‌السلام ـ أعم من النفسيّ والغيري ، كما يشهد به ما ذكرناه من الاخبار. وحينئذ نقول : مقتضى ظاهر الحديث جواز الصلاة في المشكوك ، فانه شيء لا يعلم أتحل الصلاة فيه أم لا. وقد قال كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال ، وللجلود والأصواف قسم تحل فيه الصلاة ، فيحكم في المشكوك بالحل ، بمقتضى ظاهر الحديث.

هذا محصل الكلام في المقام وفقنا الله وإخواننا المؤمنين لمراضيه بحق محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله خير الأنام.

(الثالث) أنه إذا ثبتت جزئية شيء في الجملة ، وشك في أن نقصه سهوا يوجب بطلان الصلاة أم لا ، فهل الأصل العقلي يوجب الإعادة ، أو الاكتفاء بالناقص؟ وجهان :

(أولهما) اختيار شيخنا المرتضى قدس‌سره. واحتج على ذلك بما حاصله : أن ما كان جزءا حال العمد ، كان جزءا حال الغفلة ، فلو لم

٢٠٩

يأت به نسيانا لم يأت بالمركب المأمور به. والدليل على ما قلنا أنه لو كانت جزئية الجزء المغفول عنه مختصة بحال العمد ، لزم تخصيص الغافل بخطاب خاص ، وهو غير معقول ، لعدم إمكان انبعاث الغافل بالخطاب المتوجه إلى عنوانه ، لأن انبعاثه يتوقف على التفاته إلى انه داخل في العنوان الّذي تعلق به الخطاب. ولا يعقل التفاته إلى ذلك ، لأنه مناف للغفلة ، فمتى التفت يخرج عن كونه غافلا ، فينتفى الخطاب المتعلق بهذا العنوان ، لعدم موضوعه. وما لم يلتفت لم يعقل انبعاثه بذلك الخطاب ، فالخطاب المتوجه إليه لغو مطلقا.

نعم يمكن ان يسقط الشارع الإعادة عن المكلف الآتي بالناقص ، كما نقول به في بعض اجزاء الصلاة بواسطة القاعدة المستفادة من الشرع ، لكن الكلام في الأصل العقلي ، مع قطع النّظر عما استفدناه من الشرع. ولا شك في ان الأصل العقلي لزوم الاحتياط ، وعدم الاكتفاء بالمركب الناقص. هذا محصل ما أفاده قدس‌سره في المقام.

وأورد عليه سيدنا الأستاذ نقلا عن سيد مشايخنا الميرزا الشيرازي قدس‌سرهما بوجهين : (أحدهما) أنه على تقدير تسليم قبح اختصاص الغافل بخطاب خاص ، لا يلازم كونه مشاركا للعامد في الخطاب ، لجواز ان لا يكون له خطاب أصلا حين الغفلة ، لا بالتام المغفول عنه ولا بالناقص المأتي به ، بل هو كذلك ، لأنه غير قادر على المغفول عنه ، وغير قابل للخطاب الناقص ، فتوجه الخطاب إليه لغو ، وان أريد من الخطاب مجرد الاقتضاء والمصلحة ، فنسبة الإمكان إلى الناقص والتام سواء.

فان قلت بعد الإجماع على ان لكل أحد خطابا ، كان خطاب الغافل كخطاب الذاكر ، لعدم إمكان اختصاصه بخطاب ، غاية الأمر أن الخطاب عام. والمكلف ما دام غافلا لم يتنجز عليه كالشاك بعد

٢١٠

الفحص.

قلت دعوى الإجماع ـ بالنسبة إلى الغافل عن الموضوع ، كما هو محل الكلام ـ ممنوعة. نعم الغفلة عن الحكم لا توجب اختلاف الحكم ، وإلّا لزم التصويب. وملخص الكلام أنا نشك بعد ارتفاع العذر في أن الغافل صار مكلفا بغير المركب الناقص الّذي أتى به أم لا؟ والأصل عدمه. وثبوت الاقتضاء ـ بالنسبة إلى الجزء الفائت ـ لا دليل عليه ، فالأصل البراءة عنه ، كما هو الشأن في كل مورد دار الأمر فيه بين الأقل والأكثر.

لا يقال انا نستصحب بقاء الإرادة الذاتيّة التي كانت ثابتة في حال الغفلة.

(لأنا نقول) المعلوم منها وهي المتعلق بالقدر المشترك بين الأقل والأكثر مقطوع الامتثال ، والزائد مشكوك الحدوث ، فالأصل البراءة منه.

(الوجه الثاني) أنه يمكن تصور اختصاص الغافل وأمثاله بخطاب ، مثل أن يخاطب في ضمن مطلق الإنسان بالصلاة ، ويشرح له الاجزاء والشرائط على ما هو عليه من العموم والاختصاص بالذاكر. وحينئذ فان لم يلتفت من أول الأمر إلى جزء ، فلا محالة ينوي الاجزاء المطلقة المفصلة في ذهنه ، بعنوان انها عين الصلاة ، وان التفت إلى ان من تلك الاجزاء ما يختص بالذاكر ، ينوي الإتيان بالعبادة بحسب ما يجب عليه على حسب حالته الطارئة عليه ، فيكون داعيه المرتكز في ذهنه الأمر الواقعي الّذي تصوره بالعنوان الإجمالي ، واعتقاد انه لا يعرض عليه النسيان لا يضر بالنية ، كما لا يخفى (٩٦).

______________________________________________________

(٩٦) لا يخفى ابتناء صحة ذلك على كون التكليف للذاكر بخصوص ما

٢١١

هذا ما سمعناه منه طاب ثراه ، ونقلنا في هذه الرسالة عباراته في الرسالة التي صنفها في الخلل ، شكر الله سعيه وأجزل مثوبته.

هذا حال نقص الجزء الّذي ثبتت جزئيته في الجملة سهوا ، ولو زاد فمقتضى القاعدة الأولية ـ مع قطع النّظر عن أدلة إبطال الزيادة ـ عدم بطلان العمل بها ، ولو كانت عن عمد ، لأن الزيادة في العمل المأمور به لا يمكن أن تكون مبطلة ، إلا ان يشترط عدمها ، فيرجع إلى النقيصة ، فالشك في بطلان العمل بالزيادة يرجع إلى الشك في اعتبار عدمها أو عدمه. والمرجع البراءة ، لأنه من مصاديق الشك في التقييد.

نعم لو دل دليل على بطلان العمل بها في الجملة ، فعلى ما أفاده شيخنا المرتضى قدس‌سره لا بد من القول بالبطلان بها ، بحسب الأصل العقلي في حال العمد والسهو ، لعدم إمكان اختصاص الساهي بخطاب خاص على ما نقلناه منه قدس‌سره.

وأما على ما ذكرنا ، فلو لم يكن للأدلة الدالة على إبطال الزيادة

______________________________________________________

يتذكره من الاجزاء ، بنحو تعدد المطلوب ، حتى يعتقد كونه مكلفا بتكليفين : أحدهما لخصوص الذاكر ، وثانيهما : لجميع الناس ، غير مرتبط أحدهما بالآخر ، أما لو كان تكليف الذاكر مركبا من مجموع ما يتذكر ، بحيث لو لم يأت ببعضها لم يمتثل امر الصلاة مثلا ـ كما هو المفروض في الصلاة ـ فلا يتم التقريب المذكور ، لأن المكلف ـ بعد اعتقاد كونه متذكرا وغير ناس لجزء من الاجزاء ـ لا يكون الداعي والمحرك له الا الأمر بجميع الاجزاء ، ولا يرى نفسه مكلفا بما كلّف به الناس غير الذاكر ، فلا يصلح الأمر (المتوجه إلى) جميع الناس للداعوية والمحركية ، بعد اختصاص الذاكر بتكليف خاص.

وهذا ما أورده الشيخ (ره) من الإيراد ، وكذا الإيراد المذكور يرد على ما وجّه به من توجيه الخطاب بعنوان عام أو خاص عليه ، بغير عنوان الناسي ، فان اعتقاد كونه متذكرا مانع عن تأثير غير أمر المتذكر ، فلا صلاحية لغير ذلك الأمر للتأثير.

٢١٢

إطلاق يشمل حال السهو ، لم تكن في تلك الحالة مضرة بالعمل ، لما ذكر من الوجه.

هذا تمام الكلام فيما يقتضيه الأصل العقلي ، فتلخص مما ذكرنا أن مقتضى الأصل العقلي عدم بطلان العمل بنقص الجزء سهوا ، فيما لم يدل دليل على جزئيته ، حتى في حال السهو ، كما أن مقتضى الأصل عدم البطلان إذا زاد على المركب المأمور به ، ما لم يدل دليل على إبطال الزيادة. ولو دل دليل على ذلك ، ولم يكن له إطلاق يشمل حال السهو ، فالأصل عدم البطلان بالزيادة في حال السهو.

بقي الكلام في الأصل المستفاد من الشرع في خصوص باب الصلاة ، فنقول : روى محمد بن علي بن الحسين بإسناده عن زرارة قال قال أبو جعفر عليه‌السلام (لا تعاد الصلاة الا من خمسة : الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود) والتكلم فيه يقع في مواقع :

(الأول) ان الظاهر بمقتضى العموم المستفاد من الخبر عدم التفاوت بين أسباب الخلل ، وان وقوعه في غير الخمسة المستثناة لا يوجب الإعادة ، سواء كان منشؤه السهو عن الحكم ، أو عن موضوعه ، أو النسيان كذلك ، أو الجهل كذلك. نعم ليس الخلل ـ الواقع عن علم بالحكم أو الموضوع ـ داخلا في نفى الإعادة لمنافاة ذلك للجزئية أو الشرطية الثابتتين بحسب الفرض. هذا وكلمات الأصحاب لا تلائم ما ذكرنا من العموم ، فلاحظ.

(الثاني) ان الظاهر من الإعادة هو الإتيان ثانيا ، بعد تمام العمل ، فلا يعم اللفظ بظاهره الاستئناف في الأثناء ، ولكن استعماله في الأعم شايع في الاخبار ، وفي لسان المتشرعة ، مضافا إلى شهادة تعليل عدم الإعادة في الخبر بان القراءة سنة ، والتشهد سنة ، ولا تنقض السنة

٢١٣

الفريضة ، فانه ظاهر في ان تركه سهوا لكونه سنة لا تنقض الفريضة حين حصوله ، لا انه مراعى بإتمام العمل.

(الثالث) أنه هل يعم الخبر الزيادة الواقعة في الصلاة عن سهو ، أو يختص مدلوله بالنقيصة؟ وجهان (من) أن الزيادة أيضا راجعة إلى النقيصة ، لكون عدمها معتبرا في الصلاة ، وإلّا لم يعقل كونها موجبة للبطلان ، فعلى هذا مقتضى العموم عدم الإعادة بكل نقص حصل في الصلاة ، سواء كان بترك ما اعتبر وجوده أم بإيجاد ما اعتبر تركه (ومن) أنه ظاهر من حيث الانصراف في الوجوديات. واما العدميات المعتبرة في الصلاة فلا يشملها ، وهو الأقوى.

وعلى هذا فان ثبت عموم يدل على إبطال الزيادة مطلقا ، لم تكن الرواية حاكمة عليه ، وعلى الأول هل يدل على بطلان العمل بزيادة الركوع والسجود أم لا؟ يمكن أن يقال ان زيادتها داخلة في المستثنى منه ، فان مدلول الخبر على هذا عدم الإعادة من النقص الحاصل في الصلاة ، سواء كان بترك شيء معتبر وجوده ، أم بإيجاد شيء معتبر عدمه ، إلا من نقص الركوع والسجود مثلا ، فتكون زيادتهما داخلة في المستثنى منه. ويمكن أن تكون الزيادة صفة مضافة إلى الجزء ، كما ان النقيصة أيضا كذلك ، فهما اعتباران متواردان عليه. وان كانت الزيادة عدمها معتبرا في الصلاة ، فهي ـ من جهة الاعتبار الأول ـ تدخل في المستثنى ، ويصير حاصل مدلول الخبر ـ على هذا ـ لا تعاد الصلاة بفوت شيء من الأمور المعتبرة فيها ، سواء كانت وجودية أم عدمية إلا إذا نشأ الخلل الواقع فيها من جهة الركوع والسجود مثلا. والخلل الواقع فيها من جهتيهما على قسمين : (أحدهما) تركهما في الصلاة و (ثانيهما) زيادتهما فيها.

هذا ولكن الإنصاف أن ظهور الرواية فيما قلنا مشكل. والأظهر

٢١٤

ما قلناه. أولا من عدم شمولها للعدميات المعتبرة في الصلاة.

(الرابع) أنه لو شك في أن سبب النقص عمد أو سهو ، فالتمسك بالعموم مبنى على الأخذ بالعمومات في الشبهة المصداقية ، إلا أن يقال : ان التخصيص هنا عقلي ، والمتيقن منه هو المعلوم كونه عن عمد ، وهو غير بعيد (٩٧).

هذا بعض الكلام في الحديث الشريف. وقد عرفت عدم تعرضه للزيادة ، فلو فرض ما يدل على إبطال الزيادة مطلقا ، لم يكن منافيا له. ثم لو فرض شموله للزيادة كالنقيصة ، فالنسبة ـ بينه وبين الاخبار الدالة على إبطال الزيادة مطلقا ـ وان كانت عموما من وجه ، إلا ان الظاهر حكومة هذه القاعدة عليها ، كما لا يخفى.

وكذا الحال فيما إذا دل دليل على بطلان الصلاة بالزيادة في خصوص حال السهو ، مثل قوله عليه‌السلام (إذا استيقن أنه زاد في المكتوبة استقبل الصلاة) ، لأن الدليل المذكور وان كان مختصا بحال السهو ، لكنه من حيث الزيادة يعم الركوع والسجود وغيرهما. والقاعدة تدل على عدم لزوم الإعادة في غير الركوع والسجود ، فمورد التعارض غيرهما. ومقتضى حكومة القاعدة إخراج مورد التعارض عن ذلك الدليل ، ويتعين مورده في الركوع والسجود. فما أفاده شيخنا المرتضى قدس‌سره من كون الدليل المذكور أخص من القاعدة ـ لا وجه له ، فتدبر جيدا.

______________________________________________________

(٩٧) لا يخفى أن التخصيص إن كان عقليا ، فليس مقداره مشكوكا فيه ، حتى يؤخذ بالقدر المتيقن بل العمد الواقعي خارج حقيقة ، فان كان العقل يحكم في المشكوك فيه بعدم كونه عمدا فهو ، وإلّا فلا يمكن التمسك بالعموم ، لأن العموم أيضا محتمل أن يكون خلاف العقل فتأمل.

٢١٥

(الأمر الرابع) أنه إذا ثبتت جزئية شيء أو شرطيته في الجملة ، فهل يقتضى الأصل جزئيته أو شرطيته مطلقا ، بحيث لو تعذر سقط التكليف ، أو اختصاص اعتبارهما بحال التمكن ، فلو تعذرا لم يسقط التكليف بالمقدور؟ وجهان. وينبغي تعيين محل الكلام ثم التكلم بما تقتضيه القاعدة فيه.

فنقول محل الكلام ما إذا لم يكن للدليل ـ الدال على الجزئية أو الشرطية ـ إطلاق ، إذ لو كان كذلك لا إشكال في سقوط التكليف حال تعذرهما ، وكذا إذا لم يكن للدليل ـ الدال على وجوب المركب والمقيد ـ إطلاق يشمل حال العجز عنهما ، إذ لو كان كذلك يتمسك بالإطلاق في بقاء التكليف.

ثم إنه قد يفرض طرو العجز مع كونه قادرا قبل ذلك ، وقد يفرض كونه عاجزا من أول الأمر ، كما إذا كان في أول زمن التكليف عاجزا عن إتيان تمام المأمور به.

ثم ان القدرة والعجز (تارة) يفرضان في واقعة واحدة كما إذا كان في أول الظهر قادرا على إتيان الصلاة مع تمام ما له دخل فيها ، فصار عاجزا عن إتيان شيء منه في الوقت. و (أخرى) في واقعتين ، كما إذا كان قادرا في الأيام السابقة ، فطرأ عليه العجز في يومه ، فلو كان عاجزا من أول الأمر لم تجر في حقه الا قاعدة البراءة ، إذ قاعدتا الاستصحاب والميسور اللتان يتمسك بهما في المسألة الآتية لا تجريان في حقه ، ضرورة توقفهما على الثبوت في الزمان السابق ، اللهم إلا أن يكتفى في تحقق قاعدة الميسور بتحقق مقتضى الثبوت. ولو كان العجز طارئا عليه في واقعة واحدة.

فالحق وجوب الإتيان بالمقدور عقلا ، لأنه يعلم بتوجه التكليف

٢١٦

إليه ، فان لم يأت بالمقدور لزمت المخالفة القطعية. فالمقصود بالبحث هنا صورة طرو العجز في واقعة أخرى ، ولم يكن للدليل الدال على المركب والمقيد إطلاق ، وكذلك لم يكن للدليل الدال على الجزئية أو القيدية ، إطلاق.

إذا عرفت هذا فنقول لا إشكال في أن مقتضى الأصل الأولى البراءة ، للشك في ثبوت أصل التكليف ، لكن هنا أمور تقدم على قاعدة البراءة :

(منها) ـ استصحاب بقاء التكليف على المقدور ، إما من جهة المسامحة في المستصحب ، بمعنى أن التكليف المتعلق بالمقدور في الزمن السابق ، وان كان غيريا ، وقد انتفى قطعا. وهذا التكليف المشكوك نفسي على تقدير ثبوته ، لكن العرف لا يرى الغيرية والنفسيّة معددة للتكليف. وإما من جهة المسامحة في الموضوع ، بان يقال إن المستصحب هو التكليف النفسيّ. والمركب التام والناقص ـ بجزء واحد ، وكذا المقيد والفاقد للمقيد ـ ليسا بموضوعين عند العرف ، بل هما شيء واحد. وهذا الاختلاف نظير الاختلاف في حالات موضوع واحد ، نظير استصحاب الكرية ، مع أن موضوع الكرية لم يكن هذا الماء الموجود عقلا ، وكل منهما صحيح.

ولكن الثمرة بينهما أنه على الأول يجري الاستصحاب في المقدار المقدور ، سواء كان قليلا أم كثيرا. وبعبارة أخرى سواء كان المعجوز عنه بالنسبة إلى المقدور قليلا ، بحيث يفرض كالمعدوم أم لا ، وعلى الثاني لا يجري ، إلا إذا كان المقدور بمقدار يصح إطلاق اسم التام عليه بالمسامحة العرفية. وأيضا الاستصحاب على الوجه الأول يختص بصورة فقدان الجزء ، ولا يجري في صورة فقدان القيد ، لأن المطلق لا يكون مكلفا به

٢١٧

بالتكليف الغيري في ضمن المقيد ، لعدم كونه مقدمة له ، بخلاف الاجزاء بالنسبة إلى الكل ، فالاستصحاب في صورة فقدان القيد مختص بالوجه الثاني.

ولكن لا يخفى أنه ليس كل قيد بحيث يكون فقدانه غير قادح في جريان الاستصحاب ، بل القيود مختلفة في ذلك ، فرب قيد لا يكون عدمه مغيرا للموضوع في نظر العرف ، كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة ، فانها مع الطهارة ليست امرا مباينا لها مع عدمها ، بخلاف الإيمان بالنسبة إلى الرقبة ، فان الرقبة المؤمنة والرقبة الغير المؤمنة متباينتان بنظر العرف. ومجرى الاستصحاب في صورة العجز عن القيد هو القسم الأول ، كما لا يخفى.

و (منها) ـ النبوي الّذي في غوالي اللئالي : (إذا أمرتكم بشيء ، فأتوا منه ما استطعتم).

و (منها) ـ العلوي (الميسور لا يسقط بالمعسور ، وما لا يدرك كله لا يترك كله) وضعف اسناده مجبور باشتهار التمسك به بين العلماء في الكتب الفقهية.

تقريب الدلالة في النبوي أن كلمة من ظاهرة في التبعيض لا التبيين ، لأن كونها بيانية فيما إذا كان لسابقها إجمال يرتفع بسبب متعلقها ، كما في قولك خاتم من فضة ، وكونها بمعنى الباء خلاف الظاهر مطلقا. وحينئذ كلمة ما موصولة لا مصدرية زمانية ، فيصير المعنى إذا أمرتكم بمجموع مركب من اجزاء ، ولم تقدروا على إتيان الكل فأتوا بالبعض الّذي استطعتم.

هذا ولكن هذا المعنى وان كان ظاهرا من الرواية ، إلا أنه مستلزم لتخصيص كثير ، بل الخارج منها أكثر من الباقي بمراتب ، فحملها على هذا المعنى المستلزم لهذا التخصيص المستبشع لا يجوز ، فيدور الأمر بين

٢١٨

استكشاف تقييد متصل بالكلام مجهول عندنا ـ فلا يجوز التمسك بها في الموارد ، إلا بعد إحراز كونها من مصاديق العنوان المذكور في الدليل من الخارج ـ وبين حملها على معنى آخر ، وان كان خلافا لظاهرها ابتداء. وعلى أي حال لا يجوز التمسك بها لما نحن بصدده.

والإنصاف أنه بعد ملاحظة خروج الأكثر لو حملناه على ظاهره ، فالأقرب جعل كلمة من فيه زائدة أو بمعنى الباء ، وكلمة ما مصدرية زمانية ، فيكون مفاده تخصيص أو امر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بزمان الاستطاعة ، ويصير موافقا لأدلة نفى الحرج في الدين.

هذا واما تقريب الدلالة في العلوي الأول ، فهو أن يقال : إن قوله عليه‌السلام لا يسقط إنما هو في مقام توهم السقوط ، وهو وإن كان فرع الثبوت ، إلا أنه يكفى في صدق الثبوت وعدم السقوط ثبوت التكليف الغيري المتعلق بالميسور سابقا ، لما ذكرنا في تصحيح الاستصحاب من اتحاد التكليف الغيري والنفسيّ عرفا ، أو يقال إن التكليف النفسيّ كان ثابتا في الموضوع ، كما مضى في الاستصحاب أيضا. والثمرة بينهما كالثمرة المذكورة في الاستصحاب بالطريقين.

هذا ولكن الإشكال الوارد في الرواية السابقة من لزوم خروج الأكثر جار هنا أيضا ، فلا بد من حمله على ما لا يستلزم ذلك. والأولى حمله على الإرشاد والموعظة لمن أراد إتيان شيء بالوجه الأكمل ، أو الانتهاء إلى أقصى درجات الكمال ، فلم يتمكن ، فان النّفس قد تنصرف عن الإقدام على الميسور أيضا ، وان كان حسنا ، كما هو المشاهد المعلوم. ومن هنا يظهر الكلام في العلوي الثاني أيضا.

أصالة التخيير

المسألة الثالثة فيما إذا علم جنس التكليف ، ولم يتمكن من

٢١٩

الاحتياط ، سواء كان عالما بالنوع ، كما إذا علم بوجوب الظهر أو الجمعة ، ولم يقدر على الجمع بينهما ، أو لم يكن كذلك ، كما إذا علم بأصل الإلزام ، ولم يعلم تعلقه بفعل شيء مخصوص أو تركه.

ومجمل الكلام في المقام أنه (تارة) تفرض هذه الحالة في واقعة واحدة ، و (أخرى) في وقائع متعددة. والأول لا يفرض غالبا إلا في الشبهات الموضوعية ، كمن علم بوجوب وطي إحدى زوجتيه بالنذر في زمان خاص غير قابل للجمع ، أو علم بوجوب وطء امرأة خاصة أو حرمته ، من جهة العلم بأنه إما حلف على الوطء أو على تركه. والثاني يفرض في الشبهات الحكمية أيضا ، كمن علم بوجوب الجمعة دائما أو حرمته كذلك مثلا.

اما الفرض الأول فلا يمكن في حقه مخالفة قطعية ولا موافقة قطعية ، إن كان التكليف توصليا. والموافقة الاحتمالية والمخالفة كذلك حاصلتان قهرا ، وحيث لا معين لاختيار خصوص الفعل أو الترك في مقام العمل ، يحكم العقل بالتخيير.

وأما الفرض الثاني فالموافقة القطعية لما لم تكن متصورة فيه ، فلا أثر للعلم الإجمالي فيها. واما المخالفة القطعية ، فلا وجه لإهمال العلم بالنسبة إليها.

(لا يقال) الوقائع المتأخرة لما لم يكن التكليف بالنسبة إليها إلا مشروطا بتحقق الزمان ، لا ربط لها بالمكلف ، فالتكليف الثابت المتعلق به منحصر فيما تعلق بالواقعة الشخصية الفعلية. ولا إشكال في أن المخالفة القطعية غير ممكنة فيها ، كالموافقة القطعية.

لأنا نقول التكاليف المشروطة بشرط متحقق الحصول فيما بعد ، حالها حال التكاليف المطلقة في وجوب مقدماتها الوجودية والعلمية.

٢٢٠