إفاضة العوائد - ج ١

آية الله السيّد محمّد رضا الگلپايگاني

إفاضة العوائد - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد رضا الگلپايگاني


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٧٦
الجزء ١ الجزء ٢

(الشبهة المصداقية)

لو كان المخصص مجملا بحسب المصداق ، بان كان المشتبه فردا للعام ، وتردد بين أن يكون فردا للعنوان الخاصّ أو باقيا تحت عموم العام ، فلا إشكال في عدم جواز التمسك بالعامّ فيما إذا كان المخصص متصلا بالكلام ، لعدم انعقاد ظهور العام من أول الأمر ، إلا في غير مورد العنوان الخاصّ. وأما إذا كان المخصص منفصلا ، فقد يتوهم جواز التمسك به فيما شك انطباق العنوان الخاصّ عليه ، بعد انطباق العنوان العام عليه قطعا.

وغاية ما يمكن أن يقال في تقريب ذلك أن قول القائل ـ أكرم العلماء ـ يدل بعمومه الأفرادي على وجوب إكرام كل واحد من العلماء ، وبإطلاقه على سراية الحكم إلى كل حالة من الحالات التي تفرض للموضوع. ومن جملة حالاته كونه مشكوك الفسق والعدالة ، كما انه من جملة حالاته كونه معلوم العدالة أو معلوم الفسق ، وبقوله لا تكرم الفساق من العلماء قد علم خروج معلوم الفسق منهم ، ولا يعلم خروج الباقي ، فمقتضى أصالة العموم والإطلاق بقاء المشكوك تحت الحكم.

لا يقال إن قوله لا تكرم الفساق من العلماء قد اخرج الفاسق الواقعي من الحكم ، لا الفاسق المعلوم ، فالفرد المردد لو صدق عليه عنوان الخاصّ محكوم بحكمه واقعا ، فكيف يجتمع هذا الحكم مع الحكم الّذي أتى من قبل العام؟

لأنا نقول حال الحكم الواقعي ـ المفروض مع الحكم الّذي أتى من قبل العام ـ حال الأحكام الواقعية مع الأحكام المتعلقة بالشيء في

٣٤١

حال الشك ، فالكلام في المقام هو الكلام فيها إشكالا ودفعا (٢١٩).

وفيه أن الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي إنما هو من جهة أن الشك في أحدهما مأخوذ في موضوع الحكم الآخر ، وليس شمول العام للفرد ـ حال كونه مشكوك العدالة والفسق ـ بلحاظ كونه مشكوك الحكم ، لعدم إمكان ملاحظة الشك في حكم المخصص موضوعا في الدليل المتكفل لجعل الحكم الواقعي ، للزوم ملاحظة حال الشك إطلاقا وقيدا (٢٢٠) وهما ملاحظتان متباينتان ، فحينئذ لا يمكن الجمع بين كون

______________________________________________________

(٢١٩) وأيضا يمكن أن يقال : إن حال الشبهة في المصداق حال الشبهة في المفهوم إشكالا وجوابا ، فان اقتصر في الثانية على القدر المتيقن من المخرج ، وهو المقدار الّذي يكون الخاصّ فيه حجة فكذلك في الأولى.

فان قيل : إن المخرج في الأولى هو المعنون بعنوان الخاصّ واقعا ، فيصير العام معنونا بعنوان غير الخاصّ ، فإذا اشتبه ذلك العنوان ، فعنوان العام أيضا غير محرز ، فلا يجوز التمسك بالعامّ.

قلنا : المخرج في الثانية أيضا نفس المراد الواقعي من الخاصّ ، ولازم ذلك أيضا التوقف.

والجواب عن أصل الإشكال أن الكلام (تارة) في الجمع بين دليلين ، وتعيين مدلولهما بحسب الواقع ونفس الأمر. و (أخرى) في الجمع بين حجتين.

أما في المقام الأول فنقول : المخرج هو المعنون بعنوان الخاصّ واقعا ، بلا دخل للعلم فيه ، من غير فرق في ذلك بين الشبهتين.

وأما في المقام الثاني فنقول : الخاصّ المبين مقيد للعام ، فيما يكون ظهوره فيه مستحكما ، وهو نفس العنوان الواقعي ، فيكون كالمتصل ، ولازمه عدم حجية العام في المصداق المردد بين العام والخاصّ ، بخلاف الخاصّ المجمل ، فانّه لا يقيد العام إلا فيما يكون ظهوره فيه مستحكما ، وهو المقدار المتيقن ، ولا يكون له ظهور في الزائد ، حتى يقال بتقييد العام بذلك في الواقع.

(٢٢٠) قد يقال : إن الحكم الظاهري غير ملازم لجعل الشك قيدا للموضوع ،

٣٤٢

الفرد المشكوك الفسق واجب الإكرام ، ولو كان فاسقا في الواقع ، وبين عدم وجوب إكرام كل فاسق في الواقع ، كما هو مفاد المخصص ، فالفرد المشكوك ـ لو كان عادلا ـ يجب إكرامه بحكم العموم ، ولو كان فاسقا لا يجب بحكم المخصص. وتعيين أن الفرد المذكور هل هو عادل أو فاسق ليس على عهدة أحد الدليلين ، بل قد يكون المتكلم بكلا الدليلين أيضا شاكا ، فلا معنى للتمسك بأصالة العموم لتعيين مراده ، كما هو واضح.

______________________________________________________

بل يمكن جعل الحكم في حال الشك ، كما في الأمارات ، فإذا كان ذات الخاصّ بحسب الواقع موضوعا لحكم بمقتضى دليله ، وفي حال الشك في ذلك الحكم محكوما بحكم آخر بمقتضى دليل العام ، فذلك حكم ظاهري مجعول في حال الجهل بالواقع ، لا بمعنى أخذ موضوع العام العنوان الشامل له ، مع وصف كونه مشكوك الحكم ، حتى يقال باستحالة لحاظ المتصف بالشك في الحكم في عرض الذات ، لأنه مرتب على حكمها ، بل الموضوع في العام والملحوظ فيه ليس إلّا ذات المعنون بعنوان العام. وإطلاقه يقتضي سريانه إلى جميع حالاتها ، ومنها حال الشك في شمول حكم آخر لبعض افرادها مثلا.

لكنه مخدوش : بأن الإطلاق يقتضي سريان الحكم إلى حالات الموضوع ، مع قطع النّظر عن الحكم المجعول. واما الحالات الطارئة عليه ـ بلحاظ ذلك الحكم ـ فلا يشملها الإطلاق. ومعلوم أن الشك في شمول حكم المخصص لفرد شك في كونه محكوما بحكم العام ، وهو غير مشمول للإطلاق.

وأما جواز التمسك بالعامّ في المجمل المفهومي ، فلان العام بمدلوله وإن لم يشمل حال الشك في نفسه ، لكن أصالة العموم أصل موضوعها ليس إلّا الشك في خروج فرد منه وعدمه ، وبها يجعل حكم ظاهري للفرد المشكوك فيه. وأما في الشبهة المصداقية فليس شك بإطلاقه الأصولي ، إلا أن يقال إن شمول العام ـ لحالات الافراد في مقام الظهور والدلالة ـ وإن كان تابعا لشموله لذات الفرد ، لكن في مقام الحجية لا تبعية له ، ويمكن التفكيك. وفيه ما لا يخفى.

٣٤٣

وبعبارة أخرى بعد خروج الفساق في الواقع من قوله أكرم العلماء ، تبقى حجية العام بالنسبة إلى العلماء الغير الفساق ، فكأنه ورد من أول الأمر كذلك ، فكما أنه لو ورد من أول الأمر مقيدا بعدم الفسق ـ إذا شككنا في عدالة فرد من العلماء وفسقه ـ لم يكن للتمسك بالعموم مجال ، كذلك لو ورد المخصص بعد صدور العام بصورة العموم. نعم لو ظهر ـ من حال المتكلم أن تكلمه بالعموم مبنى على الفحص عن حال افراده ، ووضوح أنه ليس من بينها ما ينطبق عليه عنوان الخاصّ ـ صح التمسك بالعموم ، واستكشاف أن الفرد المشكوك فيه ليس داخلا في الخاصّ. وهذا في المخصصات اللبية غالبا. وقد يتحقق في اللفظية أيضا ، لكن بشرط كون النسبة بين الدليلين عموما من وجه ، نظير الدليل على جواز لعن بنى أمية ، والأدلة الدالة على حرمة سب المؤمن. وأما إذا كان المخصص أخص مطلقا ، فلا مجال لما ذكرنا قطعا ، ضرورة أنه لو كان حال افراد العام مكشوفة لدى المتكلم ، وانه لا ينطبق على أحد منها عنوان المخصص ، لكان التكلم بالدليل الخاصّ لغوا.

ومما ذكرنا يظهر أنه ليس المعيار في عدم جواز التمسك كون المخصص لفظيا ، كما أنه ليس المعيار في الجواز كونه لبيا ، بل المعيار ما ذكر فتأمل فيه.

(تنبيه)

بعد ما عرفت سقوط العام عن الاعتبار ، فيما شك في انطباق عنوان المخصص ، من جهة الشبهة في المصداق ، فالمرجع في الفرد المشكوك فيه إلى الأصل المنقح للموضوع ـ لو كان ـ وإلّا فإحدى القواعد الأخر :

٣٤٤

من البراءة أو الاحتياط أو التخيير ، حسب اختلاف المقامات وهذا لا إشكال فيه ، كما أنه لا إشكال في أنه لو كانت له حالة سابقة مع حفظ وجوده ، وشك في بقائها ، يحكم بواسطة الاستصحاب بكونه محكوما بحكم العام أو الخاصّ (٢٢١) وإنما الكلام في أنه لو لم تكن له حالة سابقة مع حفظ وجوده ، فهل يكفى استصحاب العدم الأزلي المتحقق بعدم الموضوع ، في جعله محكوما بحكم العام أولا؟ مثلا إذا شك في امرأة انها قرشية أولا ، فهل يصح استصحاب عدم قرشيتها ، والحكم بان الدم الّذي تراه بعد الخمسين محكوم بالاستحاضة أولا؟

قد يقال بالصحّة نظرا إلى ان الباقي تحت العام لم يكن معنونا بعنوان خاص ، بل يكفى فيه عدم تحقق العنوان ، وعدم الوصف لا يحتاج إلى الموضوع الخارجي. ولذا قالوا إن السالبة لا تحتاج إلى وجود الموضوع ، بخلاف الموجبة فالمرأة الموجودة لم تكن بقرشية قطعا ، فان النسبة بينها وبين قريش تتوقف على تحقق الطرفين. وعلى هذا كان إحراز المشتبه بالأصل الموضوعي ـ في غالب الموارد إلا ما شذ ـ ممكنا.

وفيه ان الأثر الشرعي لو كان مترتبا على عدم تحقق النسبة ، أو على عدم وجود الذات المتصفة ، أو على عدم الوصف للذات ـ مع تجريدها عن ملاحظة الوجود والعدم ـ لصح الاستصحاب ، لتحقق الموضوع المعتبر في باب الاستصحاب. وأما لو كان الأثر مترتبا على عدم الوصف للموضوع ، مع عناية الوجود الخارجي ، فلا يمكن الاستصحاب الا

______________________________________________________

(٢٢١) مثل ان يكون الفرد قبل ورود العام والخاصّ محكوما بحكم العام بدليل آخر ، فيستصحب حكم العام ، أو محكوما بحكم الخاصّ كذلك ، فيستصحب حكم الخاصّ.

٣٤٥

بعد العلم بان الموضوع ـ مع كونه موجودا في السابق ـ لم يكن متصفا بذلك الوصف (٢٢٢). واستصحاب عدم النسبة إلى حين وجود الموضوع ـ أو استصحاب عدم تحقق الموضوع المتصف كذلك ، أو استصحاب عدم الوصف للذات ، مع عدم ملاحظة الوجود والعدم ، كذلك ـ لا يثمر في إثبات السالبة التي فرضناها موضوعة للأثر إلا بالأصل المثبت. ولا يبعد كون المثال من قبيل الأول.

(تذنيبات)

(الأول) أنه لو أخذ في موضوع حكم رجحانه واستحبابه ، أو جوازه من حيث هو ، كموضوع وجوب الوفاء بالنذر ، وكإطاعة الوالدين

______________________________________________________

(٢٢٢) الظاهر أنه لا إشكال في عدم جريان الاستصحاب لو كان الأثر مترتبا على العدم ، بنحو ليس الناقصة ، لعدم اليقين بوجود الموضوع وعدم المحمول في السابق ، إنما الإشكال فيما إذا كان مترتبا على الوجود بنحو كان الناقصة ، وأردنا نفيه باستصحاب العدم ، كما في مثال القرشية ، على تقدير كون الأثر لقرشية المرأة الموجودة ، فانه قد يقال بجواز استصحاب العدم الأزلي لنفي أثر الوجود ، حيث أن نفي المحمول المترتب على الموضوع الموجود ـ كما يصح مع وجود الموضوع ـ كذلك يصح مع نفي الموضوع أيضا.

لكن الظاهر عدم الجريان فيه أيضا ، لأن النفي وإن كان صادقا بنفي الموضوع ، لكن اللازم في الاستصحاب اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة. والسالبة بانتفاء الموضوع التي هي المتيقنة ، غير السالبة بانتفاء المحمول التي هي المشكوكة. نعم مقتضى بقاء نفي المحمول ـ مع العلم بوجود الموضوع ـ نفي المحمول فقط. لكن ذلك بحكم العقل ، ولا يثبت إلا على القول بالأصل المثبت ، لأن الموضوع موجود بالوجدان والمحمول مستصحب من الأزل ، فتثبت السالبة بانتفاء الموضوع لو كان المثبت حجة.

٣٤٦

وأمثال ذلك ، فلا بد ـ في الاستدلال بدليل ذلك الحكم ـ من إثبات رجحان ذلك الموضوع أو جوازه ، ولا يمكن أن يستكشف ذلك من عموم الدليل المذكور ، فان التمسك بالعامّ يتوقف على إحراز موضوعه. وهذا واضح ، لكنه نسب إلى بعض التمسك بعموم دليل وجوب الوفاء بالنذر ، للحكم بصحة الوضوء والغسل المنذورين بمائع مضاف لو شك في صحته وبطلانه. وربما يؤيد ذلك ما ورد من صحة الإحرام قبل الميقات ، والصيام في السفر إذا تعلق بهما النذر ، ويؤيد أيضا حكمهم بصحة النافلة في وقت الفريضة إذا تعلق بها النذر.

والحق أنه لا يجوز التمسك بالعامّ فيما شك من غير جهة تخصيصه ، والوضوء والغسل بالمائع المضاف لو كانا باطلين ، لم يلزم تخصيص في دليل النذر ، فكيف يستكشف صحتهما من عموم دليل النذر؟

وأما صحة الصوم في السفر بعد النذر ، والإحرام قبل الميقات كذلك بعد وجود الدليل على ذلك ، فبالجمع بين الدليل المفروض ودليل الوفاء بالنذر إما باستكشاف رجحانهما الذاتي (٢٢٣) ، وإنما المانع في تعلق الأمر الاستحبابي أو الوجوبيّ بالعنوان الأولى ، وإما بصيرورتهما راجحين بنفس النذر ، بعد ما لم يكونا كذلك ، لكشف دليل صحتهما عن عروض عنوان راجح ملازم لتعلق النذر بهما ، وإما بالالتزام بالتخصيص في عموم دليل النذر المقتضى لعدم انعقاده إلا فيما إذا كان المنذور راجحا. وعلى الأخير يقصد التقرب بامتثال امر النذر ، ولا يضر تحقق القدرة بنفس الأمر ، كما حقق في محله.

______________________________________________________

(٢٢٣) هذا على القول بكفاية الرجحان الذاتي في صحة النذر ، ولو كان بالعرض مرجوحا ، لكن الظاهر أنه خلاف الواقع ، بل يشترط الرجحان الفعلي.

٣٤٧

وأما صحة النافلة في وقت الفريضة بالنذر ـ وإن قلنا بكونها محرمة بدونه ـ فلان النذر مخرج لها عن موضوع الحرمة ، فلا مانع لرجحانها حينئذ فيعمها دليل الوفاء بالنذر.

ان قلت خروج النافلة المفروضة عن كونها محرمة يتوقف على تعلق الوجوب بها ، وهو يتوقف على خروجها عن كونها محرمة. وهذا دور.

قلت خروجها عن موضوع الحرمة لا يتوقف على تعلق الوجوب الفعلي بها ، بل يكفى كونها بحيث لو لا جهة عروض الحرمة لكانت واجبة ، وهذه القضية التعليقية متحققة بالنذر قطعا (٢٢٤) ووجه خروجها ـ بعد صدق هذه القضية التعليقية ـ عن موضوع الحرمة هو ان النافلة المحرمة هي النافلة التي ـ لو لا عروض جهة الحرمة ـ لكانت متصفة بالنفل الفعلي ، فتدبر فيه جيدا.

(الثاني) انه لو ورد عام ، وعلمنا بعدم كون فرد محكوما بحكم العام ، وشككنا في كونه فردا له حتى يكون تخصيصا ، أو ليس بفرد

______________________________________________________

(٢٢٤) لا يخفى أنه لو لا حكم النذر ووجوب الوفاء به ، لما كانت هذه القضية التعليقية متحققة بنفس النذر قطعا ، فيرجع الأمر بالاخرة إلى توقف الموضوع على الحكم ، ويعود المحذور ، إلا أن يقال بعدم توقف الموضوع على شخص الحكم المجعول في القضية ، بل يكفي في تحقق تلك القضية جعل الحكم لطبيعة النذر. ولا إشكال في تحقق فرد من أفراد الموضوع ببركة جعل الحكم لطبيعة الموضوع ، كما في شمول الحكم للخبر مع الواسطة.

وقد فصّل شيخنا المرتضى (قدس‌سره) في صلاته بين نذر طبيعة النافلة في الوقت ، فحكم بالصحّة في الأول دون الثاني.

والظاهر عدم الفرق بين القسمين ، فان قلنا بإمكان تحقق الموضوع بالنذر ، صحّ في كليهما ، وإلّا فلا يصح في الأول أيضا ، وإن شئت فراجع.

٣٤٨

له ، (مثلا) لو علمنا بعدم وجوب إكرام زيد ، وشككنا في أنه عالم حتى يكون تخصيصا في العام المقتضى لوجوب إكرام العلماء ، أو ليس بعالم ، فهل يحكم بواسطة عموم العام بعدم دخول ذلك الفرد المعلوم الحكم في افراد العام أولا؟ يظهر من كلماتهم التمسك بأصالة عموم العام ، واستكشاف أن الفرد المفروض ليس فردا له ، إذ بعد ورود الدليل على وجوب إكرام كل عالم ، يصح أن يقال كل عالم يجب إكرامه ، وينعكس بعكس النقيض إلى قولنا كل من لا يجب إكرامه ليس بعالم ، وهو المطلوب.

ومن ذلك استدلالهم على طهارة الغسالة بأنها لا تنجس المحل (٢٢٥) ، فان كانت نجسة غير منجسة ، لزم التخصيص في قضية كل نجس ينجس. وأمثال ذلك غير عزيز في كلماتهم وكلمات شيخنا المرتضى (قدس‌سره).

هذا ولكن للتأمل فيه مجال ، لإمكان أن يقال : إن التمسك ـ بأصالة عدم التخصيص عند العقلاء ـ مختص بحال الشك في إرادة المتكلم ، فلو كان المراد معلوما ، وشك في كيفية استعمال اللفظ ، لم نعلم من بناء العقلاء التمسك بها ، وهذا نظير ما يقال من أن الأصل في

______________________________________________________

(٢٢٥) كما استدل به السيد (قدس‌سره) واستدل الشيخ الأنصاري (قدس‌سره) لنجاستها بعدم الرافعية للحدث ، لأن كل طاهر رافع للحدث ، وهذه غير رافعة ، فليست بطاهرة. وأيضا استدل في المكاسب لملكية المأخوذ بالمعاطاة بعموم عدم جواز التصرف في ملك الغير ، حيث يجوز التصرف في المأخوذ بالمعاطاة.

وكيف كان فرق بين المقام وبين التمسك بأصالة الحقيقة ، مع القطع بالمراد والشك في الوضع ، فان المقام يمكن إرجاع الشك فيه إلى الشك في المقصود من العام ولو لبا.

٣٤٩

الاستعمال الحقيقة عند تمييز المعنى الحقيقي من المجازي ، والشك في إرادة المعنى الحقيقي. وأما لو علمنا بمراد المتكلم ، ولم نعلم بأنه معنى حقيقي للفظ أو مجازي ، فبناء المشهور على عدم التمسك بأصالة الحقيقة.

وبالجملة يمكن التفكيك بين الموردين في التمسك ، وبعد إمكان ذلك يكفى في عدم جواز التمسك الشك في بناء العقلاء.

(الثالث) أن الحكم المتعلق بالعامّ إذا علل بعلة ، لو علم بعدم العلة في بعض افراد العام ، يقيد مورد الحكم بغيره. وأما لو شك في ذلك ، فيتمسك بظاهر العموم ، ويستكشف وجود العلة في الافراد المشكوك فيها. ومن هنا علم أن تقييد مورد الحكم بواسطة العلة المنصوصة ليس بمثابة ورود موضوع الحكم مقيدا من أول الأمر ، فلو قال أكرم العلماء العدول ، لم يصح لنا التمسك به في مشكوك العدالة والفسق. وأما لو قال أكرم العلماء فانهم عدول ، فلو شككنا في عدالة فرد ، نحكم بعدالته بحكم القضية ، فان الظاهر منها تحقق العدالة في كل فرد من العام.

(فصل في التمسك بالعامّ)

(قبل الفحص عن المخصص)

هل يجوز التمسك بالعامّ قبل الفحص عن مخصصه؟ فيه خلاف ، الأقوى عدم الجواز ، لعدم سيرة العقلاء على التمسك ، ما دام العموم في معرض أن يكون له مخصص ، بحيث لو تفحص عنه لظفر به ، ولا أقل من الشك. ويكفى ذلك في عدم الحجية نعم العمومات التي ليست في معرض ذلك ـ كغالب العمومات الواقعة في ألسنة أهل المحاورة ـ لا شبهة

٣٥٠

في أن السيرة على التمسك بها بلا فحص عن المخصص ، وهذا مما لا ينبغي الإشكال فيه.

إنما الإشكال في أن بناءهم على الفحص في القسم الأول هل هو من قبيل الفحص عن المعارض ، كما يجب الفحص عن معارض الخبر الجامع لشرائط الحجية ، أو من جهة إحراز شرط الحجية؟ لا يبعد أن يكون الفحص من قبيل الثاني (٢٢٦) ، فانه بعد ما يرى من حال المتكلم ذكر قرائن كلامه غير متصلة به غير مرة ، فحال المخصص المنفصل في كلامه كحال المتصل في كلام غيره ، فكما أنه لا يجوز التمسك بالعامّ قبل إحراز عدم المخصص المتصل إما بالعلم أو بالأصل ، فكذلك لا يجوز التمسك به قبل إحراز عدم المخصص المنفصل في كلام المتكلم المفروض. فلما كان الأصل غير جار الا بعد الفحص عن مظان الوجود ، يجب الفحص عن المخصص.

وتظهر الثمرة فيما إذا اطلع على مخصص مردد بين الأقل والأكثر ، فعلى الأول يؤخذ بالمتيقن من التخصيص ، ويرجع إلى عموم العام في غيره ، وعلى الثاني يسرى إجماله إلى العام. وقد تقدم بعض الكلام في ذلك.

______________________________________________________

التمسك بالعامّ

قبل الفحص عن المخصص

(٢٢٦) قد مرّ أن الأقوى كونه من قبيل الأول ، وأن البناء ـ على إتيان حجة أقوى على خلاف ما أقام عليه الحجة أولا ـ لا يخرج العام عن الحجية.

٣٥١

(فصل في الخطاب الشفهي)

هل الخطابات الشفهية من قبيل (يا أيها الذين آمنوا) تختص بالمشافهين والحاضرين لمجلس الخطاب ، أو تعم الغائبين والمعدومين؟ والّذي يمكن أن يكون محلا للكلام وموردا للبحث بين الاعلام أمور :

(الأوّل) انه هل يصح خطاب المعدومين والغائبين بالألفاظ الدالة عليه ، وتوجيه الكلام نحوهم أم لا؟

(الثاني) انه هل يصح تعلق الحكم بالمعدومين ، كما يصح تعلقه بالموجودين أم لا؟

(الثالث) أنه هل الألفاظ المشتملة على الخطاب تعم غير المشافهين ، بعد الفراغ عن الإمكان أم لا؟ والنزاع على الأولين عقلي ، وعلى الثالث لفظي.

إذا عرفت ذلك فنقول : لا إشكال في عدم صحة تكليف المعدوم فعلا على نحو الإطلاق ، كما أنه لا إشكال في عدم صحة توجيه الكلام نحوه بداعي التفهيم فعلا ، سواء كان بالأداة الدالة على الخطاب أم بغيرها. وهذا مما لا يحتاج إلى بيان وبرهان. وأما إنشاء التكاليف فعلا لمن يوجد بملاحظة زمان وجوده واستجماعه لسائر شرائط التكليف ، فهو بمكان من الإمكان (٢٢٧) ، نظير إنشاء الوقف فعلا للطبقات الموجودة بعد ذلك في الأزمنة اللاحقة ، بملاحظة ظرف وجودها ، كما أن توجيه الخطاب نحو

______________________________________________________

(٢٢٧) بمعنى أن يكون وجود المأمور وشرائط التكليف مفروض الوجود عند الإنشاء كما مر في الواجب المشروط. ولا يخفى أنه على ما اختاره في الكفاية من أن

٣٥٢

المعدوم ـ لا لغرض التفهيم ، بل لأغراض أخر بعد تنزيله منزلة الموجود ـ خال عن الإشكال ، كمن يخاطب ولده الميت أو أباه الميت تأسفا وتحسرا ، ولا يوجب التجوز اللغوي في الأداة الدالة على الخطاب ، كما لا يخفى.

والظاهر أن توجيه الخطاب نحو المعدوم ـ حين الخطاب ، بملاحظة ظرف وجوده ، وصيرورته قابلا للمخاطبة ـ لا إشكال فيه ، فيكون حال النداء المشروط بوجود المنادى بالفتح ، حال الوجوب المشروط بوجود من يجب عليه. نعم نفس هذا النداء ـ الصادر في زمان عدم وجود المنادى بالفتح ـ لا يمكن أن يكون موجبا لتفهيمه حتى في زمان وجوده ، لعدم ثباته وبقائه في الخارج إلى ذلك الزمان ، بل يحتاج إلى شيء آخر يحكى عنه ، كالكناية التي تبقى إلى حال وجوده ، ومثل ذلك.

إذا عرفت ذلك فنقول : لو كان الكلام في تكليف المعدوم على نحو الإطلاق ، وكذا خطابه بغرض التفهيم فعلا ، فلا إشكال في عدم

______________________________________________________

الإرادة عبارة عن مرتبة خاصة من الشوق ، فيمكن تعلّقها فعلا بأمر استقبالي. واختار ذلك في الواجب المعلق. ولا فرق بين أن يكون الفعل استقباليا من قبل المكلف ، أو من جهات أخر مع وجود المكلف ، فان المناط في الاستحالة ـ على القول به ـ عدم إمكان تحقق المراد فعلا ، من غير فرق في منشأ ذلك. فما اختاره في المقام من الاستحالة لا يلائم مختاره في الواجب المعلق فراجع.

نعم لا يبعد عدم انتزاع الوجوب إذا كان المكلف معدوما إلا بعد وجوده ، كما في ملك الوقف ، فانه وإن أنشأ الواقف فعلا الملك لجميع البطون اللاحقة ، لكن لم تنتزع الملكية لكل بطن الا بعد وجوده. ولذا لا تنافي بين مالكية البطن الموجود وبين مالكية البطون اللاحقة ، فافهم.

٣٥٣

إمكانه عقلا. وان كان على نحو آخر مر بيانه ، فالظاهر أيضا عدم الإشكال في إمكانه. وأما دلالة ألفاظ الكتاب العزيز على شمول التكليف والخطابات للمعدومين أيضا على نحو ما تصورنا ، فلا يبعد دعواها ، حيث أنزل لانتفاع عامة الناس إلى يوم القيامة ، وما كان هذا شأنه بعيد جدا أن تكون خطاباته ـ والتكاليف المشتمل هو عليها ـ مختصة بطائفة خاصة ، ثم علم من الخارج اشتراك سائر الطوائف معها في التكليف ، فتدبر.

ثم إنهم ذكر والعموم الخطابات الشفهية ثمرتين :

(الأولى) حجية ظهور خطابات الكتاب لنا أيضا ، كما انها حجة للمشافهين.

وفيه (أولا) أن هذا مبنى على اختصاص حجية الظواهر بمن قصد افهامه ، كما يظهر من المحقق القمي قدس‌سره وقد ذكر في محله عدم صحة المبنى.

و (ثانيا) أنه لا ملازمة بين كون المشافهين مخصوصين بالخطاب وكونهم مخصوصين بالإفهام ، بل الناس كلهم مقصودون بالإفهام إلى يوم القيامة ، وان قلنا بعدم شمول الخطاب إلا لخصوص المشافهين.

(الثانية) صحة التمسك بإطلاق الكتاب لمن وجد وبلغ منا ، وان كان مخالفا في الصنف لجميع المشافهين.

وتقريب ذلك أنه لو خصصنا الخطابات الواردة في القرآن العزيز بهم ، فلا بد ـ في إثبات التكاليف الواردة فيه لنا ـ من التمسك بدليل الاشتراك ، وهو لا ينفع إلّا بعد إحراز كل ما له دخل في التكليف المتوجه إليهم ، فإذا احتملنا ان التكليف المتوجه إليهم كان مشروطا بشرط. كانوا واجدين له دوننا ، فلا يثمر دليل الاشتراك في التكليف.

٣٥٤

(فان قلت) يدفع الشرط المحتمل بأصالة الإطلاق ، لأن المفروض عموم حجيتها بالنسبة إلينا ، فيثبت التكليف بضميمة دليل الاشتراك.

(قلت) أصالة الإطلاق لا تجري بالنسبة إلى الأمر الموجود الّذي يحتمل دخله في التكليف. والسر في ذلك أنه على تقدير شرطيته لا يحتاج إلى البيان ، إذ لا يوجب عدم بيان شرطيته ، على تقدير كونه شرطا نقضا للغرض.

وفيه أنه ليس في الخارج امر يشترك فيه جميع المشافهين إلى آخر عمرهم. ولا يوجد عندنا (٢٢٨). وحينئذ لو احتملنا اشتراط شيء يوجد في بعضهم دون آخر ، أو في بعض الحالات دون أخرى ، يدفعه أصالة الإطلاق والله اعلم بالصواب.

(فصل في العام المتعقب بالضمير)

هل تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض افراده يوجب تخصيصه به أم لا؟ فيه خلاف ولا بد من أن يكون محل الخلاف ما إذا كان هناك

______________________________________________________

(٢٢٨) لا يقال : نفس التمكن من الحضور عند الإمام عليه‌السلام أو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وصف لو احتملنا دخله في حكم لا يصح التمسك لنا بالإطلاق كما في صلاة الجمعة.

لأنا نقول : لا إشكال في عدم تمكن الحاضرين عند الخطاب من التشرف بالحضور في جميع الحالات وفي كل جمعة مثلا ، فيصح التمسك بالإطلاق أيضا ، نعم لو احتمل كون الوصف نفس وقوع المكلف في زمان بسط يد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الإمام عليه‌السلام فلا يصح لنا التمسك بالإطلاق ، لكن عدم دخله مقطوع به فافهم.

٣٥٥

قضيتان إحداهما ذكر فيها اللفظ الدال على العموم ، والأخرى ذكر فيها ضمير يرجع إليه ، مع إمكان شمول الحكم في القضية الأولى لجميع افراد العام ، والعلم بعدم شموله لها في الثانية.

مثال ذلك قوله تعالى (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ـ إلى قوله تعالى ـ وبعولتهن أحق بردهن) حيث ان الحكم في القضية المشتملة على الضمير متعلق بخصوص الرجعيات ، فيدور الأمر بين التصرف في العام بحمله على البعض ، أو التصرف في الضمير بإرجاعه إلى بعض مدلول ما ذكر سابقا (٢٢٩) ، مع كون الظاهر منه ان يرجع إلى ما هو المراد من اللفظ الأول.

والحق أن يقال لو دار الأمر بين أحد التصرفين في الكلام ، تصير القضية المذكورة أولا مجملة ، لأن القضيتين لاشتمال الثانية على الضمير الراجع إلى الموضوع في الأولى ـ في حكم كلام متصل واحد. وقد ذكر في محله : أنه لو ذكر في الكلام الواحد ما يصلح لصرف سابقه عن ظاهره يصيره مجملا. ولكن يمكن أن يقال : إن مجرد القطع ـ باختصاص الحكم المذكور في الثانية ببعض افراد العام ـ لا يوجب التصرف في إحدى

______________________________________________________

فصل في العام المتعقب بالضمير

(٢٢٩) لا يقال : ان الأصل في طرف العموم سليم عن المعارض ، لعدم جريانه في طرف الضمير ، حيث أن المراد منه معلوم ، وإنما الشك في كيفية الاستعمال ، وأصالة الحقيقة لا تجري الا في الشك في المراد.

لأنا نقول : لا يجري في كيفية المراد إذا كان الموضوع له أيضا مشكوكا فيه ، وأما إذا كان المعنى الحقيقي معلوما وكذلك المجازي ، فالظاهر جواز التمسك به ، كما لو قال : (أكرم هذا العالم) وكان المخاطب شاكا في عالميته ، فيتمسك بأصالة الحقيقة لإثبات عالميته ، وترتب آثاره عليه.

٣٥٦

القضيتين في مدلولها اللفظي ، بل يصح حمل كلتا القضيتين على إرادة معناهما اللغوي في مرحلة الاستعمال ، مع الالتزام بخروج بعض افراد العام في الثانية عن الإرادة الجدية ، كما أنه لو كان في القضية الثانية الاسم الظاهر مكان الضمير ، مثل (وبعولة المطلقات) فان مجرد العلم ـ بخروج بعض الافراد من القضية الثانية ـ لا يوجب الإجمال في الأولى ، فكذلك حال الضمير من دون تفاوت (٢٣٠) فتدبر جيدا.

(فصل في تخصيص العام بالمفهوم المخالف)

اختلف في جواز تخصيص العام بالمفهوم المخالف ، بعد الاتفاق على الجواز في المفهوم الموافق. ومجمل الكلام فيه أن أظهر ما قيل فيه بالمفهوم القضية الشرطية ، وقد قلنا في محله أن ظهورها في مدخلية الشرط لثبوت الحكم مما لا يقبل الإنكار. وأما دلالتها على الحصر ، فهي قابلة للإنكار. والمدعي للمفهوم لا بد له من ادعاء دلالتها على الحصر ، وإن سلمت هذه الدلالة ، فلا إشكال في أنها ليست بالمرتبة التي لا يصلح رفع اليد عنها بواسطة عموم وإطلاق ونحوهما.

إذا عرفت ذلك فنقول : إذا ورد عام وقضية شرطية دالة بمفهومها على خلاف الحكم الثابت في العام لبعض افراده ، فان كان المفهوم أخص

______________________________________________________

(٢٣٠) نعم لو قيل بلزوم رجوع الضمير إلى ما هو المقصود من المرجع لبا ، فيجري فيه النزاع. ويمكن أن يقال بالإجمال ، لكن الظاهر أنه لو أريد منه ذلك دون المراد الاستعمالي ، فذاك سنخ من الاستخدام ، لأن الضمير بمنزلة تكرار اللفظ كما صرّح به دام ظله.

٣٥٧

مطلقا فالحق تخصيص العام به ، فان التعارض وقع بين عموم العام ودلالة القضية على إناطة الحكم بالشرط ، ولو لم نقل بالحصر ، فان العام يدل على ان الحكم لكل فرد من دون إناطة بشيء ، ومقتضى القضية إناطته به ، وظهور القضية في ذلك أقوى من ظهور العام كقوله عليه‌السلام (خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء) وقوله عليه‌السلام (إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شيء) وأما إن كان بينهما عموم من وجه ، كالدليل على عدم انفعال الجاري مطلقا وما دل على توقف عدم الانفعال على الكرية ، فالحق رفع اليد عن المفهوم ، لأن العام المذكور يعارض حصر الشرط لا أصل الاشتراط ، لعدم المنافاة بين كون الكرية شرطا ، وكون الجريان شرطا آخر. وقد عرفت أن دلالة القضية الشرطية على حصر العلة ، على فرض الثبوت ، ليست قوية. وحينئذ فهل يرفع اليد عن المفهوم مطلقا ، بحيث لو احتملنا سببا ثالثا لعدم الانفعال لا تكون القضية الشرطية دالة على نفيه ، أو يرفع اليد في خصوص ما ورد الدليل وجهان.

(فصل في تخصيص الكتاب بخبر الواحد)

هل يجوز تخصيص الكتاب بخبر الواحد المعتبر أم لا؟ مقتضى القاعدة هو الأول ، لأن الخاصّ بواسطة دليل اعتباره يصلح لأن يكون قرينة على التصرف في العام ، بخلاف العكس. وكون العام قطعي الصدور لا ينافى جواز رفع اليد عن عمومه ، بعد ورود الخاصّ المعتبر ، لأن هذا الجمع مما يشهد بصحته العرف. وقد ادعوا سيرة الأصحاب على العمل باخبار الآحاد في قبال العمومات الكتابية إلى زمن الأئمة عليهم‌السلام.

هذا ولكن العمدة في المقام الاخبار الكثيرة المتواترة الدالة على أن

٣٥٨

الاخبار المخالفة للقرآن يجب طرحها أو ضربها على الجدار ، أو انها زخرف ، أو انها مما لم يقل به الإمام عليه‌السلام.

والجواب عنها ـ بعد القطع بورود اخبار كثيرة مخالفة لعمومات الكتاب وإطلاقه منهم عليهم‌السلام ـ بحمل الاخبار المانعة من الأخذ بمخالف الكتاب على غير المخالفة على نحو العموم والخصوص ومثله. كما إذا ورد الخبر في مقابل الكتاب بحيث لا يكون بينهما جمع عرفي وعدم وجود مثله ـ في الاخبار التي بأيدينا ـ لا ينافى وجوده في ذلك الزمان ، وما وصل بأيدينا إنما يكون بعد تهذيبه مما يخالف الكتاب بالمعنى الّذي ذكرنا. ويمكن حمل مورد الاخبار المانعة على ما لا يشمله دليل الحجية ، مثل ما ورد في أصول العقائد أو خبر غير الثقة (٢٣١).

(فصل في حمل العام على الخاصّ)

العام والخاصّ إما أن يكونا متقارنين ، واما ان يكونا مختلفين بحسب التاريخ. وعلى الثاني إما ان يكون العام مقدما على الخاصّ أو بالعكس. لا إشكال في التخصيص في الصورة الأولى ، كما أن الظاهر كذلك في الصورتين الأخيرتين لو كان ورود الثاني قبل حضور وقت العمل بالأول ، فان الالتزام بالنسخ قبل حضور وقت العمل ـ وإن لم يكن بمستحيل بناء على إمكان وجود المصلحة في جعل حكم ، ونسخه

______________________________________________________

(٢٣١) الظاهر من الاخبار الناهية التحاشي عن أصل صدور الخبر المخالف مضمونا للكتاب ، لا الخدشة في سنده ، وبذلك يقطع بأن مخالفة العام والخاصّ خارج عن مدلولها ، وان كان المراد بها غير معلوم.

٣٥٩

قبل زمان العمل به ـ لكنه بعيد ، بخلاف التخصيص ، فانه شائع متعارف ، فيحمل الكلام عليه.

وأما لو كان ورود أحدهما بعد مضي زمان العمل بالأول ، فان كان المقدم خاصا ، فالعام المتأخر يمكن ان يكون ناسخا له ، ويمكن أن يكون الخاصّ المقدم مخصصا للعام. وتظهر الثمرة في العمل بعد ورود العام ، فانه على الأول على العام ، وعلى الثاني على الخاصّ. والظاهر أيضا البناء على التخصيص لشيوعه وندرة النسخ.

وأما لو كان المقدم عاما والمؤخر خاصا ، فيشكل الحمل على التخصيص من حيث استلزام ذلك تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وهو وإن لم يكن محالا من جهة إمكان وجود مصلحة في ذلك ، لكنه بعيد نظير النسخ قبل حضور وقت العمل. وأشكل من ذلك حمل الخاصّ الوارد ـ في اخبار الأئمة عليهم‌السلام ـ المتأخر عن العام على النسخ مع كثرته. وكذلك حال المقيدات الواردة في كلامهم عليهم‌السلام بالنسبة المطلقات ، فان الالتزام بالنسخ في جميع هذه الموارد الكثيرة في غاية الإشكال (٢٣٢).

نعم حمل الخاصّ المتأخر عن العام ـ في كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على النسخ ليس ببعيد ، فيرجح على التخصيص ، لاستلزامه تأخير البيان عن وقت الحاجة ، فلا محيص عن حمل الخاصّ المتأخر ـ في كلام

______________________________________________________

(٢٣٢) بل الظاهر أن النسخ كان عند الأئمة (سلام الله عليهم) شيئا منكرا يستوحشون منه ، ولذا قال (سلام الله عليه) : فهل سنة غيّرتها أم شريعة؟ وأيضا لو كان النسخ عند البعض منهم جائزا ، لكان عند الكل جائزا. وهذا لا يصح اسناده إليهم عليهم‌السلام.

٣٦٠