إفاضة العوائد - ج ٢

آية الله السيّد محمّد رضا الگلپايگاني

إفاضة العوائد - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد رضا الگلپايگاني


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٠
الجزء ١ الجزء ٢

لا ينكره أحد ، سواء كان بناء العقلاء على الاحتراز عن الضرر أم لا ، إنما الكلام في أنه هل للمولى حجة على مؤاخذته مطلقا أو على تقدير الوقوع في الضرر الواقعي أولا. وقد عرفت عدمها.

هذا مضافا إلى انه لا يلزم أن تكون المفاسد الكامنة في فعل المحرم أو ترك الواجب من الضرر الراجع إلى المكلف ، حتى يحصل في الإقدام على مظنون الحرمة وترك مظنون الوجوب مخالفة الكبرى المدعاة ، كما هو واضح.

(الوجه الثاني) انه لو لم يؤخذ بالظن لزم ترجيح المرجوح على الراجح ، وهو قبيح. وفيه أنه إن أراد من الراجح ما هو راجح بملاحظة أغراض الفاعل ، ويقابله المرجوح كذلك ، فترجيح المرجوح بهذا المعنى غير ممكن ، لأنه راجع إلى نقض الغرض ، وليس مجرد الأخذ بالطرف الموهوم ترجيحا للمرجوح بهذا المعنى ، إذ ما لم يترجح بملاحظة أغراضه لم يمل إليه. وإن أراد من الراجح الظن ، فعدم الأخذ به واختيار الطريق الموهوم وان كان ترجيحا للمرجوح ، بمعنى اختيار الطرف الموهوم ، ولكن قبح ذلك موقوف على تنجز الأحكام الواقعية ، ولزوم امتثالها ، وانحصار طريق الامتثال بالظن أو الوهم أو الشك. لكن هذا راجع إلى دليل الانسداد الآتي ، وليس وجها مستقلا.

______________________________________________________

الحكم بوجوب دفع الضرر المظنون بيانا ، سواء كان الحكم به طريقيا لعدم الوقوع في الضرر الواقعي أو موضوعيا ، في قبال الواقع أو لا يكون بيانا إلا على التقدير الأول؟ الظاهر هو الأول ، لأنه ـ على الثاني ـ يجب الاجتناب عنه بما هو مظنون الضرر ، سواء ترتب الضرر أم لا ، ويصح العقاب وإن خالف الواقع ، ولا يورث عقابا آخر للواقع ، فلا ربط له بتسجيل الواقع.

١٠١

(الوجه الثالث) ما عن السيد الطباطبائي ـ قدس‌سره ـ من أنه لا ريب في وجود واجبات ومحرمات كثيرة بين المشتبهات ، ومقتضى ذلك وجوب الاحتياط بالإتيان بكل ما يحتمل الوجوب ، وترك كل ما يحتمل الحرمة ، ولكن مقتضى قاعدة نفي الحرج عدم وجوب ذلك كله ، لأنه عسر أكيد وحرج شديد ، فمقتضى الجمع بين قاعدتي الاحتياط ونفى الحرج العمل بالاحتياط في المظنونات ، دون المشكوكات والموهومات ، لأن الجمع على غير هذا الوجه ـ بإخراج بعض المظنونات وإدخال بعض المشكوكات والموهومات ـ باطل إجماعا. ولا يخفى رجوع هذا إلى دليل الانسداد المعروف ، مع إسقاط بعض المقدمات التي لا ينتج بدونها.

دليل الانسداد

(الوجه الرابع) هو الدليل المعروف بدليل الانسداد ، وهو مركب من مقدمات :

(الأولى) العلم الإجمالي بثبوت تكاليف كثيرة في الشريعة.

(الثانية) عدم لزوم الامتثال على نحو يقطع بإتيانها أو إتيان ما يكون بدلا عنها ، لا على وجه التفصيل ولا على وجه الإجمال ، سواء كان عدم لزوم ذلك بواسطة عدم التمكن أم بواسطة الاذن الصادر منه.

(الثالثة) عدم جواز الإهمال وترك التعرض لامتثالها أصلا.

(الرابعة) انه في مقام دوران الأمر ـ بين الامتثال على وجه الظن وبينه على وجه الشك والوهم ـ يكون اختيار الشك والوهم في قبال الظن قبيحا عند العقل.

ولو تمت هذه المقدمات التي ذكرناها يجب الأخذ بالظن قطعا ، إذ العلم الإجمالي بوجود التكاليف ثابت بحكم المقدمة الأولى ، وليس على

١٠٢

المكلف امتثالها على نحو يوجب القطع بالسقوط ، لا على نحو الامتثال العلمي التفصيلي ، ولا على نحو الامتثال بالطرق المعتبرة تفصيلا ، أو الأصول المعتبرة كذلك ، ولا على نحو الامتثال الإجمالي ، بحكم المقدمة الثانية. ولا يجوز له إهمالها وعدم التعرض لامتثالها أصلا ، بحكم المقدمة الثانية. ولا يجوز له إهمالها وعدم التعرض لامتثالها أصلا ، بحكم المقدمة الثالثة ، ولا يجوز العقل رفع اليد عن الظن وأخذ المشكوك والموهوم في قباله ، بحكم المقدمة الرابعة ، فلا سبيل له الا الأخذ بالظن.

(اما المقدمة الأولى) فلا سبيل إلى إنكارها.

و (اما المقدمة الثانية) فتوضيحها أن الامتثال ـ على نحو يوجب العلم ببراءة الذّمّة ـ يتحقق بأحد أمور :

(منها) إحراز التكاليف تفصيلا بمقدار ينحل العلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي والشك البدوي ، والإتيان بما علم تفصيلا.

(ومنها) إحرازها بالمقدار المذكور بالطرق الشرعية المعتبرة والأصول المثبتة للتكاليف ، والاحتياط في الموارد الجزئية التي تقتضي القاعدة الاحتياط فيها ، ولو مع قطع النّظر عن العلم الإجمالي المذكور.

(ومنها) إتيان كل ما يحتمل كونه واجبا ، وترك كل ما يحتمل كونه حراما.

اما الأول فلا سبيل إليه قطعا ، لشهادة كل أحد أن المعلومات ـ في الفقه بالنسبة إلى غيرها لندرتها ـ تكاد ان تلحق بالمعدوم.

واما الثاني فيبتني على مراجعة ما ذكرنا من الأدلة على حجية الحبر (٥٢) ، فان قطع منها بحجية قسم خاص منه يفي بالفقه ، كالخبر

______________________________________________________

(٥٢) وقد قلنا أن مراجعة الاخبار تورث الاطمئنان أو القطع بحجية خبر الثقة ، كما مرّ منه ما دلّ على حجيته من السيرة وعدم الردع ، وان شئت فراجع ،

١٠٣

الموثوق صدوره ، فقد استراح من الرجوع إلى الظن المطلق ، وإلّا فمرجعه الظن المطلق ان تم باقي المقدمات ، وستطلع عليه. واما الرجوع إلى الأصول المثبتة فلا يكفى ، لعدم وفائها في الفقه ، بحيث توجب انحلال العلم الإجمالي ، مضافا إلى أن الأمارات الموجودة في مواردها قد توجب العلم الإجمالي ، بخلاف مفادها. والعلم الإجمالي بخلاف مؤدى الأصول مضر لنا فيما نحن بصدده ، سواء كان العلم الإجمالي بنفي التكليف في بعض مواردها ، أم بإثبات تكليف آخر مضاد لمؤدى الأصول ، وان قلنا بان مجرد العلم الإجمالي ـ بعدم التكليف بين الأصول المثبتة له ـ لا ينافى إجراء الأصل.

أما الثاني فواضح. وأما الأول ، فلان تلك الأصول ـ التي فرضناها كافية في الفقه لو لا هذا العلم ـ تصير غير كافية بملاحظة العلم المذكور ، فانه بعد العلم بعدم ثبوت التكاليف في بعض مواردها ، يعلم ان المعلوم بالإجمال في غير موردها. اللهم إلّا ان يفرض أن الأحكام الظاهرية المستفادة من الأصول زائدة على المقدار المعلوم من التكاليف المعلوم إجمالا ، بحيث لم يعلم بتكاليف أخر في غير مؤدى الأصول ، حتى بعد العلم الإجمالي بعدم التكليف في بعض مواردها. وهو كما ترى.

والحاصل أن اكتفاء المجتهد ـ بالعمل بالأصول المثبتة للتكليف ، والاحتياط في الموارد الجزئية ، ورفع اليد عن سائر الأمارات ـ لا يجوز

______________________________________________________

والظاهر أنه مع الأصول المثبتة والضروريات والمعلومات والمسلمات كاف في معظم أبواب الفقه ، فنحن بحمد الله في فسحة من العمل بمطلق الظن أو الاحتياط حتى المقدور ، فشكرا له على ما أوضح السبل ، ونسأله التوفيق للعمل بها بحق خاتم الرسل صلى الله عليه)

١٠٤

لأمرين :

(أحدهما) ـ قلة مواردها بحيث لا تقي بالمقدار المعلوم إجمالا.

(ثانيهما) ـ ان العلم الإجمالي بمخالفة مواردها للواقع يوجب سقوطها عن الاعتبار ، فيما كان العلم بتكليف آخر مضاد لمؤدى الأصول ، ويوجب عدم الاكتفاء بمؤدى الأصول ، فيما كان العلم بعدم ثبوت التكليف في بعض مواردها.

نعم يلزم الأخذ بمؤدى الأصول المذكورة بواسطة سقوط العلم الإجمالي بالمخالفة عن الاعتبار ، وإعمال الظن في غيرها ، لا أنه يقتصر في الفقه على العمل بتلك الأصول ، ويطرح سائر الأمارات المثبتة للأحكام.

لا يقال ان من الطرق إلى التكاليف الواقعية الأخذ بفتوى الفقيه ، حيث دلت الأدلة الخاصة على اعتبارها للجاهل.

لأنا نقول الرجوع إلى فتوى الفقيه إنما يجب على غير البصير ، لا على الفاضل المتدرب الّذي يقطع بفساد مبنى الفقيه الآخر من دعوى انفتاح باب العلم والعلمي وهذا واضح.

وأما الطريق الثالث من الطرق للامتثال القطعي ، أعنى إتيان محتملات الوجوب وترك محتملات الحرمة ، فقد يقال بعدم وجوبه ، بل بعدم جوازه ، لاختلال النظام بذلك ، لكثرة ما يحتمل وجوبه ، خصوصا في أبواب الطهارة والصلاة.

قال شيخنا المرتضى ـ قدس‌سره ـ في تقريب ذلك : (لو بنى العالم الخبير بموارد الاحتياط فيما لم ينعقد عليه إجماع قطعي ، أو خبر متواتر على الالتزام بالاحتياط في جميع أموره يوما وليلة ، لوجد صدق ما ادعينا. هذا كله بالنسبة إلى نفس العمل بالاحتياط. وأما تعليم المجتهد موارد الاحتياط لمقلديه ، وتعلم المقلد موارد الاحتياطات الشخصية ، وعلاج

١٠٥

تعارض الاحتياطات ، وترجيح الاحتياط الناشئ عن الاحتمال القوى على الاحتياط الناشئ عن الاحتمال الضعيف ، فهو مستغرق لأوقات المجتهد والمقلد ، فيقع الناس من جهة تعليم هذه الموارد وتعلمها في حرج يخل بنظام معاشهم ومعادهم).

لا يخفى أن العلم الإجمالي انما يكون بين موارد الأمارات المثبتة للتكليف ، لا بينها وبين ما لا يكون عليه أمارة أصلا ، فحينئذ نقول : لا يلزم من الاحتياط في تمام مواردها حرج ، بحيث يوجب اختلال النظام ، بل لا يكون حرجا لا يتحمل عادة بالنسبة إلى كثير من المكلفين الذين ليس محل ابتلائهم الا القليل من التكاليف ، واتفاق الحرج ـ في بعض الموارد لبعض الأشخاص ـ يوجب دفع الاحتياط عنه لا عن عامة المكلفين ، فمقتضى القاعدة الاحتياط في الدين إلا في موارد خاصة ، مثل أن يوجب اختلال النظام أو كان مما لا يتحمل عادة ، أو لم يكن الاحتياط ممكنا ، كما إذا دار الأمر بين المحذورين ، أو وقع التعارض بين احتياطين ، أو أوجب الاحتياط المخالفة القطعية لواجب قطعي آخر ، فيجب العمل بالظن ، لأنه لا طريق للمكلف أقوى منه.

والحاصل أن دعوى الحرج ـ لا سيما الموجب لاختلال النظام بالنسبة إلى آحاد المكلفين الموجب لسقوط الامتثال القطعي عن الكل ـ في غاية الإشكال. ومما يدل على ما ذكرنا أن بناء سيد مشايخنا الميرزا الشيرازي (قدس الله نفسه الزكية) كان على إرجاع مقلديه إلى الاحتياط ، وقل ما اتفق منه إظهار الفتوى والمخالفة للاحتياط ، وكان مرجع تمام افراد الشيعة مدة متمادية ، ومع ذلك ما اختل نظام العالم بواسطة الرجوع إلى الاحتياط ، وما كان تحمل هذا الاحتياط شاقا على المسلمين ، بحيث لا يتحمل عادة.

١٠٦

وكيف كان فهذه الدعوى محل نظر بل منع. ثم انا لو سلمنا تحقق العسر والحرج في العمل بالاحتياط الكلي ، فان كان بحيث يختل به النظام ، فالعقل حاكم بطرحه. ولا إشكال فيه. وأما لو لم يكن بهذه المثابة ، فالتمسك في رفعه بالأدلة السمعية الدالة على نفى الحرج في الدين محل تأمل ، إذ يمكن أن يقال ظاهرها عدم جعل الشارع تعالى تكليفا يوجب الحرج بنفسه. ولا إشكال في ان التكاليف المجعولة من قبل الشارع ليست بنفسها ، بحيث يوجب امتثالها الحرج والمشقة ، وانما جاء الحرج من قبل جهل المكلف في تعيينها. وبعد عروض هذا الجهل يحكم العقل بوجوب الاحتياط ، وليس الاحتياط شرعيا ، حتى يلزم منه جعل الحرج ، فما جعله الشارع ليس بحرجي ، وما يكون حرجيا ليس بمجعول للشارع.

هذا ولكن الإشكال في الكبرى ليس في محله ، بعد ملاحظة الإنصاف وفهم العرف ، فان ما يفهم العرف من أدلة الحرج هو عدم تحقق الحرج على المكلف من ناحية الشارع ، سواء كان بجعله ابتداء أم كان بجعل الأحكام الواقعية ، واشتبه على المكلف ، فوقع في الكلفة بحكم العقل وإمضاء الشارع (٥٣).

______________________________________________________

(٥٣) لا يخفى أن المقصود أن العرف يفهم من أدلة لا حرج تقييد أصل إطلاقات الأحكام بغير مثل هذا المورد الّذي ينجر بالاخرة إلى الحرج ، ولو بضميمة حكم العقل. وعلى ذلك فيكون دليل العسر والحرج واردا على دليل الاحتياط لا حاكما عليه ، كما عبّر به في الكفاية ، فليس حالهما الا كحال ساير الأصول العملية والأدلة الشرعية ، حيث ترفع الأدلة موضوع الأصول ، بل لا يمكن رفعها مع بقاء موضوعها ، لأنه مخالف لحكم العقل.

هذا في الاحتياط العقلي. واما الشرعي فلا تشمله أدلة رفع الحرج أصلا

١٠٧

نعم يمكن القول بعدم شمولها للموارد التي ألزم المكلف على نفسه المشقة ـ كما لو آجر نفسه لعمل شاق ـ بوجهين (أحدهما) أن القضية واردة في مقام المنة ، ولا منة في هذه الموارد (ثانيهما) ان العمل بعد هذا الالتزام مستند إلى نفس الملتزم ، لا إلى الشارع.

وقد يورد على الأخذ بالاحتياط انه مخالف للاحتياط ، وهذا الإيراد مبنى على اعتبار قصد الوجه ، وقد أشبعنا الكلام في الجواب عن ذلك في مبحث مقدمة الواجب ، فراجع. ونزيد هنا أنا لو سلمنا ذلك فهو مختص بصورة قدرة المكلف على تحصيل العلم التفصيلي. وأما في غيرها فلا ، خصوصا في ما إذا لم يقدر على تحصيل الطريق الشرعي أيضا ، كما هو المفروض في المقام ، لأن الظن الّذي لم يقم دليل شرعي على حجيته لا يجوز قصد الوجه به ، وان اكتفى المدعى بقصد الوجه بالوجوب العقلي ، فهو ممكن بالنسبة إلى الاحتياط اللازم بمقتضى حكم العقل في المقام.

هذا واما المقدمة الثالثة ـ وهي عدم جواز ترك التعرض لامتثال التكاليف بنحو من الأنحاء ـ فيدل عليه (أولا) العلم الإجمالي بوجود الأحكام ، وهو يوجب الموافقة القطعية ، وبعد عدم التمكن أو عدم الوجوب تسقط الموافقة القطعية ، ولكن تبقى حرمة المخالفة القطعية بحالها ، فان قبح المخالفة القطعية لا يمكن ان يرفع في حال من الأحوال ، كما قرر

______________________________________________________

إذا وجب في مورد حرجي ، لورود الحكم في مورد الحرج ، ولا تشمله أدلته ، كما بيّن في محله.

نعم لو استلزم في مورد حرجا زائدا على أصل الاحتياط فتشمله الأدلة ، ويرفع وجوبه بلا محذور أصلا.

١٠٨

ذلك في محله.

و (ثانيا) الإجمال القطعي ، فان إهمال معظم الأحكام ـ وكون المكلفين بالنسبة إليها كالبهائم والأنعام ـ مما يقطع بأنه مرغوب عنه شرعا ، وهو الّذي يعبر عنه في لسان العلماء بالخروج عن الدين ، فان من اقتصر على ما علم ـ من الأحكام مع قلتها وترك المجهولات مع كثرتها ـ يكاد ان لا يعد من الملتزمين بدين الإسلام.

والحاصل ان بطلان هذه الطريقة أوضح من أن يخفى على العوام ، فضلا عن الخواصّ.

(واما المقدمة الرابعة) وهي ترجيح الظن في مقام الامتثال على غيره بعد التنزل عن العلم ، فان تمسكنا في المقدمة الثالثة بالعلم الإجمالي فوجهه واضح ، لأنه موجب للموافقة القطعية بحسب اقتضائه الأولى ، فإذا لم تجب الموافقة ، فلا يسقط عن تنجيز الواقعيات رأسا ، كيف؟ وحرمة المخالفة القطعية من آثار هذا العلم عقلا (٥٤) ، وإذا لم يسقط عن

______________________________________________________

(٥٤) لا إشكال في حرمة المخالفة القطعية مع بقاء العلم الإجمالي. إنما الكلام في بقائه مع تسليم كون الاحتياط في جميع الأطراف حرجيا مرفوعا بأدلة الحرج ، فانه ـ مع احتمال تصادف التكليف لما يرفع به الحرج المقطوع معه رفعه شرعا ـ كيف يبقى العلم بالتكليف بحاله ، حتى تحرم مخالفته؟

نعم لو كان الاحتياط بحيث يوجب اختلال النظام ليكون رفع التكليف بحكم العقل من دون استناد إلى الشرع ، لما كان مضرا بالعلم بالتكليف من قبل الشرع ، وكان المورد من موارد الاحتياط ، أما مع كون التكليف على التقدير المذكور مرفوعا شرعا ، فلا يبقى العلم كما صرّح به في الكفاية. وانما التزم بوجوب الاحتياط مع ذلك في بعض الأطراف بالإجماع على عدم جواز الإهمال من رأس أو القطع به من الخارج.

١٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

ولا يتوهم أن الفرق في ذلك من جهة الفرق في مبنى الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ، حيث أنه (قدس‌سره) لا يجوّز الترخيص في أحد الأطراف مع العلم بالحكم الفعلي إجمالا ، بخلاف شيخنا الأستاذ ـ دام بقاؤه ـ حيث ان فعلية الحكم الواقعي في مرتبته محفوظة بنظره حتى مع الاذن في بعض الأطراف ، لأنه يجد فارقا إذا كان الاذن بعنوان المشكوك ، فانه لا ينافي بقاء الحكم الواقعي في مرتبته بفعليته ، لا في مثل المقام الّذي تكون أدلة الحرج نافية لواقع التكليف في مرتبة ذاته لا له بما هو مشكوك فيه كما أوضحناه في التعليقة السابقة.

والحاصل : أن التمسك بالعلم الإجمالي ـ في وجوب الاحتياط في بعض الأطراف حتى ينتج الحكومة للعقل بوجوب متابعة الظن ـ مما لا أرى له وجها. نعم يمكن إثبات الاحتياط مع قطع النّظر عن الإجماع أو القطع من الخارج بحكم العقل بان الشارع لا يصح أن يرخص في مثل المقام إلا بمقدار يرتفع به الحرج ، لأن الحكم الواقعي بالفرض فعلي من جميع الجهات ، ولا مانع منه إلا الحرج ، وهو يرتفع بارتكاب بعض الأطراف ، فكأن للشارع غرضين :

(أحدهما) وصول المكلف إلى الواقعيات من دون مزاحم لها في حد نفسها.

(والثاني) عدم وقوع المكلف في محذور الحرج. وفي مثل المقام لا يتطرق عند العقل إلا الاذن في ترك الواقعيات ، بمقدار رفع الحرج ، كما يحكم بذلك فيما إذا اتفق مثل ذلك في الأغراض الدنيوية ، بل يحكم بقبح الاذن في ترك الواقعيات زائدا على ما يرفع به الحرج. وبذلك يكشف قطعا عن حال الشرع ، من دون حاجة إلى الإجماع على وجوب الاحتياط أو القطع بلحاظ الأهمية المحرزة في التكاليف ، أو غير ذلك من الطرق.

لكن لا يخفى أن هذا التقريب أيضا لا تثبت به الحكومة ، لأنه يرجع بالاخرة إلى استكشاف وجوب الاحتياط من قبل الشارع بواسطة العقل ، ولا يتعين به العمل بالظن ، بل يحرم ترك الاحتياط رأسا. ولا فرق في ذلك بين الإتيان بالمظنونات وترك المشكوكات أو العكس.

١١٠

التنجيز ، فاللازم مراعاته بقدر الإمكان ، وهو منحصر بالاخذ بالظن.

واما لو لم نقل بتأثير العلم الإجمالي ، وتمسكنا لحرمة مخالفة الأحكام المجعولة في المقام بالإجماع ، فيشكل الحكم بتقديم الظن عقلا (٥٥) ، لأن الإجماع ان كان منعقدا على مجرد حرمة المخالفة القطعية لتلك الأحكام ، فيكفى في عدم مخالفة هذا الإجماع الإتيان بالمشكوكات والموهومات ، وإن كان على وجوب الأخذ بالظن ، فتعين الظن حينئذ شرعي لا عقلي ، إلا أن يقال بان الإجماع منعقد على امرين : (أحدهما) حرمة المخالفة القطعية (ثانيهما) عدم جواز الاكتفاء بالشك أو الوهم ، فنتيجة هذين الإجماعين ان الشارع إما جعل طريقا خاصا للواقعيات ، واما أن الظن عنده حجة. ولما كان الطريق الآخر مشكوكا فيه ، والقابل للسلوك إلى الواقع في هذه الحال منحصرا في الظن ، يتعين بالعقل اعتباره.

هذا ولكن لا يخفى أن هذا البيان يرجع إلى حجية الظن شرعا من باب الكشف ، وسيجيء توضيح ذلك إن شاء الله تعالى.

وينبغي التنبيه على أمور :

______________________________________________________

اللهم إلا أن يقال : إن العقل إذا اكتشف الحكم بوجوب الاحتياط من لزوم الجمع بين الغرضين ، وعلم أن أحد الغرضين نفس الواقعيات ، فيلزم المكلف بالاقتصار في ترك الاحتياط على خصوص الموهومات ، والاحتياط في المشكوكات والمظنونات ، إن لم يلزم منه الحرج أيضا. وإلا ففي خصوص المظنونات ، ولا نعني بالحكومة الا ذلك ، لا وجوب متابعة الظن مطلقا.

(٥٥) هذا إن لم يكن الإجماع على مجرّد أهمية الواقع في نظر الشارع ، بحيث يعاقب عليه حتى مع الشك ، فانه على ذلك لا يجب على الشارع جعل طريق إليه ، بل يمكن أن يكل المكلف إلى ما يحكم به عقله ، وهو يحكم بلزوم العمل بالظن ، مع عدم إمكان الاحتياط ولو تبعيضا ، وسيأتي منه ـ دام ظله ـ التصريح بذلك.

١١١

(أحدها) أنه بعد صحة مقدمات الانسداد هل النتيجة اعتبار الظن مطلقا ، بمعنى جواز الاكتفاء بالمظنونات ، ورفع اليد عن المشكوكات والموهومات ، أو اعتبار الظن الاطمئناني لو كان بين الظنون تفاوت ، وإلا فمطلق الظن ، أو يحكم بوجوب العمل بالظن بمقدار العلم بالتكليف ، فان كان بين الظنون ترجيح من حيث القوة يؤخذ ذلك المقدار من الظن القوى ، وإلّا يتخير ، أو يحكم بالاخذ بالظنون النافية للتكليف بمقدار يرفع به الحرج ، ويقدم القوى منها على الضعيف ، ويحتاط في الباقي ، سواء كان من موارد الظنون المشتبهة أم غيرها؟ وجوه. والّذي تقتضيه القاعدة هو الأخير ـ وفاقا لشيخنا المرتضى قدس‌سره ـ ثم الثالث.

بيان ذلك أنه لا إشكال في أن للمعلومات الإجمالية مقدارا متيقنا بحسب العدد ، وهذا لا شبهة فيه. وانما الإشكال في ان الامتثال في الخارج ـ بمقدار ما علم إجمالا ـ هل يكفى في خروج المكلف عن عهدة العلم الإجمالي ، وان لم يعلم به أم لا؟ مثال ذلك لو علم بوجود النجاسة في أحد الإناءين ، واحتمل نجاسة كليهما أيضا ، فترك أحدهما وشرب من الآخر ، وكانا نجسين في نفس الأمر ، نظرا إلى ان العلم الإجمالي ليس متعلقا بأزيد من تكليف واحد ، وقد امتثل بحكم الفرض ، وان لم يعلم بذلك ، أو يصح العقوبة عليه بمجرد ارتكابه الشرب من الآخر ، نظرا إلى ان العلم الإجمالي بوجود أحد النجسين بين الإناءين يصحح العقوبة على ارتكاب شرب ما هو نجس بينهما؟ الأقوى الثاني ، لشهادة الوجدان الحاكم في باب الإطاعة والعصيان بعدم معذورية المكلف المفروض في ارتكاب شرب ما هو نجس واقعا.

لا يقال : على هذا يلزم ثبوت العقابين في محل الفرض على من

١١٢

شرب من كلا الإناءين وهو باطل ، ضرورة ان العلم بتكليف واحد لا يصحح العقابين ، إذ الآخر مشكوك فيه ، وليس العقاب عليه الا عقابا بلا بيان.

لأنا نقول : إن العلم الإجمالي بثبوت أحد التكليفين يوجب عقابا واحدا على المخالفة المتحققة بينهما ، فلو شرب من الإناءين في محل الفرض ، يستحق عقوبة واحدة ، وكذا لو شرب من إناء ، لاشتراك الفرضين في تحقق المخالفة الواحدة التي كانت محرمة بحكم العقل.

إذا عرفت هذا فنقول : إن مقتضى العلم الإجمالي في المقام أن يحتاط في تمام الأطراف ، توصلا إلى الموافقة القطعية ، واجتنابا عن المخالفة الواقعية ، فإذا دل الدليل على الترخيص في بعض الأطراف ـ وهو المقدار الّذي يرفع الحرج ـ بترك الاحتياط فيه (٥٦) ، فالمقدار المعلوم بالإجمال لو كان في الباقي ، توجب مخالفته العقوبة ، فيجب الاحتياط في غير مورد الترخيص ، تخلصا من المخالفة الموجبة للعقاب.

هذا وأما إن قلنا بكفاية الامتثال بالمقدار المعلوم بالإجمال في نفس الأمر ، فيقتصر على العمل بالظنون المثبتة للتكليف بالمقدار المعلوم بالإجمال ، لأن العلم الإجمالي بمقدار خاص يوجب الإتيان به علما ، وان لم يمكن فالواجب الإتيان به ظنا. ولا دليل على الإتيان بأزيد من ذلك

______________________________________________________

(٥٦) قد مرّ آن الترخيص بحسب الواقع ـ ولو في بعض الأطراف ـ لا يلائم بقاء الواقع على فعليته ، ولا محيص عن الإجماع لوجوب الاحتياط أو استكشافه من حكم العقل ، وهما لا يقتضيان وجوب الاحتياط بنحو ما ذكر في المتن ، إلا بما ذكرنا من استكشاف اهتمام الشارع بالواقعيات ، بحيث لا يعذر المكلف على تركه في حالة الشك ، فلا تغفل.

١١٣

وحينئذ فلو تمكن من تحصيل الاطمئنان بالمقدار المذكور ، اقتصر عليه ، وإن تساوت الظنون يتخير في أخذ المقدار المذكور من بينها. هذا مقتضى التأمل في نتيجة دليل الانسداد. والله الهادي إلى سبيل الرشاد.

الأمر الثاني أن قضية المقدمات المذكورة ـ على تقدير سلامتها ـ هل هي حجية الظن بالواقع أو بالطريق أو بهما معا؟ فقد ذهب إلى كل فريق ، واختار شيخنا المرتضى قدس‌سره الثالث.

وحاصل ما أفاده في وجهه : أن المهم للمكلف تحصيل براءة الذّمّة عن الواقعيات ، فان تمكن من ذلك على سبيل العلم ، تعين عليه. وان انسد باب القطع إلى ذلك ، يتنزل إلى الظن بذلك. ولا إشكال في أن العلم بالبراءة ـ كما أنه يحصل بأحد امرين إما تحصيل العلم بالواقع وإتيانه ، وإما تحصيل ما هو طريق قطعي إليه ، وليس بينهما تفاوت عند العقل ـ كذلك الظن بالبراءة يحصل بأحد امرين إما تحصيل الظن بنفس الواقع ، وإما تحصيل الظن بما هو طريق مجعول إليه شرعا ، فإذا انسد باب تحصيل العلم بالمبرئ يؤول امر المكلف إلى التنزل إلى الظن بذلك. ولا يعقل الفرق بين الظنين ، لما قلنا إن المهم عند العقل في مقام الامتثال ليس إدراك الواقعيات ، بل الخروج عن عهدة ما صار منجزا على المكلف بأي نحو كان.

هذا ، أقول : لا إشكال في الكبرى التي أفادها في المقام ، وهو ان العقل ـ بعد انسداد باب تحصيل العلم بالمبرئ ـ يعين الظن به بأي وجه كان ، إنما الإشكال في ان العمل بما ظن كونه طريقا ـ وان لم يفد نفسه ظنا بالواقع ـ ظن بالإبراء.

ومحصل الإشكال ان بدلية مفاد الطرق عن الواقع لو كانت تابعة لتحققها واقعا ، وإن لم يعلم بها ، كان الأمر كما أفاده قدس‌سره ، لكن

١١٤

هذا خلاف التحقيق ، فان من علم إجمالا بوجوب الظهر أو الجمعة مثلا ، فترك الجمعة وأتى بالظهر ، وكان ما تركه هو الواجب في نفس الأمر ، واتفق مقارنة تركه الواجب طريقا شرعيا دالا على عدم الوجوب ، لا يوجب الثبوت الواقعي لذلك الطريق ، فرفع استحقاقه العقوبة بحكم العقل ، وإسقاط عقوبة الواقع في صورة العمل بالطريق إنما هو من لوازم العلم بحجيته ، لا من لوازم ثبوته في الواقع.

لا يقال ثبوته بالحجة كثبوته بالعلم ، والمفروض حجية مطلق الظن في حال الانسداد.

لأنا نقول اعتبار الظن هنا موقوف على تعلقه بالمبرئ ، فان كان الإبراء بواسطة اعتبار الظن لزم الدور.

والحاصل ان تعميم الظن ـ للظن بالطريق بمجرد العلم الإجمالي بالواقعيات ـ في غاية الإشكال ، لما مر. نعم يمكن دعوى اعتبار الظن في الطريق بواسطة دعوى العلم الإجمالي الآخر المتعلق به ، كما يأتي تقريبه إن شاء الله تعالى.

(حجة) من ذهب إلى الاختصاص بالظن بالطريق امران : (أحدهما) ما ذكره صاحب الفصول قدس‌سره ، قال : (انا كما نقطع بأنا مكلفون في زماننا هذا تكليفا فعليا باحكام فرعية كثيرة ، لا سبيل لنا بحكم العيان وشهادة الوجدان إلى تحصيل كثير منها بالقطع ، ولا بطريق معين يقطع من السمع بحكم الشارع بقيامه ، أو قيام طريقه مقام القطع ، ولو بعد تعذره ، فلا ريب أن الوظيفة في مثل ذلك بحكم العقل إنما هو الرجوع في تعيين ذلك الطريق إلى الظن الفعلي الّذي لا دليل على حجيته ، لأنه اقرب إلى العلم وإلى إصابة الواقع مما عداه).

وفيه ـ بعد تسليم هذا العلم الإجمالي ـ أن اللازم الأخذ بالقدر

١١٥

المتيقن إن كان ، وإلّا فالاحتياط بأخذ مضامين تمام الطرق التي تكون أطرافا للعلم ، لعدم كون الاحتياط في الطرق حرجيا ، وان قلنا بكونه كذلك في أطراف تمام المحتملات. ولازم ذلك أن يأتي بمؤدى كل واحد من الطرق المثبتة إن لم يكن له معارض. وفي غير هذه الصورة إن كان المعارض نافيا للتكليف ، وكان من غير نوعه ، فالعمل على طبق الأمارة المثبتة وان كان نافيا ، وكان فردا آخر من نوعه ، فالعمل على الأصل في غير الخبر مطلقا ، وفي الخبر على التخيير إن لم يكن للمثبت ترجيح ، وإلّا يتعين العمل به.

هذا إذا كان المعارض نافيا للتكليف ، وأما إذا كان مثبتا لتكليف مضاد للآخر ، فالعمل على الأصل في غير صورة كونهما فردين من الخبر ، وفيهما التخيير مع عدم المرجح ، وتعيين أحدهما مع المرجح. ويظهر وجه ما ذكرنا كله بالتأمل.

ثم انه على فرض كون العمل ، بالاحتياط ـ فيما بأيدينا من الطرق ـ موجبا للعسر والحرج ، فهل المتعين العمل بالظن بالطريق أم لا؟ ومبنى ذلك ان الطرق المجعولة ـ بعد العلم بها ـ هل هي مثل العلم في انحلال التكاليف المعلومة بالإجمال أم لا؟ غاية الأمر أن الإتيان بمؤداها يجب ، بدلا عن إتيان الواقع.

وتوضيح ذلك أنه لو علم بوجوب عمل معين ـ بعد كونه من أطراف العلم الإجمالي ـ ينحل العلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي والشك البدوي. واللازم عليه بحكم العقل الإتيان بما علم تفصيلا ، وباقي الأطراف مورد لأصالة البراءة. ولو فرض الخطأ في علمه ، بان لم يكن ما قطع بوجوبه واجبا في نفس الأمر ، وكان الواجب ذاك الطرف الآخر الّذي صار محكوما بالبراءة ، لم يكن عليه شيء ، وإن لم يأت بأحدهما ،

١١٦

فان ما هو واجب صار موردا للبراءة بحكم العقل ، وما قطع بوجوبه لم يكن واجبا واقعا ، فلا يضر مخالفته.

نعم ان قلنا بإيجاب التجري للعقوبة يستحقها في الفرض من قبل التجري ، وكذا الحال في ما إذا كان الواجب المعلوم مرددا بين أزيد من طرفين أولا ، ثم علم بوجوده بين طرفين منها ، فان الواجب بحكم العقل الاحتياط في الطرفين ، وباقي الأطراف التي كانت طرفا للعلم أولا مورد للبراءة. والوجه في ذلك واضح.

هذا فيما إذا تحقق العلم التفصيلي بعد العلم الإجمالي. وأما إذا قام طريق معتبر على أحد الأطراف تفصيلا أو إجمالا في بعض أطرافه ، فهل يحكم بالبراءة فيما لم يقم عليه طريق ، بمجرد قيام الطريق على بعض الأطراف ، وإن لم يعمل به عصيانا ، أو أن الحكم بالبراءة ـ في الطرف الخالي عن الطريق ـ موقوف على العمل بمؤدى الطريق. مثلا لو فرضنا قيام طريق معتبر على وجوب الظهر ، بعد العلم الإجمالي بوجوب الظهر أو الجمعة ، فهل يحكم بالبراءة عن الجمعة ، وعدم صحة العقاب عليها ، وإن لم يأت بالظهر عصيانا ، أو أن الحكم بالبراءة عن تكليف الجمعة موقوف على إتيانه بالظهر الّذي كان واجبا بمقتضى الطريق؟

وتظهر الثمرة فيما لو لم يأت بالظهر ، واتفق كون الواجب هو الجمعة ، ولم يأت بها أيضا. فعلى الأول لا يستحق العقاب أصلا ، أما على ترك الجمعة فلكون وجوبها موردا للبراءة. واما على ترك الظهر فلعدم كونه واجبا في الواقع. وقد تحقق في محله أن مخالفته لا توجب العقوبة الا على تقدير مصادفتها مخالفة الواقع. والمفروض عدمها في المقام. وعلى الثاني يستحق العقوبة على ترك الواجب الواقعي ، لأن المفروض أن جريان البراءة في مورده يتوقف على إتيان مؤدى الطريق ، ولم يأت به. الأقوى

١١٧

هو الثاني (٥٧) ، لأن قيام الطريق لا يوجب انحلال العلم الإجمالي حقيقة ، بداهة أن الإجمال باق في النّفس بعد ، فلا يرتفع اثره عند العقل ، غاية الأمر أنه لما نزّل الشارع مؤدى الطريق منزلة الواقع ، يجب بحكم العقل قيامه في مقام الامتثال مقام الواقع ، فلو أدى إلى وجوب الظهر بعد العلم الإجمالي بوجوب الظهر أو الجمعة ، فإتيانه بمنزلة إتيان الواجب الواقعي ، فلو كان واجبا واقعا فهو ، وإلّا كان بدلا عنه في مرحلة الامتثال ، فيكفى في مقام لزوم امتثال الواجب الإتيان بمؤدى الطريق. وأما لو لم يأت بمؤدى الطريق ، ولا بالواقع ، فيستحق العقاب ، لأنه لم يأت بالواقع ـ المنجز عليه بسبب العلم الإجمالي ـ لا أصلا ولا بدلا.

ومن هنا اتضح ان أثر العلم الإجمالي لا يرتفع بمحض قيام الطريق على بعض أطرافه ، بل يكون الإتيان بموارده بدلا عن الواقع في مرحلة الامتثال ، فيتخير المكلف بين إتيان الأصل وإتيان البدل.

إذا عرفت ذلك ظهر لك أن لازم ما ذكرنا كون العمل بالطرق مساويا للعمل بالواقع في مقام الامتثال عقلا ، فإذا تمكن من العلم يتخير بين تحصيل العلم بالواقع والعلم بالطريق ، وعند عدم التمكن من العلم ، يقوم الظن في كل منهما مقام العلم.

(الوجه الثاني) ما أفاده بعض المحققين ، ومحصل كلامه قدس‌سره يتضح في ضمن مقدمات :

(الأولى) العلم بكوننا مكلفين بالاحكام الشرعية إجمالا ، وانه لم

______________________________________________________

(٥٧) لا يخفى أن ذلك ينافي ما يأتي منه ـ دام بقاؤه ـ في البراءة من انحلال العلم بقيام الطرق في بعض الأطراف ، ولو التزم أحد بعدم انحلاله ، فيلزمه ذلك حتى على القول بانفتاح باب العلمي ، وهو كما ترى.

١١٨

يسقط عنا التكليف بواسطة الجهل بخصوصياته.

(الثانية) أن كل ما يجب العلم به في زمان الانفتاح يجب الظن به عند الانسداد.

(الثالثة) انه في حال الانفتاح يجب العلم ببراءة الذّمّة في حكم الشارع ، دون العلم بإتيان الواقع.

(الرابعة) ـ بعد لزوم تحصيل الظن بالبراءة في حكم الشارع في حال الانسداد ـ ان الظن بالواقع لا يلازم الظن بالبراءة في نظر الشارع ، بخلاف الظن بالطريق ، فتنحصر الحجة في زمان الانسداد بالظن بالطريق ، والأوليان بمكان من الوضوح.

والدليل ـ على الثالثة على ما أفاده قدس‌سره في مقدمات هذا المطلب ـ هو (ان المناط في وجوب الأخذ بالعلم وتحصيل اليقين من الدليل ، هل هو تحصيل اليقين بمصادفة الأحكام الواقعية الأولية ، إلا أن يقوم الدليل على الاكتفاء بغيره ، أو أن الواجب أولا هو تحصيل اليقين بتحصيل الأحكام ، وأداء الأعمال على وجه أراد الشارع منافي الظاهر ، وحكم معه قطعا بتفريغ الذّمّة ، بملاحظة الطرق المقررة لمعرفتها ، مما جعلها وسيلة للوصول إليها ، سواء علم بمطابقة الواقع أو ظن ذلك ، أو لم يحصل به شيء منهما؟ وجهان :

والّذي يقتضيه التحقيق هو الثاني ، فانه القدر الّذي يحكم العقل قطعا بوجوبه ، ودلت الأدلة المتقدمة على اعتباره ، ولو حصل العلم بها على الوجه المذكور ، لم يحكم العقل قطعا بوجوب تحصيل العلم بما في الواقع ، ولم يرد شيء من الأدلة الشرعية بوجوب تحصيل شيء وراء ذلك ، بل الأدلة الشرعية قائمة على خلاف ذلك ، إذ لم تبن الشريعة من أول الأمر على وجوب تحصيل كل من الأحكام الواقعية على سبيل القطع

١١٩

واليقين ، ولم يقع التكليف به حين انفتاح سبيل العلم بالواقع ، وفي ملاحظة طريق السلف من زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام كفاية في ذلك ، إذ لم يوجب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على جميع من في بلده من الرّجال والنساء ـ السماع منه في تبليغ الأحكام أو حصول التواتر لآحادهم بالنسبة إلى آحاد الأحكام ، أو قيام القرينة القاطعة على عدم تعمد الكذب أو الغلط في الفهم أو في سماع اللفظ ، بل لو سمعوه من الثقة اكتفوا به) انتهى كلامه رفع مقامه.

وحاصل ما أفاده قدس‌سره ان الواجب بحكم العقل تحصيل العلم بالبراءة في حكم الشارع في حال الانفتاح. ولما كان الواجب في حال الانسداد تحصيل الظن بما كان يجب تحصيل العلم به حال الانفتاح ، يلزم تحصيل الظن بالبراءة في حكم الشارع. وأما الدليل على ان العمل بالظن بالطريق يوجب الظن بالبراءة في حكم الشارع ، دون العمل بالظن بالواقع ، فهو ما أشار إليه في طي كلماته ، من ان الظن بالعمل بالواقع قد يجامع القطع بعدم البراءة عند الشك ، كالظن القياسي ، فتعين العمل بالظن بالطريق ، فانه ملازم الظن بالمبرئ.

والجواب (أولا) بالنقض بما قام الظن القياسي على حجية طريق ، فانه ليس بمعتبر قطعا ، فان كان عدم اعتبار ظن من الظنون موجبا لعدم الاعتماد على الباقي ، فاللازم عدم الأخذ بالظن بالطريق أيضا. و (ثانيا) ـ أن ما أسسه ـ من لزوم تحصيل العلم بالبراءة في حكم المكلف ـ لا وجه له ، لأنه ليس من وظيفة الآمر الحكم بالبراءة ، وانما يحكم بها العقل ، سواء أتى بنفس الواقع على وجه الجزم ، أو أتى بمؤدى الطريق المجعول.

أما في الأول فواضح ، لأنه ليست براءة الذّمّة مستندة إلى حكم

١٢٠