إفاضة العوائد - ج ١

آية الله السيّد محمّد رضا الگلپايگاني

إفاضة العوائد - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد رضا الگلپايگاني


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٧٦
الجزء ١ الجزء ٢

بالفرد بالمعنى الثاني : أن الوجودات بأسرها متباينات ، بمعنى أنه ليس لها جامع.

واستدل القائل بتعلق الطلب بالطبيعة بالمعنى الثاني أيضا بوجهين : (أحدهما) أن وجود الشخص لا يدخل في الذهن ، وإلّا لانقلب خارجا و (الثاني) أن إمكان تصور الوجود الشخصي إنما يكون بعد تحققه ، وفي ذلك الوقت لا يمكن تعلق الطلب به.

والجواب عن حجج الأولين منع عدم الجامع بين الوجودات ، كما ترى بالوجدان أنه قد تتعلق الإرادة بإيجاد الماء لرفع العطش ، من دون مدخلية خصوصيات الوجود في الإرادة ، وستطلع على زيادة توضيح في ذلك إن شاء الله تعالى.

وعن حجج الآخرين أما عن الأول ، فبأنه لا يلزم من تعلق الطلب بالموجودات الشخصية كونها ـ بوصف تحققها في الخارج ـ متصورة في الذهن ، حتى يلزم الانقلاب ، بل يكفى انتقاش صورها في الذهن ، ويتعلق الطلب بهذه الصور الذهنية حاكية عن الخارجيات. وأما عن الثاني ، فبما عرفت مما سبق فلا نعيد (١٥٩).

______________________________________________________

تعريها عن الوجودات الذهنية ، وترى نفس الموجودات ، وتشير إليها بعنوان كل ما يمكن أن يكون فردا للطبيعة ، وكما مر أن الموجود في الخارج لا يخرج عن الجزئية والفردية بمجرد صرف النّظر عن وجوده ، ولذا تكون قضية (زيد موجود) قضية جزئية ، مع أن الوجود غير ملحوظ في موضوعها ، كذلك ما يوجد في الذهن ـ بعنوان الفردية للطبيعة ـ لا يخرج عن الفردية الفرضية ، بتعرية الوجود عنه ولحاظ نفس الموجود.

(١٥٩) من إمكان تصور الفرد قبل وجوده وقد عرفت توضيحه. والمحصل من جميع ما أفاده ـ دام ظله ـ هو إمكان تعلق التكاليف بالافراد والطبائع ، بكلا المعنيين

٢٤١

(الأمر الثاني) أن الموجود الخارجي ـ من أي طبيعة كان ـ امر وحداني محدود بحد خاص ، سواء قلنا بأصالة الوجود أو أصالة الماهية ، غاية الأمر أنه على الأول يكون الثاني منتزعا ، وعلى الثاني يكون الأول منتزعا. نعم يمكن أن ينحل في الذهن إلى ماهية ووجود ، وإضافة الوجود إلى الماهية. فحينئذ لو قلنا بان الوحدة في الخارج مانعة عن اجتماع الأمر والنهي ، فاللازم أن نقول بالامتناع ، سواء قلنا بأصالة الوجود أو الماهية ، ولو قلنا بعدم كونها مانعة. ويكفى تعدد المتعلق في الذهن ، فاللازم القول بالجواز ، سواء قلنا أيضا بأصالة الوجود أو بأصالة الماهية.

(الأمر الثالث) أن الظاهر ـ من العنوان الّذي جعلوه محلا للنزاع ـ ان الخلاف في جواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه. ولا يخفى أنه غير قابل للنزاع ، إذ من البديهيات التضاد بين الأحكام وملاكاتها. إنما النزاع في أنه هل يلزم ـ على القول ببقاء إطلاق دليل وجوب الصلاة مثلا بحاله ، وكذا إطلاق دليل الغصب في مورد اجتماعهما ـ اجتماع

______________________________________________________

في مرحلة الثبوت. وأما في مرحلة الإثبات فقد مر أن الهيئة لا تدل الا على أصل الطلب ، والمادة أيضا لا تدل الا على أصل الطبيعة ، لكن لما لم تكن الطبيعة من حيث هي قابلة لتعلق الطلب بها يعتبر بحكم العقل أخذ الوجود في متعلقها إما بمعناه الاسمي وإما بمعناه الحرفي ، كما ذكرنا في تشريح المعنيين فراجع.

وكيف كان لا يدل أصل الهيئة والمادة بضميمة حكم العقل إلا على تعلق الطلب بأصل الطبيعة بأحد المعنيين ، ولا يفهم الفرد لو لم تكن قرينة في البين. وكذلك لو قيل بأن الوجود أخذ في الهيئة وضعا ، بمعنى انها وضعت لطلب الوجود في الأمر ، ولطلب الترك في النهي ، فان المأخوذ في الموضوعية ـ على هذا القول ـ هو المأخوذ بحكم العقل على القول الآخر ، وقد عرفت مقتضاه. وبذلك يظهر وجه استظهار الكفاية خروج لوازم وجود الماهية عن متعلق الطلب.

٢٤٢

الأمر والنهي في شيء واحد ، حتى يجب عقلا تقييد أحدهما بغير مورد الآخر أو لا يلزم؟ بل يمكن ان يتعقل للأمر محل ، وللنهي محل آخر ولو اجتمعا في مصداق واحد؟ فهذا النزاع في الحقيقة راجع إلى الصغرى ، نظير النزاع في حجية المفاهيم.

(الأمر الرابع) أنه لا إشكال في خروج المتباينين عن محل النزاع ، بمعنى عدم الإشكال في إمكان أن يتعلق الأمر بأحدهما ، والنهي بالآخر إلا على تقدير التلازم بينهما في الوجود ، كما لا إشكال في خروج المتساويين في الصدق ، لما عرفت من اعتبار وجود المندوحة ، كما لا إشكال في دخول العامين من وجه في محل النزاع (١٦٠) انما النزاع في أن العام المطلق والخاصّ أيضا يمكن ان يجري فيه النزاع المذكور أم لا ،

______________________________________________________

(١٦٠) هذا فيما إذا كانا متغايرين بحسب المفهوم ، كالصلاة والغصب ، فلا إشكال فيه ، وأما فيما إذا كانا متحدين بحسب المفهوم ، كصلاة الصبح والصلاة في الحمام ، فالظاهر عدم جريان النزاع المذكور فيه ، لعدم جريان أدلة الجواز فيه.

توضيح ذلك : ان غاية ما يتمسك به القائل بالجواز هو تعدد موطن الأمر والنهي ، حيث أن الموضوع فيهما عنده هو الموجود في الذهن ، وهو في المفهومين المتغايرين متعدد. وسيأتي تفصيله ـ إن شاء الله تعالى ـ فلو كان متعلّقهما في الذهن أيضا واحدا ، لم يلتزم أحد بجواز اجتماعهما ، للزوم اجتماع الأمر والنهي في الواحد ذهنا وخارجا ، وهو محال.

والظاهر أن العامين من وجه مع اتحادهما مفهوما ـ كصلاة الصبح والصلاة في الحمام ـ يكونان كالعام والخاصّ المطلقين في وحدة موضوع الأمر والنهي ذهنا وخارجا ، لو فرض اجتماعهما ، لأن معنى محبوبية صلاة الصبح بنحو الإطلاق ، ليس إلّا محبوبية طبيعة تلك الصلاة بنفسها ، من دون دخل قيد وجودي أو عدمي ـ حتى قيد الإطلاق ـ فيه كما سيأتي منه ـ دام ظله ـ في المطلقين إذا اتحدا من حيث المفهوم ،

٢٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

ولازم ذلك أن تكون طبيعة صلاة الصبح في الحمام أيضا مطلوبة بما هي صلاة الصبح ، فلو كان متعلق النهي امرا خارجا عن موضوع الأمر ، مثل إضافة الصلاة إلى الحمام ، فلا إشكال. واما إذا كان نفس هذه الصلاة الموجودة في الحمام مبغوضة ومتعلقة للنهي ، فينا في ذلك إطلاق محبوبية صلاة الصبح. وفي الحقيقة تكون مطلوبيتها مقيدة بعدم تحققها في الحمام.

ولا يمكن أن يقال أن مفهوم صلاة الصبح في الذهن غير مفهوم الصلاة في الحمام ، وإنما المتحد هو الفرد كالصلاة والغصب ، لأن مفهوميهما في الذهن وان كانا متعددين ، لكن مثل ذلك التعدد لا يكفي في وقوعهما موضوعين لحكمين مختلفين ، كتعدد مفهومي المطلق والمقيد ، أو كتعدد المفهوم في تصور الشيء مرتين ، وذلك لأن من يرى صلاة الصبح بلا قيد مطلوبة ، ففي الحقيقة يرى صلاة الصبح في الحمام أيضا مطلوبة ، لأنها ليست إلّا صلاة الصبح مع الخصوصية الخاصة ، وبالفرض لم تكن الخصوصيات دخيلة في المطلوب وجودا وعدما ، فإذا كانت تلك الصلاة أيضا مبغوضة ومنهيا عنها ، يلزم اتحاد موضوع الأمر والنهي ذهنا وخارجا ، وهو محال.

وبعين هذا التقريب يخرج المطلق والمقيد في متحدي المفهوم عن محل النزاع ، لأن مفهومهما وان كان متعددا ذهنا ، لكن وجودا لا ذاتا ، لأن المقيد ـ كما ذكرنا ـ ليس إلّا ذات المطلق مع إضافة قيد ، فإذا تعلق به الأمر لا يمكن تعلق النهي به ولو في نظرة أخرى ، سواء أضيف إليه قيد أم لا ، لأنّ الذات الموجودة في المقيد ليست إلّا ذات المطلق حتى في الذهن ، فلا تعدد في الذهن ، حتى يقال أن موطن الأمر والنهي هو الموجود في الذهن.

نعم لو كانا متغايرين مفهوما كالحركة والدنو إلى مكان خاص مثلا ، أمكن أن يقال : إن مفهوم الحركة في الذهن غير مفهوم الدنو إلى ذلك المكان ، فلو تعلق الأمر بصرف طبيعة الحركة والنهي عن شخص هذه الحركة بما هي دنو ، فيقال : إن الموجود في الذهن من هذه الحركة غير الموجود فيه من أصل الحركة ، بل كذلك منشأ انتزاع المفهومين أيضا متعدد واقعا ، ولذا يمكن اتصاف أحدهما بالعلم والآخر بالشك ،

٢٤٤

قال المحقق القمي (قدس‌سره) ان العام المطلق خارج عن محل النزاع ، بل هو مورد للنزاع في النهي في العبادات. واعترض عليه المحقق الجليل صاحب الفصول (قدس‌سره) بأنه ليس بين العامين من وجه والمطلق من حيث هاتين الجهتين فرق ، بل الملاك أنه لو كان بين العنوان المأمور به والعنوان المنهي

______________________________________________________

بخلاف المتحدين مفهوما ، فانه لا يمكن تحقق المطلق في ذلك المقام مع الشك في ذات المقيد.

نعم الشك في المقيد ـ أو فيه بما هو متصف الراجع إلى القيد أيضا ـ ممكن ، لكن هذا غير ذات المقيد ، ولعل هذا هو السر في حمل المطلق على المقيد المرتكز في الأذهان ، وإلّا فلا وجه له لو كان مركب الأمرين متعددا.

ولا يخفى أنه لا فرق فيما ذكرنا بين التعبدي والتوصلي فلو امر بالخياطة بنحو الإطلاق ، لا يمكن النهي عنها في مكان خاص. وأيضا لا فرق بين الحكم الفعلي والحيثي ، فلا يمكن الجمع بين إطلاق الحلية الذاتيّة في الغنم مع حرمة الغنم المغصوب أو الموطوء بما هو مغصوب أو موطوء.

نعم يمكن الجمع بين عنوان الموطوء والمغصوب من دون دخل عنوان الغنم فيهما ، فيكون من أقسام المسألة ، ولا يقاس الإطلاق بالكلية : بأن يقال : كما أن الإنسان كلي وزيد جزئي ، يمكن أن يكون المطلق محبوبا والمقيد مبغوضا ، ولا فرق في المضادة بين العارضين ، فما هو الجواب فيها؟

نجيب بما أجبنا فيها ، حيث أن حال تجرّد معروض الكلية يكون دخيلا في عروضها ، بخلاف الإطلاق ، فان معناه عروض الحكم على الذات ، بلا قيد في العارض والمعروض والعروض ، وذلك واضح.

إذا عرفت ما ذكرنا كله تعرف أن الأقوى ما عليه صاحب الفصول من اختصاص مورد نزاع المسألة بما إذا كان مورد الأمر والنهي مختلفي المفهومين ، من غير فرق بين كون النسبة بينهما عموما وخصوصا من وجه أو مطلقا. نعم في اختصاص النزاع الآتي بما إذا كان الموردان من قبيل المطلق والمقيد ما لا يخفى ، لأن النزاع في المسألة الآتية جار في جميع الموارد الا في مورد الاجتماع على القول بالجواز ، ووجهه واضح.

٢٤٥

عنه مغايرة ، يجري فيه النزاع ، وان كان بينهما عموم مطلق ، كالحيوان والضاحك ، وان اتحد العنوانان ، وتغايرا ببعض القيود ، لم يجر النزاع فيهما ، وان كان بينهما عموم من وجه ، نحو (صل الصبح ، ولا تصل في الأرض المغصوبة).

هذا ويشكل بأنه لو اكتفى المجوز بتغاير المفهومين ووجود المندوحة ، فلا فرق بين أن يكون بينهما عموم من وجه أو مطلق ، وأن يكون العنوان المأخوذ في النهي عين العنوان المأخوذ في الأمر ، مع زيادة قيد من القيود أو غيره ، ضرورة كون المفاهيم متعددة في الذهن في الجميع ، ولو لم يكتف بذلك ، فليس لتجويز الاجتماع في العامين من وجه أيضا مجال. فاللازم على من يدعى الفرق بيان الفارق.

قال شيخنا المرتضى ـ أعلى الله مقامه ـ في التقريرات المنسوبة إليه ـ بعد نقل كلام المحقق القمي وصاحب الفصول ـ ما هذا لفظه : (أقول إن ظاهر هذه الكلمات يعطى انحصار الفرق بين المسألتين في اختصاص إحداهما بمورد دون أختها ، وليس كذلك ، بل التحقيق ان المسئول عنه في إحداهما غير مرتبط بالأخرى. وتوضيحه أن المسئول عنه في هذه المسألة هو إمكان اجتماع الطلبين فيما هو الجامع لتلك الماهية المطلوب فعلها والماهية المطلوب تركها ، من غير فرق في ذلك بين موارد الأمر والنهي ، فانه كما يصح السؤال عن هذه القضية فيما إذا كان بين المتعلقين عموم من وجه ، فكذا يصح فيما إذا كان عموم مطلق ، سواء كان من قبيل قولك (صل ولا تصل في الدار المغصوبة) أو لم يكن كذلك. والمسئول عنه في المسألة الآتية هو أن النهي المتعلق بشيء هل يستفاد منه أن ذلك الشيء مما لا يقع به الامتثال ، حيث أن المستفاد من إطلاق الأمر حصول الامتثال بأي فرد كان ، فالمطلوب فيها هو استعلام أن النهي المتعلق بفرد من افراد

٢٤٦

المأمور به ، هل يقتضى دفع ذلك الترخيص المستفاد من إطلاق الأمر أولا؟ ولا ريب أن هذه القضية كما يصح الاستفسار عنها ، فيما إذا كان بين المتعلقين إطلاق وتقييد ، كذلك يصح فيما إذا كان بينهما عموم من وجه ، كما إذا كان بينهما عموم مطلق. وبالجملة ، فالظاهر أن اختلاف المورد لا يصير وجها لاختلاف المسألتين ، كما زعموا بل لا بد من اختلاف جهة الكلام) انتهى موضع الحاجة من كلامه ، قدس‌سره» (١).

أقول : والحق ان العنوانين لو كانا بحيث أخذ أحدهما في الآخر ، وكان بينهما عموم مطلق ، أيضا لا يتطرق فيهما هذا النزاع (١٦١). وتوضيحه أنه لا إشكال في تغاير المفاهيم بعضها مع بعض في الذهن ، سواء كان بينها عموم مطلق أو من وجه أو غيرهما ، وسواء كان أحدهما مأخوذا في الآخر أم لا ، إلا أنه لا يمكن أن يقال فيهما ـ إذا كان بين المفهومين عموم مطلق ، وكان أحدهما مشتملا على الآخر ـ ان المطلق يقتضى الأمر ، والمقيد يقتضى النهي ، لأن معنى اقتضاء الإطلاق شيئا ليس إلّا اقتضاء نفس الطبيعة ، إذ لا يعقل الاقتضاء لصفة الإطلاق ، والمقيد ليس إلّا نفس تلك الطبيعة منضمة إلى بعض الاعتبارات ، ولو اقتضى المقيد شيئا منافيا للمطلق ، لزم أن يقتضى نفس الطبيعة امرين متنافيين.

وبعبارة أخرى بعد العلم بأن صفة الإطلاق لا تقتضي تعلق الحب

______________________________________________________

(١٦١) يعني ان المسألتين وان كانتا مختلفتين من حيث الجهة ، كما قال به الشيخ وصاحب الكفاية (قدس‌سرهما) ، لكن تفترقان بحسب المورد أيضا ، باختصاص الأولى بغير مثل المطلق والمقيد إذا كانا متحدي المفهوم ، وقد مرّ تفصيله في الحاشية السابقة. ولعل نظر الفاضلين (قدس‌سرهما) أيضا إلى ذلك ، لا إلى عدم الفرق الا من حيث المورد ، فانهما أجل شأنا من أن يخفى عليهما اختلاف جهة المسألتين.

__________________

(١) مطارح الأنظار ، الهداية الثانية من حيث اجتماع الأمر والنهي ، ص ١٢٨

٢٤٧

بالطبيعة ، فالمقتضى له نفسها ، وهي متحدة في عالم الذهن مع المقيد ، لأنها مقسم له وللمطلق ، فلو اقتضى المقيد الكراهة ، لزم أن يكون المحبوب والمبغوض شيئا واحدا حتى في الذهن. وهذا غير معقول ، بخلاف مثل مفهوم الصلاة والغصب مثلا ، لعدم الاتحاد في الذهن أصلا.

(الأمر الخامس) قد يتراءى تهافت بين الكلمات ، حيث عنونوا مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي ومثلوا له بالعامين من وجه ، واختار جمع منهم الجواز ، وأنه لا تعارض بين الأمر والنهي في مورد الاجتماع ، وفي باب تعارض الأدلة جعلوا أحد وجوه التعارض التعارض بالعموم من وجه ، وجعلوا علاج التعارض الأخذ بالأظهر إن كان في البين ، وإلّا فالتوقف أو الرجوع إلى المرجحات السندية على الخلاف. وكيف كان لم يتمسك أحد لدفع المنافاة بجواز اجتماع الأمر والنهي.

والجواب ان النزاع في مسألتنا هذه مبنى على إحراز وجود الجهة والمناط في كلا العنوانين (١٦٢) ، وان المناطين هل هما متكاسران عند العقل إذا اجتمع العنوانان في مورد واحد ـ كما يقوله المانع ـ أولا ، كما يقوله المجوز. ولا إشكال في ان الحاكم في هذا المقام ليس إلّا العقل.

______________________________________________________

(١٦٢) لكن الظاهر عدم تمامية الجواب المذكور ، وكأنه من المسلم عندهم عدم عدّ المثال من مسائل الاجتماع ، حتى مع إحراز الجهة ، وصرّح بعض بالتعارض أيضا مع إحراز الجهة ، لو كان الدليلان بصدد الحكم الفعلي ، وبالتزاحم لو كانا لإثبات مجرد الاقتضاء ، من دون ابتناء على الاجتماع والامتناع على ما هو ببالي ، فلا بد من جواب آخر يلتئم مع كلماتهم.

وأجاب الأستاذ ـ دام بقاؤه ـ بإمكان الفرق بين ما إذا كان بين نفس موضوع التكليفين عموم من وجه ، كالصلاة والغصب ، وما إذا كان بين متعلق التكليفين تلك النسبة ، كأكرم العالم ولا تكرم الفاسق ، حيث أن موضوع الحكم ومتعلقه في

٢٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الأول عند القائل بالاجتماع ليس إلّا الوجود الذهني ، وفي الذهن وجود الغصب مباين لوجود الصلاة فيه ، وإن اتّحدا مصداقا ، بخلاف الثاني ، فانه لمّا تعلق الوجوب بإكرام كل عالم ، والعالم لا محالة أخذ في تلك القضية مفروض الوجود في الخارج ، وكذلك الحرمة في لا تكرم الفاسق ، فيرجع الأمر إلى أن ذلك العالم الخارجي ، يجب إكرامه بما هو عالم ، ويحرم إكرامه بما هو فاسق ، فيجتمع الوجوب والحرمة في الواحد الخارجي ، وهو محال ، ولو أخذ الصلاة والغصب أيضا مفروض الوجود ، مثل أن يقول إن غصبت فتصدّق مثلا ، وان صلّيت فلا تخرج من جيبك درهما ، فيأتي فيه الإشكال المذكور ، ولا بد من التعارض أو التزاحم بين وجوب التصدق وحرمة الإخراج ، على تقدير تحقق ذلك الواحد الشخصي بإيجاد الصلاة في المكان الغصبي.

لكن الظاهر عدم تمامية ذلك أيضا ، لأن حقيقة لا تغصب ليس إلّا النهي عن التصرف في الملك المفروض وجوده وملكيته للغير ، وكذلك امر اسجد على الأرض في ضمن الصلاة توجه إلى وضع الجبهة على الأرض المفروض الوجود ، وكذلك الحال بالنسبة إلى سائر أكوان الصلاة ، ومع ذلك لم ينقدح التعارض بينهما عند الاجتماعي. وأما في المثال ، فان صلّى في الدار المغصوبة ، فيجب عليه التصدق بغير درهم ويحرم عليه إخراج الدرهم ، ولو تصدق بالدرهم لسوء الاختيار فهو مورد لاجتماع الأمر والنهي ، وعاص ومطيع على القول بالاجتماع ، من غير فرق بينه وبين سائر موارده.

والّذي يخطر ببالي : أن السر في ذلك ليس إلّا ما ذكرنا من عدم جريان نزاع الاجتماع والامتناع في العامين من وجه إذا اتحدا مفهوما ، وقد مر تفصيله فراجع.

وإجماله في المقام : ان محبوبية إكرام العالم ـ بنحو الإطلاق ، من دون دخل قيد وجودي ولا عدمي ـ لا تجتمع مع مبغوضية إكرام الفاسق كذلك ، لأن معنى محبوبية الإكرام كذلك محبوبيته ولو في ضمن إكرام الفاسق ، ومع فرض مبغوضية إكرام الفاسق المتحد مع العالم ، يلزم اتحاد موطن الأمر والنهي ذهنا وخارجا ، وهو محال ، ولذا لو قال : أكرم العلماء ، ولا تبتسم في وجه الفساق ، فأكرم المخاطب عالما فاسقا بنفس التبسم في وجهه ، فهو من موارد الاجتماع ، فالمنشأ اتحاد مفهوم موضوع الأمر

٢٤٩

وباب تعارض الدليلين مبنى على وحدة المناط والملاك في الواقع ، ولكن لا يعلم أن الملاك الموجود في البين هل هو ملاك الأمر أو النهي مثلا ، فلا بد ان يستكشف ذلك من الشارع بواسطة الأظهرية ، إن كان أحد الدليلين أظهر ، وإلّا فالتوقف أو الرجوع إلى المرجحات السندية حسبما قرر في محله. نعم يبقى سؤال وهو أن طريق استكشاف ما هو من قبيل الأول وما هو من قبيل الثاني ما ذا؟ وهذا خارج عن المقام.

إذا عرفت ذلك فلنشرع فيما هو المقصود من ذكر حجج المجوزين والمانعين ، فنقول وعلى الله التوكل : أحسن ما قيل في تقريب احتجاج المجوزين ، هو أن المقتضى موجود والمانع مفقود. أما الأول فلما عرفت من أن فرض الكلام ليس إلّا فيما يكون المقتضى موجودا. وأما الثاني ، فلان المانع ليس إلّا ما تخيله الخصم ، من لزوم اجتماع المتضادين من الحكمين ، والحب والبغض والمصلحة والمفسدة في شيء واحد ، وليس كما زعمه. وتوضيحه يحتاج إلى مقدمة ، وهي أن الاعراض على ثلاثة أقسام :

(منها) ما يكون عروضه واتصاف المحل به في الخارج كالحرارة العارضة للنار ، والبرودة العارضة للماء ، وأمثالهما من الاعراض القائمة بالمحال في الخارج.

و (منها) ما يكون عروضه في الذهن واتصاف المحل به في الخارج ، كالأبوة والبنوة والفوقية والتحتية وأمثالها (١٦٣).

______________________________________________________

والنهي وهو الإكرام ، لا أخذ العالم مفروض الوجود فيهما. ولا فرق فيما ذكرنا بين (أكرم العالم ولا تكرم الفسّاق) أو (أكرم العلماء ولا تكرم الفساق) لأن الإكرام المحبوب بذاته لا يمكن ان يتصف بالمبغوضية ، مع قيد من القيود ، من غير فرق بين أخذه بنحو الاستغراق أو العام البدلي فتأمل.

(١٦٣) يعني أن أصل الصفة شيء يدركه العقل ، وليس بإزائه في الخارج

٢٥٠

و (منها) ما يكون عروضه في الذهن واتصاف المحل به فيه أيضا ، كالكلية العارضة للإنسان ، حيث أن الإنسان لا يصير متصفا بالكلية في الخارج قطعا ، فالعروض في الذهن ، لأن الكلية إنما تنتزع من الماهية المتصورة في الذهن ، واتصاف الماهية بها أيضا فيه ، لأنها لا تقبل الكلية في الخارج.

فنقول حينئذ لا إشكال في أن عروض الطلب ـ سواء كان امرا أم نهيا ـ لمتعلقه ليس من قبيل الأول ، وإلّا لزم أن لا يتعلق إلّا بعد وجود متعلقه (١٦٤) ، كما أن الحرارة والبرودة لا تتحققان الا بعد تحقق النار والماء ، فيلزم البعث على الفعل الحاصل والزجر عنه ، وهو غير معقول. ولا من قبيل الثاني ، لأن متعلق الطلب إذا وجد في الخارج مسقط للطلب ومعدم له ، ولا يعقل ان يتصف في الخارج بما هو ينعدم بسببه ، فانحصر الأمر في الثالث ، فيكون عروض الأمر والنهي لمتعلقاتهما كعروض الكلية للماهيات.

إذا عرفت ذلك فنقول : إن طبيعة الصلاة والغصب وان كانتا

______________________________________________________

شيء ، نعم له منشأ انتزاع في الخارج ، ومعلوم أن الصفة التي موطن وجودها العقل ، لا يكون عروضها الا في الذهن لكن المتصف بهذه الصفة هو الشيء الخارجي ، بخلاف الثالث ، فان الشيء المتصف بها أيضا لا وجود له إلا في الذهن.

(١٦٤) وأيضا : لا يمكن القول بأن المتعلّق هو الوجود الخارجي بنحو كان التامة ، لأنه إن أريد به تعلق الطلب به قبل تحققه ، بلا توسط لحاظه وتحقق صورته في الذهن ، فهو أيضا كالسابق في الاستحالة واستلزام تحقق العرض قبل تحقق صورة الوجود بنحو كان التامة ، أو صورة الماهية بلحاظ الوجود كذلك في الذهن ، قبل تحقق الخارج ، لكن بنحو تكون حاكية عن الخارج وغير ملتفت إليها ، فهذا عين ما قصدناه من العروض والاتّصاف في الذهن.

٢٥١

موجودتين بوجود واحد ، وهي الحركة الشخصية المتحققة في الدار المغصوبة ، إلا أنه ليس متعلق الأمر والنهي الطبائع الموجودة في الخارج ، لما عرفت من لزوم تحصيل الحاصل ، بل هي بوجوداتها الذهنية. ولا شك أن طبيعة الصلاة في الذهن غير طبيعة الغصب كذلك ، فلا يلزم من وجود الأمر والنهي حينئذ اجتماعهما في محل واحد.

فان قلت : لا معنى لتعلق الطلب بالطبائع الموجودة في الذهن ، لأنها ان قيدت بما هي في ذهن الآمر ، فلا يتمكن المكلف من الامتثال ، وان قيدت بما هي في ذهن المأمور ، لزم حصول الامتثال بتصورها في الذهن ، ولا يجب إيجادها في الخارج. وهو معلوم البطلان.

قلت : نظير هذا الإشكال يجري في عروض الكلية للماهيات ، لأنه بعد ما فرضنا أن الماهية الخارجية لا تقبل ان تتصف بالكلية ، وكذا الماهية من حيث هي ، لأنها ليست إلا هي ، فينحصر معروض الكلية في الماهية الموجودة في الذهن ، فيتوجه الإشكال بأنه كيف يمكن أن تتصف بالكلية ، مع انها من الجزئيات ، ولا تنطبق على الافراد الخارجية ، ضرورة اعتبار الاتحاد في الحمل. ولا اتحاد بين الماهية المقيدة بالوجود الذهني وبين الافراد الخارجية.

وحل هذا الإشكال في كلا المقامين أنه بعد ما فرضنا أن الماهية ـ من حيث هي مع قطع النّظر عن اعتبار الوجود ـ ليست إلّا هي ، ولا تتصف بالكلية والجزئية ولا بشيء من الأشياء ، فلا بد من القول بأن اتصافها بوصف من الأوصاف يتوقف على الوجود ، وذلك الوجود قد يكون وجودا خارجيا ، كما في اتصاف الماء والنار بالبرودة والحرارة ، وقد يكون وجودا ذهنيا ، لكن لا من حيث ملاحظة كونه كذلك ، بل من حيث كونه حاكيا عن الخارج ، مثلا ماهية الإنسان تلاحظ في الذهن ،

٢٥٢

ويعتبر لها وجود مجرد عن الخصوصيات حاك عن الخارج ، فيحكم عليها بالكلية ، فمورد الكلية في نفس الأمر ليس إلّا الماهية الموجودة في الذهن ، لكن لا بملاحظة كونها كذلك ، بل باعتبار حكايتها عن الخارج.

فنقول موضوع الكلية وموضوع التكاليف المتعلقة بالطبائع شيء واحد (١٦٥) ، بمعنى أن الطبيعة ـ بالاعتبار الّذي صار موردا لعروض

______________________________________________________

(١٦٥) لا يخفى أن موضوع الكلية والتكاليف وإن كانا سيّان في أن العروض والاتصاف في كليهما في الذهن ، لكنه فرق بينهما من حيث أن حال التجرد من جميع القيود دخيل في عروض الكلية ، حتى أنه لو لوحظت الماهية في الذهن متحدة مع الافراد لا تعرض عليها ، ولا يصح أن يقال كل إنسان كلي مثلا ـ ولو قبل وجود الافراد في الخارج ـ وهذا بخلاف الأمر والنهي ، فانهما قد يتعلقان بالطبيعة قبل وجودها ، مع لحاظ اتحادها مع الخارجيات.

وبعبارة أخرى : قد تكون الطبيعة بوجودها الساري محبوبة أو مبغوضة ، بل الغالب في المبغوضية ذلك ، بحيث يكون تعلّق النهي بصرف الطبيعة ـ بلا لحاظ السريان ـ نادرا أو معدوما. نعم قد يتعلقان بالطبيعة الصرفة بما هي ، بحيث تكون الافراد خارجة عن تحت الطلب ، ويكون حال التجرّد عن لحاظ الاتحاد مع الافراد أيضا دخيلا في الحكم وفي المحبوبية ، بحيث لا يصدق على فرد من الافراد أنه محبوب أو مبغوض ، بل يكون كل فرد مصداقا لما يكون محبوبا كما في الكلية ، ولعل الغالب في الأوامر هو ذلك.

وحاصل الفرق : انه في الأول يكون كل فرد من افراد المحبوب محبوبا بنفسه ، لأن المحبوب هو الوجود الساري للطبيعة ، ومن الوجودات هذا الفرد ، بل يمكن أن يقال ان لوازم وجود كل فرد أيضا محبوبة ، غاية الأمر بالتبع ، وكذلك في المبغوض ، بخلاف الثاني فانه لا يصدق على فرد من الافراد أنه محبوب ، بل يقال انه شيء ينطبق عليه المحبوب ويتحقق به ، ولا يسري إليه الطلب. وليكن هذا الفرق على ذكر منك ، لعلّه ينفعك في مقام النتيجة.

٢٥٣

وصف الكلية ـ تكون موضوعة للتكاليف من دون تفاوت أصلا.

فان قلت سلمنا ذلك كله ، لكن مقتضى كون الوجود حاكيا عن الخارج بلحاظ المعتبر أن يحكم باتحاده مع الوجودات الخارجية ، فاللازم من تعلق إرادته بهذا الوجود السعي تعلقها أيضا بالوجودات الخارجية ، لمكان الاتحاد الّذي يحكم به اللاحظ.

قلت : الحكم ـ باتحاد الوجود السعي مع الوجودات الخاصة في الخارج ـ لا بد له من ملاحظة مغايرة بين الموضوع والمحمول ، حتى يجعل أحدهما موضوعا والآخر محمولا ، ولا ينافى ذلك الحكم بالاتحاد ، لأنه بنظر آخر.

وبعبارة أخرى للاحظ لحاظان أحدهما تفصيلي والآخر إجمالي ، فهو باللحاظ الأول يرى المغايرة بين الموضوع والمحمول ، ولذا يجعل أحدهما موضوعا والآخر محمولا ، وباللحاظ الثاني يرى الاتحاد ، فحينئذ لو عرض المحمول شيء في لحاظه التفصيلي ، فلا وجه لسريانه إلى الموضوع ، لمكان المغايرة في هذا اللحاظ (١٦٦) ، وبهذا اندفع الإشكال عن المقام ونظائره مما لم تسر الأوصاف القائمة بالطبيعة إلى افرادها ، من قبيل الكلية العارضة

______________________________________________________

(١٦٦) هذا فيما إذا كان لتجرد الموضوع ـ حتى عن لحاظه متحدا مع الافراد ، كما بينّاه في الحاشية ـ دخل في الموضوع ، لأن المحمول يكون على هذا كالكلية بعينها. وحينئذ موضوع الأمر والنهي متعدد ، ولا مساس لأحدهما بالآخر. وسيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى. وأما لو لم يكن للحالة المذكورة دخل ، بل كانت الطبيعة بوجودها الساري محبوبة ، بأن لاحظها الآمر قبل وجودها وجعلها ـ بلحاظ وجودها بما هو وجود مع أيّ شيء اتحد ـ موضوعا للأمر ، أو جعل الموضوع في الذهن نفس الوجود كذلك على اختلاف المعنيين ـ كما مر ـ فلا يتم التقريب المذكور للاجتماع ، لأن موضوع الأمر ـ على هذا ـ يكون متحدا مع كل فرد من الافراد الخارجية في لحاظ

٢٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

اتصافه بالمحمول ، وموضوع النهي أيضا كذلك في الغالب ـ كما مر ـ فيلزم اتحاد موضوع الأمر والنهي في الخارج والذهن ، وهو محال.

وهذا هو ما أشرنا إليه في السابق من الفرق بين متعلّق التكاليف ومعروض الكلية ، من إمكان أخذ الموضوع في الأول ، بحيث يكون متعلقه التكاليف ، بخلاف الكلية. والعمدة فيما هو ـ دام بقاؤه ـ بصدده إثبات ما ذكرناه من دخل التجرد في موضوع الأوامر ، حتى عن لحاظ الاتحاد ، ولا شاهد لها الا الوجدان ، فانه قد يتعلق الحب بالطبيعة بما هي ، من دون سرايته إلى الافراد ، بحيث لو نظر إلى كل فرد لا يراه مطلوبا ، بل يراه مصداقا لما تعلق به الحب في حالة تجرّده عن اتحاده معه ، كما في الكلية. وهذا وجداني ، وحينئذ لا تنافي بين محبوبية الصلاة وطبيعة الحركة في ضمنها ، مع مبغوضية الحركة الخاصة لكونها غصبا ، لأن معروض الأول هي الطبيعة بلحاظ التجرد ، ولا ربط له مع المتحد كما في المثال.

لا يقال : ان طبيعة الصلاة في ضمن الحركة الشخصية الغصبية تصير مبغوضة ، لما مر من أن النهي إذا تعلق بالطبيعة بوجودها الساري ، كان الخاصّ مبغوضا حتى بخصوصياته غاية الأمر خصوصياته بالتبع ، فحيثيّة الصلاتية أيضا مبغوضة بالتبع ، ولا يجتمع ذلك مع المحبوبية.

لأنه يقال : نعم الخاصّ مبغوض ، والخصوصية الصلاتية المتحدة في الخارج مع الغصب أيضا مبغوضة ، لكن مر أن موضوع الأمر هي الطبيعة المجردة عن ذلك الاتحاد في لحاظ الآمر ، مع دخل تلك الحالة ، فلا مورد لهذا الإشكال.

ولا يقال : قد مر من الماتن ـ دام بقاؤه ـ أن عوارض الفرد تسري إلى المهملة ، بحيث يصح أن يقال : (الإنسان موجود إذا وجد فرد منه) وكذلك (عالم أو أبيض) وعلى هذا فإذا اعترفت بأن هذا الفرد من الصلاة المتحد مع الغصب مبغوض ، فيصح أن يقال الصلاة مبغوضة ، وذلك ينافي محبوبيتها على الإطلاق.

لأنا نقول : ليست المبغوضية كالعوارض الوجودية ، بحيث يصح إسنادها إلى المهملة باتصاف فرد بها ، بل هي نظير العدم في أنّه ما لم ينعدم جميع الافراد لم يسند

٢٥٥

للإنسان ، وكذا وصف التعدد العارض لوجود الإنسان بما هو وجود الإنسان ، مع أن الفرد ليس بكلى ولا متعدد ، وكذا الملكية العارضة للصاع الكلي الموجود في الصيعان الموجودة في الصبرة ، حيث حكموا بان من اشترى صاعا من الصبرة الموجودة ، يصير مالكا للصاع الكلي بين الصيعان ، والخصوصيات ليست ملكا له ، وفرعوا على هذا لو تلف منها شيء ، فالتالف من مال البائع ما بقي مقدار ما اشترى المشتري. فافهم واغتنم.

فان قلت : كيف يمكن ان يكون هذا الوجود المجرد عن الخصوصيات محبوبا أو مبغوضا ، وليس له في الخارج عين ولا أثر ، لأن ما في الخارج ليس إلّا الوجودات الخاصة. ولا شبهة في ان المحبوب والمبغوض لا يمكن أن يكون الا من الأمور الخارجية ، لأن تعلق الحب والبغض بشيء ليس إلّا من جهة اشتماله على آثار توجب ملائمة طبع الآمر له ، أو منافرته له ، وليس في الخارج الا الوجودات الخاصة المباين بعضها لبعض.

قلت : إن أردت من عدم كون الوجود الجامع في الخارج عدمه

______________________________________________________

العدم إلى المهملة فتأمل.

ولا يقال : إن ذلك مناف لما ذكر في مقدمات الحكمة ومورد الأخذ بالإطلاق ، من أن الطبيعة إذا صارت معروضة لحكم بلا قيد ، فهي معروضة له حيثما تدور مع أي قيد كانت.

لأنه يقال : نعم ، يدور الحكم مدارها مع أي قيد كانت ، ولكن لا ينافي ذلك عدم سريانه إلى الفرد ، لما ذكر من دخل التجرد في الحكم. والمقصود في مقام الإطلاق عدم خروج الطبيعة من تحت الحكم ، بحيث لا يكون الفرد مصداقا لما هو مطلوب أيضا. وذلك لا ينافي ما نحن بصدده في المقام. وذلك واضح.

٢٥٦

مع وصف كونه جامعا ومتحدا مع كثيرين ، فهو حق لا شبهة فيه ، لأن الشيء مع وصف كونه جامعا لا يتحقق إلّا في الذهن ، وإن أردت عدمه في الخارج أصلا ، فهو ممنوع ، بداهة أن العقل بعد ملاحظة الوجودات الشخصية التي تحويها طبيعة واحدة ، يجد حقيقة واحدة في تمام تلك الوجودات. وأقوى ما يدل على ذلك الوجدان ، فانا نرى من أنفسنا تعلق الحب بشرب الماء مثلا ، من دون دخل للخصوصيات الخارجية في ذلك ، ولو لم تكن تلك الحقيقة في الخارج ، لما أمكن تعلق الحب بها (١٦٧). والّذي يدل على تحقق صرف الوجود في الخارج ملاحظة وحدة الأثر من افراد الطبيعة الواحدة ، ولو لم يكن ذلك الأثر الواحد من المؤثر الواحد ، لزم تأثر الواحد من المتعدد. وهذا محال عقلا.

______________________________________________________

(١٦٧) وأيضا : لا إشكال في أنه قد يكون تحقق الجامع في الخارج معلوما ، مع الجهل بتحقق كل واحد من الافراد ، فلو لم يكن له واقع يلزم كون العلم به جهلا مركبا ، لأن كل فرد من الافراد المعينة مجهول بالفرض ، ولا يمكن اتصافه بالمعلومية مع ذلك ، للزوم اتصافه بالضدين. والفرد المنتشر لا واقع له تحقيقا ، فينحصر المعلوم في الجامع.

وأيضا : لا إشكال في أنه قد تترتب خاصيّتان على الموجود الخارجي تسند إحداهما إلى لجامع والأخرى إلى لفرد ، فلو لم يكن في الخارج الا واحد ، لزم صدور الاثنين من الواحد ، فكما يرتفع إشكال ذلك بقيام واقعين محفوظين ، وقيام كل من الأثرين على أحدهما ، كذلك يرتفع الإشكال عن اتحاد موطن الأمر والنهي.

وأيضا قد يستند الخاصّ إلى علة وداع ، والجامع إلى أخرى ، مثل أن يكون أصل الوضوء بداع إلهي ، واختيار الخاصّ بداع نفساني ، كالحرارة والبرودة وأمثالهما وكل ذلك ناش عن التعدد.

ولا يخفى أنا لا نقول بتحقق موجودين محسوسين في الخارج ، بحيث يمكن الإشارة إلى كل منهما منحازا عن الآخر ومتميزا عنه بالفصل والجنس ، كالبقر والإنسان ، أو بالوجود الشخصي كزيد وعمرو ، أو بالذات كالقطرات في البحر مثلا ، أو

٢٥٧

فان قلت : ما ذكرت إنما يتم في الماهيات المتأصلة التي لها حظ من الوجود في الخارج ، كالإنسان ونحوه. وأما ما كان من العناوين المنتزعة من الوجودات الخارجية كالصلاة والغصب ، فلا يصح فيه ذلك ، لأن هذه العناوين ليس لها وجود في الخارج ، حتى يجرد من الخصوصيات ويجعل موردا للتكاليف ، بل اللازم في أمثالها هو القول بان مورد التكاليف الوجود الخارجي الّذي يكون منشأ لانتزاع تلك المفاهيم. ولا ريب في وحدة الوجود الخارجي الّذي يكون منشأ للانتزاع.

وبعبارة أخرى تعدد العناوين مفهوما لا يجدى ، لعدم الحقيقة لها الا في العقل (١٦٨) وما يكون موردا للزجر والبعث ليس إلّا الوجود

______________________________________________________

النقاط في الخطّ الواحد ، حيث يمكن الإشارة إلى كل منها. ويمكن اتصاف كل فرد بعرض خارجي غير عرض الآخر ، بل نقول ان الجامع موجود مع الخاصّ بوجود واحد ، ولا ميز في الخارج بين الحيثيات ، ولا يمكن الإشارة إلى كل منها حسا ، ولا يمكن اتصافها بصفات متباينة ، إلا أن العقل عند التحليل يدرك أشياء متعددة واقعا ، كما يدرك تعدد الجنس والفصل.

ولا يخفى أن التعدد في المقامين واقعي ، لكن لا يدركه إلّا العقل ، لا انه اعتباري محض جاء من قبل العقل ، ولعل هذا معنى أن الوجود واحد ، والحيثيات متعددة ، لا أن الحيثيات اعتبارية صرفة. وإذا ثبت التعدد واقعا عند العقل ، فلا مانع من تعلق الأمر بشيء في الذهن ، والنهي بشيء آخر لا اتحاد بينهما في النّظر التفصيليّ الانحلالي ، وان كان الوجود الخارجي لهما واحدا ، لأن موطنهما ـ كما مرّ ـ هو الذهن لا الخارج.

ثم لا يخفى أيضا عدم صحة قياس إرادة الآمر بإرادة الفاعل ، فان الآمر لو اختار المجمع ينجر إلى نقض غرضه ، وهو محال. بخلاف المأمور ، فانه يمكن أن يختار المجمع بسوء اختياره. نعم في مقام تعلق الإرادة لا فرق بين الإرادتين ، وموطنهما في النّظر التفصيلي.

(١٦٨) وحاصل الإشكال أن الأمور الانتزاعية ليست كالمتأصلة ، بحيث تكون

٢٥٨

الخارجي الّذي تنتزع منه هذه العناوين. ولا شبهة في وحدته.

قلت بعد ما حققنا تحقق صرف الوجود في الخارج ، لا مجال لهذه الشبهة ، لأن العناوين المنتزعة لا تنتزع الا من صرف الوجود ، من دون ملاحظة الخصوصيات. (مثلا) مفهوم (ضارب) ينتزع من ملاحظة حقيقة وجود الإنسان ، واتصافه بحقيقة وجود المبدأ ، من دون دخل لخصوصيات افراد الإنسان أو كيفيات الضرب في ذلك.

______________________________________________________

لها في الخارج حقيقة ، حتى يقال إن لها طبيعة وفردا ، مثل ما يقال عند وجود زيد أن أصل طبيعة الإنسان شيء واقعي غير زيد في النّظر التفصيليّ ، موجود بوجوده متحد معه في النّظر الإجمالي ، فان الفوقية ليس لها في الخارج الا منشأ الانتزاع. ومعلوم أن المنشأ لها ليس الجامع بين الأجسام المستقر بعضها فوق بعض ، بل المنشأ شخص الجسم الخارجي المتهيئ بهيئة خاصة ، وكذلك منشأ الصلاة والغصب شخص الحركات الخارجية المتكيفة بكيفيات خاصة. والشخص الخارجي غير قابل لتعلق الأمر والنهي به ، والمفروض ان الأمر بهما يرجع إلى الأمر بالمنشإ حقيقة.

وحاصل الجواب : أن الانتزاع وان كان من الخارج ، والأمر بالأمور المنتزعة راجع إلى إتيان المنشأ ، لكن المنشأ ليس الخارج بشخصه ، بل هو الطبيعة في حال تجردها عن الاتحاد مع الافراد. فمرجع الأمر بالصلاة إلى الأمر بإتيان الحركات والسكنات والأقوال الخاصة ، لكن بجامعها لا بخصوصياتها التي منها كونها تصرفا في ملك الغير ، والنهي عن الغصب وان كان متوجها إلى كل واحد من اشخاص الحركات التي منها شخص الحركة الصلاتية ، لأن المنهي عنه هي الطبيعة بوجودها الساري ، لكن لما كان معروض الأمر الطبيعة ـ في لحاظ تجردها عن اتحادها مع الافراد ـ لا تنافي بين العرضين. نعم لو كان معروض الأمر أيضا الوجود الساري ، لكان اجتماعهما محالا ، كما مر بل لو كان الواجب تخييريا شرعا ، لا يمكن اجتماعه مع الحرام أيضا ، لأن كل واحد من الافراد في هذا الفرض متعلق للأمر التخييري. وما كان كذلك لا يمكن أن يتعلق به النهي تعيينا ، كما هو واضح.

٢٥٩

إذا عرفت هذا فنقول مفهوم الغصب ينتزع من حقيقة التصرف في ملك الغير ، من دون دخل لخصوصيات التصرف من كونه من الأفعال الصلاتية أو غيرها في ذلك ، ومفهوم الصلاة ينتزع من الحركات والأقوال الخاصة ، مع ملاحظة اتصافها ببعض الشرائط ، من دون دخل لخصوصية وقوعها في محل خاص. وقد عرفت مما قررنا سابقا قابلية ورود الأمر والنهي على الحقيقتين المتعددتين ، بملاحظة الوجود الذهني ، المتحدتين بملاحظة الوجود الخارجي. وهنا نقول أن المفاهيم الانتزاعية وإن كانت ـ حقيقة البعث أو الزجر المتعلق بها ظاهرا ـ راجعة إلى ما يكون منشأ لانتزاعها ، لكن لما كان فيما نحن فيه منشأ انتزاع الصلاة والغصب متعددا ، لا بأس بورود الأمر والنهي وتعلقهما بما هو منشأ لانتزاعهما.

هذا غاية الكلام في المقام ، وعليك بالتأمل التام فانه من مزال الإقدام.

وينبغي التنبيه على أمور :

من توسط أرضا مغصوبة

(الأمر الأول) أنه لا إشكال في أن من توسط أرضا مغصوبة ، لا مناص له من الغصب بمقدار زمن الخروج بأسرع وجه يتمكن منه ، لأنه في غيره يتحقق منه هذا المقدار مع الزائد. وفيه يتحقق منه هذا المقدار ليس إلّا. وهذا لا شبهة فيه إنما الإشكال في أن الخروج من تلك الدار ما حكمه؟ والمنقول فيه أقوال :

(الأول) ـ أنه مأمور به ومنهي عنه. وهذا القول محكي عن أبي هاشم ، واختاره الفاضل القمي (قدس‌سره) ونسبه إلى أكثر أفاضل المتأخرين ، وظاهر الفقهاء. وصحته تبتنى على أمرين (أحدهما) كفاية

٢٦٠