إفاضة العوائد - ج ١

آية الله السيّد محمّد رضا الگلپايگاني

إفاضة العوائد - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد رضا الگلپايگاني


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٧٦
الجزء ١ الجزء ٢

إذ هما من القيود التي يستغنى عنها الطلب عقلا ، فذكرهما في الكلام يدل على تقييد الغرض كما عرفت. نعم قدرة المكلف بالنسبة إلى أصل الطبيعة مما يحتاج إليه صحة الطلب عقلا ، فلو لم تذكر في القضية ، فإطلاق المادة بحاله (٩٦) وان ذكرت تكون موجبة لإجمالها كما عرفت.

واما الشك في ان الفعل هل يجب ان يؤتى به بمباشرة بدنه أو يجتزئ بإتيان النائب؟ فالكلام فيه في مقامين (أحدهما) في إمكان ذلك عقلا في الواجبات التعبدية التي يعتبر فيها تقرب الفاعل ، وانه كيف يمكن كون فعل الغير مقربا لآخر حتى يكون مجزيا عنه (ثانيهما) بعد الفراغ عن الإمكان في مقتضى القواعد من الأصول اللفظية والعملية.

______________________________________________________

(٩٦) لكن بشرط كون الحكم المجعول حيثيا حتى يمكن شمول الهيئة للعاجز ، ليستكشف بإطلاق المادة سريان الحكم إلى جميع الحالات ، كما مرّ تفصيله.

ثم إن هذا كله في مقام استكشاف الغرض من إطلاق أو تقييد ، واما مع الإجمال وعدم الكاشف ، فهل لا يجوز التمسك بالبراءة عند الشك في اعتبار الاختيارية وقصد العنوان ـ وإن قلنا بها في غير المقام ـ كما ذكرنا في الشك في اعتبار الإضافة أم لا خصوصية للمقام ، فمن يقول بالبراءة في غير المقام يحكم بها فيه؟ الظاهر الثاني ، لأن الذات معلوم الوجوب والقيد مشكوك فيه ، فالعقاب عليه عقاب بلا بيان كما في الشك في سائر القيود.

اللهم إلا أن يقال : بأن البراءة مختصة بما إذا كان الأمر بالجامع صالحا للتحريك على تقدير العلم تفصيلا حتى يقوم العلم الإجمالي مقامه ، فيقال : الجامع معلوم ولو إجمالا ، والقيد الزائد مشكوك فيه ، وأما مثل المقام مما لا صلاحية له للتحريك إلى غير المقدور والمقصود ، فلا تأثير للعلم بالجامع ، حتى يقال يجب علينا اتباع المعلوم دون المشكوك فيه. لكن الظاهر أن مناط البراءة كون العقاب على القيد عقابا بلا بيان ، فافهم.

١٤١

أما الكلام في المقام الأول ، فنقول : ما يصلح أن يكون مانعا عقلا وجهان (أحدهما) انه ـ بعد فرض كون الفعل مطلوبا من المنوب عنه والأمر متوجها إليه ـ كيف يعقل ان يصير ذلك الأمر المتوجه إليه داعيا ومحركا للنائب مع انه قد لا يكون امر بالنسبة إلى المنوب عنه أيضا ، كما إذا كان ميتا (ثانيهما) أنه بعد فرض صدور الفعل من النائب بعنوان الأمر المتعلق بالمنوب عنه ، كيف يعقل ان يصير هذا الفعل مقربا له (٩٧) ، مع انه لم يحصل منه اختيار في إيجاد الفعل بوجه من الوجوه في بعض الموارد ، كما إذا كان ميتا. والفعل ما لم يتحقق من جهة الإرادة والاختيار لا يمكن عقلا أن يصير منشأ للقرب.

اما المانع الأول فيندفع بأن مباشرة الفاعل قد تكون لها خصوصيّة في غرض الآمر. وعليه لا يسقط الأمر بفعل الغير قطعا ، ولو لم يكن تعبديا وهذا واضح ، وقد لا يكون لها دخل في غرض الآمر. وهكذا الكلام في اختياره ، فلو فرضنا تعلق الأمر بمثل هذا الفعل الّذي ليست المباشرة والاختيار فيه قيد المطلوب ، فإمكان صيرورة الأمر المتعلق بمثل هذا الفعل داعيا لغير المأمور إليه بديهي ، لوضوح أنه بعد تعلق الأمر بهذا الفعل ـ الّذي لم يقيد حصول الغرض فيه بأحد القيدين المذكورين ـ لا مانع

______________________________________________________

(٩٧) وهذا واضح لأن العقل يمنع استحقاق الشخص للمثوبة وصيرورته ذا وجاهة الا بعمل نفسه ، واما ما يتراءى من مثوبة الابن لأجل أبيه فليس من استحقاق نفسه ، بل من استحقاق أبيه.

ثم ان هذا مختص بالقرب عن استحقاق ، وأما مثل المحبة إلى الأشياء النفيسة أو المحبة الحاصلة تكوينا بين شخصين من الرءوف الرحيم كالولد والوالدين أو غيرهما فهو خارج عن محل الكلام كما لا يخفى.

١٤٢

من صيرورة الأمر المتعلق به محركا للغير لإيجاد ذلك الفعل ، مراعاة لصديقه واستخلاصه من المحذورات المترتبة على ذلك الأمر : من العقاب والبعد عن ساحة المولى. وهذا واضح ومنه يظهر عدم الإشكال فيما إذا لم يكن امر في البين ، كما في النيابة عن الميت ، ضرورة إمكان فعل ذلك لحصول أغراض المولى المترتبة على الفعل ، ليستريح الميت من العقاب المترتب على فوتها وهذا لا إشكال فيه.

انما الإشكال في المانع الثاني ، وهو صيرورة هذا الفعل مقربا للغير عقلا ، إذ لو لم يكن كذلك لم يسقط غرض الآمر ، فلم يسقط عنه العقاب. وهذا الإشكال يسرى في المقام الأول أيضا إذ بعد ما لم يكن فعله مقربا للغير ولم يسقط غرض الآمر عنه ، لا يعقل كون مراعاته سببا لإيجاد ذلك الفعل.

ويمكن التفصي عنه بأن يقال إنه بعد فرض انحصار جهة الإشكال في حصول القرب يكفى في حصوله رضا المنوب عنه بحصول الفعل من النائب ، كما انه قد يؤيد ذلك ببعض الاخبار الواردة في (أن من رضي بعمل قوم أشرك معهم (١) وهذا المقدار من القرب يكفى في عبادية العبادة ، بل يمكن أن يقال بعدم الفرق عقلا بين الفعل الصادر من الإنسان بنفسه ، وبين الصادر من نائبه في حصول القرب ، لأنه بعد حصول هذا الفعل من النائب لا بد وان يكون المنوب عنه ممنونا منه ومتواضعا له ، من جهة استخلاصه من تبعات الأمر المتعلق به وهذه الممنونية تصير منشأ لقربه عند المولى ، لأن أمره صار سببا لها.

وفيه ان الرضا والممنونية يتفرعان على كون الفعل الصادر من النائب مقربا له ، إذ لولاه لم يكن وجه لهما ، ولو توقف القرب عليهما لزم

__________________

(١) الوسائل ، الباب ٥ من أبواب الأمر والنهي ، ج ١١ ، ص ٤٠٨.

١٤٣

الدور (٩٨).

ويمكن ان يقال ان للقرب مراتب باختلاف الجهات الداعية للمكلف ، أدناها إتيان الفعل بداعي الفرار من العقاب ، مثل أن يكون حال العبد بحيث لو علم بعدم العقاب لم يأت بالفعل أصلا ، فإتيانه به خوفا من المولى مقرب له عند العقل ، كما أنا نرى الفرق عند العقلاء بين هذا العبد وبين العبد الّذي لم يكن خوف مؤاخذة المولى مؤثرا فيه ، وهذا المقدار من القرب ـ أعنى كون العبد بحيث يكون له جهة امتياز بالنسبة إلى غيره في الجملة ـ يكفى في العبادة. ونظير هذا المعنى موجود في المقام ، إذ لو فرضنا عبدين أحدهما لم يأت بالمأمور به بنفسه ولا أحد بدله ، والثاني لم يأت به ، ولكن أتى به نائبه ، نرى بالوجدان أن حالهما ليس على حد سواء عند المولى (٩٩) ، بل للثاني عنده جهة خصوصية ليست للأول ، وان لم يصل إلى مرتبة من أتى بالمأمور به بنفسه.

فنقول : هذه المرتبة الحاصلة له بفعل الغير تكفي في العبادة ،

______________________________________________________

(٩٨) لا يخفى ان الرضا والامتنان بشيء لا يتوقف على العلم بالفائدة مع قطع النّظر عنهما ، بل يكفي العلم بتحققها ولو بهما في تحققهما ، وذلك مثل قصد القربة بالفعل ، فانه لو توقف على العلم بحصول القرب مع قطع النّظر عن القصد يلزم الدور ، نعم يرد عليه ان العبادة ما يوجب نفسه القرب ولا يكفي القرب الحاصل من الرضا في العبادية ، فان القرب الحاصل بالرضا لو قلنا بتأثير الرضا في النشأة الآخرة غير الحاصل من العمل ، والمفروض ان العمل غير مقرب حتى بعد الرضا ، ولذا وقع في كلفة الجواب.

(٩٩) لا يخفى ما في هذا الجواب من المصادرة ، لأن الامتياز عند المولى عين محل النزاع ، ومجرد الامتياز الخارجي لا يكفي ، وإلّا لصحت عبادة من يأتي بها بلا قصد ، لامتيازه في الخارج عمن لا يأتي بها أصلا.

١٤٤

ويمكن أن يقال : إن تقرب المنوب عنه بتسليمه للفعل المتلقى من النائب إلى الآمر بعنوان أنه مولى (١٠٠) ولا فرق في حصول القرب بين أن يسلمه إليه ابتداء ويسلمه إليه بعد أخذه من نائبه. هذا حاصل الوجوه التي أفادها سيدنا الأستاذ طاب ثراه ولكن لم تطمئن بها النّفس.

أقول : ويمكن أن يقال إن الأفعال على وجوه : (منها) ما لا يضاف الا إلى فاعله الحقيقي الصادر منه الفعل مباشرة كالأكل والشرب ونظائرهما. و (منها) ما يضاف إليه وإلى السبب أيضا : كالقتل والإتلاف والضرب ونظائرها و (منها) ما يضاف إلى الغير وان لم يكن فاعلا ولا سببا ، ومن ذلك العقود إذا صدرت عن رضا المالك ، بل ولو لم يكن عنه أيضا ابتداء إذا رضى بذلك بعده ، كما في الإجازة بناء على صيرورة العقد بها عقدا للمالك عرفا ، كما قيل.

ولعل الضابط كل فعل يتوقف تحقق عنوانه في الخارج على القصد ، وأوقعه واحد بقصد الغير ، وكان ذلك الفعل حقا لذلك الغير ابتداء مع رضاه بصدوره بدلا عنه ، فلو صحت هذه الإضافة العرفية وأمضاها الآمر ، فلا بد من ان يعامل هذا الفعل معاملة الفعل الصادر من شخصه (١٠١) كما هو واضح. (مثلا) لو فرضنا أن تعظيم زيد عمراً بدلا

______________________________________________________

(١٠٠) حصول القرب بسبب التسليم ليس إلّا كحصوله بالرضا. ويأتي فيه ما مضى فيه إيرادا وجوابا.

(١٠١) توضيح ذلك : ان القرب على قسمين : قسم منهما يحصل عن استحقاق العبد بالعمل بحيث يكون منع الثواب اللازم لهذه الدرجة ظلما وقبيحا ، كالعقاب مع الامتثال ، وهذا النحو من القرب أثر قهري للعمل لا ينفكّ عنه ، وبهذه الكيفية لا يترتب على غيره ، وقسم منهما يحصل بجعل الآمر ، وان لم يكن ـ مع قطع النّظر عن

١٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

جعله ـ مرتبا على العمل ، وهو من سنخ العفو والإحسان على العبد ، مثل العفو عن العقاب مع الاستحقاق وإعطاء الثواب تفضلا ، فان ذلك أيضا نحو من القرب ، لأن من كان بعيدا عن ساحة المولى بحيث يستحق العقاب فأكرمه تفضلا ورفع عنه العقاب وأعطاه الثواب ، فقد تقرب منه بعد ما كان بعيدا عنه ، وهذا النحو من القرب لا يتوقف على العمل أصلا ، فضلا عن عمل نفس العبد ، بل تابع لجعل المولى ، فقد يجعل التوبة رافعة للعقاب ، وقد يجعل بعض الحسنات مذهبا للسيئات ، وقد يتفضل على من يشاء ، فانه مبدل السيئات بالحسنات.

وعلى هذا فلا مانع من أن يقول : إذا أتى غيرك بهذا العمل أو من قبلك أرفع عنك العقاب وأعطيك ما كنت أعطيك لو كنت أتيت به ، والمفروض أنه لا مانع من ذلك عقلا ، فحينئذ لو دلّ دليل على كفاية عبادة النائب المتبرع أو الأجير ـ سواء عن تسبيب من المكلف أو بلا تسبيب منه أصلا ـ فلا مانع عقلا من الأخذ به ، ومعلوم انه مع عدم دليل لا يصح القول به ، وعلى هذا لا إشكال للعامل أن يقصد القربة للمنوب عنه ، لأنه بهذا المعنى تحصل القربة له.

واما الإشكال ـ بأن قصد القربة يتوقف على كون العمل قريبا ، مع قطع النّظر عن القربة ، وهو لا يكون قربيا إلّا بالقصد ـ فمندفع : بكفاية كونه قربيا ولو بالقصد في تحقق القصد ، كما في قصد القربة بالنسبة إلى عمل نفسه ، وحينئذ لو قصد القرب بهذا المعنى ، فلا يحتاج إلى رضا المنوب عنه أو تسليمه ، بل يكفيه إمضاء الشارع ، فلا يتوقف الا على الدليل.

ويمكن أن يجاب عن الإشكال بوجه آخر وهو أن المسلّم في العبادة عدم تحققها بدون قصد القربة من رأس سواء صدرت من نفس المكلف أو ممن يعمل من قبله

وأما أن اللازم قصد القربة من الفاعل نائبا أو متبرعا لخصوص المكلف. وان الغى المباشرة وأتى به غيره فليس بإجماعي ، بل يمكن أن يكتفى فيها بقصد القربة من النائب لنفسه ، فيكون المطلوب من المكلّف هو الجامع بين فعله وفعل غيره ، ولم يطلب من الغير ، إما لمانع عن البعث إليه واما لعدم حق عليه في خصوص ذلك الأمر. وذلك مثل أداء الدين الثابت على زيد مثلا ، فانه وان لم يتوجه الا إليه لكن لم يؤخذ

١٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

فيه قيد المباشرة ، ولذا يسقط بأداء الغير ، وعلى هذا لا يحتاج إلى قصد تقرب المنوب عنه ولا قصد النيابة وتنزيل النّفس منزلة المنوب عنه.

ولذا أفتى جمع بصحة الزكاة مع قصد القربة من الحاكم لنفسه ، إذا أدّى زكاة الممتنع ، من دون قصد تقرب الممتنع ، ولا تنزيل نفسه منزلته ، بل يسقط بأداء الغير من مال نفسه ، نظير ساير الديون من دون حاجة إلى شيء غير قصد أداء دين ذلك الغير ، فيمكن ان يكتفى فيها بقصد القربة من السبب في تسبيبه ، كما في تجهيز الميت على ما قيل ، فان دلّ دليل من عقل أو نقل على لزوم الأول جرى ما ذكر من الإشكال ، ولا محيص للجواب عنه إلّا بما ذكر ، وإلّا فلا يحتاج إلى قصد القربة للمنوب عنه حتى يلزم المحذور ، بل على الثالث لا يحتاج إلى قصد القربة من النائب أصلا ، ويصح صدوره من الكافر إلّا إذا كان إسلام المباشر شرطا في العمل كالطهارة من الخبث. نعم يمكن أن يستشكل في استئجار العبادة على الأولين ، حيث اشترط فيها كون الداعي خالصا في حصول القرب ، إما للفاعل أو للمنوب عنه وهو لا يجتمع مع قصد الأجرة. وأما تصحيحه بأن قصد الأجرة داع إلى قصد القرب بنحو الداعي على الداعي فليس بصحيح ، لأن اللازم في العبادة أن يكون الداعي الأول ـ وهو داعي الدواعي ـ حسنا ، فلا تصح صلاة من صلى ركعتين بقصد القربة وكان داعيه في ذلك تمكنه من الوصول إلى أحد المحرمات.

ولا يتوهم على ذلك بطلان عبادة من يأتي بها خوفا من النار وطمعا في الجنة ، لرجوعها إلى الدواعي النفسانيّة ، لأن الداعي في الحقيقة حب النّفس ، لأنه أيضا يرجع إلى كون نظر العبد إلى المولى ، وكون رجائه وخوفه منه ، وهو شيء مطلوب للمولى حسن عند العقل.

ويمكن أن يجاب عنه بأن أخذ الأجرة ان كان في نفسه راجحا ، كما إذا أراد صرفها في النفقة الواجبة أو المستحبة ، فلا إشكال ، لأن الداعي إلى الداعي أيضا حسن ، وأما في غيره فيمكن ان يؤجر نفسه ابتداء بداعي تملك مال الإجارة ، ثم بعد الإجارة يتوجه إليه الأمر بوجوب الوفاء بما التزم به في الإجارة ، فيقصد الوفاء بأمرها ، ولذا يأتي بالعبادة مع قصد القربة ، فيكون الداعي إلى داعيه أيضا راجحا.

١٤٧

عن بكر إذا كان عن رضا بكر ، وتقبل عمرو الّذي هو المعظم بالفتح ، يحسب تعظيما لبكر عنده ، فاللازم عليه أن يرتب على هذا التعظيم أثر التعظيم الصادر من شخص بكر ، فلو فرضنا حصول القرب من هذا الفعل للمعظم بالكسر عند المعظم بالفتح ، فاللازم حصوله للمنوب عنه. هذا ما أمكن لي من التصور في المقام ولعل الله يحدث بعد ذلك امرا.

إذا عرفت هذا ، فنقول : لا إشكال في ان مقتضى القواعد عدم الاكتفاء بالفعل الصادر عن الغير في الاجزاء ، لأن الظاهر من الأمر المتوجه إلى المكلف إرادة خصوص الفعل

______________________________________________________

ثم ان هذا كله في مقام الثبوت وتصوير الوجوه الممكنة في تصوير القربة بعد إلغاء قيد المباشرة ، وأما في مقام الإثبات والاستظهار من الأدلة فيمكن استظهار الثاني من رواية الخثعمية ، حيث شبّه الحج ـ. فيها بعد إلغاء قيد المباشرة وطرو العجز ـ بدين الناس ، وحكم بأنه أحق ان يقضى ، ومن عامة أدلة صحة عبادة المتبرع أو الولي عن الميت ، مع عدم ذكر تنزيل النّفس منزلة الميت ولا قصد تقرب المنوب عنه ، بادعاء ان المرتكز في أذهان المتشرعة عدم تنزيل نفوسهم منزلة الميت ، ولا قصد تقربه ، بل لا يقصدون إلّا الإتيان بعمل الميت.

ثم انا إن استظهرنا من الأدلة لزوم قصد القربة بأحد الأنحاء المذكورة فهو ، وإلّا فهل الأصل في المقام الاحتياط بأن يجمع بين قصد تقرب المنوب عنه والفاعل ، وكذا السبب في تسبيبه يقصد القرب للمنوب عنه ونفسه ، أو البراءة بمعنى كفاية أي نحو من أنحاء القصد حصل؟ الظاهر هو الثاني لأن احتياج العبادة المذكورة ـ بعد إلغاء قيد المباشرة ـ إلى قصد التقرب معلوم ، والخصوصية الزائدة مشكوك فيها ، فالعقاب عليها عقاب بلا بيان.

لا يقال : إن الشك شك في سقوط الدين ، والعقل يحكم بالاشتغال في مثله.

لأنه يقال : نعم ، ان الشك فيه مسبّب. لو لا كون الدين مرددا بين الأقل والأكثر ، كما في المقام فتأمل.

١٤٨

الصادر منه (١٠٢) ، نعم لو دل دليل من الخارج على الاكتفاء بما يصدر من النائب ، وانه عند الآمر بمنزلة ما يصدر عن نفسه ، نأخذ به وإلّا فلا.

(الأمر الثاني)

(في التعبدي والتوصلي)

لا إشكال في ان الواجب في الشريعة على قسمين : تعبدي وتوصلي ، ولو شك في كون الواجب توصليا أو تعبديا فهل يحمل على الأول أو الثاني؟

وتوضيح المقام يتوقف على تصور الواجبات التعبدية وشرح حقيقتها ، حتى يتضح الحال في صورة الشك ، فنقول وبالله الاستعانة : أنه قد اشتهر في ألسنة العلماء انها عبارة عما يعتبر فيه إتيانه بقصد إطاعة الأمر المتوجه إليه. وأورد على ذلك بلزوم الدور ، فان

______________________________________________________

(١٠٢) هذا الظاهر مما لا ينكر ، وحيث أن المباشرة ليست من قيود الطلب عقلا ، فلا يوجب ذكرها الإجمال ، بل يوجب تقييد المادة نعم لو احتمل سقوط الأمر بإتيان الغير من دون إضافة للمكلف أصلا ، فبيان دخل أصل الإضافة يوجب الإجمال. وقد مر تفصيله في اعتبار الإضافة فراجع.

ثم إنه لو فرض عدم الدليل ، فهل العقل يحكم بالبراءة عند الشك في اعتبار المباشرة أو الاشتغال؟ الظاهر هو عدم جريان البراءة فيه ، لما مر ـ في الشك في اعتبار الإضافة ـ من أن توجه الأمر إلى المكلف حجة عقلية يصح الاحتجاج به عند الشك ، وإن لم يكن كاشفا عن المراد. وليس احتمال كفاية فعل الغير كاحتمال كفاية الفعل الصادر من نفسه بلا اختيار ولا قصد العنوان ، حيث لا حجة للثاني ، فتجري البراءة بخلاف الأول ، وقد مرّت الإشارة إليه في ما تقدم.

١٤٩

الموضوع مقدم على الحكم رتبة ، لأنه معروض له. ولا إشكال في تقدمه على العرض بحسب الرتبة. وهذا الموضوع يتوقف على الأمر ، لما أخذ فيه من خصوصية وقوعه بداعي الأمر التي لا تتحقق الا بعد الأمر ، فالامر يتوقف على الموضوع لكونه عرضا له ، والموضوع يتوقف على الأمر لأنه لا يتحقق بدونه.

وفيه ان توقف الموضوع على الأمر فيما نحن فيه مسلم لكونه مقيدا به ، والمقيد لا يتحقق في الخارج بدون القيد. وأما توقف الأمر على الموضوع ، فان أردت توقفه عليه في الخارج فهو باطل ، ضرورة ان الأمر لا يتعلق بالموضوع الا قبل الوجود. وأما بعده فيستحيل تعلقه به ، لامتناع طلب الحاصل. وإن أردت توقفه عليه تصورا فمسلم ولكن لا يلزم الدور أصلا ، فان غاية الأمر أن الموضوع هنا بحسب وجوده الخارجي يتوقف على الأمر والأمر يتوقف على الوجود الذهني له (١٠٣).

وقد يقرر الدور بأن القدرة على الموضوع الّذي اعتبر وقوعه بداعي الأمر لا يتحقق إلّا بعد الأمر ، والأمر لا يتعلق بشيء الا بعد تحقق القدرة ، فتوقف الأمر على القدرة بالبداهة العقلية ، وتوقف القدرة على الأمر بالفرض.

______________________________________________________

في التعبدي والتوصلي :

(١٠٣) وذلك واضح ، لأن الإرادة المتعلقة بالافعال مثل الطلب العارض للافعال ، من قبيل عوارض الوجود كالحرارة والبرودة والبياض والسواد وأمثال ذلك العارضة للأجسام بحيث يتوقف وجودها في الخارج على وجود المراد في الخارج ، لأن إرادة الفعل ـ كما مر ـ عبارة عن الشوق المؤكد بإيجاده في الخارج ، أو تجمع النّفس به ، ومعلوم انهما لا يتحققان إلّا قبل وجود الفعل ، فانه بعد التحقق لا يعقل إرادة الإيجاد

١٥٠

وفيه ان الممتنع بحكم العقل تعلق الأمر بشيء يعجز عن إتيانه في وقت الامتثال وأما انه يجب أن تكون القدرة سابقة على الأمر حتى يصح الأمر فلا ، ضرورة أنه لا يمتنع عند العقل أن يحكم المولى بشيء يعجز عنه المأمور في مرتبة الحكم (١٠٤). ولكن تحصل له القدرة عليه بنفس ذلك الحكم ، فحينئذ نقول : إن توقف القدرة على الأمر مسلم واما توقف

______________________________________________________

إذ هو ليس إلّا طلب الحاصل ، فلا مورد لتنظيره بالشدة للضرب المنتفية بانتفائه ، ففي الحقيقة يشترط في تحقق الإرادة عدم وجود المراد في الخارج ، لكن لا بنحو يكون العدم قيدا للمراد ، بل تتحقق الإرادة في حال عدم المراد أيضا ولا يكون من قبيل عوارض الماهية كالزوجية للأربعة ، بحيث لا ينفك عنها في جميع العوالم ، حيث أنها زوج في عالم التقرر والذهن والخارج ، فان الانفكاك الخارجي قد مر بيانه ، وفي عالم التقرر ليست الصلاة محكومة بحكم أصلا لا الوجوب ولا عدمه ، بل الإرادة عارضة للوجود الذهني للافعال ، لكن لا بما هو وجود تصوري ، بل بما هو حاك عن الخارج ، كالكلية العارضة للإنسان.

فتحصل : ان موضوع الأمر هو الوجود التصوري لا الخارجي ، فلا دور من هذه الجهة ، انما الكلام في ان دخل قصد الأمر في الموضوع لا يمكن إلّا بعد فرض وجود الأمر ، وتحقّقه في الخارج عند لحاظ الموضوع ، وفي حال لحاظ وجود الأمر الخارجي لا يمكن إيجاده ، لأن إيجاد الشيء يلازم بل يتوقف على لحاظه معدوما فيوجده ، فلا يتصور الموضوع الا في لحاظ لا يمكن جعل الحكم فيه ، إلّا ان يقال : ان الأمر المفروض الوجود ان كان شخص الأمر المجعول في القضية يلزم المحذور المذكور ، وأما إن كان طبيعة الأمر فلا ، لعدم الملازمة بين لحاظ وجود الطبيعة وعدم لحاظ وجود شخص الأمر المجعول كما هو واضح.

(١٠٤) وذلك لأن القدرة لم تكن دخيلة في الموضوع ، حتى يلزم من تأخرها عن الأمر رتبة تأخر الموضوع عن الحكم ، بل العقل يحكم بقبح العقاب على ما لا يطاق ، ويكفي في رفع القبح تحقق القدرة حين العمل وان كان بنفس الأمر.

١٥١

الأمر على القدرة بمعنى لزوم كونها قبله رتبة فلا ، لما عرفت من جواز حصولها بنفس الأمر. وهاهنا كذلك ، لأنه بنفس الأمر تحصل القدرة على إتيان الفعل بداعيه.

وقد يقال ان الأمر بإتيان الفعل بداعي الأمر وان لم يكن مستلزما للدور ، إلّا انه مستحيل من جهة عدم قدرة المكلف على إيجاد هذا المقيد أصلا ، حتى بعد الأمر بذلك المقيد ، فان القدرة ـ على إيجاد الصلاة بداعي الأمر بها مثلا ـ تتوقف على الأمر بذات الصلاة ، والأمر بها ـ مقيدة بكونها بداعي الأمر ـ ليس امرا بها مجردة عنه ، لأن الأمر بالمقيد ليس امرا بالمجرد عن القيد ، فالتمكن من إيجاد الفعل مقيدا بحصوله بداعي الأمر لا يحصل إلّا بعد تعلق الأمر بذات الفعل.

(وفيه) ان الأمر المتعلق بالمقيد ينسب إلى الطبيعة المهملة حقيقة ، لأنها تتحد مع المقيد ، فهذا الأمر ـ المتعلق بالمقيد بملاحظة تعلقه بالطبيعة المهملة ـ يوجب قدرة المكلف على إيجادها بداعيه (١٠٥) نعم لو أوجدها فيما هو مباين للمطلوب الأصلي ، لا يمكن ان يكون هذا الإيجاد

______________________________________________________

(١٠٥) لا يقال : ان الأمر المذكور وان كان نسب إلى المهملة لكن ليس مؤثرا في نفسه ومحركا لإيجاد المهملة ليصح جعله داعيا لها ، بل هو امر انتزاعي لا أثر له مستقلا.

لأنا نقول : ان لم يكن لهذا الأمر الانتزاعي أثر ، فكيف يحكم بالبراءة فيما دار الأمر بين المطلق والمقيد في غير المقام؟ وهل مبنى البراءة فيه أن الأمر بالمهملة معلوم والقيد مشكوك فيه؟ فلو كان الأمر بالمهملة غير مؤثر لاستشكل بأن ما هو المعلوم غير مؤثر والمؤثر مردد فيجب الاحتياط.

لا يقال : نعم لو لم يعلم القيد فالمعلوم مؤثر ، لأنه بعد الجهل بالقيد يكون بمنزلة المطلق ، لأن المناط في التأثير عند العقل هو المقدار المعلوم ، والمفروض ان المقدار المعلوم

١٥٢

بداعي ذلك الأمر ، كما لو أمر بعتق رقبة مؤمنة ، فأعتق رقبة كافرة ، لأن الموجود في الخارج ليس تمام المطلوب ، بل يشتمل على جزء عقلي منه. أما لو لم ينقص الفعل المأتي به بداعي الأمر بالطبيعة المهملة عن حقيقة المطلوب الأصلي أصلا ـ كما في المقام ـ فلا مانع من بعث الأمر المنسوب إلى المهملة للمكلف.

ويمكن ان يقال ـ في وجه عدم إمكان أخذ التعبد بالأمر في موضوعه ـ ان الأمر وان كان توصليا يشترط فيه ان يصلح لأن يصير داعيا للمكلف نحو الفعل الّذي تعلق به ، لأنه ليس إلّا إيجاد الداعي للمكلف ، والأمر المتعلق بالفعل بداعي الأمر لا يمكن ان يكون داعيا للمكلف إلى إيجاد متعلقه ، لأنه اعتبر في متعلقه كونه بداعي الأمر ، ولا يمكن ان يكون الأمر محركا إلى محركية نفسه (١٠٦) فافهم هذا ان قلنا بان العبادات يعتبر فيها قصد إطاعة الأمر.

______________________________________________________

ليس المهملة ، واما مع العلم بالقيد فلا أثر للأمر بالمهملة ، ولذا لا يجب امتثاله عند العجز عن القيد.

لأنه يقال : نعم لو لم يكن إتيان المهملة ملازما للقيد ، فالامر بها لا يؤثر في إتيان المهملة منفكا عن القيد ، وأما مع الملازمة فذلك الأمر موضوع لوجوب الامتثال في حكم العقل ، بل لا يمكن الإتيان بالقيد والمقيد إلّا بذلك.

والحاصل : ان القول ـ بالبراءة فيما ذكر ـ يلازم إمكان قصد القربة في المقام ، نعم على القول بالاشتغال هناك لا محيص عن الإشكال.

(١٠٦) لا يخفى أن محركية ما ليس بمحرك ذاتا وان كانت غير قابلة للجعل ، كالعلية على ما مر في الوضع ، لكن لا مانع من إيجاد ما هو المحرك ذاتا والمتحد عنوانا مع محركية ما ليس بمحرك ، فيستنتج منه جعل المحركية.

بيان ذلك : ان المحرك الذاتي ـ في الأفعال والتروك الموجودة فيها المصالح

١٥٣

ويمكن ان يقال : إن المعتبر فيها ليس إلّا وقوع الفعل على وجه يوجب القرب عند المولى ، وهذا لا يتوقف على الأمر. (بيان ذلك) : أن الفعل الواقع في الخارج على قسمين (أحدهما) ما ليس للقصد دخل في تحققه ، بل لو صدر من الغافل لصدق عليه عنوانه (ثانيهما) ما يكون قوامه في الخارج بالقصد ، كالتعظيم والإهانة وأمثالهما. وأيضا لا إشكال في ان تعظيم من له أهلية ذلك بما هو أهل له ، وكذا شكره ومدحه بما يليق به ، حسن عقلا ، ومقرب بالذات ، ولا يحتاج في تحقق القرب إلى وجود امر بهذه العناوين. نعم قد يشك في أن التعظيم المناسب له أو المدح اللائق بشأنه ما ذا؟ وقد يتخيل كون عمل خاص تعظيما له ، أو ان القول الكذائي مدح له. والواقع ليس كذلك ، بل هذا الّذي يعتقده تعظيما توهين له ،

______________________________________________________

والمفاسد بعد العلم بها ، وجعل الأمر داعيا للفعل ـ أيضا فعل من الأفعال ، فان علم الإنسان أن فيه مصلحة ملزمة وفي تركه مفسدة لازمة الدفع فهذه المصلحة عند العلم بها محرك ذاتي وكذا المفسدة. ومعلوم انه ما لم يجعل تحت الأمر ليس فيه مصلحة ولا في تركه مفسدة ، واما لو جعل تحت الأمر ففي تركه العقاب وفي فعله الثواب ، لأنه مصداق لامتثال الواجب. والعلم بهما محرك ذاتي ، مثلا لو كان امر الوالد بلا مصلحة ذاتية تصلح للمحركية ، فأمر الشارع بوجوب إطاعته ووجوب جعل امره محركا في ما امر وعلم به المكلف ، علم أن في امتثال أمر الوالد مصلحة وفي تركه مفسدة ، لأنه مصداق لامتثال أمر الله ـ تبارك وتعالى ـ ولا نتيجة في جعل المحركية الا ذلك.

ان قلت : نعم هذا إذا جعلت المحركية تحت امر آخر ، والكلام في جعل المحركية بنفس هذا الأمر.

قلت : نرجع إلى الإشكال الأول ، من عدم إمكان أخذ جعل الحكم في موضوع نفسه ، ويمكن تصحيحه بالقضية الطبيعية ، بأن يقال تجب الصلاة مثلا بقصد طبيعة الأمر ، فمحركية الطبيعة موضوع للأمر المذكور ، لا محركية نفسه حتى يلزم المحذور.

١٥٤

وهذا الّذي اعتقده مدحا ذم بالنسبة إلى مقامه.

إذا تمهد هذا فنقول : لا إشكال في أن ذوات الأفعال والأقوال الصلاتية مثلا من دون إضافة قصد إليها ليست محبوبة ولا مجزية قطعا ، ولكن من الممكن كون صدور هذه الهيئة المركبة من الحمد والثناء والتسبيح والتهليل والدعاء والخضوع والخشوع مثلا مقرونة بقصد نفس هذه العناوين محبوبة للآمر ، غاية الأمر ان الإنسان لقصور إدراكه لا يدرك أن صدور هذه الهيئة منه بهذه العناوين مناسب لمقام الباري عزّ شأنه ، ويكون التفاته موقوفا على إعلام الله سبحانه ، فلو فرض تمامية العقل واحتواؤه بجميع الخصوصيات والجهات ، لم يحتج إلى إعلام الشرع أصلا.

والحاصل ان العبادة عبارة عن إظهار عظمة المولى والشكر على نعمائه وثناؤه بما يستحق ويليق به ، ومن الواضح ان محققات هذه العناوين مختلفة بالنسبة إلى الموارد ، فقد يكون تعظيم شخص بان يسلم عليه ، وقد يكون بتقبيل يده ، وقد يكون بالحضور في مجلسه ، وقد يكون بمجرد اذنه بان يحضر في مجلسك أو يجلس عندك ، إلى غير ذلك من الاختلافات الناشئة عن خصوصيات المعظم بالكسر والمعظم بالفتح. ولما كان المكلف لا طريق له إلى استكشاف ان المناسب لمقام هذا المولى تبارك وتعالى ما هو إلّا بإعلامه تعالى ، لا بد ان يعلمه ، وإلّا لم يتحقق به تعظيمه ، ثم يأمره به. وليس هذا المعنى مما يتوقف تحققه على قصد الأمر ، حتى يلزم محذور الدور.

ويمكن أن يقال بوجه آخر ، وهو أن ذوات الأفعال مقيدة بعدم صدورها عن الدواعي النفسانيّة محبوبة عند المولى وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمات ثلاث :

١٥٥

(الأولى) ان المعتبر في العبادة يمكن أن يكون إتيان الفعل بداعي امر المولى ، بحيث يكون الفعل مستندا إلى خصوص امره وهذا معنى بسيط يتحقق في الخارج بأمرين (أحدهما) جعل الأمر داعيا لنفسه (الثاني) صرف الدواعي النفسانيّة عن نفسه. ويمكن أن يكون المعتبر إتيان الفعل خاليا عن سائر الدواعي ومستندا إلى داعي الأمر ، بحيث يكون المطلوب المركب منهما. والظاهر هو الثاني ، لأنه أنسب بالإخلاص المعتبر في العبادات.

(الثانية) أن الأمر الملحوظ فيه حال الغير (تارة) يكون للغير ، و (أخرى) يكون غيريا ، مثال الأول الأمر بالغسل قبل الفجر على احتمال ، فان الأمر متعلق بالغسل قبل الأمر بالصوم ، فليس هذا الأمر معلولا لأمر آخر ، إلّا أن الأمر به إنما يكون لمراعاة حصول الغير في زمانه (الثاني) الأوامر الغيرية المسببة من الأوامر المتعلقة بالعناوين المطلوبة نفسا.

(الثالثة) أنه لا إشكال في أن القدرة شرط في تعلق الأمر بالمكلف ، ولكن هل يشترط ثبوت القدرة سابقا على الأمر ولو رتبة ، أو يكفى حصول القدرة ولو بنفس الأمر؟ الأقوى الأخير ، لعدم وجود مانع عقلا في أن يكلف العبد بفعل يعلم بأنه يقدر عليه بنفس الأمر.

إذا عرفت هذا فنقول : الفعل المقيد بعدم الدواعي النفسانيّة ـ وثبوت الداعي الإلهي الّذي يكون موردا للمصلحة الواقعية ـ وان لم يكن قابلا لتعلق الأمر به بملاحظة الجزء الأخير ، للزوم الدور أما من دون ضم القيد الأخير ، فلا مانع منه.

لا يقال ان هذا الفعل ـ من دون ملاحظة تمام قيوده التي منها الأخير ـ لا يكاد يتصف بالمطلوبية ، فكيف يمكن تعلق الطلب بالفعل

١٥٦

من دون ملاحظة تمام القيود التي يكون بها قوام المصلحة.

لأنا نقول : عرفت أنه قد يتعلق الطلب بما لا يكون مطلوبا في حد ذاته ، بل يكون تعلق الطلب لأجل ملاحظة حصول الغير ، والفعل المقيد بعدم الدواعي النفسانيّة وان لم يكن تمام المطلوب النفسيّ مفهوما ، لكن لما لم يوجد في الخارج إلّا بداعي الأمر ، لعدم إمكان خلو الفاعل المختار عن كل داع يصح تعلق الطلب به (١٠٧) لأنه يتحد في الخارج مع ما هو مطلوب حقيقة ، كما لو كان المطلوب الأصلي إكرام الإنسان ، فانه لا شبهته في جواز الأمر بإكرام الناطق ، لأنه لا يوجد في الخارج الا متحدا مع الإنسان الّذي إكرامه مطلوب أصلي.

وكيف كان فهذا الأمر ليس امرا صوريا بل هو امر حقيقي وطلب واقعي لكون متعلقه متحدا في الخارج مع المطلوب الأصلي. نعم يبقى الإشكال في أن هذا الفعل ـ أعني الفعل المقيد بعدم الدواعي النفسانيّة ـ مما لا يقدر المكلف على إيجاده في مرتبة الأمر ، فكيف يتعلق

______________________________________________________

(١٠٧) ذكر الفاعل المختار لبيان ان المطلوب هو الفعل الاختياري المقيد بخلو الدواعي الراجعة إلى غير الله ـ تبارك وتعالى ـ فلا ينتقض بالغافل ، لأنه ان بلغ حدا يسلب عنه الاختيار فهو خارج عن محل الكلام وإلّا فلا محالة لا يخلو عن الداعي الإلهي أو غيره ، والفرق ـ بين تقييد المأمور به بخلوه عن الدواعي النفسانيّة والأمر بالذات بلا تقييدها بشيء ـ كما يأتي في المتن ـ مع كون الغرض فيهما أخص وكون الأمر فيهما للغير : ـ هو أن الأمر على الأول لا يسقط مع عدم قصد القربة لعدم تحقق المأمور به ، فلا يحتاج في إثبات بقائه إلى ان الغرض المحدث للأمر علة للبقاء أيضا حتى يرد عليه ما أورد عليه في المتن ، وأيضا : على الأول لا مانع من التمسك بالإطلاق عند الشك في التعبدية وتمامية المقدمات ، وأيضا : لا إشكال في جريان البراءة مع الإجمال ، لأن الشك في القيد الزائد.

١٥٧

الأمر به وقد عرفت جوابه في المقدمة الثالثة.

هذا وقد يقال في العبادات بان الأمر متوجه إلى ذات الفعل ، والغرض منه جعل المكلف قادرا على إيجاد الفعل بداعي الأمر الّذي يكون موردا للمصلحة في نفس الأمر. والعقل بعد التفاته إلى أخصية الغرض يحكم بلزوم الإطاعة على نحو يحصل به الغرض. أما توجه الأمر إلى ذات الفعل فلعدم إمكان أخذ حصوله بداعي الأمر في المطلوب من جهة لزوم الدور. وأما أن العقل يحكم بلزوم إتيان الفعل بداعي الأمر ، فلأنه ما لم يسقط الغرض لم يسقط الأمر ، لأن الغرض كما صار سببا لحدوثه كذلك يصير سببا لبقائه ، لأن البقاء لو لم يكن أخف مئونة من الحدوث فلا أقل من التساوي. والعقل حاكم بلزوم إسقاط الأمر المعلوم.

وفيه انه لا يعقل بقاء الأمر مع إتيان ما هو مطلوب به على ما هو عليه (١٠٨) لأن بقاء الأمر مع ذلك مستلزم لطلب الحاصل وهذا واضح

______________________________________________________

(١٠٨) وذلك لأن المأمور به بالفرض ليس إلّا الطبيعة بلا أخذ شيء فيها ، نعم هي لا تكون مطلوبة في نفسها بل امر بها لتمكن المكلف من إتيانها مع القيد ، وحينئذ ان كان بقاء الأمر بمعنى لزوم إتيان أصل الطبيعة من دون أخذ شيء فيها حتى الوجود الثاني منها ، فهو طلب للحاصل ، وان أخذ فيها ذلك فهو غير ما امر بها أولا ،

نعم يمكن تصحيح ذلك بتقريب يأتي تفصيله في المقدمة الموصلة ـ إن شاء الله تعالى ـ وإجماله في المقام أن الأمر بالذات لما لم يكن لنفسها ، بل يكون لمطلوب آخر ـ وهو الذات مع قصد القربة ـ لم تلاحظ الذات حين الأمر الا مقرونة بالقصد ، لا بنحو يكون قيدا للمأمور به ، بل لا ترى الذات محبوبة الا ملحوظة مع القصد ، فيكون للحال المذكور دخل في الحكم ، ولازم ذلك عدم سقوط الأمر إلّا بإتيان الذات بقصد الأمر ، لا لعدم حصول قيد المأمور به ، بل لعدم إطلاق للحكم يشمل غير الحالة المذكورة ، وهي مقارنته للقصد المذكور ، وسيجيء تفصيله إن شاء الله تعالى.

١٥٨

بأدنى تأمل.

فالأولى ان يقال ـ في وجه حكم العقل بإتيان الفعل على نحو يسقط به الغرض ـ ان الإتيان به على غير هذا لنحو وان كان يسقط الأمر إلّا ان الغرض المحدث له ما دام باقيا يحدث امرا آخر ، وهكذا ما دام الوقت الصالح لتحصيل ذلك الغرض باقيا ، فلو أتى بالفعل على نحو يحصل به الغرض فهو ، وإلّا يعاقب على تفويت الغرض.

لا يقال فوت الغرض الّذي لم يدخل تحت التكليف ليس منشأ للعقاب ، (لأنا نقول) نعم لو لم يكن الآمر بصدد تحصيله. وأما لو تصدى لتحصيله بالأمر ، ولكن لم يقدر على ان يأمر بتمام ما يكون محصلا لغرضه ، كما فيما نحن فيه ، والمكلف قادر على إيجاد الفعل بنحو يحصل به الغرض الأصلي ، فلا إشكال في حكم العقل بلزوم إتيانه كذلك (١٠٩).

ومن هنا يعلم انه لا وجه للالتزام بأمرين أحدهما بذات الفعل والثاني بالفعل المقيد بداعي الأمر ، لأن الثاني ليس إلّا لإلزام المكلف بالفعل المقيد ، وقد عرفت انه ملزم به بحكم العقل ، مضافا إلى ما أفاده في

______________________________________________________

(١٠٩) لا يخفى انه لو قلنا بلزوم مثل ذلك الغرض ، فلا وجه للالتزام بان الغرض يحدث أمرا آخر ، لأنه بعد ما علم أن الأمر بالذات نشأ عن غرض خاص ، يحكم العقل باستحقاق العقاب في ترك تحصيل الغرض ، فلا مناص من الأمر المولوي ثانيا.

لا يقال : نعم لكن لو أتى المكلف بالفعل بلا قصد ، فلا مناص عن الأمر ثانيا ، لإيجاد الداعي له ثانيا ، وتحصيل التمكن من إتيانه ، وإلّا فلا داعي للمكلف على إيجاده ثانيا ، ولا قدرة له.

لأنا نقول : أما قدرة المكلف فمحفوظة بعد بإمكان تبديل امتثال الأمر الأول ، فقد حقق في محله إمكانه وأما الداعي الملزم ، فالعلم بأنه لو لم يتبدل يستحق العقاب في ترك تحصيل الغرض اللازم الحصول ، مع التمكن من تحصيله فلا مناط للأمر ثانيا.

١٥٩

بطلانه شيخنا الأستاذ دام بقاؤه ، من ان القول به يوجب اما الالتزام بما قلنا من بقاء الأمر الأول ما لم يحصل غرض الآمر. وإما الالتزام بعدم وصول الآمر إلى غرضه الأصلي ، لأن المكلف لو أتى بذات الفعل من دون داعي الأمر لا يخلو اما ان نقول ببقاء الأمر الأول ، وإما أن نقول بسقوطه ، فعلى الأول فاللازم التزامك بما التزمنا ، وعليه لا يحتاج إلى الأمر الثاني ، وعلى الثاني يلزم سقوط الأمر الثاني أيضا ، لارتفاع موضوعه فيلزم ما ذكرنا من عدم الوصول إلى غرضه الأصلي.

هذا ولقائل ان يقول نختار الشق الثاني من سقوط الأمر الأول بإتيان ذات الفعل ، وسقوط الثاني أيضا بارتفاع موضوعه ، ولا يلزم محذور أصلا ، لأن الوقت اما باق بعد واما غير باق ، فعلى الأول يوجب الغرض إيجاد امرين آخرين على ما كانا ، وعلى الثاني يعاقب المكلف على عدم امتثال الأمر الثاني ، مع أنه كان قادرا عليه بوجود الأمر الأول ، لأن الأمر الثاني لو فرضناه امرا مطلقا فعدم إيجاد متعلقه معصية بحكم العقل ، سواء كان برفع المحل ، أو كان بنحو آخر وهذا واضح.

فاتضح مما ذكرنا من أول العنوان إلى هنا وجوه خمسة في تصوير العبادات (١١٠) وأنت خبير بأنه كلما قلنا في الواجبات النفسيّة العبادية

______________________________________________________

(١١٠) (أولها) اعتبار قصد الأمر في العبادة مع كونه مأخوذا فيها شرطا أو شطرا.

(ثانيها) : عدم اعتباره فيها ، بل المعتبر إتيان الفعل بقصد الخضوع للمولى والخشوع له مع كونه أيضا مأخوذا في المأمور به.

(ثالثها) : اعتبار قصد الأمر فيها ، مع كون ملازمه مأخوذا في المأمور به.

(رابعها) : اعتباره فيها مع عدم أخذه ، ولا ملازمه فيه ، وبقاء الأمر ببقاء

١٦٠