إفاضة العوائد - ج ٢

آية الله السيّد محمّد رضا الگلپايگاني

إفاضة العوائد - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد رضا الگلپايگاني


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٠
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اعلم أن من وضع عليه قلم التكليف إذا التفت إلى الحكم الشرعي ، فاما أن يكون قاطعا به أولا (١) ، وعلى الثاني إما أن يكون له طريق منصوب من قبل الشارع أولا.

وعلى الثاني اما أن تكون له حالة ملحوظة أولا. وعلى الثاني إما أن يكون الشك في حقيقة التكليف (٢) ، وإما أن يكون في متعلقه. وعلى الثاني إما ان يتمكن من الاحتياط وإما أن لا يتمكن منه. والقاطع

______________________________________________________

تعريف القطع

(١) لا يخفى ان التقسيم المذكور وان كان لا يرد عليه ما أورد على ما في الفرائد : من تداخل الأقسام في الحكم ، من حيث أن بعض الظنون محكوم بحكم الشك ، لكن يرد عليه : ان البحث عن طريقية الطرق خارج عن تلك الأقسام ، ويشبه بالمبادي لها ، بخلاف ما قسّم عليه في الفرائد. فتدبر جيدا.

(٢) يعني في أصل الإلزام الجامع بين الوجوب والحرمة ، دون ما كان نوعه مشكوكا فيه ، كما إذا علم بوجوب شيء أو حرمته ، أو علم بحرمة شيء أو وجوب شيء آخر ، فانه مع إمكان الاحتياط مورد للاحتياط ، كما في المثال الثاني مطلقا ، والمثال الأول أحيانا في التدريجي مثلا ، والتصريح بذلك في قبال ما اختاره الشيخ (قدس

٣

ومن له طريق معتبر إلى الواقع يتبع ما عنده من القطع أو الطريق. والشاك ان لوحظت حالته السابقة فهو مورد الاستصحاب ، وإلّا فان شك في حقيقة التكليف فهو مورد البراءة ، وان شك في متعلقه وكان قادرا على الاحتياط ، فهو مورد الاشتغال ، وان لم يكن قادرا على الاحتياط فهو مورد التخيير.

(وهم ودفع)

قد يتوهم عدم صحة ما ذكرنا ، من جهة أن المقسم في هذه المذكورات هو من وضع عليه قلم التكليف ، وهو أعم من المجتهد والمقلد ، مع أن أحكام بعض الأقسام مختصة بالمجتهد ، كالقواعد المقررة للشاك.

(إن قلت) لا يصح القول باختصاص الأحكام المقررة للشاك بالمجتهد ، للزوم عدم جواز رجوع المقلد إليه فيما استفاده منها ، فان الأحكام المختصة بالمجتهد لا يجوز للمقلد العمل بها ، كوجوب التصرف في مال الأيتام والغيب وفصل الخصومة وأمثال ذلك مما يختص بالمجتهد.

(قلت) لا ينافى اختصاص القواعد المقررة للشاك بالمجتهد رجوع المقلد إليه في الأحكام المستفادة من تلك القواعد ، مثلا المخاطب بقول الشارع : (لا تنقض اليقين بالشك) وان كان هو المجتهد ، ولكن الحكم الّذي يبنى على بقائه هو الحكم الأولى المشترك بينه وبين المقلد ، فالإفتاء

______________________________________________________

سره) : من ان الشك في التكليف عبارة عن الشك في نوع التكليف ، وان كان الجنس معلوما ، لكنه (قدس‌سره) لم يلتزم بعدم وجوب الاحتياط في المثال الثاني ، مع أن لازم كلامه ذلك ، فتأمل فيه ، لعلك تطلع على غير ما ذكرنا.

٤

به عبارة عن حكمه بوجوب العمل على طبق الحالة السابقة على كل أحد ، بخلاف الأحكام الواقعية المختصة بالمجتهد ، لعدم استنباط المجتهد فيها حكما آخر يشترك فيه المقلد ، بل هذه الأحكام واقعية تعلقت بفعل المجتهد خاصة.

هذا ويدفع أصل الإشكال بعدم اختصاص الأحكام الثانوية بالمجتهد (٣) ، بل حالها حال الأحكام الأولية في اشتراكهما بين المقلد والمجتهد ، من دون تفاوت أصلا ، لعدم التقييد في أدلة الأحكام الظاهرية ، وعدم دليل من الخارج يدل على هذا الاختصاص ، إلا توهم عدم قدرة المقلد على العمل بخبر الواحد وعلى الفحص اللازم في العمل بالأصول.

ويدفعه أن العمل بخبر الواحد ليس إلّا الإتيان بالفعل الخارجي الّذي دل الخبر على وجوبه ، ومن الواضحات عدم خصوصية المجتهد فيه. نعم الّذي يختص بالمجتهد ولا يقدر عليه المقلد هو الاستظهار من الدليل والاستنباط منه أن الواجب كذا ، وهذا غير العمل بمدلوله. والأخذ

______________________________________________________

(٣) الظاهر عدم كون العمل بخبر الواحد وظيفة المقلّد أصلا. وإنما عليه حكم واقعي يشترك فيه العالم والجاهل ، وحكم ظاهري وهو العمل على فتوى مجتهده ، سواء استنبط من الخبر أو من غيره ، حتى في مورد وجود الخبر واقعا. لكن لم يعثر عليه مجتهده وحكم بخلاف ما تضمنه ، فالمقلد خارج عن العمل بالطرق المنصوبة للمجتهد. وشمول التعريف له بهذا التقريب لا يخلو عن تعسّف.

نعم يمكن شموله له بتقريب أن يقال : إن المقلد فيما يقلد داخل فيمن قام عليه الطريق المنصوب من قبل الشارع ، وهو فتوى مجتهده ، وأما فيما لم يفت فيه مجتهده أصلا ، ولو بوجوب أحد شيئين أو أشياء أو بحرمتهما مثلا ، فقوله حجة له في عدم الدليل. وقاعدة قبح العقاب من غير بيان فطرية غير تقليدية. ولا ينافى ذلك غفلته عنه وتذكار المجتهد له ، فافهم واغتنم فانه لطيف.

٥

بالاحكام المتعلقة بالشك ليس مشروطا بعنوان الفحص عن الأدلة ، حتى يقال ان المقلد لا يقدر عليه ، بل الحكم متعلق بالشك الّذي ليس في مورده دليل واقعا. والفحص إنما يكون لإحراز ذلك ، فيكون نظر المجتهد في تعيين مدلول الدليل ، وانه ليس له معارض ، وفي إحراز عدم وجود الدليل في مورد الشك متبعا للمقلد.

هذا. إذا عرفت ما ذكرنا من أقسام المكلف وأحكام كل منها على سبيل الإجمال ، فلنشرع في تفصيل كل من المذكورات في ضمن مباحث :

٦

المبحث الأول

في حجية القطع المتعلق بالتكليف

وينبغي التكلم فيه في ثلاثة مقامات :

(الأول) ـ أن القطع هل يحتاج في حجيته إلى جعل الشارع ، كما ان الظن كذلك أم لا؟

(الثاني) ـ أنه هل يمكن عقلا النهي عن العمل به أم لا؟

(الثالث) ـ أنه هل يقبل تعلق امر المولى به أم لا؟

(اما الكلام) في المقام الأول فنقول : الحق عدم احتياجه إلى الجعل ، فانه لو قلنا باحتياجه إليه لزم التسلسل ، لأن الأمر بمتابعة هذا القطع لا يوجب التنجز بوجوده الواقعي ، بل لا بد فيه من العلم. وهذا العلم أيضا كالسابق يحتاج في التنجز إلى الأمر وهكذا ، مضافا إلى أنه لو فرضنا إمكان التسلسل لا يمكن تنجيز القطع ، لعدم الانتهاء إلى ما لا يكون محتاجا إلى الجعل (٤). وهذا واضح.

______________________________________________________

حجية القطع :

(٤) وهذا أحد الأدلة التي أقيمت لإثبات الصانع جل وعلا ، مع قطع النّظر عن بطلان التسلسل ، بان يقال المحتاج إلى ما لا نهاية له لا يرفع الاحتياج ، فلا بد وأن

٧

(واما الكلام) في المقام الثاني ، فقد يقال في وجه عدم قابليته للمنع : أن المنع عن العمل بالقطع يوجب التناقض ، فان من علم بكون هذا خمرا ، وكون الخمر محرمة ، يحصل له ـ من ضم هذه الصغرى الوجدانية إلى تلك الكبرى المقطوع بها ـ العلم بكون هذا حراما ، فيرى تكليف المولى ونهيه عن ارتكاب شرب هذا المائع من دون شبهة ولا حجاب ، فلو قال : لا تعمل بهذا العلم ، رجع قوله إلى الاذن في ارتكاب شرب الخمر بنظر القاطع ، وهو التناقض.

وأورد على أصل الدعوى نقضا بورود النهي عن العمل بالظن القياسي حتى في حال الانسداد ، فإذا جاز النهي عن العمل بالظن عند الانسداد ، جاز النهي عن العمل بالعلم ، لأن الظن في تلك الحالة كالعلم.

وأجاب عن هذا الإشكال شيخنا الأستاذ دام بقاؤه : بان القياس بالظن القياسي ليس في محله ، لأن العالم يرى الحكم الواقعي من غير سترة ولا حجاب ، فالمنع عن اتباعه راجع إلى ترخيص فعل ما يقطع بحرمته ، أو منع فعل ما يقطع بوجوبه ، فكيف يمكن أن يذعن به مع الإذعان بضده ونقيضه من الحكم المقطوع به في مرتبة واحدة ، وهي مرتبة الحكم الواقعي ، لانكشاف الواقع بحاقه ، من دون سترة موجبة لمرتبة أخرى غير تلك المرتبة ، ليكون الحكم فيها حكما ظاهريا لا ينافى ما في المرتبة الأخرى ، بخلاف الظن القياسي ، فان النهي عنه ـ في صورة الانسداد إذا

______________________________________________________

ينتهي إلى الغنى بالذات. وذلك واضح. وكذلك القطع لو كان استقراره ولزوم العمل عليه محتاجا إلى قطع آخر بحجيته ، لما استقر في شيء ، وان بلغ جعل الحجية إلى ما لا نهاية له.

٨

صح ببعض الوجوه الآتية ـ لا يكون إلّا حكما ظاهريا لا ينافى الحكم الواقعي لو خالفه ، كما إذا اصابه ووافقه. هذا ما أفاده دام بقاؤه من الجواب.

أقول : وهذا لا يستقيم على ما ذهب إليه : من منافاة الحكمين الفعليين اللذين تعلقا بموضوع واحد خارجي ، سواء كانا واقعيين أم ظاهريين أم مختلفين ، وحصر دفع التنافي بين الحكم الواقعي والظاهري : بجعل الواقعي إنشائيا والظاهري فعليا.

وتوضيح الإشكال على هذا المبنى أنه لا ينبغي الفرق بين القطع وبين الظن ، بل العمدة ملاحظة المقطوع والمظنون ، فان تعلق كل منهما بالحكم الفعلي فلا يعقل المنع ، أما في حال القطع فواضح. وأما في حال الظن ، فلان المنع عن العمل بالظن يوجب القطع بعدم فعلية الحكم الواقعي ـ لو كان على خلاف الحكم الظاهري ـ وهذا ينافى الظن بالحكم الواقعي الفعلي ، كما هو المفروض. وهذا واضح. واما ان تعلق كل منهما بالحكم الإنشائي ، فلا مانع من الحكم على الخلاف ، ولا تفاوت أيضا بين العلم والظن.

هذا وأما على ما قلنا في دفع المنافاة بين الحكم الواقعي والظاهري : من اختلاف رتبتيهما ، فيرد إشكال آخر على أصل الدعوى ، بأنه كما تتأخر رتبة الشك والظن بالحكم عن نفس الحكم ، كذلك تتأخر رتبة العلم به ، لأنه أيضا من العناوين المتأخرة عن الحكم ، فكما أنه لا ينافى جعل حكم مخالف للواقع في موضوع الشك والظن لاختلاف رتبتيهما ، كذلك لا ينافى جعل حكم مخالف للواقع في مورد القطع ، لعين ما ذكر.

٩

ويمكن أن يجاب على هذا المبنى بأن العلم بالتكليف موجب لتحقق عنوان الإطاعة والمخالفة ، والأول علة تامة للحسن ، كما أن الثاني علة تامة للقبح. وهما كعنواني الإحسان والظلم ، فكما أنه لا يجوز المنع عن الإحسان والأمر بالظلم عقلا ، كذلك لا يجوز المنع عن الإطاعة والأمر بالمعصية والمخالفة. ولا فرق عند العقل في تحقق هذين العنوانين بين أسباب القطع ، بخلاف الظن بالتكليف ، فانه بعد لم يصل إلى حد يصلح لأن يبعث المكلف إلى الفعل ، لوجود الحجاب بينه وبين الواقع ، فلم يتحقق عنوان المخالفة والإطاعة.

نعم لو حكم العقل بوجوب الإتيان بالمظنون من جهة الاحتياط ، وإدراك الواقع ـ كما في حال الانسداد ـ فعدم الإتيان به على تقدير إصابة الظن للواقع في حكم المعصية ، لكن لا إشكال في أن هذا الحكم من العقل ليس إلّا على وجه التعليق ، بمعنى كونه معلقا على عدم منع الشارع عن العمل بذلك الظن ، لا على وجه التنجيز ، كالإتيان بالمعلوم. ومن ثم لو حكم الشارع بترك العمل بالظن في حال الانسداد لا ينافى حكم العقل.

ومحصل ما ذكرنا من الوجه : ان المخالفة ـ لكونها قبيحة بقول مطلق ـ لا تقبل الترخيص ، والإطاعة ـ لكونها حسنة كذلك ـ لا تقبل المنع (٥) ، لا أن المنع عن العمل بالعلم مستلزم للتناقض ، حتى يرد عليه ما ذكرنا من الإشكال.

______________________________________________________

(٥) ويمكن التمسك بالتناقض أيضا على هذا الوجه ، لكن في مقام الفرض لا في مقام جعل الحكم ، حتى يجاب بتعدد موضوع الحكم. بتقريب أن يقال : إن الغرض من الجعل والمصلحة الباعثة له مطلق ، ولا دخل لحال التجرد فيه ، وإن كان له دخل

١٠

اما المقام الثالث أعني قابلية العمل بالعلم ، أي الإطاعة لورود التكليف الشرعي المولوي عليه وعدمها ـ فقد قيل في وجه عدم القابلية أمور :

(منها) ـ لزوم التسلسل لو تعلق الأمر المولوي بالإطاعة ، لأن الأمر بالطاعة لو كان مولويا يحقق عنوان إطاعة أخرى ، فيتعلق الأمر به ، لكونها إطاعة. وهذا الأمر أيضا يحقق عنوان الإطاعة ، فيتعلق الأمر به ، وهكذا.

(ومنها) اللغوية ، لأن الأمر المولوي ليس إلّا من جهة دعوة المكلف إلى الفعل ، وهي موجودة هنا ، فلا يحتاج إليه.

(ومنها) ـ ان الإطاعة عبارة عن الإتيان بالفعل بداعي امره ،

______________________________________________________

في الحكم ، لأنه لو كانت المصلحة أيضا مقيدة بعدم الحالات الطارئة ، يلزم التصويب الباطل بالإجماع ، لو لم يكن بمحال. وحينئذ إذا علم العبد بلزوم شيء ولزوم تركه ، يعلم أن غرض المولى تعلق فعلا بفعل ذلك أو تركه ، ومع ذلك لا يمكن له التصديق بجواز ترك الأول أو فعل الثاني ، لأنه تصديق بإذن المولى في نقض الغرض. وهو محال. وهذا بخلاف الظان والشاك ، فان الواقع لما لم يكن معلوما لهما ، فلا يكون الغرض محرزا ، حتى يكون الاذن في تركه نقضا للغرض.

لا يقال : الظن بالتكليف يلازم الظن بالغرض ، والنهي عن العمل به يلازم القطع بعدمه ، للقطع باستحالة نقض الغرض.

لأنه يقال : لا نسلّم ان النهي يلازم القطع بعدم الغرض ، لأنه مانع من رفع تحريك المولى العبد إلى ما ينافي وجوده ، مع الغرض الّذي لا يؤثر في نفس العبد لغرض آخر ، ومعلوم أن التكليف ـ إذا كان مشكوكا أو مظنونا لظن غير معتبر ـ لا يؤثر في نفس العبد ، بخلاف صورة العلم بالتكليف ، فان الغرض معلوم ويؤثر في نفس العبد ، فلا يجوز رفع اليد عنه. فتأمل جيدا.

١١

فلا يعقل أن يكون الأمر بها داعيا إليها ، وإلّا لزم عدم تحقق موضوع الإطاعة. ويستحيل أن يصير الأمر المتعلق بعنوان داعيا إلى إيجاد غير ذلك العنوان. هذا وكلها مخدوشة :

اما الأول : فلأنه لا يوجد من الأمر الا إنشاء امر واحد متعلق بطبيعة الإطاعة (٦) ، والقضية الطبيعية تشمل الافراد المحققة بها ، فلا بأس بانحلال الأمر المتعلق بالطبيعة الواحدة إلى أوامر غير متناهية ، لانتهائها إلى إيجاد واحد ، مضافا إلى انقطاع هذه الأوامر بإتيان المكلف فعلا واحدا ، وهو ما امر به أولا أو انقضاء زمان ذلك الفعل.

وأما الثاني : فلأنه يكفى في الخروج عن اللغوية تأكيد داعي المكلف ، لأنه من الممكن أن لا ينبعث بأمر واحد ، ولكنه لو تعددت وتضاعفت الأوامر ينبعث نحو الفعل.

______________________________________________________

(٦) لا يقال : على هذا يلزم عقوبات غير متناهية ومثوبات كذلك.

لأنه يقال : لا بأس به ، لأن الآخرة دار خلود ولا فناء لنعيمها ولا زوال لنكالها ، لكن يمكن الخدشة في ذلك : بان الأوامر غير المتناهية إن كانت عرضية ، فلا بأس بصيرورتها داعية للمكلف ، بان يتصور المكلف أيضا طبيعة الأمر ويقصدها إجمالا ، وأما إذا فرضنا لزوم الترتب في الدواعي ، بمعنى حصول كل داع بتأثير داع سابق ، فهذا لا يمكن في غير المتناهي ، لأنه بالفرض لا مبدأ لها ، حتى يقال أثر كل سابق في اللاحق. وليس ذلك من قبيل العلم بالعلم ، أو ما ينقطع التسلسل فيه بقطع الاعتبار.

نعم إذا قيد المولى موضوع امره بالأول ، بان يقول مثلا : أطع الأمر الأول أو ببعض آخر ، ينقطع التسلسل ، لكن لو كان الملاك الإطاعة ، فلا وجه لتخصيص الحكم بالأول ، إلا أن يقال بوجود المانع في بعض أقسام ما فيه الملاك ، لكن التفصيل بين افراد الإطاعة مما لا يقبله الوجدان ، ولم يعهد من أحد.

١٢

وأما الثالث : فلان إتيان الفعل ابتداء بداعي الأمر بالإطاعة ليس إطاعة للأمر المتعلق به ، ولكن إتيانه بداعي الأمر المتعلق به بداعي الأمر بالإطاعة ـ بحيث يكون الأمر بالإطاعة داعيا إلى إيجاد الداعي ـ لا يضر بصدق الإطاعة ، ولا يكون الأمر المتعلق به مولويا ، كما لا يخفى.

والأولى أن يقال في وجه المنع أن الإرادة المولوية ـ المتعلقة بعنوان من العناوين ـ يعتبر فيها أن تكون صالحة لأن تؤثر في نفس المكلف مستقلا (٧) ، لأن حقيقتها البعث إلى الفعل.

وبعبارة أخرى هي إيجاب الفعل اعتبارا وبالعناية ، والأمر المتعلق بالإطاعة مما لا يصلح لأن يؤثر في نفس المكلف مستقلا ، لأنه لا يخلو من أمرين : إما أن يؤثر فيه امر المولى أولا ، فعلى الأول يكفيه الأمر المتعلق بالفعل ، وهو المؤثر لا غير ، لأنه أسبق رتبة من الأمر المتعلق بالإطاعة. وعلى الثاني لا يؤثر الأمر المتعلق بالإطاعة فيه استقلالا ، لأنه من مصاديق امر المولى. وقد قلنا أن من شأن امر المولى إمكان تأثيره في نفس العبد على وجه الاستقلال. هذا كله في القطع المتعلق بالحكم الواقعي الّذي يكون طريقا محضا إليه (٨).

واما القطع المأخوذ في موضوع الحكم ، فلا إشكال في إمكان تقييده بحصوله من سبب خاص ، كما أنه لا إشكال في إمكان اعتباره على

______________________________________________________

(٧) لا يخفى ان اللازم في الأمر أن يكون كذلك ، مع قطع النّظر عن معصيته ، بمعنى أنه لا بد ان يصلح للتأثير مستقلا لو لا معصيته ، من دون ارتباطه بإطاعة امر آخر أو معصيته. وكل من الأوامر في المقام هكذا. فتأمل تعرف. واعتبار الزائد في الأمر يحتاج إلى تأمل.

(٨) لا يخفى أن المقصود من حجية هذا القطع ـ بلا حاجة إلى الجعل ـ هو

١٣

وجه الإطلاق ، فيتبع دليل اعتباره.

ثم اعلم أن القطع المأخوذ في الموضوع يتصور على أقسام (أحدها) أن يكون تمام الموضوع للحكم (ثانيها) ان يكون جزءا للموضوع ، بمعنى ان الموضوع المتعلق للحكم هو الشيء مع كونه مقطوعا به. وعلى أي حال إما أن يكون القطع المأخوذ في الموضوع ملحوظا على أنه صفة خاصة ، وإما أن يكون ملحوظا على أنه طريق إلى متعلقه. والمراد ـ من كونه ملحوظا على أنه صفة خاصة ـ ملاحظته من حيث أنه كشف تام ، والمراد ـ من كونه

______________________________________________________

لزوم العمل به عقلا ، وكون القطع محركا وباعثا نحو المقطوع به ، وبهذا المعنى لا يمكن النهي عنه ، ولا ارتداع المكلف عن العمل به ، لا العذر عند الخطأ والتنجيز عند الإصابة ، لأن التنجيز عند الإصابة وإن لم ينفك عنه ، لكن يمكن تحقق القطع وعدم معذورية المكلف مع الخطأ ، كمن علم إجمالا بتحقق الخطأ في بعض أقسام القطع الحاصل له من بعض المقدمات العقلية مثلا ، فانه لا يجوز له الاقتحام في تلك المقدمات ، ولو حصل له القطع منها لم يكن معذورا عند الخطأ ، وإن كان في العمل به مجبولا. ولو كان ذلك مراد المفصلين بين الحاصل من المقدمات الشرعية والعقلية ، فلا بأس بالالتزام به ، كما لو كان المراد عدم حصول القطع غالبا من المقدمات العقلية.

واما لو كان المراد عدم جواز العمل بالقطع الحاصل من المقدمات العقلية ، بعد حصوله ، فلا فرق فيما ذكر من عدم احتياج حجيته إلى الجعل ، وعدم إمكان النهي عنه ، وعدم قابليته للأمر بمتابعته بين الحاصل من أي سبب لأي شخص في أي مسألة.

نعم على القول بالجمع بين الحكم الواقعي والظاهري بتعدد مراتب الأحكام ، يمكن الالتزام بجواز النهي عن بعض أقسام القطع ، بدخل قسم خاص موضوعا في فعلية الحكم ، وان كان طريقا في الإنشاء. ولعل كلام صاحب الفصول ـ في مقدمات الانسداد في مقام اختيار حجية خصوص الظن بالطريق ـ يبتني على ذلك ، حيث قال بعد كلمات له : (وحاصل القطعين يرجع إلى قطع واحد ، وهو أن الشارع كلفنا بمؤديات تلك الطرق) فراجع وتأمل في تصحيحه.

١٤

ملحوظا على أنه طريق ـ ملاحظته من حيث أنه أحد مصاديق الطرق المعتبرة.

وبعبارة أخرى ملاحظة الجامع بين القطع وسائر الطرق المعتبرة ، فعلى هذا يصح أن يقال في الثمرة بينهما انه على الأول لا يقوم سائر الأمارات والأصول مقامه ، بواسطة الأدلة العامة لحجيتها. أما غير الاستصحاب من الأصول فواضح. وأما الاستصحاب وسائر الأمارات المعتبرة ، فلأنها بواسطة أدلة اعتبارها توجب إثبات الواقع تعبدا ، ولا يكفى مجرد الواقع فيما نحن فيه ، لأن للقطع بمعنى الكشف التام دخلا في الحكم ، إما لكونه تمام الملاك ، وإما لكونه مما يتم به الموضوع.

وعلى الثاني فقيام الأمارات ـ المعتبرة ، وكذا مثل الاستصحاب لكونه ناظرا إلى الواقع في الجملة ـ مقامه مما لا مانع منه ، لأنه فيما يكون القطع على هذا المعنى تمام الموضوع ، ففي صورة قيام إحدى الأمارات أو الاستصحاب ، يتحقق مصداق ما هو الموضوع حقيقة (٩) ، وفيما يكون المعتبر هو الواقع المقطوع ، فالواقع يتحقق بدليل الحجية تعبدا ، والجزء الآخر وجدانا ، لأن المفروض عدم ملاحظة القطع في الموضوع من حيث كونه كاشفا تاما ، بل من حيث أنه طريق معتبر. وقد تحقق مصداقه قطعا.

______________________________________________________

(٩) لكن لا يخفى عدم صحة التعبير عن ذلك بقيامها مقام القطع في الموضوعية ، نعم هي قائمة مقامه من حيث الطريقية. هذا إذا كان القطع تمام الموضوع ، وأما إذا كان الواقع أيضا دخيلا ، فيمكن التعبير بلحاظ أحد جزئي الموضوع ، وهو الواقع ، حيث أن الواقع تعبدا يقوم مقام الواقع الحقيقي ، واما جزؤه الآخر فهو متحقق حقيقة ، كما في تمام الموضوع.

١٥

(فان قلت) لو لم يكن العنوان الواقعي موضوعا للحكم ـ كما هو المفروض ـ فالأمارات القائمة عليه لا يشملها دليل الحجية ، حتى تصير مصداقا للطريق المعتبر ، لأن معنى حجيتها فرض مداليلها واقعة ، وترتيب آثار الواقع عليها. والمفروض في المقام أن ما تعلقت به الأمارة ليس له أثر واقعي ، بل الأثر يترتب على العلم إن كان تمام الموضوع. وعلى الواقع المعلوم إن كان قيده.

(قلت) أما فيما كان العلم تمام الموضوع ، لو لم يكن لمتعلقه أثر أصلا ، فما ذكرته حق لا محيص عنه ، لكن نقول بقيام الأمارات فيما لو كان للمتعلق أثر آخر غير مرتب على العلم ، مثل أن يكون الخمر موضوعا للحرمة واقعا ، وما علم بخمريته موضوعا للنجاسة مثلا ، فحينئذ يمكن إحراز الخمر تعبدا بقيام البينة ، لكونها ذات أثر شرعي ، وبعد قيام البينة يترتب عليها ذلك الحكم الآخر الّذي رتب على العلم ، من حيث انه طريق لتحقق موضوعه قطعا.

وأما فيما كان العلم قيدا للموضوع ، فيكفى في إثبات الجزء الآخر كونه ذا أثر تعلقي ، بمعنى أنه لو انضم الباقي يترتب عليه الأثر الشرعي ، وكم له من نظير ، فان إثبات بعض اجزاء الموضوع ـ بالأصل أو بالأمارة ، والباقي بالوجدان ـ غير عزيز.

ومما قررنا يظهر لك الجواب عن الإشكال الّذي أورده شيخنا الأستاذ دام بقاؤه في هذا المقام على شيخنا المرتضى طاب ثراه ، بما حاصله : أن قيام الأمارات ـ وبعض الأصول مقام القطع المأخوذ في الموضوع جزءا على وجه الطريقية بمجرد الأدلة العامة الدالة على حجيتها ـ يوجب الجمع بين اللحاظين لحاظ الموضوعية ولحاظ الطريقية ، لأن الملحوظ

١٦

في التنزيل إن كان نفس الظن والعلم ، بمعنى أن الجاعل لاحظ الظن ونزله منزلة العلم في الآثار ، فاللازم من هذا الجعل ترتيب آثار العلم على الظن ، ولا يلزم منه ترتيب آثار الواقع على المظنون ، وإن كان الملحوظ متعلقهما ، بمعنى أن الجاعل لاحظ العلم والظن مرآة للمتعلق ، فاللازم ترتيب آثار الواقع على متعلق الظن ، ولا يجوز على هذا ترتيب آثار العلم على الظن.

وعلى أي حال فلو تعلق الحكم بالخمر المعلومة مثلا ، فدليل حجية الأمارة ـ أو الاستصحاب المنزل للشك بمنزلة العلم ـ يتصدى لتنزيل أحد الجزءين للموضوع ، لأن الجاعل لو أراد التنزيل في كليهما ، لزم أن يجمع بين لحاظ العلم والظن في الأمارة ، أو العلم والشك في الاستصحاب طريقا وموضوعا ، وهو مستحيل.

وحاصل الجواب أنه بعد ما فرضنا اعتبار العلم طريقا بالمعنى الّذي سبق ، فأدلة حجية الأمارة أو الاستصحاب ـ وان لم تتعرض الا لتنزيل المؤدى منزلة الواقع ـ تكفي في قيام كل منهما مقام العلم ، لإحراز الموضوع المقيد بعضه بالتعبد وبعضه بالوجدان ، كما عرفت (١٠).

ثم إنه دام بقاؤه تفصى عن هذا الإشكال بأنه بعد تنزيل المؤدى منزلة الواقع ، فالواقع التعبدي معلوم ، مثلا لو ورد دليل على حرمة الخمر

______________________________________________________

(١٠) صحة هذا الجواب ـ على تقدير كون معنى أخذ القطع موضوعا بنحو الطريقية على ما ذكر ـ واضحة لا إشكال فيها.

لكن قد يقال : بان معنى أخذ القطع كذلك جزءا للموضوع أو تمامه ليس أخذ جامع الطرق موضوعا ، بل لشخص القطع دخل لا يقوم شيء مقامه إلّا بجعل على حدة ، وذلك لأن للقطع جهتين وحيثيتين :

١٧

المعلومة ، وقامت البينة على أن هذا خمر ، نعلم بواسطة دليل حجية البينة بان هذا خمر تعبدا ، فيتحقق هذا الموضوع بواسطة دليل الحجية والوجدان ، فدليل الحجية يوجب ثبوت الخمر تعبدا. والعلم بان هذا خمر تعبدا

______________________________________________________

(الأولى) ـ نورانيته في نفسه ، وهي جهة كونه صفة نفسانية تباين الخارج.

(الثانية) ـ جهة مظهريته ومنوّريته للغير ، وهي كونه فانيا في الخارج وحاكيا عنه ، والناظر إليه بهذه الحيثية قد لا يرى إلّا الخارج ، وقد يرى الخارج والطريق الخاصّ إليه بنحو مضى في علم الجنس ، فان لوحظ في الموضوع على النحو الأول ، فهو معنى أخذه صفة ، وان لوحظ على النحو الثاني فهو معنى طريقيته المحضة. وإن أخذ على النحو الثالث فهو معنى أخذ الطريق موضوعا ، ومعلوم أنه لو أخذ بهذا النحو ملحوظا في الموضوع ، بمجرد دليل حجية أمارة لا يصح قيامها مقامه ، لفرض لحاظ طريق خاص في الموضوع وهو القطع.

لكن قد أورد على هذا المعنى بعدم الواسطة بين الأخذ بنحو الطريقية ، على أن يكون الجامع بين الطرق موضوعا للحكم ، وبين أخذه بنحو الصفتية ، وذلك القطع الملحوظ موضوعا قد لا يرى به الا صفة في المتعلق ، وهو عدم الترديد فيه ، من غير نظر إلى كونه صفة خاصة في النّفس.

وبهذا المعنى لا ترديد في المتعلق في جميع الأمارات ، وقد يلاحظ كونه صفة في قبال سائر الصفات ، وهو معنى الصفتية ، لكن لا يخفى أن صفة الواقع مع القطع غير صفته مع الأمارة ، فان عدم الترديد فيه على الأول واقعي ، بخلاف الثاني ، فانه تعبدي.

ثم إنه يمكن ان يقال بصحة قيام الأمارة مقام القطع ، وان كان له دخل في الموضوع على النحو الّذي أشرنا إليه ، بان يكون الجاعل لحجية الأمارة حين الجعل ناظرا إلى آثار القطع ، أعم من ان يكون مأخوذا في موضوعه شرعا ، أو ما يترتب عليه عقلا ، فانه يمكن للشرع التعبد بالعمل على الأمارة كالعلم ، وان كان لزوم العمل في العلم عقليا ، فالجامع بين الحكمين هو ترتب أثر العلم. وسيأتي في الاستصحاب إن شاء الله تعالى مزيد توضيح لذلك.

١٨

وجداني.

وفيه أن أخذ بعض اجزاء الموضوع تعبدا وبعضها وجدانا انما يكون فيما إذا كان الجزء الوجداني مما اعتبر في الدليل الأول ، كما إذا ترتب الحكم على الماء الكر الطاهر ، فنقول كون هذا ماءً وجداني ، وكونه كرا وطاهرا مثلا يتحقق بالأصل. وأما في مقامنا هذا فالجزء الوجداني ليس مما أخذ في الدليل الأول ، لأن الموضوع فيه هو العلم بالخمر الواقعية ، لا الأعم منها ومن التعبدية ، حتى يتحقق هذا الجزء بالوجدان ، فلا بد ـ في ترتيب أثر العلم بالخمر الواقعية على العلم بالخمر التعبدية ـ من تنزيل آخر.

(فان قلت) ان الحكم في الموضوعات المقيدة انما رتب على المقيد من حيث انه مقيد ، ولا شك في أن مجرد إثبات أحد الجزءين بالأصل والآخر بالوجدان لا يوجب إثبات المقيد ، فلا محيص عن ذلك ، إلا أن تلتزم بان المقيد بالقيد التعبدي بمنزلة المقيد بالقيد الواقعي ، فهنا نقول أيضا يكفى في ترتيب الحكم العلم بالخمر التعبدية.

(قلت) الحكم المرتب على الماء الكر ليس مرتبا على المقيد أعنى العنوان البسيط ، بل الموضوع هو منشأ انتزاع ذلك العنوان أعني الماء حال كونه كرا ، ولو سلمنا كون الموضوع هو البسيط.

فنقول : إنه من الوسائط الخفية التي لا يراها العرف واسطة ، ولأجل أحد هذين الوجهين نقول : يكفى في ترتيب الحكم ثبوت جزء بالوجدان والباقي بالأصل ، وهذا لا يتم في الخمر المعلومة ، لأن كون هذا المائع خمرا في الواقع لا يستلزم كون العلم المتعلق به هو العلم بكونه خمرا ، كما أن العلم بكونه خمرا لا يستلزم كونه خمرا في الواقع.

١٩

وبعبارة أخرى مجرد تعلق علم بهذا المائع وكونه خمرا في الواقع ، لا يكون منشئا لانتزاع الخمر المعلومة ، بخلاف كون هذا الماء كرا ، فتدبر.

التجري

ثم إنك قد عرفت مما سبق عدم تجويز العقل الإقدام على مخالفة القطع المتعلق بالتكليف ، فلو أقدم على ذلك وصادف قطعه الواقع ، فلا شبهة في استحقاقه العقوبة. وأما لو لم يصادف ، فوقع النزاع والاختلاف بين العلماء (قدس‌سرهم) في حكمه.

وتحقيق المبحث أن يقال إن النزاع يمكن ان يقع في استحقاق العقوبة وعدمه ، فيكون راجعا إلى النزاع في المسألة الكلامية ، ويمكن أن يقع النزاع في ان ارتكاب الشيء المقطوع حرمته هل هو قبيح أم لا؟ فتكون المسألة من المسائل الأصولية التي يستدل بها على الحكم الشرعي. ويمكن أن يكون النزاع في كون هذا الفعل ـ أعني ارتكاب ما قطع بحرمته مثلا ـ حراما شرعا أولا ، فتكون من المسائل الفقهية ، فان كان النزاع في الأخير ، فالحق عدم اتصاف الفعل المذكور ـ أعني ما قطع بحرمته ـ بالحرمة الشرعية.

توضيح ذلك أن شرب المائع المقطوع خمريته في الخارج ينتزع منه عناوين.

(منها) شرب الماء

(ومنها) شرب مقطوع الخمرية

(ومنها) شرب مقطوع الحرمة

(ومنها) شرب المائع

٢٠