إفاضة العوائد - ج ٢

آية الله السيّد محمّد رضا الگلپايگاني

إفاضة العوائد - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد رضا الگلپايگاني


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٠
الجزء ١ الجزء ٢

التي لا يجب فيها الاحتياط اتفاقا.

ولكنه مخدوش بعدم ثبوت الاتفاق على البراءة ، حتى في مثل هذه الشبهة ، كيف؟ والخصم يستدل على دعواه بوجوب دفع المفسدة المحتملة. والمتيقن من مورد الاتفاق إنما هو الشبهات التي لم يكن كشفها وظيفة الشارع ، مثل كون هذا المائع بولا أو خمرا ونحو ذلك فالعمدة في الجواب ما ذكرنا فلا تغفل (٦٥).

(الأمر الثاني) أن الأمور التي يمكن أن تكون بيانا وحجة على العقاب ـ بزعم الخصم ـ الآيات والاخبار. أما الآيات فهي على صنفين.

(أحدهما) ما دل على النهي عن القول بغير العلم. والجواب عنه واضح ، لأنا لا نقول بأن الواقعة المشكوكة محكومة بالحلية في نفس الأمر ، حتى يكون قولا بغير علم ، بل نقول بان إتيان محتمل الحرمة بعد الفحص عن الدليل لا يوجب عقابا ، وكذا ترك محتمل الوجوب. وهذا ليس قولا بغير علم ، بل هو مقتضى حكم العقل بقبح العقاب من دون بيان.

(ثانيهما) ـ ما دل بظاهره على لزوم الاحتياط والتورع والاتقاء ،

______________________________________________________

(٦٥) لا يخفى أن ما ذكره ـ دام ظله ـ في الجواب لا يثمر إلا لنفي حكم العقل بوجوب دفع الضرر المظنون ، ليكشف منه حكم الشرع بقاعدة الملازمة ، حيث أنكر كون الجبليّات والفطريات حكم العقل ، كما في فطريات الحيوانات. وأما ذلك فلا ينفي حكم الشرع ، تعبدا بحرمة مخالفة تلك الجبلة ، إذا ورد عليه دليل آخر غير ما ادعى من العقل ، كما ان عد إهلاك الإنسان نفسه من الجبليّات. ولكن مع ذلك ورد من الشارع حرمته بالإجماع والكتاب والسنة ، فيمكن أن يكون الإضرار أيضا كذلك ، حيث أنه لا إشكال في حرمة الإضرار على النّفس أو المال أو العرض إذا لم يكن مما يتسامح ويتحمل عادة بالإجماع أو بلا ضرر ، فليس الجواب

١٤١

مثل قوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) وقوله تعالى (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) وكذا (لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ).

والجواب عما عدا الأخير أن الاتقاء يشمل فعل المندوبات وترك المكروهات. ولا إشكال في عدم وجوبهما ، فيدور الأمر بين تقييد المادة بغيرهما وبين التصرف في هيئة الطلب ، بحملها على إرادة مطلق الرجحان ، حتى لا ينافى فعل المندوب وترك المكروه. ولا إشكال في عدم أولوية الأول إن لم نقل بأولوية الثاني ، من جهة كثرة استعمالها في غير الوجوب ، حتى قيل : إنه صار من المجازات الراجحة لمساواة احتمالها مع الحقيقة. وأما عن آية التهلكة فبان الهلاك بمعنى العقاب معلوم العدم ، لعدم البيان عليه ، وبدونه قبيح. ولا يمكن ان يكون هذا النهي بيانا ، إذ موضوعه التهلكة ، ولا يمكن ان يتحقق الموضوع بواسطة حكمه. واما الهلاك بمعنى المفاسد المترتبة على فعل الحرام وترك الواجب ، فالحق ان الآية لا تشملها ، لأنها مما لم يقل به إلا الأوحدي من الناس بالبرهان

______________________________________________________

إلّا أن ما أجمع على حرمته ـ ولو كان عنوانا عاما ، أو ورد عليها دليل ـ هو الضرر الواقعي ، والتمسك بهما في مورد الشك تمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية.

وأما ما أورد عليه من أن المتيقن من مورد الاتفاق انما هو الشبهات التي لم يكن كشفها وظيفة الشارع. ففيه : أن الشارع إذا حرّم شيئا بعنوان الضرر ، فلا ريب أن تعيين مصداق الضرر خارج عن وظيفته. نعم في بعض الموارد يمكن أن يكون الضرر الواقعي مخفيا ، بحيث يجب على الشارع إعلام العباد ، ولو بإنشاء حكم إلزاميّ عليه بعنوانه. وهذا لا ربط له بإثبات الحرمة بعنوان لا ضرر.

فالجواب لهذا التمسك منحصر بما ذكر من أنه تمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية ، ولذا يجوز لمن يجوّز التمسك به فيها التمسك لإثبات الحرمة في المقام بلا ضرر ، فلا تغفل.

١٤٢

العقلي ، حتى أن بعضا من العدلية لا يلتزمون بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلق ، بل يكتفون بوجود المصلحة في التكليف. فكيف تحمل الخطابات ـ المنزلة على فهم العرف ـ على هذا المعنى الدّقيق الّذي لا يعرفه إلّا البعض بمقتضى البرهان العقلي.

ويمكن ان يقال ـ على فرض شمولها للمفاسد الذاتيّة ـ لا تدل على دعوى الخصم ، لأنها تدل على حرمة إلقاء النّفس في التهلكة الواقعية ، ولا دلالة لها على حكم حال الشك.

وفيه ان الظاهر أن إلقاء النّفس في التهلكة أعم من الإقدام على التهلكة اليقينية والمحتملة عرفا ، ولا أقل من شمولها لموارد الظن بالتهلكة ، وان كان غير معتبر ، فيلحق به الشك ، لعدم القول بالفصل ، فالأولى في الجواب ما ذكرنا.

وأما الاخبار فهي على أصناف :

(الأول) ما يدل على حرمة القول بغير علم ، وقد مر الجواب عنه.

(الثاني) ما يدل على وجوب التوقف عند الشبهة ، وهذا النصف مختص بالشبهة التحريمية ، بقرينة التوقف الّذي يكون عبارة عن عدم المضي والحركة إلى جانب الفعل.

(الثالث) الاخبار الدالة على وجوب الاحتياط ، وهي أعم موردا من السابق ، لأنها تشمل الشبهة التحريمية والوجوبية.

أما ما يدل منها على التوقف ، فهو أكثر من ان يحصى. وتقريب الاستدلال به أن الظاهر ـ من هذه الاخبار الكثيرة ـ أن عدم التوقف والحركة إلى ناحية الفعل المحتمل حرمته موجب للاقتحام في الهلكة ، والظاهر من الهلكة العقاب الأخروي ، فمحصل هذه الاخبار ان الإقدام ـ على فعل ما احتمل حرمته ـ موجب لثبوت العقاب على تقدير كون

١٤٣

الفعل المأتي به محرما في الواقع.

لا يقال إن الأوامر المتعلقة بالتوقف لا يمكن كونها بيانا لثبوت العقاب ، لأنها انما جاءت من جهة الهلكة ، كما هو مقتضى التعليل في الاخبار ، والحكم الّذي جاء من جهة الهلكة لا يعقل ان يكون منشأ لثبوتها ، للزوم الدور. فمورد هذه الاخبار مختص بالشبهة التي قامت الحجة في موردها على الواقع ، على تقدير ثبوته ، كالشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي ونحو ذلك. وأما الشبهات البدوية بعد الفحص عن الدليل ، فليس مرتكبها مقتحما في الهلكة ، حتى يجب عليه التوقف ، للقطع بعدم الهلكة فيها ، من جهة قبح العقاب من دون بيان.

لأنا نقول : إذا تعلق حكم بطبيعة ، وعلل بعلة ، وكان المتكلم في مقام البيان ، فالظاهر ان تلك الطبيعة في أي فرد وجدت محكومة بذلك الحكم ، وان العلة سارية في جميع افراد تلك الطبيعة (٦٦). ولا فرق فيما قلنا بين أن يكون الحكم المذكور في القضية مولويا ، وبين ان يكون إرشاديا ، ألا ترى أن الطبيب لو قال للمريض كل الرمان لأنه مزيل للصفراء ، يفهم منه ان إزالة الصفراء سارية في تمام افراده ، وان هذه الطبيعة من دون تقييدها بشيء تصلح لذلك المريض.

والحاصل أنه لا إشكال في ظهور ما قلنا ، وأن الاخبار تدل على أن مطلق الشبهة يجب فيها التوقف ، لأن عدم التوقف فيها موجب للاقتحام

______________________________________________________

(٦٦) ويمكن ان يكون نفس التعليل بالوقوع في الهلكة بيانا لا يجاب الاحتياط ، ليصح العقاب على الواقع لو صادف مخالفته لمخالفته ، فان البيان على لزوم شيء أو حرمته كما يتحقق بالأمر به والنهي عنه ، كذلك يتحقق بذكر أن من فعل ذلك يستحق كذا وكذا أجرا أو عقابا. لكن الإنصاف أن الظاهر من الاخبار خلاف ذلك.

١٤٤

في الهلكة ، فيجب الجمع بين هذا الإطلاق والقاعدة العقلية التي مرت سابقا : من قبح العقاب من دون بيان ، بأن يستكشف من هذه الأدلة أن الشارع قد كان أوجب الاحتياط على المخاطبين بالخطاب المدلول عليه بهذه الاخبار ، وإلّا لم يصح التعليل المذكور في الاخبار ، فإذا ثبت وجوب الاحتياط على المخاطبين بهذه الخطابات ، يثبت وجوبه علينا أيضا ، للقطع بالاشتراك في التكليف. هذا غاية ما يمكن ان يقال في تقريب الاستدلال بهذه الاخبار.

(والجواب) أولا بأنا نمنع ظهور المشتبه في كل محتمل ، بل قد يطلق على فعل يحتمل فيه الحظر ، وبعد احتمال ذلك في اللفظ لا يتعين المعنى الأول ، بل يتعين الثاني ، بقرينة التعليل ، فلا ربط حينئذ لتلك الاخبار بمذهب المدعى.

(وثانيا) أنه ـ على فرض ظهور هذه الاخبار في العموم ـ لا مناص من حملها على إرادة مطلق الرجحان ، وحمل الهلكة فيها على الأعم من العقاب وغيره من المفاسد ، لأنه من الموارد التي أديت بهذه العبارة ـ في الاخبار على سبيل التعليل ـ النكاح في الشبهة ، وقد فسره الإمام الصادق عليه‌السلام بقوله : (إذا بلغك أنك رضعت من لبنها ، أو أنها لك محرمة ، وما أشبه ذلك) ولا إشكال في أن مثل هذا النكاح لا يجب الاجتناب عنه ، ولا يوجب عقابا ، وإن صادف المحرم الواقعي ، فان مثل هذه الشبهة من الشبهات الموضوعية التي يتمسك فيها بالأصل اتفاقا ، مضافا إلى قيام الإجماع أيضا فيها.

والحاصل أن قولهم عليهم‌السلام ـ فان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ـ أجرى في موارد وجوب التوقف ، وفي موارد عدم وجوب التوقف ، فاللازم ان نحمله على إرادة مطلق الرجحان ، حتى يلائم

١٤٥

كليهما.

(وثالثا) مع قطع النّظر عن بعض موارد تلك الاخبار ، نعلم من الخارج عدم وجوب التوقف في بعض من الشبهات التحريمية والشبهات الموضوعية باعتراف الخصم ، فيدور الأمر بين تخصيص الموضوع بغيرها أو حمل الهيئة على مطلق الرجحان. ولا ريب في عدم رجحان الأول إن لم نقل بالعكس ، فيسقط عن الدلالة على ما ادعاه الخصم.

(واما الصنف الثالث) من الأوامر التي دلت بظاهرها على وجوب الاحتياط فهي كثيرة :

(منها) صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال : (سألت أبا الحسن عليه‌السلام) عن رجلين أصابا صيدا وهما محرمان ، الجزاء بينهما ، أو على كل واحد منهما جزاء؟ قال عليه‌السلام : بل عليهما أن يجزى كل واحد منهما الصيد ، فقلت : ان بعض أصحابنا سألني عن ذلك ، فلم أدر ما عليه ، قال عليه‌السلام إذا أصبتم بمثل هذا فلم تدروا ، فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا وتعلموا.

(ومنها) موثقة عبد الله بن وضاح ، قال : (كتبت إلى العبد الصالح يتوارى عنا القرص ، ويقبل الليل ، ويزيد الليل ارتفاعا ، ويستر عنا الشمس ، ويرتفع فوق الجبل حمرة ، ويؤذن عندنا المؤذنون ، فأصلّي حينئذ ، وأفطر إن كنت صائما ، أو انتظر حتى تذهب الحمرة التي فوق الجبل؟ فكتب إليّ أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة ، وتأخذ بالحائطة لدينك.). الخبر.

(ومنها) خبر التثليث المروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والوصي وعن بعض الأئمة عليهم‌السلام ، ففي مقبولة ابن حنظلة الواردة في الخبرين المتعارضين ـ بعد الأمر بأخذ المشهور منهما ، وترك الشاذ النادر ،

١٤٦

معللا بقوله عليه‌السلام ، فان المجمع عليه لا ريب فيه ـ قوله عليه‌السلام : (انما الأمور ثلاثة : امر بين رشده فيتبع ، وامر بين غيه فيجتنب ، وامر مشكل يرد حكمه إلى الله ورسوله قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات ، ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرمات ، وهلك من حيث لا يعلم).

(ومنها) سائر الاخبار الآمرة بالاحتياط في الدين. مثل ما ورد من قول أمير المؤمنين عليه‌السلام لكميل بن زياد رضي الله عنه : (أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت) وأمثال ذلك.

والجواب أما عن الصحيحة ، فبان قوله عليه‌السلام : (إذا أصبتم بمثل هذا) يحتمل أن يكون إشارة إلى السؤال ، يعنى إذا سألتم عن مثل هذه الواقعة من الوقائع المشكوك فيها ، ولم تدروا حكمها فعليكم بالاحتياط. ويحتمل أن يكون إشارة إلى نفس الواقعة ، يعنى إذا ابتليتم بالوقائع المشكوك فيها ، فعليكم بالاحتياط.

وعلى الأول يحتمل أن يكون المراد من قوله عليه‌السلام فعليكم بالاحتياط إيجاب التوقف وترك القول بما لا يعلم ، وأن يكون المراد إيجاب الإفتاء بالاحتياط ، والأخير بعيد جدا.

وعلى الثاني يمكن أن يكون المراد من قوله عليه‌السلام بمثل هذا جميع الوقائع المشكوك فيها ، وأن يكون المراد ما كان مماثلا لواقعة جزاء الصيد في كونه مرددا بين الأقل والأكثر. واستدلال الأخباريين مبنى على حمل الرواية على المعنى الأول بالوجه الثاني الّذي قلنا بأنه بعيد جدا ، أو على المعنى الثاني بالوجه الأول.

اما الأول منهما ففي غاية البعد. وأما الثاني فيلزم عليهم الحكم

١٤٧

بالاحتياط في الشبهات الوجوبية البدوية ، ولم يلتزم أكثرهم بذلك ، مضافا إلى عدم الترجيح في هذا الاحتمال ، فيسقط الخبر عن صحة الاستدلال.

واما عن الموثق فبأنه مع اضطرابه لا يدل على المطلوب ، لأنه ان حمل على كفاية استتار القرص ووجوب الانتظار حتى يحصل القطع بتحققه ، فمع بعده عن ظاهر الخبر ـ كما لا يخفى ـ لا يدل إلّا على انه في أمثال المقام ـ مما اشتغلت ذمة المكلف بتكليف ـ يجب عليه ان يحتاط ، حتى يحصل له اليقين بالبراءة (٦٧) وان حمل على كفاية استتار القرص ، فيشكل حكم الإمام عليه‌السلام بالاحتياط ، مع أن المورد من الشبهات الحكمية التي تكون وظيفة الإمام عليه‌السلام رفع الشبهة فيها ، فلا بد ان يحمل هذا البيان منه على التقية ، بمعنى ان قوله عليه‌السلام ـ (أرى لك ان تنتظر) ـ ليس من أجل عدم كفاية الاستتار ، بل من جهة حصول القطع بتحققه لمكان. الاحتياط اللازم في المورد.

بل يمكن أن يقال إن الظاهر من قوله عليه‌السلام (أرى لك) إيجاب الانتظار احتياطا ، فيكون هذا أيضا شاهدا على التقية ، ويمكن قريبا أن يكون قوله عليه‌السلام ـ (وتأخذ بالحائطة لدينك) متمما للفقرة الأولى ، لا تعليلا لها ، فالمراد على هذا انه يجب عليك الانتظار على نحو الاحتياط ، من دون ان يلتفت إلى مذهبك أحد.

واما عن خبر التثليث فينبغي أولا ذكر موارد الاستدلال به ، ثم الجواب عنه. وهي ثلاثة :

(أحدها) إيجابه الأخذ بالمشهور وطرح الشاذ النادر ، معللا بان

______________________________________________________

(٦٧) بل مقتضى الاستصحاب في المقام أيضا وجوب الانتظار كما لا يخفى.

١٤٨

المجمع عليه لا ريب فيه ، فيستفاد من التعليل أن الوجه في وجوب طرح الشاذ كونه مما فيه ريب. وبمقتضى عموم هذه العلة يجب رفع اليد عن كل ما فيه الريب وطرحه ، والأخذ بما لا ريب فيه. وهذا مفاد قولهم عليهم‌السلام في بعض الاخبار : (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) فشرب التتن مثلا مما فيه ريب ، وتركه مما لا ريب فيه. ومقتضى قوله عليه‌السلام وجوب طرح الأول والأخذ بالثاني.

(ثانيها) تقسيم الإمام عليه‌السلام الأمور إلى ثلاثة أقسام ، والحكم بوجوب رد الشبهات إلى الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(ثالثها) النبوي الّذي استشهد به الإمام عليه‌السلام ، وهو قوله : (حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات ، ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرمات ، وهلك من حيث لا يعلم).

والجواب أما عن الأول فبان السؤال انما هو عن الخبرين المتعارضين ، وانه بأيهما يجب الأخذ على انه طريق وحجة ، فيستفاد من الجواب بملاحظة عموم التعليل : ان الأخذ بكل ما فيه الريب بعنوان أنه حجة بينه وبين الله غير جائز ، ولا شك في ذلك. ولا دخل له بما نحن بصدده : من لزوم الاحتياط في مقام العمل وعدمه.

وأما عن الثاني فبان ظاهر حكم الإمام عليه‌السلام بردّ الشبهات إلى الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله عدم القول بما لا يعلم. ولا إشكال أيضا في ذلك ، ولا يدفع ما ندعيه كما لا يخفى.

واما النبوي ، فان كان المراد من الهلكة فيه العقاب ـ كما هو

١٤٩

الظاهر ـ فاللازم حمله على الإرشاد (٦٨) وتخصيصه بموارد ثبوت الحجة على الواقع ، وان كان ما يعم المفاسد الذاتيّة ، فاللازم حمل الطلب فيه على مطلق الرجحان. ويمكن أن يقال إن المحرمات الواقعية التي لا دليل على ثبوتها ليست داخلة في هذا التقسيم ، بل هو ناظر إلى المحرمات المنجزة ، والمحللات والشبهات بين الحرام المنجز والحلال ، كالشبهات في أطراف العلم الإجمالي. ولا إشكال في وجوب الاحتياط فيها.

وأما عن سائر الاخبار الآمرة بالاحتياط ، فبأن الأمر فيها دائر بين التصرف في المأمور به ـ بحمله على غير الشبهات الموضوعية التي ليس الاحتياط فيها واجبا اتفاقا ـ وبين التصرف في الهيئة بحملها على إرادة مطلق الرجحان ، ولا أقل من عدم ترجيح الأول ان لم يكن الثاني أولى ، كما هو واضح ، مضافا إلى أن الظاهر من كلها أو جلها الاستحباب ، كما لا يخفى على من راجعها.

الأمر الرابع ـ من الأمور التي تمسك بها الخصم ـ العلم الإجمالي بوجود أحكام كثيرة ، وهذا العلم حاصل لكل من علم ببعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا طريق إلى إنكاره إلا المكابرة. ومقتضى هذا العلم الاحتياط في كل شبهة وجوبية أو تحريمية ، لأن الاشتغال اليقينيّ بالتكاليف يقتضى البراءة اليقينية منها بحكم العقل ، غاية الأمر إن ثبت عدم وجوب الاحتياط في الشبهات الوجوبية بالدليل ، نقول بمقتضاه في خصوص تلك الشبهة ، وتبقى الشبهات التحريمية باقية على

______________________________________________________

(٦٨) وليس حاله إلا حال الاخبار الدالة على التوقف المعللة بان الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات ، وقد مرّ تقريب الاستدلال مع الجواب عنها فراجع.

١٥٠

مقتضى العلم الإجمالي.

لا يقال إن هذا العلم إنما يكون قبل مراجعة الأدلة. وأما بعدها فالمعلوم اشتغال الذّمّة بمقتضى مداليل الأدلة ، والزائد مشكوك فيه.

وبعبارة أخرى بعد مراجعة الأدلة ينحل العلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي والشك البدوي.

لأنا نقول ان كان المراد ان الأدلة توجب القطع بالاحكام الواقعية ، فكل منصف يقطع بخلاف ذلك ، وان كان المراد أنه مع كون الأدلة لا تفيد القطع ، يجري الأصل في الموارد الخالية عنها.

فالجواب بأنه لا وجه لذلك ، فان المراد من انه مقتضى دليل حجية الأمارات وجوب الأخذ بمؤداها لا حصر التكاليف الواقعية بمواردها. وحينئذ لا منافاة بين وجوب الأخذ بمؤدى الأمارات بمقتضى دليل اعتبارها ، ووجوب الأخذ بمقتضى العلم الإجمالي الموجود فعلا بالاحتياط في الأطراف الخالية عن الأمارة (٦٩) هذا والجواب عنه بوجوه : ـ

______________________________________________________

(٦٩) قد يقال : إن نظير المقام ما إذا قال اجتنب عن إناء زيد مع تردده بين إناءين ، ثم قامت البينة على كون إناء خاص إناء زيد ، فانه لو اجتنب عن خصوص ما قامت البينة عليه يكفيه ولا شيء عليه. وصرّح بذلك المحقق الخراسانيّ (قدس‌سره) في الكفاية.

لكن الظاهر خلافه ، لأن في المثال نزّل الإناء الخاصّ منزلة إناء زيد ، وفي الحقيقة هذه البينة حجة على عدم كون غيره إناء زيد ، فهي حجة على عدم وجوب الاجتناب عن غيره ، بخلاف مقامنا ، فان المفروض أن العلم بالواقعيات باق ، والأمارات لا تدل الا على وجوب ما أدّت إلى وجوبه ، أو حرمة ما أدّت إلى حرمته ، من غير تعرض لتطبيق المعلوم عليه ، فيؤثر العلم اثره.

١٥١

(الأول) ـ ان العلم الإجمالي بالتكاليف لا يقتضى إلّا الإتيان بالمقدار المعلوم إما حقيقة ، كما لو علم بالمقدار المعلوم تفصيلا وأتى به ، وإما حكما كما لو أتى بمؤديات الطرق التي نزلها الشارع منزلة الواقع ، فالآتي بها كالآتي بنفس الواقعيات ، ولا شيء عليه سوى ذلك.

ويمكن الخدشة في هذا الجواب : بان العلم الإجمالي يقتضي عدم المخالفة بالمقدار المعلوم إجمالا ، لا المطابقة بذلك المقدار ، كما سبق في مبحث دليل الانسداد ، وجعلناه مبنى القول بالتجزي في الاحتياط (٧٠).

(الوجه الثاني) ـ أنه ـ بعد قيام الأدلة على الواجبات والمحرمات بالمقدار المعلوم ـ ينحل العلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي والشك البدوي ، لأن الإتيان بما دلت الأدلة على وجوبه واجب ، وكذا ترك ما دلت على تحريمه ، ولا يكون لنا علم بالتكليف ، سوى ما علم تفصيلا ، لاحتمال انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل.

فان قلت : هذا ـ لو اطلع على الأدلة قبل العلم الإجمالي أو مقارنا له ـ صحيح ، لما ذكر من عدم العلم بأزيد مما علم تفصيلا بمجرد احتمال

______________________________________________________

(٧٠) الظاهر ان الجواب المذكور مخدوش ، بان الامتثال الحكمي للمعلوم بالإجمال لا يتحقق إلّا فيما مثلنا به في التعليقة السابقة من أنا لو علمنا بوجوب الاجتناب عن إناء زيد ، فأخبر العادلان بأن الإناء الخاصّ لزيد ، فان الاجتناب عنه امتثال حكمي للمعلوم ، وهو كاف ، ولو قيل بلزوم عدم المخالفة بالمقدار المعلوم في العلم الإجمالي ، لأن مرجع ذلك الطريق إلى نفي وجوب غيره ، وهو كاف في التأمين من العقاب المحتمل ، بخلاف ما لو أخبرا بنجاسة ذلك الإناء ، فان العلم الإجمالي ـ بنجاسة إناء زيد الغير المنحل فعلا ـ يقتضى لزوم الاجتناب عن الآخر أيضا ، وان قلنا بكفاية ، الموافقة بالمقدار المعلوم حقيقة وحكما ، لأن الموافقة بالمقدار المعلوم واقعا مجهول بالفرض ، وحكما لا دليل عليه ، فافهم.

١٥٢

التطبيق. وأما لو اطلع على الأدلة بعد العلم الإجمالي ، فلا يكفى مجرد احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على مداليل الأدلة ، لتنجز الواقعيات بواسطة العلم ، ويجب بحكم العقل الامتثال القطعي.

قلت : يشترط في بقاء أثر العلم الإجمالي كونه باقيا ، بمعنى أن يكون عالما في الزمن الثاني إجمالا بوجود التكليف في الزمن الأول ، وان لم يكن عالما به ، بملاحظة الزمن الثاني ، من جهة انعدام بعض الأطراف أو خروجه عن محل الابتلاء أو غير ذلك. ولهذا لو شك في الزمن الثاني في ثبوت التكليف في الزمن الأول ، لم يكن أثر للعلم الأول بلا إشكال.

فحينئذ نقول : العلم الإجمالي وان كان موجودا في الزمن الأول ، لكن الأمارات الدالة على الأحكام لما دلت على ثبوتها من أول الأمر ، وكان الواجب عليه البناء على مضمونها ، ففي زمان الاطلاع على هذه الأمارات لم يكن إجمال في البين ، بملاحظة الحالة السابقة ، لأنه يعلم في الحال بثبوت التكليف في موارد الأمارات من أول الأمر ، ويشك في الزائد كذلك.

وبعبارة أخرى الظفر بالأمارات ـ بعد العلم الإجمالي ـ من قبيل العلم بالتكاليف الواقعية من أول الأمر ، فكما انه يوجب انحلال العلم الإجمالي ، كذلك الظفر بالأمارات الشرعية ، لأنها تكشف عن وجود تكاليف قطعية على طبق مقتضاها من أول الأمر.

هذا ولا يخفى أن الجواب المذكور وان كان نافعا في المقام ، فان كلا منا في الشبهات الحكمية. والأدلة القائمة على التكاليف ثابتة في الواقع مقدمة على العلم الإجمالي ، غاية الأمر عدم اطلاع المكلف عليها. وبعد اطلاعه عليها يكشف عن ثبوت تكاليف قطعية من أول الأمر كما عرفت.

١٥٣

ولكنه غير نافع في الشبهة الموضوعية (٧١) كما لو قامت البينة على بعض أطراف العلم الإجمالي متأخرة عن العلم ، لأنها لا تكشف عن التكليف القطعي ، ضرورة ان التكليف القطعي ـ الّذي يكون عبارة عن وجوب متابعة البينة ـ لا يمكن أن يكون سابقا على نفس البينة ، فلا يبقى في البين إلا لسان البينة بكون هذا موضوعا للحكم سابقا. ومجرد هذا اللسان لا يجدى في الانحلال الوجداني. نعم الجواب الأول إن تم فهو نافع مطلقا حتى في موارد قيام البينة.

(الوجه الثالث) ـ أن العلم يعتبر في موضوع حكم العقل ، من حيث انه طريق قاطع للعذر ، لا من حيث انه صفة خاصة. ولذا تقوم الأمارات مقامه. وقد بينا الفرق بينهما في مبحث حجية القطع. وعلى هذا لو قامت أمارة معتبرة أو طريق معتبر على بعض الأطراف مفصلا ، فالمعلوم بصفة أنه معلوم وان كان بعد مرددا ، ولكن ما قام عليه الطريق القاطع للعذر ليس مرددا ، فما هو ملاك حكم العقل بوجوب الامتثال مفصل ،

______________________________________________________

(٧١) لا يخفى أن الفرق بين الشبهة الحكمية والموضوعية مبني على كون الأمارة حجة يجب العمل بها في الواقع ، وان لم تكن واصلة إلى المكلف ، فيكشف بعد الوصول أن العمل بها كان واجبا من أول الأمر. أما لو قلنا بعدم الحجية لها الا بعد الوصول ، وعدم وجوب العمل بها الا بعده ، فحالها حال البينة في أن وجوب العمل بها لا يتحقق إلّا بعد وصولها ، فلا ينحل العلم بها أيضا. وقد مرّ من الماتن ـ دام ظله ـ اختيار عدم الحجية الا للواصل.

اللهم إلا أن يقال : بالفرق بين حجية الأمارة ووجوب العمل بها ، لأن الحجية لا تتحقق الا بعد الوصول ، بخلاف وجوب العمل على طبقها ، فانه مجعول واقعا ، وان لم تصل إلى المكلف ، فالمكلف ما لم تصل إليه معذور في ترك العمل بها كالاحكام الواقعية. فافهم.

١٥٤

وما بقي على إجماله ليس ملاكا لحكم العقل. ولا تفاوت في الانحلال على هذا الوجه بين أن يكون الطريق مقارنا للعلم أو سابقا عليه أولا حقا له ، وكذا لا تفاوت بين الشبهة في الحكم وبين الشبهة في الموضوع.

هذا. وتلخص مما ذكرنا عدم نهوض الأدلة التي استدل بها أصحابنا الأخباريون على إيجاب الاحتياط ، فيكفى لنا حكم العقل بقبح العقاب من دون بيان.

ولنشرع في ذكر الأدلة الشرعية الدالة على عدم البأس في ارتكاب الشبهات الحكمية البدوية بعون الله تعالى وحسن توفيقه.

(منها) ـ الخبر المروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بسند صحيح في الخصال كما عن التوحيد : (رفع عن أمتي تسعة أشياء : الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطروا إليه.). وتقريب الاستدلال به واضح.

واستشكل شيخنا المرتضى قدس‌سره في شموله للشبهات الحكمية التي هي محل النزاع بوجهين :

(أحدهما) ـ أن السياق يقتضى أن يكون المراد من الموصول في قوله ما لا يعلمون هو الموضوع ، إذ المراد في قوله ما لا يطيقون وما اضطروا إليه وما استكرهوا عليه ليس إلّا الأفعال ، إذ لا معنى للاضطرار إلى الحكم أو الإكراه عليه ، فيكون المراد من الموصول في قوله ما لا يعلمون أيضا الأفعال المجهولة العنوان ، لظهور اتحاد السياق.

(ثانيهما) ـ أن الظاهر أن المراد من الرفع هو رفع المؤاخذة ، فلا بد من التقدير في قوله ما لا يطيقون وما اضطروا إليه وما استكرهوا عليه ، والمقدر هو المؤاخذة على نفس المذكورات ولو قلنا بشمول الموصول فيما لا يعلمون الحكم أيضا ، لا يمكن مثل هذا التقدير فيه ، إذ لا معنى للمؤاخذة على

١٥٥

الحكم.

وزاد شيخنا الأستاذ إشكالا آخر ، وهو أن إسناد الرفع إلى الحكم إسناد إلى ما هو له ، إذ وظيفة الشارع رفع الحكم ووضعه ، واسناده إلى الموضوع اسناد إلى غير ما هو له ، فيكون إسنادا مجازيا ، فإرادة الحكم والموضوع من الموصول لا تجوز إلا ان يراد كل منهما مستقلا ، كما في استعمال اللفظ في المعنيين. هذا ولكن الإنصاف عدم ورود شيء مما ذكر.

اما قضية السياق فلان عدم تحقق الاضطرار في الأحكام وكذا الإكراه لا يوجب التخصيص في قوله (ما لا يعلمون) ولا يقتضى السياق ذلك ، فان عموم الموصول إنما يكون بملاحظة سعة متعلقه وضيقه ، فقوله عليه‌السلام ما اضطروا إليه أريد منه كل ما اضطر إليه في الخارج ، غاية الأمر لم يتحقق الاضطرار بالنسبة إلى الحكم ، فيقتضى اتحاد السياق أن يراد من قوله (ما لا يعلمون) أيضا كل فرد من افراد هذا العنوان. ألا ترى أنه إذا قيل ما يؤكل وما يرى في قضية واحدة ، لا يوجب انحصار افراد الأول في الخارج ببعض الأشياء تخصيص الثاني أيضا بذلك البعض؟ وهذا واضح جدا. واما ما ذكره قدس‌سره من الوجه الثاني ، فالتحقيق فيه أنه لا يحتاج إلى التقدير في القضية أصلا.

توضيح ذلك : أنه (تارة) نلتزم بان الأحكام : الواقعية في حال الجهل لا بد وان تكون باقية على فعليتها. و (أخرى) لا نلتزم بذلك. وعلى أي حال نقول : أسند الرفع إلى نفس ما لا يعلمون بنحو من المسامحة ، فعلى الأول المجهول سواء كان حكما أو موضوعا ليس مرفوعا حقيقة. أما الثاني فواضح. وأما الأول فلان المفروض بقاء الأحكام الواقعية على فعليتها في

١٥٦

حال الجهل ، فلا بد من إحدى المسامحتين (٧٢). إما جعل المجهولات مما يقبل الرفع ادعاء ، وإما حمل النسبة على التجوز (٧٣) ، وعلى الثاني إن كان المجهول حكما يمكن رفعه حقيقة ، بمعنى رفع فعليته في حال الجهل. وأما ان كان موضوعا ، فلا يقبل الرفع ، فالمتعين جعل ما لا يقبل الرفع مما يقبل الرفع ادعاء ، ثم نسبة الرفع إلى الجميع حقيقة. ومما ذكرنا يظهر ما فيما أفاده شيخنا الأستاذ أيضا فلا تغفل.

وبالجملة الإنصاف انه لا وجه لرفع اليد عن عموم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (ما لا يعلمون) للشبهات الحكمية. ثم إنك بعد ما عرفت ان نسبة الرفع إلى ما لا يعلمون وأخواته تحتاج إلى وجه من المسامحة ، اعلم أن المصحح لهذه المسامحة إما أن يكون رفع جميع الآثار ، وإما خصوص المؤاخذة في الجميع ، وإما الأثر المناسب لكل من المذكورات.

فان قلنا بالأول ، فلو كان للشيء آثار متعددة يرتفع عند الجهل أو النسيان أو الاضطرار كلها ، مثل ما لو اضطر إلى ليس الحرير الّذي له الحرمة النفسيّة والمانعية للصلاة ، وكذا لو جهل بكونه حريرا أو جهل بكون الحرير محرما ومانعا من الصلاة.

______________________________________________________

(٧٢) لا يخفى أن الأحكام ـ على هذا المبنى ـ وان كانت فعلية في مرتبة الذات ، لكنها مرفوعة في مرتبة الشك فيها ، بوصف أنها مشكوكة ، ويمكن دعوى عدم دلالة الحديث على أزيد من ذلك.

(٧٣) لا يخفى ان اسناد الرفع مجازا إلى الموضوع ـ بلحاظ رفع مؤاخذته ـ لا يأباه الوجدان ، بخلاف اسناده إلى الحكم بلحاظ رفع مؤاخذة موضوع محكوم بذلك الحكم ، فلعله يصير كإسناد الجري على السطح المجاور للميزاب المجاور للماء الجاري.

١٥٧

وان قلنا بان الثاني مورد الرفع ، فينحصر فيما له خصوص الأثر المذكور ـ أعني المؤاخذة ـ وما لم يكن له ذلك خارج عن مورد الرواية.

وان قلنا بالثالث يشمل غير المؤاخذة أيضا ، لكن الفرق بينه وبين الأول : أنه على الأول لو كان للشيء آثار متعددة يرتفع الكل ، بخلاف الأخير ، فانه يلاحظ ما هو أنسب بالنسبة إلى ذلك الشيء.

إذا عرفت هذا فنقول لو خلينا وأنفسنا ، لقلنا بأن الظاهر أن نسبة الرفع إلى المذكورات إنما تكون بملاحظة رفع المؤاخذة ، لكن ينافيه ما روى عن الصفوان والبزنطي عن أبي الحسن عليه‌السلام بطريق صحيح في (رجل يستكره على اليمين ، فحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك يلزمه ذلك؟ فقال لا ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رفع عن أمتي ما أكرهوا عليه وما لا يطيقون وما أخطئوا.). فان الحلف على ما ذكر وان كان باطلا مطلقا ، إلّا ان استشهاد الإمام عليه‌السلام ـ على عدم لزومها مع الإكراه على الحلف بها ـ يدل على عدم اختصاص الرفع برفع المؤاخذة ، فعلى هذا يدور الأمر بين الاحتمالين الأخيرين أحدهما جميع الآثار ، والثاني الأثر المناسب ، لكن الثاني مستلزم لملاحظات عديدة فتعين الأول (٧٤).

قال شيخنا الأستاذ في تعليقاته : (ان ما يظهر من الخبر لا ينافى

______________________________________________________

(٧٤) لا يخفى ان العطف بالواو في كل من التسعة بمنزلة تكرير «رفع» وبناء عليه فلا إشكال في إرادة رفع الأثر الظاهر في كل منها ، ولو لا ذلك لأشكل في جميع الآثار أيضا ، لاحتياجها إلى ملاحظات عديدة ، حيث أن آثارها مختلفة ، ولا يقدّر مجموع الآثار مفهوما بالقطع ، وإلا لأمكن تقدير مفهوم الأثر الظاهر ، فلا يبعد القول برفع الأثر الظاهر على ما يظهر عند العرف.

١٥٨

تقدير خصوص المؤاخذة مع تعميمها إلى ما كانت مرتبة عليها بالواسطة ، كما في الطلاق والصدقة والعتاق ، فانها مستتبعة لها بواسطة ما يلزمها من حرمة الوطء في المطلقة ، ومطلق التصرفات في الصدقة ، أو العتق ، وبالجملة لو كان المقدر هو خصوص المؤاخذة الناشئة من قبلها بلا واسطة أو معها لا ينافيه ظاهر الخبر) انتهى كلامه.

أقول اسناد الرفع إلى شيء لا يرتفع بنفسه ينصرف إلى الأثر المترتب على ذلك الشيء من دون واسطة ، فان قلنا بتمام الآثار فهو تمام الآثار المترتبة على الشيء من دون واسطة ، وإن قلنا بالمؤاخذة خاصة ، فهو أيضا من باب انها أظهر الآثار للمذكورات ، ولو في خصوص المقام. وعلى أي لا يشمل الآثار المترتبة على الشيء بواسطة ووسائط ، كما أن اخبار الاستصحاب ـ الدالة على وجوب إبقاء ما كان ـ تنصرف إلى الآثار بواسطة.

وكيف كان دلالة الخبر المذكور على كون المرفوع أعم من المؤاخذة غير قابلة الخدشة. بقي الكلام في أمور :

(الأول) أن المراد بالرفع في هذا الخبر الشريف هو الدفع ، أو الأعم منه ومن الرفع ، لا معناه الحقيقي الّذي هو عبارة عن إزالة الشيء بعد ثبوته ، إذ هو غير واقع في بعض العناوين المذكورة قطعا.

(الثاني) أن الأثر المرفوع إنما هو الأثر الشرعي المترتب على هذه المذكورات بلا واسطة ، فالآثار القطعية والشرعية المترتبة عليها بواسطة أو وسائط خارجة عنه.

إن قلت فعلى هذا الشبهات الحكمية خارجة عن مورد الرواية ، لأن الحرمة المجهولة مثلا ليس لها أثر شرعا ، بل أثرها المؤاخذة وهي غير قابلة للتصرف الشرعي. وهكذا الوجوب المجهول.

١٥٩

قلت المؤاخذة وان لم تكن قابلة للرفع والوضع بنفسها ، لكنها قابلة لهما بواسطة منشأها ، فانه للشارع ان يثبت المؤاخذة بإيجاب الاحتياط في حال الجهل ، فإذا لم يوجب الاحتياط ترتفع المؤاخذة ، فيصح اسناد رفعها إلى الشارع ، مضافا إلى إمكان القول بان نسبة الرفع إلى الشبهات الحكمية ليس بملاحظة الآثار ، بل بملاحظة نفسها ، لأن الحكم بنفسه مما تناله يد الجعل (٧٥).

(الثالث) أنه لا إشكال في قبح مؤاخذة الناسي والعاجز والمخطئ عقلا. وعلى هذا يستشكل في الرواية من جهتين :

(الأولى) ـ عدم اختصاص رفع المؤاخذة عن هذه المذكورات بالأمة المرحومة.

(الثانية) ـ ان الرواية في مقام المنة ، وأي معنى للمنة في رفع ما هو قبيح عند العقل.

ثم لا يخفى أنه لا يرتفع الإشكال يجعل المرفوع تمام الآثار ، إذ منها المؤاخذة ، فانضمام الآثار ـ التي يصح رفعها امتنانا إلى ما لا يصح كذلك ـ غير صحيح.

وهذا التوجيه نظير ما قيل في أن الرفع إنما هو بملاحظة مجموع

______________________________________________________

(٧٥) أما على مبنى القائل بارتفاع الحكم الواقعي الفعلي في الظاهر ، فمعلوم. وأما على مبنى الأستاذ ـ دام بقاؤه ـ من بقاء الأحكام الواقعية على فعليتها ، فيما وجهنا سابقا من رفعها في مرتبة الشك وإن كان فعليا في مرتبة الذات.

هذا في الشبهات الحكمية. وأما الشبهة الموضوعية ، فان كان الحكم بالرفع فيها بما هي غير معلومة الحكم ، كما هو الظاهر ، فنفس ما أسند إليه الرفع مرفوع. وأما إن كان الحكم بالرفع بلحاظ اشتباه الموضوع ، فيمكن القول بتخصيص الرفع به ، من دون حاجة إلى توجيه الرفع برفع الاحتياط ، لكن أصل هذا الاحتمال بعيد.

١٦٠