نهاية المأمول

الشيخ محمد علي الإجتهادي

نهاية المأمول

المؤلف:

الشيخ محمد علي الإجتهادي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار النشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٥

ويشهد به كثرة اطلاق الحكم على الوضعى فى كلامهم ، وعليه فلا وجه للالتزام بالتجوز فيه.

وكذا لا وقع للنّزاع فى انّه محصور فى امور مخصوصة كالشّرطيّة والسّببيّة والمانعيّة كما هو المحكى عن العلّامة او مع زيادة العلّية والعلاميّة او مع زيادة الصّحة والبطلان والعزيمة والرّخصة او زيادة غير ذلك كما هو المحكى عن غيره او ليس بمحصور بل كلّ ما ليس بتكليف ممّا له دخل فيه او فى متعلّقه وموضوعه او لم يكن له دخل ممّا اطلق عليه الحكم فى كلماتهم ضرورة انّه لا وجه للتخصيص بها بعد كثرة اطلاق الحكم فى الكلمات على غيرها مع انّه لا تكاد تظهر ثمرة مهمّة علميّة او عملية للنّزاع فى ذلك.

وكذا لا وقع للنزاع فى انه محصور فى امور مخصوصة مثل الشرطية والمانعية كما هو المحكى عن العلامة او مع زيادة العلّية والعلامية او مع زيادة الصحة والبطلان والعزيمة والرخصة كما هو المحكى عن غيره ، او ليس بمحصور ، بل كل ما ليس بتكليف مما له دخل فيه كالسبب والشرط وعدم المانع والرافع مما هو واقع فى مرتبة العلّة لصدور الحكم من الحاكم وليست هذه احكاما وضعية شرعية لامتناع تعلق الجعل بها فاطلاق الحكم الوضعى عليها انما

١٠١

يكون جريا على مذاق القوم ، اوله دخل فى متعلقه كالجزء والشرط وعدم المانع والرافع مما هو واقع فى مرتبة موضوع الحكم ومتعلقه بحيث يكون هو نفسه او التقييد به او بعدمه مركزا للحكم ، او لم يكن له دخل كالزوجية والحجية ونحوهما مما ليس واقعا فى مرتبة العلّة للحكم ولا فى مرتبة موضوع الحكم بل هو بنفسه موضوع للاحكام الشرعية او العقلية ، فهذا القسم مما يمكن تعلق الجعل التشريعى به بالاصالة بخلاف القسم الثانى فانه لم يتطرق اليه الجعل التشريعى إلا تبعا ، فظهر ان الحكم الوضعى ليس بمحصور فى عدد معدود فى كلماتهم بل كل ما كان داخلا فى واحد من الانحاء الثلاثة فهو حكم وضعى يقع البحث عنه ويكون داخلا فى حريم النزاع ، وبالجملة انه لا وجه للتخصيص بالمذكورات آنفا بعد كثرة اطلاق الحكم فى الكلمات على غير المذكورات مع انه لا تكاد تظهر ثمرة مهمة علمية او عملية للنزاع فى ذلك.

وانّما المهمّ فى النّزاع هو انّ الوضع كالتكليف فى انّه مجعول تشريعا بحيث يصحّ انتزاعه بمجرّد انشائه او غير مجعول كذلك بل انّما هو منتزع عن التّكليف ومجعول بتبعه وبجعله.

قد عرفت انه بعد تسليم ان الاحكام التكليفية مما يتعلق به الجعل وتوجد به حقيقة بعد ما لم يكن شيئا مذكورا ان النزاع ليس فى

١٠٢

تغايرهما واتحادهما مفهوما لوضوح ان مفهوم السببية والشرطية وامثالهما غير مفهوم الوجوب يعنى الطلب الحتمى ولا يعتريه ريب وشك كما ان النزاع ليس فى وجوده الانشائى من حيث انه كذلك من دون ان يحدث به امرا اصلا لوضوح امكان تعلقه بالمحالات وما لا يعقل فيه الجعل اصلا كما فى ملكت السماء والعقول وامثالهما فان الوجود الانشائى قليل المئونة لا يشترط فيه ما لا يشترط فى غيره ولا نزاع ايضا فى الوجود التكوينى الذى يتعلق بالماهيات ، بل النزاع فى الانشاء والجعل التشريعى بمعنى انه كما يمكن ان يوجد الحكم التكليفى بالجعل التشريعى سواء عبّر بالمادة بان يقول هذا واجب او بالهيئة كان يقول اقم الصلاة فيوجد الوجوب حقيقة بعد ما كان معدوما صرفا بالوجود الغير المتأصل الذى يكون الخارج ظرفا لنفسه لا لوجوده ، يمكن ايجاد الوضعى ايضا فيوجد بقوله هذا سبب او شرط وبالادوات المفيدة لذلك نفس السببية والشرطية ام لا.

والتّحقيق انّ ما عدّ من الوضع على انحاء ، منها ما لا يكاد يتطرّق اليه الجعل تشريعا اصلا لا استقلالا ولا تبعا وان كان مجعولا تكوينا عرضا بعين جعل موضوعه كذلك ، ومنها ما لا يكاد يتطرّق اليه الجعل التّشريعي الّا تبعا للتكليف ، ومنها ما يمكن فيه الجعل استقلالا بانشائه وتبعا للتكليف بكونه منشأ

١٠٣

لانتزاعه وان كان الصّحيح انتزاعه من انشائه وجعله وكون التّكليف من آثاره واحكامه على ما يأتى الإشارة اليه.

والتحقيق ان يقال ان ما عدّ من الوضع على انحاء شتى ، منها ما لا يقبل الجعل اصلا لا استقلالا ولا تبعا وان كان مجعولا تكوينا عرضا بعين جعل موضوعه كذلك اى تكوينا وذلك كالسببية والعليّة وشرطية شيء للتكليف ومانعيته عنه ، ومنها ما لا يقبل الجعل الا تبعا كالجزئية والكلية والشرطية للمكلف به ومانعية شيء عنه وقاطعيته له ومنها ما يقبل الامرين اى يقبل الجعل استقلالا بانشائه وتبعا للتكليف بكونه منشأ انتزاعه وذلك كالحجية والولاية والوكالة والنيابة والمليكة والزوجية والرقية وامثالها ، وقوله وان كان الصحيح انتزاعه من انشائه وجعله وكون التكليف من آثاره واحكامه اشارة الى مختاره اخيرا من قابليته للجعل الاستقلالى فقط لا تبعا.

امّا النّحو الأول فهو كالسّببيّة والشّرطيّة والمانعيّة والرافعية لما هو سبب التّكليف وشرطه او مانعة ورافعه.

هذه الاربعة تارة تلاحظ بالنسبة الى فعل المكلف فتكون من المقدمات الوجودية التى يتوقف عليها وجود الفعل فى الخارج وهذا خارج عن محط كلام القوم. وتارة تلاحظ بالنسبة الى

١٠٤

المصلحة الكامنة فى فعل المكلف بحيث تكون محصلات للملاك فى مقام الثبوت ، ومن البين ان الشارع يجعل الفعل الذى يكون سببا لعود المصلحة الى المكلف بعد اعتبار وجود ما له دخل فى ذلك وعدم ما له مانع او رافع مركزا للطلب بحيث يكون المركب من الاجزاء المقيد بالشرط وعدم المانع حدوثا وعدم الرافع بقاء محصلا لغرضه هذا هو النحو الثانى الآتي فى كلام المصنف ، وثالثة تلاحظ بالنسبة الى التكليف فتكون سببا له او شرطا او مانعا عن صدور اصل التكليف او رافعا له بعد صدوره من الشارع وهذه الاربعة بهذه الملاحظة تكون محلا للكلام بين الاعلام.

حيث انّه لا يكاد يعقل انتزاع هذه العناوين لها من التّكليف المتأخّر عنها ذاتا حدوثا او ارتفاعا.

شروع فى الاستدلال على عدم تطرق الجعل التشريعى الى النحو الاول من الوضع اصلا لا استقلالا ولا تبعا كالسببية والشرطية والمانعية والرافعية لما هو سبب التكليف وشرطه ومانعة ورافعه. بل يكون جعله تكوينا عرضا بعين جعل موضوعه تكوينا ، حاصله ان السببية لا يعقل انتزاعها عن التكليف فانه متأخر عن وجود السبب بداهة انه لو لا الدلوك لا يكاد يتحقق وجوب الصلاة لان المفروض ان الدلوك سبب له ولا يمكن تقدم المسبب على السبب فالتكليف المتأخر عن وجود السبب لا يعقل ان يكون منشأ لانتزاع

١٠٥

السببية له وكذا الكلام فى الشرطية والمانعية والرافعية ، والحاصل عدم امكان انتزاع هذه العناوين كالسببية والشرطية والمانعية والرافعية لها اى لما هو سبب التكليف وشرطه ومانعة ورافعه المتاخر عنها ذاتا حدوثا كالسببيّة والشرطية والمانعية لوضوح تأخر التكليف عن الاول والثانى واما الاخير فكذلك فلان المانعية متقدمة على عدم التكليف فتكون متقدمة على نفس التكليف ايضا حفظا لاتحاد مرتبة النقيضين فيكون التكليف متأخرا عن المانعية وارتفاعا كالرافعية لانها متقدمة على عدم التكليف بقاء فتكون متقدمة على بقائه فيكون التكليف فى البقاء متأخرا عن الرافعية ، هذا حاصل ما استدل به المصنف على عدم امكان كونها مجعولة

كما انّ اتّصافها بها ليس الّا لاجل ما عليها من الخصوصيّة المستدعية لذلك تكوينا للزوم ان يكون فى العلّة باجزائها ربط خاصّ به كانت مؤثّرا فى معلولها لا فى غيره ولا غيرها فيه وإلّا لزم ان يكون كلّ شيء مؤثّرا فى كلّ شىء.

شروع فى برهان آخر مشترك فى نفى كلا الجعلين اى الاستقلالى والتبعى ، حاصله ان اتصاف السبب والشرط والمانع والرافع بها اى بالسببية والشرطية والمانعية والرافعية ليس إلّا لاجل ان فيها خصوصية مستدعية لذلك تكوينا للزوم ان يكون فى العلة باجزائها من ربط خاص به كانت مؤثرة فى معلولها لا مؤثرة فى غير معلولها

١٠٦

ولا غير العلّة المذكورة فى المعلول وإلّا لزم ان يكون كل شىء مؤثرا فى كل شىء.

وبعبارة اخرى ان السببية وامثالها عبارة عن تأثير شىء فى الآخر وتأثره به وهى لا بد ان تكون ناشئة عن خصوصية فى السبب بها خصّص بهذا التأثير فى هذا الشىء وإلّا لزم تأثيره فى كل شىء بل كل شىء فى كل شىء فلو قلنا بانها تجعل بالجعل التشريعى بعد كونه معدوما لزم الترجيح بلا مرجح والتخصيص بل مخصص ، اذ المفروض ان الجعل التشريعى لا يتغير الشىء عما هو عليه من الذات والصفات بل كان عليه كما كان اولا وإلّا يدخل فى التكوين فيخرج عن محل النزاع.

ان قلت ذلك ينتقض بالوضع ، بان يقال ان الوضع عبارة عن تعهد الواضع لان يجعل ذلك اللفظ غالبا للمعنى الفلانى فى مقام الافادة والاستفادة فعند الاستعمال يكون اللفظ دالا على هذا المعنى بواسطة الوضع فالوضع علة لدلالة اللفظ على هذا المعنى وتفهيمه اياه وهذه العلّة انما كانت بيد الواضع فكذا معلوله مع الواسطة حيث انه قبل تعهده لم يكن كما كان بعده فصار السبب مما تطرق اليه يد الجعل ولا فرق بين الوضع وغيره فى ذلك ، قلت فرق بين ان يكون نفس الجعل سببا لشىء كما فى الوضع وبين ان يتعلق الجعل بالسبب بان يكون المجعول هو السبب وكلا منا انما هو فى الثانى دون الاول ، اذ لا نضايق لان يكون لنفس الجعل آثار وخصوصيات يترتب عليه بعد وجوده كيف والوجود لا يمكن ان لا يكون بلا اثر فالدلالة اثر نفس الجعل

١٠٧

لا المجعول ، مع انه ايضا غير مسلم حيث ان الدلالة ليست اثرا للوضع بخصوصه بل هو اثر له وللعلم بانه يتكلم على طبق تعهده وبانه لم ينصب قرينة صارفة عن ذلك والعلم بانه كان فى مقام البيان ، وكيف كان فما ترى من اطلاق السببية على الاسباب الشرعية فانما هى بنحو المجاز الشائع وإلّا فحقيقتها اخبار عما هو عليه فى الواقع.

وتلك الخصوصيّة لا تكاد توجد فيها بمجرّد انشاء مفاهيم العناوين ومثل قول دلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة انشاء لا اخبارا ضرورة بقاء الدّلوك على ما هو عليه قبل انشاء السببيّة له من كونه واجدا لخصوصية مقتضية لوجوبها او فاقدا لها وانّ الصّلاة لا تكاد تكون واجبة عند الدّلوك ما لم يكن هناك ما يدعو الى وجوبها ومعه تكون واجبة لا محالة وان لم ينشأ السّببيّة للدّلوك اصلا.

قد عرفت آنفا ان السببية وامثالها عبارة عن خصوصية فى السبب بها خصص بهذا التأثير فى هذا الشىء وإلّا لزم ان يكون كل شىء مؤثرا فى كل شىء وتلك الخصوصية لا تكاد توجد فيها اى فى السبب والشرط والمانع والرافع بمجرد انشاء هذه العناوين مثل قوله دلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة انشاء ، بداهة ان الدلوك يكون باقيا على ما هو عليه قبل انشاء السببية له من كونه واجدا لخصوصية مقتضية لوجوب

١٠٨

الصلاة او فاقدا لها وان الصلاة لا تكاد تكون واجبة عند الدلوك ما لم يكن فى الدلوك ما يدعو الى وجوب الصلاة عنده ومعه تكون الصلاة واجبة لا محالة وان لم ينشأ السببية للدلوك اصلا ، وبالجملة ان السببية وامثالها عبارة عن تأثير شىء فى الآخر وتأثره به وهى لا بد ان تكون ناشئة عن خصوصية فى السبب بها خصص بهذا التأثير فى هذا الشىء وإلّا لزم تأثيره فى كل شيء بل كل شيء فى كل شيء فلو قلنا بانها تجعل بالجعل التشريعى بعد كونه معدوما لزم الترجيح بلا مرجح والتخصيص بلا مخصص اذا المفروض ان الجعل التشريعى لا يتغير الشىء عما هو عليه من الذات والصفات بل كان عليه كما كان اولا وإلّا فيدخل فى التكوين فيخرج عن محل النزاع ، نعم لا ننكر جعل شيء سببا او شرطا بالتكوين يعنى ايجادها كذلك لكن اين هذا من التشريع ، ولا فرق فيما ذكرنا بين ان يكون المجعول امرا اعتبار يا او غيره وهل تجد من عاقل ان يقول ان سبب التكليف وهو الغرض الذى يدعو الامر الى الامر سواء كان هو المصلحة فى الامر او المأمورية او غيرهما كالعطش مثلا يصير مجعولا بالجعل التشريعى وبقوله جعلت هذا غرضا لأمري مع اعتراف المولى بل كل العقلاء بان ذلك غير صالح للغرضية وكذلك ما ليس بمنشإ للملكية عند الشرع والعقلاء كعقد من ليس له الامر ولو بنحو الوكالة لا يمكن ان يصير منشأ للملكية بمجرد قوله جعلت هذا منشأ ، هذا حاصل ما افاده المصنف فى بيان ما لا يقبل الجعل اصلا لا اصالة ولا تبعا كالسببية وامثالها مع زيادة منا بيانا ، واعترض عليه

١٠٩

بعض المحققين. من المحشين السيد الحكيم فى حقائقه بانه لا استحالة فى تأخر وصف السببية عن ذات المسبب وانما المستحيل تأخر ذات السبب عنه ثم قال ان اعتبار السببية والشرطية والمانعية والرافعية ملازم لاعتبار ما يقابلها من المسببية والمشروطية والممنوعية والمرفوعية ومنشأ اعتبار الجميع هو ترتب وجود المسبب والمشروط على وجود ذات السبب والشرط وعدمهما على وجود ذات المانع والرافع كاعتبار الفاعلية والمفعولية والموجبية والقابلية فكما ان اعتبار الفاعلية انما يكون بلحاظ الفعل كذلك اعتبار العناوين المذكورة والخصوصية المعتبرة فى مثل السبب ومسببه انما تكون دخيلة فى ترتب المسبب على سببه اما نفس اعتبار السببية والمسببية فهى منتزعة فى الرتبة اللاحقة لملاحظة المسبب والسبب. (انتهى)

وفيه ان المصنف قال لا يكاد يعقل انتزاع السببية لذات السبب من التكليف المتأخر عن ذات السبب بحيث يكون التكليف منشأ لانتزاع السببية اذ قضية كون ذات السبب سببا لترتب التكليف عليه كون ذات السبب منشأ لانتزاع السببية عنه والتكليف منشأ لانتزاع المسببية عنه لا العكس وإلّا لزم كون السبب مسببا متأخرا رتبة والمسبب سببا متقدما رتبة وبطلانه ضرورى واما تأخر انتزاع السببية والمسببة رتبة عن ذات المسبب والسبب فلاجل انهما من سنخ المفاهيم المتضايفة والمتضايفان متكافئان قوة وفعلا ولا ينفك احدهما عن الآخر وقضية تأخرهما رتبة عن المنشئين صحة انتزاعهما بعد وجود المنشئين لا قبله ولمكان

١١٠

التكافؤ يمتنع انتزاع السببية عن ذات السبب قبل انتزاع المسببية عن ذات المسبب فتأخر عنوانهما لا يستلزم صحة انتزاع السببية من التكليف الذى هو محل كلام المصنف وكذا الكلام فى الشرطية والمانعية والرافعية ، وبالجملة ان الايراد على المصنف بانه لا استحالة فى تأخر وصف السببية عن ذات المسبب وانما المستحيل تاخر ذات السبب عنه غير وارد ، نعم يرد عليه ما عن المحقق البصير المجاهد الكبير وحيد عصره وفريد دهره الشيخ ابو الحسن والدى قدس‌سره فى رسالته المدونة لبيان احكام الوضعية (وقد عثرت عليها اخيرا) ووجدتها احسن ما دون فى الباب ، قال فيها بعد بيان عدم تعقل السببية الشرعية بتقريب ، انه لا بد فى السببية من مناسبة تامة ذاتية مع مسببه وإلّا لزم الترجيح من غير مرجح اذ لا دليل على كون الدلوك سببا لوجوب الصلاة دون غيره فلا بد من المناسبة الذاتية بينها وبين سببه فهذا المناسبة اما ان يكون موجودة فى الدلوك ام لا فعلى الاول فليست مجعولة غاية الامر انه كشف عنه الشارع ، وعلى الثانى فلا يمكن ان يحدث فيه مناسبة ذاتية بالجعل اذ ليس المقام مقام التكوين حيث ان نزاعنا فى التشريعيات والامر التشريعى لا يغير الواقع عما هو عليه فاذا ورد دليل ظاهره سببية شىء فلا بد ان يرجع الى الحكم التكليفى ولو جعل هذا سببا لشىء فى مقام التشريع من دون مناسبة ذاتية لزم الجزاف والترجيح من غير مرجح ، (وفيه) اولا ان السببية كما تكون تكوينية كذلك تكون تشريعية يعنى بالجعل يصير

١١١

هذا سببا لهذا كما هو واضح فى الامورات العرفية مثل ان يقول السلطان كلمن رفع صوته فى السوق او نازع مع صاحبه او تخلّف عن حكم نائبه فعليه كذا وكذا من العقوبة فيجعل هذا سببا من دون ان يكون فيه مناسبة ذاتية بحيث لو جعل غير هذا سببا لاثر هذا الاثر وثانيا ان ما ترى من لزوم المناسبة الذاتية بين السبب والمسبب فانما هو فى التكوينيات لا التشريعيات اذ المصلحة فى التشريعيات لا يلازم ان يكون فى المحكوم به بل يمكن ان يكون فى الحكم كما فى العرفيات ومعنى السببية حينئذ ان الحكم انما يكون بملاحظته فلا يلزم الترجيح من غير مرجح ، وثالثا ان هذه منقوض بالاحكام التكليفية لانها مسببة عن المصالح والمفاسد ايضا بتقريب ان المراد بالسببية التى تدعى انها غير مجعولة هو العلّة التامة فالاحكام التكليفية ايضا غير مجعولة لان علتها هو المصالح والمفاسد لم تكن مجعولة فاذا لم تكن علتها مجعولة لم تكن مجعولة اذ ترتيب المعلول على العلة التامة قهرى لا يحتاج الى الجعل (انتهى موضوع الحاجة من كلامه رفع مقامه) مع تلخيص منا.

ومنه قد انقدح ايضا عدم صحّة انتزاع السّببيّة له حقيقة من ايجاب الصّلاة عنده لعدم اتّصافه بها بذلك ضرورة نعم لا باس باتّصافه بها عناية واطلاق السّبب عليه مجازا كما لا بأس بان يعبر عن انشاء وجوب الصّلاة عند الدّلوك مثلا بانّه سبب لوجوبها

١١٢

فكنّى به عن الوجوب عنده فظهر بذلك انّه لا منشأ لانتزاع السّببيّة وسائر ما لاجزاء العلة للتّكليف الّا عمّا هى عليها من الخصوصيّة الموجبة لدخل كلّ فيه على نحو غير دخل الآخر فتدبّر جيّدا.

ومما ذكرنا من انه لا بد فى السبب ان يكون مشتملا على خصوصية مقتضية لصدور التكليف من الحاكم وتلك الخصوصية لو كانت موجودة فى الدلوك مثلا فليست بمجعولة وان لم تكن بموجودة فلا يمكن ان يحدث فيه بالجعل ، انقدح عدم صحة انتزاع السببية للدلوك حقيقة من ايجاب الصلاة عنده اى من قول الشارع اقم الصلاة لدلوك الشمس ما لم يكن هناك ما يدعو الى وجوبها ومعه تكون واجبة وان لم يوجب الشارع الصلاة عنده ، ولا يخفى ان المصنف بهذه العبارة وعبارة المتقدم وهو قوله حيث انه لا يكاد يعقل انتزاع هذه العناوين لها من التكليف المتأخر عنها ذاتا ... الخ قد دفع احتمال الجعل التشريعى التبعى فى السبب واخوته كما ان بقوله وتلك الخصوصية لا يكاد يوجد فيها بمجرد انشاء مفاهيم العناوين ... الخ قد دفع احتمال الجعل التشريعى الاستقلالى فى السببية واخواتها فينحصر الجعل فيهما فى التكوينى فقط دون التشريعى نعم لا بأس باتصاف الدلوك بها اى بالسببية عناية واطلاق السبب عليه مجازا كما لا بأس بان يعبّر عن انشاء وجوب الصلاة عند الدلوك مثلا بانه سبب

١١٣

لوجوبها فيكفى به اى بكونه سببا عن الوجوب عنده ، وإلّا ففى الحقيقة يكون كلا الامرين معلولين عن الخصوصية كما اسمعناك سابقا فظهر بذلك البيان انه لا منشأ لانتزاع السببية وسائر ما لا جزاء العلة كالشرطية والمانعية والرافعية للتكليف الا عما هو عليها من الخصوصية الموجبة لدخل كل من السبب والشرط والمانع والرافع فى التكليف على نحو غير دخل الآخر فدخل السبب غير دخل الشرط وهكذا فتدبر جيدا.

امّا النّحو الثّانى فهو كالجزئيّة والشّرطيّة والمانعيّة والقاطعيّة لما هو جزء المكلّف به وشرطه ومانعة وقاطعه.

فجزء الصلاة كالفاتحة وشرطها كالطهور ومانعها كغير المأكول وقاطعها كالحدث فكما ان تقييد مورد التكليف بامر ثبوتى قد اعتبر فيه حدوثا وبقاء كالطهارة الحدثية والتستر والاستقبال ونحوها بمعنى انه يعتبر فى الصلاة ان يكون المصلى عند الشروع فيها ان يكون واجدا للشرط وباقيا عليه الى آخر الصلاة بحيث يكون تخلل العدم بين الصلاة مبطلا لها كذلك تقييده بعدم شىء فيكون وجوده مانعا عن انعقاد الصلاة وقاطعا عند التخلل فيما بين الصلاة كالصلاة فى وبر ما لا يأكل لحمه فانها مقيدة بعدمه حدوثا وبقاء فلبسه حين الشروع مانع وطروه عمدا فى خلالها قاطع والتقييد بالعدم واقع

١١٤

فى حيز التكليف فتكون المانعية والقاطعية منتزعة من التكليف حسبما مر بيانه

حيث انّ اتّصاف شىء بجزئيّة المامور به او شرطيّته او غيرهما لا يكاد يكون الّا بالامر بجملة امور مقيّدة بامر وجودىّ او عدمىّ ولا يكاد يتّصف شىء بذلك اى كونه جزعا او شرطا للمأمور به الّا بتبع ملاحظة الامر بما يشتمل عليه مقيّدا بامر آخر وما لم يتعلّق بها الامر كذلك لما كاد اتّصف بالجزئيّة او الشّرطيّة وان انشأ الشّارع له الجزئيّة او الشّرطيّة.

حاصله ان اتصاف شىء بجزئية المأمور به او شرطيته له او غيرهما كمانعيته عنه او قاطعيته له لا يكاد يكون إلّا بتعلق الامر بجملة امور مقيدة بامر وجودى خاص كالطهارة الحدثية والتستر والاستقبال ونحوها او عدمى كعدم لبس غير المأكول وعدم الاستدبار ونحوهما ولا يكاد يتصف شىء بذلك اى كونه جزءا او شرط او مانعا او قاطعا إلّا بتبع ملاحظة الامر بما يشتمل ذلك الشيء عليه مقيدا بامر آخر وما لم يتعلق بها الامر كذلك لما كاد اتصف بالجزئية او الشرطية وان انشأ الشارع له الجزئية او الشرطية وبالجملة ان الجزئية تنتزع فى الامر النفسى المتعلق بالكل فانه اذا امر بشىء ذو اجزاء او لاحظها لان يأمر به فان كان هذا الجزء الفلانى داخلا حين التصور والامر فيصير هذا جزء له قهرا ولو قال بعده الف مرة ان هذا ليس بجزء وان لم يكن

١١٥

داخلا حين الامر والتصور فلا يعقل ان يصير جزء بعد تمامية الامر واللحاظ حيث ان جزئية شىء الفلانى لهذا المركب المأمور به انما يكون باخذه فى المأمور به وتصوره فيه اجمالا فاذا لم يلاحظ اولا وامر بما لم يشمل عليه هذا الجزء فقد تمّ الامر والمأمور به فكيف يصير هذا جزء له إلّا ان يأمر ثانيا بما يشتمل عليه هذا الجزء فيرجع الى جعله ايضا بالتبع وهكذا الكلام فى الشرطية والمانعية حيث ان فى الشرطية يرجع الى ملاحظة المركب مقيدا به وفى المانعية الى ملاحظته بشرط لا وعدم كون شىء آخر معه ، فظهر ان الجزئية انما تنتزع من الامر النفسى المتعلق بالكل لا من الامر الغيرى لان الامر الغيرى متأخر عن الجزئية وحاصل جعله بالتبع ان فعله هو امره بالكل وتصوره يصير منشأ لانتزاع الجزئية منه والفرق بينها وبين السببية ان منشأها ليس بيده تشريعا بخلاف منشأ الجزئية وهو الامر بالكل فانه بالجعل التشريعى يصير الكل واجبا.

وجعل الماهيّة واجزائها ليس الّا تصوير ما فيه المصلحة المهمّة الموجبة للأمر بها فتصوّرها باجزائها وقيودها لا يوجب اتّصاف شىء منها بجزئيّة المأمور به او شرطه قبل الأمر بها بالجزئيّة للمأمور به او الشّرطيّة له انّما ينتزع لجزئه او شرطه بملاحظة الامر به بلا حاجة الى جعلها له وبدون الأمر به لا اتّصاف بها اصلا وان اتّصف بالجزئيّة او الشّرطيّة للمتصوّر او لذى

١١٦

المصلحة كما لا يخفى.

دفع لوهم وهو ان جعل الماهية واختراعها كالصلاة مثلا جعل لاجزائها وينتزع الجزئية بمجرد تعلق الجعل الاستقلالى بها ففى مرتبة سابقة على الامر بها صح انتزاع الجزئية فلا تصل النوبة الى انتزاع الجزئية عن تعلق الامر بها ، فالشارع اذا جعل ماهية واخترع امرا مركبا من عدة امور مقيدة بامور خاصة فبمجرد جعله لها واختراعه اياها ينتزع لكل جزء من اجزائها عنوان الجزئية ولكل قيد من قيودها عنوان الشرطية من قبل ان يأمر بها وعليه فلا تكون الجزئية او الشرطية مجعولة بتبع التكليف ، حاصل الدفع ان جعل الماهية واختراعها ليس إلّا تصورها باجزائها وقيودها وانها مما فيه مصلحة مهمة ملتزمة مقتضية للامر بها ، وتصورها باجزائها وقيودها لا يوجب اتصاف شىء منها اى من تلك الاجزاء والقيود المتصورة بجزئية المأمور به او شرطيته قبل الامر بها اى بتلك الماهية فالجزئية للمأمور به او الشرطية له انما ينتزع لجزء المأمور به او شرطه بملاحظة الامر به بلا حاجة الى جعل الجزئية والشرطية للمأمور به ، بداهة ان ايجاب شيء مركب يوجب قهرا اتصاف كل من دواخله بالجزئية للواجب وما به خصوصية من القيود بالشرطية والمانعية ويكون انشاء ايجابه اصالة انشاء لهما تبعا ، وبدون الامر بالمأمور به كالصلاة مثلا لا اتصاف بهما اى بالجزئية والشرطية للمأمور به اصلا وان اتصف

١١٧

بالجزئية او الشرطية للمتصور أو لذي المصلحة ، والحاصل ان تحصل الجزئية فى رتبة سابقة مصحح لاضافتها الى المركب المتصور الملحوظ بلحاظ واحد باعتبار كونه محصلا للمصلحة او وفائه بالغرض وليس مصححا لاضافتها الى الامر الا بعد تعلق الامر بذلك المركب.

وامّا النّحو الثّالث فهو كالحجّية والقضاوة والولاية والنّيابة والحرّية والرّقية والزّوجيّة والملكيّة الى غير ذلك حيث انّها وان كانت من الممكن انتزاعها من الاحكام التكليفيّة الّتي تكون فى مواردها كما قيل ومن جعلها بانشاء انفسها.

ظاهر العبارة فى بدو الامر هو امكان كل من الجعل الاستقلالى والتبعى فى هذا القسم الثالث كالحجية والقضاوة والولاية والنيابة والحرية والرقية والزوجية والملكية وامثالها لتصريحه بذلك بقوله حيث انها وان كانت من الممكن انتزاعها من الاحكام التكليفية التى تكون فى مواردها كما قيل ومن جعلها بانشاء انفسها ، ولكن يختار اخيرا قابليته للجعل الاستقلالى فقط دون التبعى ، ولعل وجه تسليم صحة انتزاع الاحكام الوضعية عن الاحكام التكلفية انما هو من طريق المماشاة مع القائل بذلك وسيأتى منه عن قريب الانكار عليه بقوله كما ينبغى الخ.

١١٨

الّا انّه لا يكاد يشكّ فى صحّة انتزاعها من مجرّد جعله تعالى او من بيده الامر من قبله جلّ وعلا لها بانشائها بحيث يترّتب عليها آثارها كما تشهد به ضرورة صحّة انتزاع الملكيّة والزوجية والطلاق والعتاق بمجرد العقد او الايقاع ممن بيده الاختيار بلا ملاحظة التّكاليف والآثار ولو كانت منتزعة عنها لما كاد يصحّ اعتبارها الّا بملاحظتها وللزم ان لا يقع ما قصد ووقع ما لم يقصد.

شروع فى الاستدلال على قابلية هذا النحو الثالث من الوضع للجعل الاستقلالى فقط دون التبعى ، واستدل لذلك بامرين ، احدهما قابليته للجعل الاستقلالى ، ثانيهما عدم قابليته للجعل التبعى ، اما الاول فملخص الكلام فيه ان المكية وما ضاهاها امورات اعتبارية يعتبرها العقلاء من امورات خاصة مثل انشاء من كان الامر بيده بقوله هذا لك او زوجت بنتى من ابنك او انت نائب ووكيل وغير ذلك فمثل هذا الانشاء يكون منشأ لاعتبار هذه الامور فمعنى جعلها هو جعل منشئها لا جعل نفسها ابتداء وهذا من الوضوح بمكان فانه اذا قال السلطان لمن له اهلية شيء كذائى انت اميرى فى البلد الفلانى ينتزعون منه معنى تكون منشأ لاحكام كثيرة ومثل ذلك البيعة تنتزع من التصاق اليدين على نحو خاص ، ولا يتوهم ان الامر الاعتبارى يصح انتزاعه من كل شيء كيف وإلّا لزم صحة انتزاع وجوب الوجود من

١١٩

مفهوم الممكن وهو خلف بل لا بد من ان تكون فيه كيفية يصح عند العقلاء اعتبار هذا الشيء دون الآخر ولذا لا يصح انتزاع الملكية والزوجية من قوله انت وكيلى ويصح انتزاعهما من قولك هذا لك وزوجت بنتي من ابنك ، وكيف كان فلا اشكال فى ان لمثل هذه الاعتبارات احكاما كثيرة كحلية الاكل والشرب وجميع التصرفات الأخر ومن الواضح ان الاثر متأخر عن المؤثر فيعتبر الملكية اولا ثم يترتب عليه آثاره ولا يمكن ان يجعل اولا هذه الآثار ثم تجعل الملكية بتبعها بمعنى ان تنتزع حلّية الاكل من قوله هذا لك ثم تنتزع منه المليكة وإلّا لزم تقدم الاثر على المؤثر نعم يصح بطريق الكشف.

وبالجملة ان صحة انتزاع تلك الامور من مجرد جعله تعالى او من بيده الامر من قبله جلّ وعلا كما فى الحجية والقضاوة والولاية او من مجرد العقد او الايقاع ممن بيده الاختيار كما فى النيابة والحرية والرقية والزوجية والملكية والطلاق والعتاق ونحوها بلا ملاحظة التكاليف والآثار التى هى فى مواردها تدل على ان هذه الامور ليست منتزعة من التكاليف التى هى فى مواردها بل تكون امورات اعتبارية يعتبرها العقلاء من امورات خاصة مثل انشاء من كان بيده الامر فلو كانت منتزعة من التكاليف التى هى فى موردها بدعوى ان المجعول او لا بوسيلة العقد او الايقاع هى تلك التكاليف ثم تنتزع هذه الامور من تلك التكاليف المجعولة بالعقد او الايقاع لزم امران ، احدهما ان لا يصح انتزاع هذه الامور بمجرد جعلها بلا ملاحظة تلك التكاليف وقد عرفت

١٢٠