إفاضة العوائد - ج ١

آية الله السيّد محمّد رضا الگلپايگاني

إفاضة العوائد - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد رضا الگلپايگاني


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٧٦
الجزء ١ الجزء ٢

المقدار يتم ومع ذلك يتمشى قصد البقاء من المكلف ، مع علمه بان ما هو المقصود ليس منشأ للأثر المهم ، وانما يترتب الأثر على نفس القصد ، ومنع تمشي القصد منه ـ مع هذا الحال ـ خلاف ما نشاهد من الوجدان ، كما هو واضح فتعين ان الإرادة قد توجدها النّفس لمنفعة فيها لا في المراد ، فإذا صح ذلك في الإرادة التكوينية صح في التشريعية أيضا ، لأنها ليست بأزيد مئونة منها. وكذا الحال في باقي الصفات ، من قبيل التمني والترجي.

______________________________________________________

حدوث الشوق ، والعلم بالنفع ـ السالم عن المزاحم عند المزاحمة بما هو أقوى ـ كاف في الاختيارية ، فانه لا فرق ـ في كون الشيء تحت القدرة والاختيار ـ بين كون المقتضى مقدورا أو المانع. ولذا يصح النهي عن إيجاد شخص آخر فعلا في الخارج مع قدرته على المنع.

ثم إنه بعد ما علم المقصود من اختيارية الإرادة على كلا التقديرين يظهر حال ردّ اختيارية الإرادة بالتسلسل ، بزعم أن المقصود كونها مسبوقة بالإرادة مطلقا. وقد عرفت أنه على الثاني لم تكن مسبوقة بالإرادة أصلا ، وعلى الأول وإن كانت إرادة الشيء مسبوقة بالإرادة ، لكن إرادتها ليست مسبوقة بإرادة أخرى ، بل ناشئة عن العلم بالمصلحة فيها ، كباقي الاختياريات.

هذا ولكن لا يخفى أن ذلك فيما لا يكون المراد محالا ، وإلّا فلا يمكن تحقق إرادة المحال لمصلحة في نفسها ، لأن إرادة المحال مع العلم بالاستحالة محال ، فحينئذ لا بد ـ في تصحيح الأمر التعجيزي مع العلم باستحالته الذاتيّة أو العادية كقوله تعالى : (فأتوا بسورة من مثله) ـ من ارتكاب المجازية ، باستعمال الهيئة في العجز النّفس الأمري ، فتكون الهيئة كاشفة عن العجز لا عن إرادة شيء. وأما في غيره مما يكون المراد ممكنا فيمكن إيجاد الإرادة لمصلحة في نفسها ، واستعمال الهيئة في الإرادة. ومعلوم أن ما ذكرنا من اختيارية الإرادة لا فرق فيه بين الإرادة التكوينية والتشريعية ، فكما أن الإرادة التكوينية لا فرق في تأثيرها بين تولّدها من العلم بالمصلحة في المراد أو العلم بالمصلحة في ذات الإرادة ، كذلك الإرادة التشريعية

١٠١

إذا عرفت هذا فنقول : إن المتكلم ـ بالألفاظ الدالة على الصفات الخاصة الموجودة في النّفس ـ لو تكلم بها ولم تكن مقارنة لوجود تلك الصفات أصلا ، نلتزم بعدم كونها مستعملة في معانيها. وأما إن كانت مقارنة لوجود تلك الصفات ، فهذا استعمال في معانيها ، وإن لم يكن تحقق تلك الصفات بواسطة تحقق المبدأ في متعلقاتها فتأمل جيدا.

(الفصل الثاني)

(في الطلب والإرادة)

قد اشتهر النزاع بين العدلية والأشاعرة في أن الطلب هل هو عين الإرادة أو غيرها؟ وذهب الأول إلى الأول والثاني إلى الثاني. وملخص الكلام في المقام أن يقال : إن أراد الأشاعرة

______________________________________________________

لا فرق في تأثيرها بين تحققها من مصلحة المراد أو مصلحة ذاتها ، فكما ان في الأولى تجب الإطاعة وتحرم المخالفة ، كذلك في الثانية تجب الإطاعة وتحرم المخالفة ، ويترتب عليها جميع ما يترتب على الإرادة الناشئة عن العلم بالمصلحة في المراد.

هذا في الأوامر والنواهي الصادرة لغير مصلحة في الفعل من الامتحان والتعجيز والتهديد والسخرية وأمثال ذلك. وأما التمني والترجي فهما كاشفان عن حالة نفسانية ناشئة (تارة) عن الميل النفسانيّ بوقوع الفعل مع العلم باستحالته أو رجاء وقوعه ، و (تارة) عن العلم بالنفع في إيجاد تلك الحالة مع العلم بوقوعه ، أو عدم الميل إلى وقوعه وكذا الاستفهام كاشف عن حالة نفسانية تحصل بعد الجهل بالواقع ، مع اشتياق التعلم والسؤال (تارة) ، ومن العلم بالمصلحة في إيجادها (أخرى) ولو مع العلم بكيفية الحال.

١٠٢

أنه في النّفس صفة أخرى غير الإرادة تسمى بالطلب ، فهو واضح الفساد ، ضرورة أنا إذ نطلب شيئا لم نجد في أنفسنا غير الإرادة ومباديها (٦٤) وإن أرادوا ان الطلب معنى ينتزع من الإرادة في مرتبة

______________________________________________________

(الطلب والإرادة)

(٦٤) توضيح ذلك : أنه كما أن الفاعل المختار بعد تحقق مبادئ الإرادة تحدث في نفسه صفة نفسانية توجب تحريك عضلاته نحو الفعل ، كذلك في الآمر بعد تحقق المبادي تحدث في نفسه حالة نفسانية تحركه نحو الجعل. ولا فرق بينهما ، إلا أن في الأولى لما تعلق الغرض بصدور الفعل من جوارحه توجب تلك الحالة تحريك عضلات نفسه نحو الفعل ، وفي الثانية لمّا تحقق الغرض بصدور الفعل من جوارح الغير ويرى الآمر جعل الوجوب من مقدمات صدوره ، فلا محالة يتحرك نحو الجعل والأمر ، ولذا لا تنفك الأولى عن المراد بخلاف الثانية ، فانها ـ حيث احتاجت في إيجاد المراد إلى الجعل وموافقة المكلّف ـ قد تتخلف عن المراد ، كما إذا منع مانع عن الأمر أو عصى المأمور ، ولذلك ينقدح مع إرادة الآمر الاذن في الترك في المستحبات ، حيث لا يرى الآمر تلك الإرادة علة تامة للفعل ، بخلافها في الإرادة الفاعلية ، فانها علة تامة. ولا يتصوّر فيها الاستحباب ، وكيف كان فليس في النّفس حالة وصفة أخرى عند الآمر غير ما ذكرنا حتى يقال انها طلب.

هذا ولكن يمكن النزاع بأن يقال : هل الموجود ـ في نفس الفاعل والآمر المحرك لهما نحو الفعل والجعل ـ هو العلم بالنفع والحب والشوق النفسانيّ لا غيرها ، حتى لا يبقى مجال للتعدد ، أو حالة نفسانية أخرى يعبّر عنها مثلا بتجمّع النّفس ، وهي الطلب الباعث للتحريك دائما ، دون العلم بالنفع والشوق المؤكد المجرد عنه ، وتلك الحالة وان كانت تحدث غالبا بعد العلم بالنفع والشوق المؤكد ، لكن قد تنفك عنهما ، كما ذكرنا في الإرادة الاختيارية. والأمر في الحقيقة كاشف عن تلك الحالة ، ويكون إظهارها موضوعا لحكم العقل بوجوب

١٠٣

الإظهار والكشف (٦٥) دون الإرادة المجردة ، فهما متغايران مفهوما وان اتحدا ذاتا ، فهو كلام معقول ، ولكن لا ينبغي أن يذكر في عداد المسائل العقلية ، فان انتزاع مفهوم آخر من مرتبة ظهور الإرادة مما لا ينكر ، كما أشرنا إليه سابقا ، فالكلام المذكور يرجع إلى دعوى ان لفظ الطلب موضوع

______________________________________________________

الإطاعة ، سواء نشأت من العلم بالنفع في المراد أو من العلم بالمصلحة في إيجاد تلك الحالة.

نعم لو علم بأنها نشأت من داعي التهديد والتعجيز والسخرية وأمثال ذلك ، لم تكن منشأ لوجوب الإطاعة ، وكذلك إنشاء البيع قد يكون بداعي الجد فيترتب عليه الأثر ، وقد يكون صوريا فلا يترتب عليه أثر.

(٦٥) بمعنى أن الموجود في النّفس ليس إلّا الإرادة ومبادئها المعروفة ، لكن لفظ الطلب وضع للإرادة المظهرة ، فيكون الطلب والإرادة من قبيل المطلق والمقيد. ولا إشكال في إمكان النزاع هكذا ، إذ لا إشكال في صيرورة الإرادة بعد استعمال الهيئة فيها معنونة بعنوان المظهرية ، واللفظ بعنوان المظهريّة ، والاستعمال بعنوان الإظهار ، مع عدم كونها معنونة بالعناوين المذكورة قبل الوضع والاستعمال ، فيدعي أحد أنهما موضوعان لصفة واحدة ، بلا تقيّد بشيء ، والآخر بأن الطلب وضع لها مقيدة بظهورها ، بخلاف الإرادة فانها وضعت لها من دون قيد فيصير النزاع لفظيا.

ويمكن أن يكون النزاع معنويا مع التصديق بعدم صفة في النّفس غير الصفات المعروفة ، بأن يقال : هل يمكن إيجاد مفهوم ابتداء باللفظ ولو كان من مقولة الاعتبار ـ كما ادعاه المحقق الخراسانيّ ـ أم لا؟ وليس شأن اللفظ الا الإظهار ، ـ كما فصّلناه في مقامه ـ فراجع ، فالقائل بإمكان ذلك يلتزم بتعددهما ، وكون معنى الطّلب ذلك المفهوم الاعتباري ، بمعنى أن الجامع بين المفاهيم الاعتبارية شيء غير الصفة النفسانيّة ، ويجعلها موضوعا له للطلب ، ولا وجه لجعله مفهوما اعتباريا لشيء آخر ، كما جعله المحقق الخراسانيّ (ره). وأورد عليه الأستاذ ـ دام ظله ـ وأوضح برهانه ، والقائل بعدم إمكان الإيجاد المذكور يجعل الموضوع له فيهما شيئا واحدا وهي الصفة النفسانيّة.

١٠٤

لهذا المعنى ، بخلاف لفظ الإرادة ، فانه موضوع للصفة الخاصة النفسانيّة ، سواء تحقق لها كاشف أم لا.

قال شيخنا الأستاذ ـ دام بقاؤه في الكفاية في توضيح عينية الطلب مع الإرادة ـ ما لفظه «إن الحق ـ كما عليه أهله وفاقا للمعتزلة ، وخلافا للأشاعرة ـ هو اتحاد الطلب والإرادة ، بمعنى ان لفظهما موضوعان بإزاء مفهوم واحد ، وما بإزاء أحدهما في الخارج يكون بإزاء الآخر. والطلب المنشأ بلفظ أو بغيره عين الإرادة الإنشائية.

وبالجملة هما متحدان مفهوما وإنشاء وخارجا ، لا ان الطلب الإنشائي الّذي هو المنصرف إليه إطلاقه كما عرفت متحد مع الإرادة الحقيقة التي ينصرف إليها إطلاقها أيضا ، ضرورة أن المغايرة بينهما أظهر من الشمس وأبين من الأمس.

إذا عرفت المراد من حديث العينية والاتحاد ففي مراجعة الوجدان عند طلب شيء والأمر به كفاية ، فلا يحتاج إلى مزيد بيان وإقامة برهان ، فان الإنسان لا يجد غير الإرادة القائمة بالنفس صفة أخرى قائمة بها تكون هي الطلب غيرها» (انتهى).

أقول : ما أفاده ـ من أن الإنسان لا يجد من نفسه غير الإرادة القائمة بالنفس صفة أخرى قائمة بها عند طلبه شيئا ـ حق لا محيص عنه. وأما التزامه بأن المفهوم الّذي هو بإزاء لفظ الإرادة أو الطلب له نحو ان من التحقق (أحدهما) التحقق الخارجي و (الآخر) التحقق الاعتباري ، فهو مبنى على ما حققه من أن معاني الهيئة أمور اعتبارية توجد باللفظ بقصد الإيقاع.

وفيه ـ مضافا إلى ما عرفت سابقا من عدم تعقل كون اللفظ موجدا لمعناه ـ أن الأمور الاعتبارية التي فرضناها متحققة بواسطة الهيئة

١٠٥

(الفصل الثالث معنى الصيغة)

في الموارد الجزئية ، يؤخذ منها جامع ، تكون تلك الجزئيات مصداقا حقيقيا له. وهذا كما في الفوقية ، فانها وان كانت من الأمور الاعتبارية ، ولكن يؤخذ من جزئياتها جامع يحمل على تلك الجزئيات ، كحمل باقي المفاهيم على مصاديقها ولا معنى لجعل تلك الأمور مصاديق اعتبارية لمفهوم آخر لا ينطبق عليها. والحاصل أنه ليس للمفهوم سوى الوجود الذهني والخارجي نحو آخر من التحقق يسمى وجودا اعتباريا له.

هل الصيغة حقيقة في الوجوب أو في الندب أو فيهما على سبيل الاشتراك اللفظي أو المعنوي؟ وجوه أقواها الأخير ، (٦٦) ولكنها عند الإطلاق تحمل على الأول (٦٧). ولعل السر في ذلك أن الإرادة المتوجهة إلى الفعل تقتضي وجوده ليس إلّا ، والندب انما يأتي من قبل الاذن في الترك ، منضما إلى الإرادة المذكورة ، فاحتاج الندب إلى قيد زائد ، بخلاف

______________________________________________________

معنى الصيغة

(٦٦) والشاهد على ذلك هو الوجدان ، فان الآمر مع الاذن في الترك لم يعد عند العرف خارجا عن تعهّد الواضع ، ولا عن مقتضى الوضع ولو لقرينة ، كمن قال : رأيت أسدا يرمي ، وأيضا نرى بالوجدان ان المفهوم من الهيئة في الواجب والمستحب شيء واحد ولا تباين بينهما ، وهذا شاهد صدق على وحدة المعنى فيهما وان كانت المصاديق مختلفة.

(٦٧) ويشهد بذلك ان أهل العرف لا يعدّون المأمور معذورا في المخالفة باحتمال إرادة الندب.

١٠٦

الوجوب ، فانه يكفى فيه تحقق الإرادة ، وعدم انضمام الرخصة في الترك إليها. وهل الحمل على الوجوب عند الإطلاق يحتاج إلى مقدمات الحكمة (٦٨) ، وحيثما اختلت لزم التوقف أم لا ، بل يحمل على الوجوب عند تجرد القضية اللفظية من القيد المذكور؟ الأقوى الثاني لشهادة العرف

______________________________________________________

(٦٨) وتقريب التمسّك بها ـ على تقدير الحاجة إليها ، بناء على ما أسلفنا ـ من كون الإرادة التشريعية حالة نفسانية متعلقة بفعل الغير ، ويمكن التعبير عنها بتجمع النّفس وبنائها على صدور الفعل المراد من المأمور وهي الباعثة لتحريك الآمر نحو الجعل والبعث ـ بأن يقال : ان الحالة المذكورة لو خليت ونفسها مقتضية لإيجاد الفعل وصدوره من المكلف ، وينتزع ـ من إظهارها مجردة بدون قيد ـ الوجوب ، كما ان الإرادة التكوينية مقتضية لإيجاد المراد وصدوره من نفس المريد بلا توسط الغير ، بل لا ينفك عن تحريك عضلات المريد نحو المراد ، ولذا لا يتصور فيها الندب أصلا. وان انضم إلى إظهارها الاذن في الترك ينتزع عنها الندب ، لكن لا بنحو يكون الاذن في الترك عدولا عمّا أظهر أولا ، بل بحيث يكون كل من إظهار الإرادة والاذن في الترك جزءا لمنشإ انتزاع عنوان الندب ، وجزءا لهذا المقدار من التأثير المشوب بجواز الترك في المأمور ، والفرق بينها وبين التكوينية هو أن التكوينية لا تنفك عن تحريك العضلات بعد تحققها ، بخلاف التشريعية فانها بعد التحقق تحتاج في تأثيرها إلى الجعل وموافقة المكلف ، ولذا لا تنافي بينها وبين الاذن في الترك ، حيث ان الآمر لا يراها علة تامة للفعل حتى لا تنفك عنه ، فله أن يكتفي بإظهارها مجردة عن الاذن في الترك حتى ينتزع منه الوجوب ، وله ان يظهرها مع الاذن حتى ينتزع منه الندب ، لنقصان في مصلحة المراد ولمصلحة في الاذن أقوى من مصلحته ـ وقد مرّ نظيره في اختيارية الإرادة ـ فلا يتوهم أن لازم ما ذكرنا كون تلك الحالة الموجودة في نفس المريد علة تامة للفعل مع قطع النّظر عن معصية المكلف ، لما ذكر من احتياج تأثيرها إلى وسائط منها الأمر والبعث بإظهار الإرادة مجردا أو مع الاذن ، فعند كل منهما تؤثر نحوا من الأثر.

١٠٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وعلى هذا يكون باب الإيجاب والندب باب الزائد والناقص ، وقضية مقدمات الحكمة عند تردد المجعول بين الزائد والناقص تعين الناقص ، لكونه أخف مئونة وهو الوجوب.

واما ما يقال : من ان الفرق بينهما بالشدة والضعف وان الوجوب عبارة عن إرادة شديدة متعلقة بالفعل فتحتاج إلى بيان حد الشدة ، سواء قلنا بأن الندب أيضا يحتاج إلى بيان حدّ الضعف أو قلنا بعدم احتياجه ، لعدم احتياج عدم القوة إلى مئونة زائدة حتى ينتج عدم كون الوجوب أخف مئونة.

فمدفوع : بأن الحالة النفسانيّة على ما ذكرنا أمرها دائر بين الوجود والعدم ، ولا نتعقّل فيها الضعف والشدة ، فان من يتصور فعلا ويعلم منافعه ومضاره فإمّا أن يكون الجزم والتصميم والبناء على إتيانه أو إتيان عبده موجودا في نفسه أو لا يكون ، ويمكن ان يكون في نفسه تصميم ضعيف تارة وقوي أخرى ، نعم الشدة والضعف يتصور في الداعي الباعث لهذا البناء والتصميم ، وهو المصلحة الموجودة في الفعل ، وهذا الاختلاف في الدواعي فارق بين الإرادة التي لا يزيلها بعض الموانع الضعيفة والإرادة التي يزيلها ، فلا تكون الشدة والضعف في نفس الحالة الموجودة.

وما ذكرنا من انتزاع الوجوب عن إظهار الإرادة بدون الاذن في الترك والندب منه مع الاذن ، لا فرق فيه بين أحكام الموالي العرفية وأحكام الله ـ تبارك وتعالى ـ سواء قلنا بانقداح الإرادة فيها في نفس النبي والولي ، واحداث تلك الحالة النفسانيّة لهما عليهما‌السلام أم لا ، لأن اختلاف الإرادة فيهما ذاتا لا يوجب اختلاف المظهر ، فان إظهار الإرادة منه ـ تبارك وتعالى ـ بلا اذن منه في الترك منشأ لانتزاع الوجوب ، وموضوع لحكم العقل بوجوب الإطاعة واستحقاق العقاب بالمخالفة ، ومع الاذن في الترك منشأ لانتزاع الندب وموضوع لحكم العقل برجحان الفعل مع الترخيص في الترك ، وذلك لعدم اختصاص الشرع بلسان غير لسان أهل العرف في مقام إظهار مراداتهم وافهام مقاصدهم ، بل أحكم طريقتهم

١٠٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وأمضاها بقوله عزّ من قائل ـ «وما أرسلنا من رسول الا بلسان قومه» (١).

وكما أن باب الوجوب والاستحباب باب الزائد والناقص ثبوتا وإثباتا ، ـ أما ثبوتا فلأنه ليس في نفس الآمر في الوجوب إلّا إرادة الفعل ، وفي الاستحباب هي مع الرضا بالترك ، واما إثباتا فقد تبيّن مما مضى ، وعند الشك يتعيّن الوجوب بمقتضى الإطلاق ـ كذلك باب النفسيّ والغيري ، والعيني والكفائي ، والتعييني والتخييري أيضا باب الزائد والناقص ، وقضية الإطلاق هو الوجوب النفسيّ العيني التعييني ثبوتا وإثباتا ، اما ثبوتا فلان تلك الحالة الموجودة والإرادة المتعلقة بشيء متوجهة إلى شخص بلا قيد يقتضي إتيانه معيّنا نفسا من هذا الشخص ، ومع انضمام الغير إليه يصير غيريا ، ومع انضمام البدل إلى الفعل يصير تخييريا ، وإلى المكلف يصير كفائيا ، وأمّا إثباتا فلأن الأول ينتزع من صرف إظهار الإرادة المتعلقة بشيء من مكلف ، واما غيره فيحتاج إلى إظهار القيد من الغير والبدل.

ثم ان هذا كله على ما بيّنا من معنى الإرادة والوجوب والهيئة على مختار الأستاذ ـ دام بقاؤه ـ واما على مختار صاحب الكفاية من إيجاد مفهوم الطلب اعتبارا بالصيغة ، فيمكن ان يقال أيضا ان باب إيجاد مفهوم الوجوب والندب باب الزائد والناقص ، لأن الوجوب ينتزع من نفس إيجاد مفهوم الطلب اعتبارا ، والندبية مع الاذن في الترك ، وهذا معنى التمسك بالإطلاق على مبناه ، واما الشدة والضعف في الإرادة الحقيقية ـ لو قلنا بهما على المبنى ـ فلا دخل لهما بمدلول الصيغة وهو الإرادة الإنشائية ، ولو فرض التشكيك فيه بأن قيل المفهوم الاعتباري للإرادة الضعيفة مثلا أضعف من المفهوم الاعتباري للإرادة القوية ، لم يكن امر الاستحباب أخف مئونة من الوجوب ، بل اما يتساويان في الاحتياج إلى المئونة ، واما يحتاج إليها الوجوب دون الندب ، فلا يستقيم الأخذ بالإطلاق وتعيين الوجوب بهذا المعنى.

هذا كله على تقدير عدم ظهور في البين والحاجة إلى مقدمات الإطلاق ،

__________________

(١) سورة إبراهيم ١٤ الآية ٤.

١٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

لكن الظاهر ان نفس الهيئة ظاهرة بالظهور اللفظي في الوجوب النفسيّ العيني التعييني بلا احتياج إلى المقدمات ، نظير «الكل» الظاهر في الاستيعاب بلا احتياج إليها ، بل الظهور ناف لاحتمال ما لولاه ينفيه الإطلاق.

ثم إنه لو كان في المقام ظاهر أو إطلاق أخذنا به ، واما مع عدمهما فهل يحكم العقل بالبراءة ـ عند الشك في أحد القيود المذكورة ـ أو الاشتغال؟ الظاهر الثاني ، بمعنى ان العقل يحكم بصحة المؤاخذة على تقدير العينية والنفسيّة والتعيينية ، لا للعلم الإجمالي بين وجوب شيء أو شيئين في النفسيّ والغيري ، وانحلاله إلى العلم بوجوب الأقل والشك في وجوب الأكثر حتى يلزم على القائلين بعدم الانحلال الإتيان بهما ، ولا يجري التقريب المذكور في الشك في الكفائية والتخييرية ، بل لأن الإنسان يجد من نفسه المأخوذية بالنسبة إلى ما سمع وعلم بتوجه إرادة المولى إليه قبل الالتفات إلى العلم الإجمالي ، فالعلم بتلك الحالة التي يعبّر عنها بالإرادة كاف في صحة المؤاخذة ، إلّا إذا علم كونها بحيث لا يجب موافقتها ولا تورث العقاب مخالفتها ، إما مطلقا كما في الغيرية الغير المنجّز ذيها لعدم العلم أو لعدم القدرة ، وإما على تقدير قيام الغير كما في الكفائي ، ومع إتيان بدله كما في التخييري.

وأما احتمال كونها بحيث لا يجب موافقتها فلا ينهض لرفع اليد عن تلك الحجة العقلية ، وليس المناط في الحجة على التكليف العلم بالعقاب حتى يقال بعدم العلم به في المقام على الفرض ، بل يكفي العلم بالتكليف مع احتمال العقاب ، وإلّا فاللازم عدم حجية الطرق ، لانتفاء العلم بالعقاب فيها كما هو واضح.

ويمكن أن يلتزم في المقام بكون العلم بالإرادة المرددة طريقا إلى الإرادة النفسيّة العينية التعيينية كالأوامر الطريقية ، والفرق بين التقريبين هو أن العلم ـ بالإرادة المرددة مع احتمال العقاب على الأول ـ موضوع لوجوب الإطاعة واستحقاق العقاب من دون لحاظ الطريقية ، وعلى الثاني طريق إلى ما يورث العلم أو الطريق إليه

١١٠

بعدم صحة اعتذار العبد عن المخالفة ، باحتمال الندب ، وعدم كون الآمر في مقام بيان القيد الدال على الرخصة في الترك.

ونظير ما ذكرنا هنا ـ من استقرار الظهور العرفي بمجرد عدم ذكر القيد في الكلام ، وان لم يحرز كون المتكلم في مقام البيان ـ القضايا المسورة بلفظ الكل وأمثالها ، فان تلك الألفاظ موضوعة لبيان عموم افراد مدخولها ، سواء كان مطلقا أم مقيدا ، ففي قضية (أكرم كل رجل عالم) ، و (أكرم كل رجل لفظ الكل مفيد لمعنى واحد ، وهو عموم افراد ما تعلق به وما دخل عليه ، غاية الأمر مدخوله في الأولى الطبيعة المقيدة ، وفي الثانية المطلقة ، فالتقيد في الرّجل الّذي هو مدخول الكل ليس تصرفا في لفظ الكل. وهذا واضح ، لكنه مع ذلك لو سمعنا من المتكلم (أكرم كل رجل لا نرى من أنفسنا في الحكم بالعموم في افراد الرّجل الاحتياج إلى مقدمات الحكمة في لفظ الرّجل بحيث لولاها نتوقف في أن المراد من القضية المذكورة إكرام جميع افراد الرّجل أو جميع افراد الصنف الخاصّ منه ، ولا يبعد أن يكون نظير ذلك حمل الوجوب على النفسيّ والتعييني عند احتمال كونه غيريا أو تخييريا ، فان عدم اشتمال القضية على ما يفيد كون وجوبه لملاحظة الغير ، وكذا على ما يكون طرفا للفعل الواجب ، يوجب استقرار ظهورها في كون الوجوب نفسيا تعيينيا ، فلا يحتاج إلى

______________________________________________________

العقاب ، هذا على المختار من تحقق الحالة الموجودة في النّفس في جميع الأقسام واحتياج بعض الأقسام إلى قيد ، واما على الفرق بين الوجوب والندب بالشّدة والضعف واحتياج الوجوب إلى الحجة على الإرادة الشديدة ، فالعلم بالإرادة المرددة بين الضعيفة والشديدة ليس حجة على خصوص الشديدة منها ، ومقتضى الأصل البراءة ، لكن المبنى غير سديد.

١١١

إحراز مقدمات الحكمة. والشاهد على ذلك كله المراجعة إلى فهم العرف ، إذ لا دليل في أمثال ذلك امتن مما ذكر. ويحتمل أن يكون حمل الإرادة على الوجوب التعييني النفسيّ ـ عند عدم الدليل على الخلاف ـ من باب كونها حجة على ذلك عند العقلاء ، لو كان الواقع كذلك ، نظير حجية الأوامر الظاهرية على الواقعيات على تقدير التطابق ، من دون أن يستقر الظهور اللفظي فيما ذكرنا ، فافهم (٦٩).

(الفصل الرابع)

(الجمل الخبرية المستعملة في مقام الطلب)

الجمل الخبرية ـ التي يؤتى بها في مقام الطلب ـ ظاهرة في الوجوب ، سواء قلنا بأنها مستعملة في الطلب مجازا ، أم قلنا بأنها مستعملة في معانيها من الحكاية الجزمية عن الواقع بداعي الطلب ، كما هو الظاهر. أما على الأول فلما مر من ان الندب يحتاج إلى مئونة زائدة (٧٠) وأما على الثاني فلان الاخبار بوقوع المطلوب في الخارج يدل على عدم تطرق نقيضه عند الأمر ، فيكون هذا أبلغ في إفادة الوجوب من صيغة افعل وأمثالها.

______________________________________________________

(٦٩) لعلّه إشارة إلى استقرار الظهور في المقامين من دون حاجة إلى التقريب المذكور.

الجمل الخبرية المستعملة في مقام الطلب

(٧٠) بل يجري الوجه الثاني فيه أيضا ، لأن استعمال الهيئة الموضوعة في الطلب لا بد له من نكتة ، كاستعمال اللفظ الموضوع للحيوان المفترس في الإنسان ، والنكتة في المقام عدم تطرق نقيضه عند الأمر ، نعم لعلّ الثاني أبلغ في ذلك

١١٢

(لا يقال) : لازم حمل الجمل الخبرية في مقام الطلب على الاخبار وقوع الكذب فيما لم يأت المكلف بالمطلوب (لأنا نقول) : الصدق والكذب يلاحظان بالنسبة إلى النسبة الحكمية المقصودة بالأصالة ، دون النسبة التي جيء بها توطئة لإفادة امر آخر. ولذا لا يستند الكذب إلى القائل بان زيدا كثير الرماد ، توطئة لإفادة جوده ، وإن لم يكن له رماد ، أو كان ولم يكن كثيرا وانما يسند إليه الكذب لو لم يكن زيد جوادا.

(الفصل الخامس)

(مفاد هيئة افعل)

هيئة افعل تدل بوضع المادة على الطبيعة اللابشرط من جميع الاعتبارات ، حتى الوجود والعدم ، وحتى الاعتبار الّذي به صار مفادا للمصدر (٧١) ضرورة أن المعنى المذكور آب عن الحمل على الذات ، فيمتنع وجوده في الهيئة التي تحمل على الذات. هذا وضع المادة ، وتدل

______________________________________________________

المعنى ولا يخفى وجهه ، كما لا يخفى أن النكتة المذكورة توجب ظهورها في الوجوب ، لا كونها بحيث تأبى عن الحمل على الاستحباب ، بل قد يؤتى بها لبيان تأكد الاستحباب.

مفاد هيئة افعل :

(٧١) المادة عبارة عن أصوات خاصة غير مقيدة بهيئة خاصة لا يمكن التلفظ بها وحدها ، بل لا بد لتلفظها من إحدى الهيئات. نعم يمكن إفهامها بالإشارة إليها بأن يقال (ض ، ر ، ب) مثلا لمادة ضرب وهكذا غيرها. ومعناها أيضا مجرد عن جميع القيود حتى الوجود والعدم ، ولا يمكن إيجاده في الذهن مستقلا ومنفكا عن الهيئة ، نعم يشار إليه بما هو موجود في جميع الهيئات. والهيئة عبارة عن كيفية

١١٣

بواسطة وضع الهيئة على الطلب القائم بالنفس ، فالمركب من الوضعين يفيد الطلب المتعلق بتلك الطبيعة اللابشرط. وحيث أن الطبيعة اللابشرط حتى من حيث الوجود والعدم لا يمكن ان تكون محلا للإرادة عقلا يجب اعتبار وجود ما زائدا على ما يقتضيه وضع المادة والهيئة (٧٢) ، والوجود المذكور الّذي يجب اعتباره عقلا على أنحاء :

(أحدها) الوجود الساري في كل فرد كما في قوله تعالى أحل الله البيع (ثانيها) الوجود المقيد بقيد خاص ، ومن القيود المرة والتكرار ، والفور أو الوجود الأول وأمثال ذلك (ثالثها) أن يعتبر صرف الوجود مقابل العدم الأزلي ، من دون امر آخر وراء ذلك.

وبعبارة أخرى كان المطلوب انتقاض العدم الأزلي

______________________________________________________

أداء الحروف ، ولا يمكن تحققها مجردة عن المادة ، نعم يمكن إفهامها أيضا بالإشارة ويقال : ما لا يمكن تحقّقه إلّا في ضمن صيغة من الصّيغ ، ومعناها الطلب المتعلّق بالمادة المتحقق في نفس المتكلّم.

(٧٢) لا يخفى ان اعتبار واحد من الوجود أو العدم في متعلق الطلب عقلي ، لعدم إمكان تعلق الطلب بنفس معنى المادة ، وهو المفهوم المجرد عن جميع الطواري حتى الوجود والعدم كما هو الفرض ، لعدم قابلية الماهية المجردة لأن تقع معروضا لشيء من العوارض ، ولذا يقال : الماهية من حيث هي هي ليست إلّا هي ، وأمّا اعتبار خصوص الوجود دون العدم فليس بحكم العقل ، لإمكان تعلق الطلب بترك الطبيعة ، نعم يمكن ادعاء تبادره إلى الذهن في مقام الطلب بعد كونه والعدم سيّان بحكم العقل ، مثلا لو قيل : الطهارة شرط أو النجاسة مانع ، أمكن عقلا أن يكون عدم النجاسة شرطا وأن يكون عدم الطهارة مانعا ، لكن يتبادر من تلك القضايا بعد الحكم العقلي المذكور ـ كون الوجود معتبرا دون العدم ، إلّا إذا صرّح المتكلّم باعتبار العدم في القضيّة.

١١٤

بالوجود (٧٣) ، من دون ملاحظة شيء آخر ، وحيثما لا يدل الدليل على أحد الاعتبارات ، يتعين الثالث لأنه المتيقن من بينها ، وغيره يشتمل على هذا المعنى وأمر زائد فيحتاج إلى مئونة أخرى زائدة مدفوعة بمقتضى الإطلاق.

ومما ذكرنا يظهر ان الفور والتراخي والمرة والتكرار وغيرها كلها خارجة عن متفاهم اللفظ. نعم لو دل الدليل على أحدها ، لم يكن منافيا لوضع الصيغة لا بمادتها ولا بهيئتها. ولازم ما ذكرنا الاكتفاء بالمرة سواء أتى بفرد واحد من الطبيعة أم أزيد منه ، لانطباق الطبيعة المعتبرة فيها حقيقة الوجود ، من دون اعتبار شيء آخر على ما وجد أولا ، فيسقط الأمر ، إذ بعد وجود مقتضاه في الخارج لو بقي على حاله لزم طلب الحاصل ، وهو محال. نعم يمكن أن يقال في بعض الموارد بجواز إبطال ما أتى به أولا ، وتبديله بالفرد الّذي يأتي به ثانيا ، كما يأتي بيانه في محله.

(الفصل السادس)

(في الاجزاء)

لا إشكال في ان الإتيان بالمأمور به بجميع ما اعتبر فيه شرطا وشطرا ، يوجب الاجزاء عنه ، بمعنى عدم وجوب الإتيان به ثانيا ، باقتضاء ذلك الأمر ، لا أداء ولا قضاء ، لسقوط الأمر بإيجاد متعلقه ،

______________________________________________________

(٧٣) هذا على مختاره سابقا ، لكنه ـ دام بقاؤه ـ رجع عنه وردّه بأن وجود الطبيعة المجردة عن جميع الطواري غير مقيّد بالناقضية للعدم ، وان كان ناقضا له في الخارج ، لكن لا بنحو التقيّد بحيث لو اجتمع أكثر من سبب واحد لإيجابه لم يكن

١١٥

ضرورة أنه لو كان باقيا بعد فرض حصول متعلقه لزم طلب الحاصل ، وهو محال. ولا فرق في ذلك بين الواجبات التعبدية والتوصلية.

وما قد يتوهم في التعبديات : من أنه قد يؤتى بالواجب بجميع ما اعتبر فيه ، ومع ذلك لم يسقط الأمر ، لفقد التقرب الّذي اعتبر في الغرض ، فهو بمعزل عن الصواب ، لما ذكرنا من استحالة بقاء الأمر مع وجود عين ما اقتضاه في الخارج. وأما وجوب الإتيان ثانيا في التعبديات لو أخل بقصد القربة ، فاما من جهة اعتبار ذلك في المأمور به ، وإما من جهة تعلق الأمر بالإتيان بالفعل ثانيا ، بعد سقوط الأمر الأول ، لعدم حصول الغرض الأصلي. وستطلع على تفصيل ذلك عند البحث عن وجوب مقدمة الواجب إن شاء الله.

والحاصل ان الأمر إذا أتى بما اقتضاه بجميع ما اعتبر فيه لا اقتضاء له ثانيا. نعم يتصور امر آخر يتعلق بإيجاد الفعل ثانيا. وهذا غير عدم الاجزاء عن الأمر الأول. ولعمري إن هذا من الوضوح بمكان. وكذا لا فرق فيما ذكرنا بين الأوامر المتعلقة بالعناوين الأولية ، وبين الأوامر الملحوظ فيها الحالات الطارية ، من قبيل العجز والاضطرار والشك وأمثال ذلك ، لوجود الملاك الّذي ذكرنا في الجميع. وانما الإشكال

______________________________________________________

قابلا للتكرار ، فقيد الناقضية أيضا قيد يدفعه الإطلاق ، وتمام الكلام مع بيان الثمرة في باب تداخل الأسباب ـ إن شاء الله تعالى ـ إذ لا ثمرة بين القولين في ما لم تكن أسباب متعددة ويكتفى بالمرة في الامتثال ، نعم بناء على الناقضية لا يعقل التكرار ، وبناء على عدمها يعقل التكرار لكن لا مقتضى له ، لأن الأمر الأول لم يكن الا مقتضيا لأصل الطبيعة وقد تحققت ولا امر آخر بالفرض.

١١٦

والكلام في أن الأوامر المتعلقة بالمكلف بملاحظة العناوين الطارية (٧٤) لو أتى المكلف بمتعلقاتها ، هل تجزى عن الواقعيات الأولية ، بحيث لو ارتفعت تلك الحالة الطارية في الوقت أو خارجه ، لا يجب عليه الإتيان بما اقتضت الأوامر الواقعية الأولية أو لا يكون كذلك؟

إذا عرفت ذلك فنقول : إن العناوين الطارية التي توجب التكليف على قسمين (أحدهما) ما يوجب حكما واقعيا في تلك الحالة مثل الاضطرار (ثانيهما) ما يوجب حكما ظاهريا ، مثل الشك ، فهاهنا مقامان يجب التكلم في كل منهما.

______________________________________________________

الاجزاء :

(٧٤) المراد بالعنوان الطاري هو العنوان المأخوذ في طول الواقعيات غير المقيدة بحال ، سواء كان ظاهريا مجعولا في مرتبة الشك في الواقع ، أو واقعيا ثانويا مجعولا في مرتبة العجز عن الواقعي الأولى ، مثل «ان لم تجدوا ماءً فتيمّموا» فان وجوب التيمم على الفاقد وان كان حكما واقعيا ليس وراءه حكم آخر في اللوح المحفوظ كالاحكام الظاهرية ، لكن لما كان في مرتبة العجز عن الواقع الأولى وفقدان الماء يقال له الواقعي الثانوي ، وكذا جميع ما جعل بلحاظ العجز عن الواقعيات الأولية ، فيخرج مثل السفر والحضر ، فانّ أحد العنوانين لم يؤخذ مع العجز عن الآخر ، بل هما ملحوظان في عرض واحد ، بمعنى ان الآمر قسّم المكلف إلى صنفين : الحاضر والمسافر ، وأوجب على الأول التمام ، وعلى الثاني القصر ، من دون تقدم لأحدهما على الآخر. فليس المحكوم بأحد الحكمين محكوما بالحكم الآخر أيضا ، حتى يقال هل الامتثال لأحدهما مجز عن الآخر أم لا؟ بل لا موضوع لأحدهما مع تحقق الآخر.

١١٧

١ ـ (اجزاء الاضطراري عن الاختياري)

اما القسم الأول فينبغي التكلم فيه (تارة) في أنحاء ما يمكن أن يقع عليه و (أخرى) فيما وقع عليه. أما الأول فنقول : يمكن أن يكون التكليف بشيء في حال عدم التمكن من شيء آخر ، والاضطرار العرفي بتركه ، من جهة أن ذلك الشيء مشتمل على عين المصلحة التي تقوم بالفعل الاختياري ، من دون تفاوت أصلا ، مثلا الصلاة مع الطهارة المائية في حق واجد الماء ، والترابية في حق فاقده سيان في ترتب الأثر الواحد المطلوب الموجب للأمر (٧٥) ويمكن أن يكون الفعل في حق المضطر مشتملا على مصلحة وجوبية ، لكن من غير سنخ تلك المصلحة القائمة بالفعل الاختياري ، وان كانت مثلها في كونها متعلقة لغرض الآمر في الحالة التي يكون المكلف عليها (٧٦). ويمكن أن يكون مشتملا على مرتبة أدنى من المصلحة القائمة بالفعل الاختياري. وعلى هذا يمكن بلوغ الزائد حدا يجب استيفاؤه ويمكن عدم بلوغه إلى هذه المرتبة. وعلى الأول يمكن كون الزائد مما يمكن استيفاؤه بعد زوال العذر ، ويمكن عدم كونه كذلك. هذه أنحاء الصور في التكاليف الاضطرارية (٧٧).

______________________________________________________

اجزاء الاضطراري عن الاختياري :

(٧٥) كما في إيماء المريض وقيام القادر للتعظيم ، فان الظاهر اتحاد أثرهما عينا.

(٧٦) بحيث لو اجتمع العنوانان في مكلف واحد لأوجبهما عليه.

(٧٧) وجميع الأنحاء المذكورة في المكلف به متصورة في نفس التكليف أيضا ، بأن

١١٨

ولازم الأول من الأقسام المذكورة الاجزاء ، بداهة مساواة الفعل الاضطراري للفعل الاختياري في تحصيل الغرض على الفرض المذكور ، فكما أن الفعل الاختياري يوجب الاجزاء كذلك الاضطراري.

ولازم الثاني منها عدم الاجزاء ، إذا لفعل الاضطراري ـ وإن كان مشتملا على المصلحة التامة كالاختياري ـ لكن المصلحة القائمة بكل منهما تغاير الأخرى ، فلا يكون أحد الفعلين مجزيا عن الآخر. نعم يمكن أن يكون أحد الفعلين في الخارج موجبا لعدم إمكان استيفاء مصلحة الآخر. ولا يخفى أن لازم كلا القسمين المذكورين جواز تحصيل الاضطرار اختيارا (٧٨).

ولازم الثالث عدم الاجزاء (٧٩). مع اتصاف الزائد بوجوب الاستيفاء وإمكانه معا ، وفي غيره الاجزاء. ثم إنه إن كانت المصلحة الزائدة بمرتبة اللزوم ، ولا يمكن الاستيفاء بعد إتيان الفعل الاضطراري ، لا يجوز للآمر الإيجاب والبعث إلى الاضطرار في الوقت ، إن علم بزوال عذره قبل زوال الوقت ، لأنه تفويت للمصلحة اللازمة. وفي غير الصورة المذكورة يجوز الإيجاب ، وإن علم بزوال عذره في الوقت. ووجهه ظاهر. ولازم الصورة الأولى عدم جواز البدار إلى الفعل الاضطراري ، إلا إذا علم باستيعاب العذر لتمام الوقت ، كما ان لازم الثانية جواز ذلك ، وان علم

______________________________________________________

لا يكون في نفس الفعل فائدة ، ولكن كان في الإيجاب والبعث به أحد الفوائد المذكورة.

(٧٨) وكذا جواز البدار للمكلف ، وجواز الإيجاب للآمر مع العلم بانقطاع العذر في الأثناء.

(٧٩) بشرط عدم تداركه بمصلحة في التكليف.

١١٩

بانقطاع العذر. والقول بعدم جواز البعث للآمر والبدار للمكلف في الصورة الأولى ، إنما هو فيما لم تكن للتكليف مصلحة تتدارك بها المصلحة الزائدة الفائتة ، وإلّا جاز. وتنتفي الثمرة بين الصورتين. هذه أنحاء التصور في التكاليف الاضطرارية.

واما ما وقع بمقتضى النّظر في أدلتها ، فالظاهر أن المأتي به في حال الاضطرار لو وقع مطابقا لمقتضى الأمر ، يسقط الإعادة ثانيا ، فان ظاهر أدلتها ان المعنى الواحد يحصل من المختار بإتيان التام ، ومن المضطر بإتيان الناقص (٨٠). نعم في كون موضوع تكليف المضطر هو الاضطرار

______________________________________________________

(٨٠) وذلك لظهور الأدلة في تقسيم المكلفين بصرف الوجود إلى القادر والعاجز والواجد والفاقد مثل «ان لم تجدوا ...» و «التراب أحد الطهورين» و «رب الماء ورب التراب واحد» و «يكفيك التراب عشر سنين» و «اذكروا الله قياما وقعودا» بناء على ما فسّر في الاخبار من وجوب الصلاة على القادرين قياما ، وعلى العاجزين قعودا وغير ذلك من أدلة الباب ، فانها ظاهرة في ان التكليف واحد ، ويأتي به كل بحسب حاله ، ولا يجب على مكلف واحد الإتيان بوظيفتين ، لكن لا يخفى أنها وان كانت ظاهرة في عدم الوجوب ثانيا بعد ارتفاع الاضطرار ، إما ان ذلك لحصول تلك المصلحة بتمامها حتى يجوز تحصيل الاضطرار للقادر والبدار للعاجز العالم بزوال عذره في الوقت ، وإما لتفويت محلها حتى يحرما ، ولذا يشكل الحكم بجواز تحصيل الاضطرار على من تنجّز عليه تكليف التمام لتمكنه من إتيانه ، لأن العقل لا يجوّز مخالفة التكليف المنجز ، ولو بتفويت المحل بمجرد احتمال التدارك ، بل يحتاج إلى المؤمّن من قبل الشارع والمفروض انتفاؤه ، نعم لو اجترأ وصار مضطرا يجب عليه إتيان الناقص لتحقق موضوعه ، اللهم إلّا أن يكون في الأدلة إطلاق يشمل العجز في بعض الوقت ليرخّص البدار ، فيستكشف منه عدم التفويت ، لاستلزامه الإلقاء في المفسدة ، فيجوز تحصيل الاضطرار ، لكن استكشاف ذلك منها مبنى على ان لا يكون التجويز لمصلحة في الجعل فتأمل.

١٢٠