نهاية المأمول - ج ١

الشيخ محمد علي الإجتهادي

نهاية المأمول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد علي الإجتهادي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار النشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٢٧

١

بسم الله الرّحمن الرّحيم

المقصد السّادس فى بيان الامارات المعتبرة شرعا او عقلا

فالامارة المعتبرة شرعا هى كالبيّنة وخبر الثقة وظواهر الكلام واما المعتبرة عقلا فهى كالعلم وكالظن الانسدادى على الحكومة.

وقبل الخوض فى ذلك لا باس بصرف الكلام الى بيان بعض ما للقطع من الاحكام وان كان خارجا من مسائل الفنّ

لان الميزان فى كون المسألة اصولية ان تكون هى مما يستنبط به ـ الحكم الشرعى كمسألة حجية خبر الواحد ونحوها واحكام القطع ليست كذلك حتى على تعميم الغرض الباعث على تدوين فن الاصول لما ينتهى اليه امر الفقيه فى مقام العمل بعد اليأس عن الظفر بالدليل وبعد الفحص والبحث عن الادلة والامارات حيث ان حجية القطع باقسامه غير منوطة بالفحص والبحث عن الدليل كما هو واضح.

وكان اشبه بمسائل الكلام

اى كان البحث عما للقطع من الاحكام اشبه بمسائل الكلام

٢

حيث ان مرجع البحث فيه الى حسن معاقبة الشارع على مخالفة القطع الذى هو من قبيل المسائل الكلامية الباحثة عن احوال المبدا والمعاد لكنه مع ذلك لا باس به.

لشدّة مناسبته مع المقام

اذ المقصود فيه هو البحث عن الامارات والاصول العملية وهما حجتان لمن لا قطع له فالمناسب للمقام ان يبحث اولا عن احكامه.

فاعلم انّ البالغ الّذى وضع عليه القلم

انما جعل المقسم من وضع عليه قلم التكليف لا المكلف الفعلى لعدم قابليته لذلك اذ لا يصح جعله مقسما ثم اخراج غير الملتفت منه بقوله اذا التفت بداهة ان الغافل الذى لا التفات له ليس بمكلف ولذا عدل المصنف عن التعبير بالمكلف وقال البالغ الذى وضع عليه قلم التكليف

اذا التفت الى حكم فعلى واقعى

مقابل الحكم الاقتضائى والانشائى توضيح ذلك ان للحكم مراتب مرتبة الاقتضاء والمراد بها هى المصلحة التي تكون الاحكام مسببة عنها عند العدلية ومرتبة الانشاء وهى عبارة عن جعل قانون لصلاح نظم امور المكلفين فى معاشهم ومعادهم والمنشأ لهم والمحكوم عليهم فى هذه المرتبة تمام المكلفين نظير انشاء القوانين التي يجعل السلطان لصلاح نظم امور رعيته وبلدانه.

٣

فكتب هذا القانون فى دفاترهم ومرتبة البعث والزجر وهى عبارة عن فعلية الحكم على المكلف بمعنى ان المطلوب منه فعله او تركه لكن البعث على الفعل او الزجر عنه بعد اعلام العباد والرعية بالحكم القانونى الانشائى بتبليغ الرسل وانزال الكتب والمحكوم عليه فى هذه المرتبة يمكن ان لا يكون تمام المكلفين لاختلاف استعدادهم فكثير من المكلفين ربما لا يكون لهم استعداد بعثهم على اتيان الحكم القانونى كما ترى يا لوجدان ان السلطان بعد حكمه القانونى الذى كتب فى دفتره يبلغ هذا الحكم الى بعض بلاده دون بعض بحسب استعداد البلاد وعدمه ومرتبة التنجز التى هى عبارة عن استحقاق العقوبة على الفعل او الترك وعدم كونه معذورا ومعلوم ان الحكم ما لم يبلغ مرتبة الفعلية لم يكن بامر ولا نهى حقيقة ومن خالفه عن عمد لا يعد عاصيا.

هذا ولكن لا يخفى عليك ان تمام هذه المراتب ليست من مراتب الحكم اما الاول فلوضوح ان سبب الشيء وعليته غير الشيء واما الرابع فلانه حكم عقلى يترتب على العلم بالحكم الواقعى لا من مرتبة حكم الشرعى كما هو مقصود جاعل هذه المراتب فانحصر فى الثانى والثالث المعبر عنهما بالشأنى والفعلى فنقول ان المراد بالشأنى ان كان ان الحكم ثبت واقعا لموضوع كلى كوجوب الحج الذى ثبت للمكلف المستطيع فلا اشكال فى ان الحكم لهذا الموضوع فى هذه المرتبة فعلى بمعنى ان وجوب الحج ثابت للمستطيع فعلا غاية الامر ان من ليس له صفة الاستطاعة لم يكن داخلا فى الموضوع واذا ثبت له الوصف يدخل فى الموضوع وثبت له الحكم فعلا

٤

فان قلت شأنيته باعتبار جهل المكلف بالحكم بمعنى ان المكلف اذا جهل بالحكم لم يثبت له وجوب الحج ولو كان مستطيعا بل اذا علم وجب له الحج قلت مرجع هذا فى الحقيقة الى ان الحكم الواقعى ثابت للعالمين به دون الجاهلين وهو باطل من أصله للزوم التصويب بين العالم والجاهل وقد تواتر الاخبار على خلافه وللزوم الدور لان العلم بالحكم موقوف على الحكم والحكم موقوف على العلم كما لا يخفى مع ان القائل بالمرتبة الشأنية لا يقول ان الجهل بالحكم سبب لشأنيته بعد تحقق شرائط الحكم والموضوع فان الجهل عنده ليس مانعا عن فعليته بل شأنيته عنده من جهة عدم تحقق شرائط الحكم والموضوع فيرد عليه حينئذ انه مع عدم تحقق الشرائط لا حكم اصلا لا شأنا ولا فعلا وهذا واضح فالتحقيق عندنا ان الاحكام الواقعية كلها فعلية لكل من المكلفين بعد تحقق الشرائط العامة غاية الامر لا يتنجز عليهم على تقدير الجهل يعنى لا يعاقب على ارتكابه بل هو معذور فيه فتدبر جيدا

ثم ان مقابلة القطع مع اخويه فى كلام شيخنا العلامة فى الرسائل حيث قال اعلم ان المكلف الى حكم شرعى فاما ان يحصل له الشك فيه او القطع او الظن تقتضى ان تكون متعلق القطع هو الواقعى الفعلى مع ان الاحكام الآتية للقطع لا تختص بالحكم الواقعى الفعلى بل تجرى فيه وفى القطع بالحكم الظاهرى الفعلى فالاحسن فى التقسيم ان يقال ان المكلف يعنى الذى وضع عليه قلم التكليف اذ التفت الى حكم فعلى واقعى.

او ظاهرى متعلّق به او بمقلّديه فاما ان يحصل له القطع به اولا وعلى الثّانى

٥

لا بدّ من انتهائه الى ما استقلّ به العقل من اتباع الظّنّ لو حصل له وقد تمّت مقدّمات الانسداد على تقدير الحكومة

اى اما ان يحصل له القطع بالحكم الفعلى واقعيا كان او ظاهريا اولا يحصل له القطع وعلى الاول اى على فرض حصول القطع فمرجعه هو القطع فيترتب عليه ما يترتب عليه من الاحكام وعلى الثاني اى وان لم يحصل له ذلك فان حصل له الظن الحاصل من دليل الانسداد على الحكومة بمعنى ان مقتضى مقدمات الانسداد هو استقلال العقل بحجية الظن فى حال الانسداد كاستقلاله بحجية العلم فى حال الانفتاح فحينئذ لا بد من الانتهاء الى ما استقل به العقل بمعنى ان مرجعه هو العمل بظنه فيعمل به ومتعلق الظن حينئذ هو الحكم الواقعى الفعلى اذ لا حكم ظاهرى هنا واما الظن الحاصل من دليل الانسداد على تقدير الكشف بمعنى ان نتيجة المقدمات بعد تماميتها هو الاستكشاف عن كون الظن طريقا منصوبا من قبل الشرع فى حال الانسداد كالامارات الشرعية المنصوبة فى حال الانفتاح فهو داخل فى الشق الاول وهو القطع اذ هو قطع بالحكم الظاهرى.

والّا فالرّجوع الى الاصول العقليّة من البراءة والاشتغال والتخيير على تفصيل يأتى فى محلّه إن شاء الله تعالى

اى وان لم يحصل له القطع واقعيا كان او ظاهريا ولا الظن الحاصل من دليل الانسداد فمرجعه هو القواعد العقلية من البراءة العقلية عند الشك فى التكليف او الاشتغال فى المكلف به او التخيير عند دوران الامر بين

٦

المحذورين واما الاصول الشرعية كالامارات المعتبرة كلها تدخل فى القطع.

وانّما عمّمنا متعلّق القطع لعدم اختصاص احكامه بما اذا كان متعلّقا بالاحكام الواقعية

اى ولاجل عدم اختصاص الاحكام الآتية للقطع من المنجزية فى صورة الاصابة والعذرية عند الخطاء وعدم الاصابة وحكم العقل بوجوب المتابعة بما اذا تعلق بالحكم الواقعى الفعلى بل تجرى فيه وفى القطع بالحكم الظاهرى الفعلى عممنا متعلق القطع بحيث يشمل الحكم الظاهرى الفعلى

وخصّصنا بالفعلى لاختصاصها بما اذا كان متعلّقا به على ما ستطلع عليه

يعنى خصصنا بالفعلى لاختصاص احكام القطع فى الواقع وفى نفس الامر بما اذ كان القطع متعلقا بالحكم الفعلى دون ما فوقه من المراتب التي تكون للحكم لما عرفت من ان تمام مراتب التي ذكرنا للحكم ليس من مراتب الحكم وسيأتى تفصيله إن شاء الله تعالى.

ولذلك عدلنا عمّا فى رسالة شيخنا العلّامة اعلى الله مقامه من تثليث الاقسام

اى ولأجل التعميم والتخصيص المذكورين عدلنا عما فى رسالة شيخنا العلامة من تثليث الاقسام حيث قال قدس‌سره فاعلم ان المكلف اذا التفت الى حكم شرعى فاما ان يحصل له الشك فيه او القطع او الظن

٧

ورتب على الثالث الرجوع الى الامارات المعتبرة شرعا او عقلا وعلى الاول الرجوع الى الاصول شرعية كانت او عقلية ومن المعلوم ان الاحكام الظاهرية اعم من ان يكون مؤدى الامارة او الاصول الشرعية كلها تدخل فى القطع فواجد الامارة الشرعية او الاصل الشرعى كان داخلا فى القاطع.

وان ابيت الّا عن ذلك فالاولى ان يقال انّ المكلّف امّا ان يحصل له القطع أو لا وعلى الثّانى امّا ان يقوم عنده طريق معتبر اولا لئلّا يتداخل الاقسام فيما يذكر لها من الاحكام.

يعنى ان ابيت عن تقسيم الثنائى اما بقصر النظر الى ان المراد من الحكم هو الحكم الواقعى وجعله بخصوصه متعلق القطع واما بزعم ان ما فى الرسالة اقرب الى الاعتبار العرفى فالاولى ان يقال ان المكلف اما ان يحصل له القطع ام لا فان حصل له القطع فمرجعه ذلك وان لم يحصل له القطع فان كان عنده حجة شرعية من الظن شخصيا كان او نوعيا ومن امارة جعله الشارع حجة عند الشك ولو لم يحصل منه الظن ولو نوعا كالخبر الذى غير متحرز عن الكذب فمرجعه هذه الحجة وان لم يكن عنده حجة ولم يقم عنده طريق معتبر فمرجعه هو الاصول العملية فعلى هذا لا يتداخل احكام الشك والظن كما يتداخل على تعبير الشيخ ره.

فانه على تقسيمه يتداخل حكم الظن والشك لان المراد من الظن فى عبارته الظن بمعنى الرجحان ومن الشك تساوى الطرفين ورب ظن هو مورد الاصول كما فى الظن الغير المعتبر ورب شك يرجع الى الامارات كما اذا جعل الشارع امارة غير مفيدة للظن حجة فتداخل

٨

الشك والظن فهو مما لا يخفى فتحصل مما ذكرناه ان المصنف ره عدل عن تقسيمه فى الرسالة لوجهين الاول اختصاص احكام القطع بالحكم الواقعى الفعلى كما هو مقتضى ظاهر كلامه.

اذ مقابلة القطع مع اخويه يقتضى ان يكون متعلق القطع هو الحكم الواقعى الفعلى لانه متعلق الشك والظن مع ان احكام الآتية للقطع لا تختص بالحكم الواقعى الفعلى بل تجرى فيه وفى القطع بالحكم الظاهرى الفعلى كما اشرنا اليه سابقا الثانى التداخل كما اشار اليه بقوله ان ابيت عن تقسيم الثنائى الى آخره.

ومرجعه على الاخير الى القواعد المقرّرة عقلا او نقلا لغير القاطع ومن يقوم عنده الطّريق على تفصيل ياتى فى محلّه إن شاء الله تعالى حسب ما يقتضى دليلها

يعنى وان لم يحصل له القطع ولم يكن عنده طريق معتبر كالبيّنة وخبر الثقة وظواهر الكلام فمرجعه الى القواعد المقررة وهى الاصول العملية الشرعية او العقلية الممهدة لغير القاطع ومن قام عنده الطريق المعتبر

فى وجوب العمل على وفق القطع

وكيف كان فبيان احكام القطع واقسامه يستدعى رسم امور الامر الاوّل لا شبهة فى وجوب العمل على وفق القطع عقلا ولزوم الحركة على طبقة جزما

اختلفوا فى ان القطع هل حجيته بنفسه ولا يمكن ان يتصرف فيه

٩

لا اثباتا ولا نفيا او انه كسائر الطرق الشرعية وامره نفيا واثباتا انما يكون بيد الشارع او التفصيل بين النفى والاثبات بامكان التصرف فيه على الثانى بان يقول جعلته حجة لك دون الاول اذا عرفت هذا فنقول بعد حصول القطع يحدث فى نفس القاطع محرك عقلى وملزم عقلائى بحيث يرى نفسه مذموما فى مخالفة قطعه وممدوحا فى العمل على وفقه وهذا معنى وجوب اتباعه عقلا والحركة على وفقه جزما

وكونه موجبا لتنجّز التكليف الفعلى فيما اصاب باستحقاق الذّم والعقاب على مخالفته وعذرا فيما أخطأ قصورا

لان معنى وجوب العمل على وفقه عقلا وحجيته هو كون القطع موجبا لتنجز التكليف الفعلى ولزوم الاتيان المستتبع للذم والعقاب على تركه ومخالفته يكون عذرا فى صورة عدم الاصابة لكن لا مطلقا بل فيما أخطأ قصورا اما لو أخطأ قطعه تقصيرا فلا يكون موجبا للعذر مثلا لو علم من اول الامر ان قراءة كتب الضلال موجبا للاضلال ثم قرء فقطع ببعض مقالته المنافية لمذهب الامامية لم يكن معذورا.

وتأثيره فى ذلك لازم وصريح الوجدان به شاهد وحاكم فلا حاجة الى مزيد بيان واقامة برهان

يعنى تأثير القطع فى تنجز التكليف عند الاصابة وفى وجوب العمل على وفقه وغير ذلك من الآثار لازم وصريح الوجدان به حاكم بمعنى ان الوجدان شاهد على ان القاطع يجد فى نفسه ملزما ومحركا يلزمه ويحركه

١٠

نحو فعل ما قطع بوجوبه فعلا وترك ما قطع بحرمته فعلا بحيث يرى نفسه مذموما فى تركه ومأمونا من المذمة والعقاب لو عمل به

ولا يخفى انّ ذلك لا يكون بجعل جاعل لعدم جعل تأليفى حقيقة بين الشّيء ولوازمه.

لما عرفت من ان هذه الآثار المترتبة على القطع من لوازمه الذاتية لا ينفك عنه فلا يمكن ان يكون بجعل جاعل لا تكوينا ولا تشريعا لا اثباتا ولا نفيا اما تكوينا فلان المتصور منه فى المقام هو التأليفى وهو جعل القطع واجب الاتباع دون البسيط ومن المعلوم ان الجعل التأليفى لا يكون إلّا بين الشيء وعرضه المفارق لا بينه وبين لوازم ماهيته ووجوب الاتباع من لوازم ماهية القطع الكذائى فهو مجعول بعين جعل القطع لا انه يمكن ان يجعل مستقلا بعد جعله وحيث كان وجوب الاتباع من لوازمه الذاتية فلا يمكن ان يكون ثبوته مجعولا بهذا الجعل اى بالجعل التاليفى ولا نفيه عنه كذلك لعدم امكان تخلل العدم بين الشيء ولوازمه الذاتية حيث ان نفى الذاتى مساوق لنفى الذات ونفى اللازم مساوق لنفى الملزوم كالزوجية للاربعة

بل عرضا يتبع جعله بسيطا

يعنى ان المتصور من الجعل بالنسبة الى اللوازم الذاتية هو الجعل العرضى بتبع جعل ذلك الشيء بمعنى ان جعل القطع وايجاده يلازم جعل الحجية ووجوب الاتباع بتبعه كما ان الزوجية مجعولة بالعرض بعين جعل الاربعة.

١١

ولذلك انقدح امتناع المنع عن تأثيره ايضا

اى ولما ذكرنا من ان وجوب متابعة القطع ولزوم العمل على وفق علمه وكونه موجبا لتنجز التكليف فيما اصاب وعذرا عند الخطاء تكون ذاتية له لا تناله يدا لتشريع اذ لا معنى لتشريع ما هو حاصل بذاته ومنجعل بنفسه انقدح المنع عن تأثيره ايضا اذ لا يمكن شرعا سلب ما هو من لوازم الذات وعدم تغيير الذاتيات بقول الشارع إلّا ان يتبدل موضوعه فالقول بعدم كونه طريقا ولا يجب العمل على وفق علمه ولا يكون حجة لا يلزم منه تخلف الذاتى عن كونه ذاتيا مضافا الى ان منع الشارع عن تأثيره موجب لنقض الغرض لان غرضه وصول المكلف الى الحكم الواقعى وادراك مصلحته فبعد تحصيل الغرض بالعلم لو قال لا تعمل بعلمك لقال بخلاف غرضه ولا يتصور نقض الغرض الا فيمن لم يكن عالما بعواقب الامور وكانت افعاله لاشتهاء نفسه وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

مع انّه يلزم منه اجتماع الضّديّن اعتقادا مطلقا وحقيقة فى صورة الإصابة كما لا يخفى :

يعنى ان المكلف اذا قطع بوجوب شيء فان كان قطعه مصيبا فمع نهى الشارع عنه يلزم اجتماع الضدين حقيقة فانه حسب قطعه واجب وعلى حسب نهى الشارع عن العمل بعلمه حرام فكيف يجتمع الواجب والحرام فى شيء واحد وان كان قطعه مخطئا لزم اجتماع الضدين

١٢

اعتقادا اذ لا يذعن به المكلف مع الاذعان بضده ومن المعلوم ان اجتماع الضدين ولو اعتقادا محال كاجتماع الضدين حقيقة :

ثمّ لا يذهب عليك انّ التكليف ما لم يبلغ مرتبة البعث والزّجر لم يصر فعليّا وما لم يصر فعليّا لم يكد يبلغ مرتبة التّنجّز واستحقاق العقوبة على المخالفة.

قد عرفت سابقا ان للحكم مراتب مرتبة الاقتضاء والمراد بها هى المصلحة التى تكون الاحكام مسببة عنها عند العدلية ومرتبة الانشاء وهى عبارة عن جعل قانون لصلاح نظم امور المكلفين ومرتبة البعث والزجر وفعلية الحكم على المكلف وهى عبارة عن اعلام العباد بالحكم القانونى الانشائى بتبليغ الرسل وانزال الكتب ومرتبة التنجز وهى عبارة عن استحقاق العقوبة على الفعل او الترك وعدم كونه معذورا وما ذكرناه من ان القطع يجب اتباعه عقلا والوجدان يحكم باستحقاق العقوبة فانما هو فيما اذا تعلق القطع بالمرتبة الثالثة وهى ان تكون له بعث وزجر وفعلية الحكم من دون قيام الحجة عليه بحيث لو قامت الحجة عليه فيستحق العقوبة على مخالفته واما اذا تعلق بالمرتبة الثانية وهى مرتبة الانشاء فلا يستحق العقوبة على مخالفته

وان كان ربّما يوجب موافقته استحقاق المثوبة

يعنى ربما يوجب الحكم مع عدم بلوغه الى مرتبة الفعلية استحقاق المثوبة على موافقته مع عدم استحقاق العقوبة على مخالفته لانه قد يكون المصلحة فى الفعل ملزمة ولكن الوجوب انشائى نظرا الى عدم استعداد

١٣

المكلفين لتوجيه الخطاب الفعلى اليهم فربما يقتضى مصلحة التسهيل عدم البعث فى برهة من الزمان وليس هناك مفسدة فى الفعل اصلا فحينئذ لا مانع فى التفكيك بين المثوبة والعقوبة وان موافقته توجب استحقاق المثوبة مع عدم استحقاق العقوبة على مخالفته

وذلك لأنّ الحكم ما لم يبلغ تلك المرتبة لم يكن حقيقة بامر ولا نهى ولا مخالفته عن عمد بعصيان بل كان ممّا سكت الله عنه كما فى الخبر فلاحظ وتدبر

روى عن امير المؤمنين عليه‌السلام ان الله حد حدودا فلا تعتدوها وفرض فرائض فلا تعصوها وسكت عن اشياء لم يسكت عنها نسيانا فلا تتكلفوها رحمة من الله عليكم ولكن قد عرفت من مطاوى كلماتنا ان تمام مراتب التى عده قدس‌سره من مراتب الحكم ليس من مراتبه بل الاحكام الواقعية كلها فعلية لكل المكلفين بعد تحقق الشرائط العامة غاية الامر لا يتنجز عليهم على تقدير الجهل وقيام الحجة عليه يعنى لا يعاقب على ارتكابه بل هو معذور فيه فراجع فلا نعيده.

نعم فى كونه بهذه المرتبة موردا للوظائف المقرّرة شرعا للجاهل اشكال لزوم اجتماع الضّديّن او المثلين على ما ياتى تفصيله إن شاء الله تعالى مع ما هو التّحقيق فى دفعه فى التّوفيق بين الحكم الواقعى والظّاهرى فانتظر

اى مع بلوغه بهذه المرتبة من الفعلية مورد للوظائف المقررة شرعا للجاهل من الامارات والاصول الشرعية اشكال لزوم اجتماع الضدين لو تخالفا او المثلين لو توافقا على ما سيأتى فى الجمع بين الحكم الواقعى

١٤

والظاهرى فى اول بحث الظن إن شاء الله تعالى فانتظر.

فى مبحث التجرى والانقياد

الأمر الثّانى قد عرفت انّه لا شبهة فى انّ القطع يوجب استحقاق العقوبة على المخالفة والمثوبة على الموافقة فى صورة الاصابة فهل يوجب استحقاقها فى صورة عدم الاصابة على التجرّي بمخالفته واستحقاق المثوبة على الانقياد بموافقته او لا يوجب شيئا

اعلم ان التكلم فى هذا المبحث اى فى مسئلة التجرى يمكن ان يقع فى مقامات الاول فى المسألة الكلامية وهى ان مخالفة القطع هل توجب استحقاق العقوبة لاجل التجرى اذا لم يكن القطع مطابقا للواقع وموافقته توجب استحقاق المثوبة لاجل انطباق الانقياد عليه ام لا الثانى فى الاصولية وهى انه على فرض قبح التجرى وحكم العقل باستحقاق فاعله الذم هل يؤثر قبحه فى الفعل المتجرى به حتى يصير حراما شرعيا لقاعدة الملازمة ام لا.

الثالث فى الفقهية وهى ان مقطوع الحرمة حرام ام لا وإلّا نسب بمقامنا هو الاولان لان كلامنا فى القطع انما يكون فى الحكم العقلى وفى المسألة الاصولية واما المقام الاول فالحق استقلال العقل باستحقاق العقوبة على مخالفة القطع كحكمه باستحقاق المثوبة على موافقته وهو الذى اختاره المصنف وادعى عليه الوجدان وقال.

١٥

الحقّ انّه توجبه لشهادة الوجدان بصحّة مؤاخذته وذمّه على تجرّيه وهتك حرمته لمولاه وخروجه عن رسوم عبوديّته وكونه بصدد الطّغيان وعزمه على العصيان

حاصل الكلام ان التجرى عنوان يتحقق مع ارادة المخالفة كما ان الانقياد يتحقق مع ارادة الموافقة وينطبق على الاول عنوان التجرى والهتك والطغيان والخروج عن رسوم العبودية ومن المعلوم ان هذا كله موجبه للعقوبة والوجدان عليه شاهد وحاكم وعلى الثانى ينطبق عنوان الانقياد والاطاعة والاقامة على رسوم العبودية وهذا كله موجبة للمثوبة واليه اشار بقوله.

وصحّة مثوبته ومدحه على اقامته بما هو قضيّة عبوديّته من العزم على موافقته والبناء على اطاعته

وبالجملة انه يستحق العقوبة على نفس التجرى ولو لم يصدر منه فعل اذا وصل حد الجزم والعزم حيث ان التجرى كما عرفت هو عبارة عن اهتاك حرمة المولى واظهار النفاق والشقاق معه وهو موجب للاستحقاق بحكم العقل السليم اذا صار العبد بصدد الاظهار واول مرتبة الاظهار هو الجزم وهو اختيارى لا مكان التأمل فى الصوارف والمواعظ وكان له ان يتفكر فى عقوبة الله والنظر فى آيات الله حتى لا يجزم او لا يعتنى بتبعاته فيجزم به وكذا العزم المترتب على الجزم فهو ايضا اختيارى كالجزم بعينه ويصح العقوبة عليه.

١٦

واما قبل الجزم والعزم فلا يستحق العقوبة ولا المصوبة وان استحق المدح واللوم بمجرد حسن سريرته وسوئها والحاصل ان التجرى والانقياد يوجبان استحقاق العقوبة والمثوبة لتحقق ما يوجبانه فى المعصية والاطاعة الحقيقيين فيهما بيان ذلك ان شرب الخمر الواقعى له عناوين ثلاثة الاول الشرب من حيث انه شرب وهو عنوانه الاولى الثانى هو من حيث انه ترك مطلوب المولى الثالث هو من حيث انه اقدم على مخالفة المولى وعصيانه ومن الواضح ان مناط الاستحقاق للعقاب ليس هو الاول وإلّا لكان شرب كل مشروب يوجب ذلك ولا الثانى لان من شربها غفلة او نسيانا فقد حصل منه ترك مطلوب المولى مع انه لا يعاقب عليه فانحصر المناط فى الثالث وهو بعينه موجود فى حق المتجرى حيث انه اقدم على المعصية وعزم على المخالفة وجزم على الطغيان

وان قلنا بانّه لا يستحقّ مؤاخذته او مثوبته ما لم يعزم على المخالفة او الموافقة بمجرّد سوء سريرته او حسنها وان كان مستحقّا للذّم او المدح بما يستتبعانه كسائر الصفّات والاخلاق الذّميمة او الحسنة

يعنى مجرد سوء السريرة وحسنها لا يوجب العقوبة ولا المثوبة وانما يوجبان مدحا او ذما بما فيه من الصفة الكامنة المستتبعة لهما وان الذات المتصفة به لا يستحق بذلك المثوبة ولا العقوبة وان استحق المدح او الذم كمدح اللؤلؤ على صفائها وذم الخزرة على كدورتها والحاصل ان سوء السريرة وحسنها كسائر الصفات والاخلاق الذميمة او الحسنة كالشجاعة والجبن والجود والبخل لا يوجب ثوابا ولا عقابا ولكنها

١٧

تكون موجبة للمدح والذم

وبالجملة ما دامت فيه صفة كامنة لا يستحقّ بها الّا مدحا او لوما وانّما يستحقّ الجزاء بالمثوبة او العقوبة مضافا الى احدهما اذا صار بصدد الجرى على طبقها والعمل على وفقها وجزم وعزم وذلك لعدم صحّة مؤاخذته بمجرّد سوء سريرته من دون ذلك وحسنها معه

فتحصل مما ذكرنا ان القبح الناشئ عن سوء السريرة وخبث الباطن لا يستتبع استحقاق العقاب ما دامت فيه صفة كامنة كما ان الحسن الناشئ عن حسنها لا يوجب شيئا من المثوبة ما دامت كذلك إلّا اذا صار العبد بصدد الجرى على طبق تلك الصفة والعمل على وفقها حتى وصل الى حد الجزم والعزم ولو لم يصدر منه فعل وذلك الذى ذكرناه من عدم استحقاق العقوبة او المثوبة على مجرد سوء السريرة او حسنها لعدم صحة مؤاخذة العبد بمجرد سوء سريرته من دون ان يصير بصدد الجرى على طبق الصفة

وحسن المؤاخذة مع صيرورته بصدد الجرى على وفقها وذلك لان صفة الشقاوة وما يقابلها امر خارج عن الاختيار كما فى الخبر الشريف السعيد سعيد فى بطن أمه والشقى شقى فى بطن أمه فلا يستحق العقاب ولا الثواب على الامر الغير الاختيارى إذ هما تابعان للمقدور ولكن يستحق المدح او الذم من حيث هو مع قطع النظر عن ترتب استحقاق العقوبة او المثوبة عليه وهذا واضح.

كما يشهد به مراجعة الوجدان الحاكم بالاستقلال فى مثل باب الاطاعة

١٨

والعصيان وما يستتبعان من استحقاق النّيران او الجنان

حاصل ما افاده قدس‌سره فى اثبات العقاب لمن اراد المخالفة واثبات الثواب لمن اراد الموافقة هو انطباق عنوان التجرى واهتاك حرمة المولى والطغيان والخروج عن رسوم العبودية على الاول والوجدان شاهد على ان تلك العناوين موجبة للعقوبة وانطباق عنوان الانقياد والاقامة على رسوم العبودية الموجبان للثواب فى الثانى والوجدان أيضا عليه حاكم وشاهد ثم انك قد عرفت فى صدر المبحث ان التكلم فى التجرى يقع فى مقامات الاول فى المسألة الكلامية وهى ان موافقة القطع هل توجب استحقاق المثوبة لاجل الانقياد ومخالفته هل توجب استحقاق العقوبة لاجل التجرى اذا لم يكن القطع مطابقا للواقع اولا والذى اختاره المصنف فى هذا المقام انه يوجبه مع صيرورة العبد بصدد الجرى على طبقه والعمل على وفقه وعزم وجزم الثانى فى المسألة الاصولية وهى انه على فرض قبح التجرى وحكم العقل باستحقاق فاعله الذم هل يؤثر قبحه فى الفعل المتجرى به حتى يصير حراما شرعيا لقاعدة الملازمة ام لا واختار المصنف فى هذا المقام طرف العدم بقوله.

ولكن ذلك مع بقاء الفعل المتجرّى به او المنقاد به على ما هو عليه من الحسن او القبح والوجوب او الحرمة واقعا بلا حدوث تفاوت فيه بسبب تعلّق القطع بغير ما هو عليه من الحكم والصّفة

اى وذلك الذى ذكرناه من كون التجرى موجبا للعقاب

١٩

والانقياد موجبا للثواب مع بقاء فعل المتجرى به او المنقاد به على ما هو عليه من الحسن او القبح كما كان قبل عروض عنوان التجرى او الانقياد عليه من الحسن والقبح والوجوب والحرمة واقعا بلا حدوث تفاوت فى الفعل بسبب تعلق القطع بغير ما هو عليه من الحكم الوجوبى او التحريمى ولا فى الصفة من الحسن او القبح وذلك لعدم امكان تغيير الفعل عما هو عليه بواسطة تعلق القطع به لما نجد من انفسنا من عدم تغيير الشيء عما هو عليه بمجرد القطع به اذ القطع بالقبح لا يكون فى نظر العقل من العناوين المقبحة او مما يوجب المبغوضية للمولى وكذا القطع بالحسن لا يكون بنظر العقل من العناوين المحسنة او مما يوجب المحبوبية وعلى فرض صيرورته عنوانا لا يمكن استكشاف حكم الشارع يعنى لا يمكن تعلق الحكم بالمقطوع حين كونه كذلك للزوم الخلف حيث ان القاطع حين قطعه لا يرى إلّا الواقع فتصديقه الحكم المتعلق بالمجموع محتاج الى الالتفات بقطعه والتفاته الى قطعه مستلزم لارتفاع قطعه الاول وهو خلف اذ المفروض تعلق الحكم بالمقطوع حين كونه طريقا غير ملتفت اليه وعلى فرض استكشاف حكم الشارع فلا فائدة فى الامر المولوى فيما نحن فيه.

حيث ان فائدته تحريك العبد نحو الفعل بحيث لو لاه لم يكن محرك ولا داع والمفروض ان الداعى هو حكم العقل بوجوب اتباع القطع موجود ولذلك نقول بان امر اطيعوا الله إرشادي حيث ان المريد للاطاعة ان كان له دواعى الاطاعة من اهلية البارى تعالى او الجنة او النار موجود فامر اطيعوا لا يكون داعيا له ثانيا مضافا الى استلزامه الدور او التسلسل

٢٠