نهاية المأمول - ج ١

الشيخ محمد علي الإجتهادي

نهاية المأمول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد علي الإجتهادي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار النشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٢٧

المتنافيين فى رتبة الشك فيعود المحذور.

قال بعض المحققين من المحشين فى توضيح جواب المصنف عن الاشكال ما هذا لفظه اقول مراده ان الحكم الواقعى سار فى مرتبة الحكم الظاهرى ويلزم منه اجتماع الحكمين الفعليين المتنافيين فى هذه المرتبة وان لم يسر الحكم الظاهرى الى مرتبة الحكم الواقعى توضيحه ان الاطلاق ينقسم الى اطلاق لحاظى واطلاق ذاتى والمراد من الاول ان يكون سريان الحكم الى قيود الموضوع بمعونة اللحاظ وهذا انما يتأتى فى الحالات المقارنة للموضوع المتحدة معه رتبة كالاطلاق فى قوله اعتق رقبة بالنسبة الى الايمان والكفر ونحوهما من الحالات التى يمكن لحاظها عند لحاظ الرقبة.

والمراد من الثانى ان يكون مركز الحكم نفس الطبيعة بحيث يكون اللحاظ مقصورا عليها ويجعل الحاكم حكمه ملازما لها اينما تسرى الطبيعة ولا حاجة فى هذا القسم من الاطلاق الى لحاظ كل واحدة من الحالات خاصة واسراء الحكم اليها وليس معنى هذا الاطلاق إلّا ثبوت الحكم فى حالة العلم والجهل على نحو القضية الحينية وان لا مدخليته لواحد من العلم والجهل فى الطلب ولا فى المطلوب ويكفى فى سريان الحكم الى تينك الحالتين كون الطبيعة تمام الموضوع للحكم فى نظر الحاكم وح يقع زمام التسرية بيد العقل الى كل قيد لا دخل له فى غرض الحاكم وان لم يسع للحاكم تسرية حكمه الى ما هو متأخر عن حكمه.

فظهر مما ذكرنا ان الطبيعة المحكومة بالحرمة الواقعية مثلا

١٤١

محفوظة فى ضمن الطبيعة المجهولة حرمتها فمع جعل حكم آخر مخالف للحكم الواقعى يلزم اجتماع المتنافيين فى موضوع واحد.

والذى يشهد على ثبوت الحكم الواقعى فى حالة العلم به ان العلم به موجب لبلوغه الى مرتبة التنجز فلا بد من ان يكون الحكم ساريا اليها ثابتا فيها كى يتعلق العلم به فيصير عند العلم به موضوعا لحكم العقل بالتنجز وكذا فى حالة الجهل كى يتعلق الشك به فيصير حينئذ موضوعا للاصل العملى انتهى كلامه رفع مقامه.

والحاصل ان الحكم الظاهرى وان لم يكن فى مراتب الحكم الواقعى التى من جملتها حال العلم به اذ ليس فى مرتبة العلم بالحكم الواقعى حكم ظاهرى إلّا ان الحكم الواقعى يكون فى مرتبة الحكم الظاهرى فعلى تقدير المنافاة بين الحكمين لزم اجتماع المتنافيين فى مرتبة الحكم الظاهرى وهو رتبة الشك فتامل فيما ذكرناه من التحقيق فى التوفيق بين الحكم الواقعى ومؤدى الامارة والاصل فانه دقيق وبالتامل حقيق.

فى تاسيس الاصل فيما لا يعلم

ثالثها انّ الأصل فيما لا يعلم اعتباره بالخصوص شرعا ولا يحرز التعبّد به واقعا عدم حجيته جزما بمعنى عدم ترتّب الآثار المرغوبة من الحجّة عليه قطعا فانّها لا تكاد تترتّب الا على ما اتّصف بالحجّية فعلا ولا يكاد يكون الاتّصاف بها الّا اذا احرز التعبّد به وجعله طريقا متبعا

١٤٢

قد عرفت سابقا ان الحجية قابلة لتعلق الجعل بها وتكون منشأ للآثار من تنجز الواقع عند الاصابة والعذر عند المخالفة وكون موافقتها انقيادا او مخالفتها تجريا ومن المعلوم ان هذه الآثار مترتب على الحجة الواصلة الى المكلف لا مجرد جعلها واقعا اذ المؤاخذة والعقوبة متوقفة على وصول البيان من المولى وإلّا كانت عقوبة على الواقع المجهول فالحجة الواصلة هى المصححة للمؤاخذة والعقوبة وبها تتم البيان وينقطع بها العذر وبها يصح الاعتذار من العبد عند المولى لدى مخالفة الماتى به للواقع ويكون موافقتها انقياد او مخالفتها تجريا.

ومن المعلوم انه عند الشك فى حجية شيء وعدمها فلا اصل لنا حتى نعول عليه كاستصحاب عدم الحجية وامثاله حيث انه بمجرد الشك فى تحقق هذه الآثار نقطع بعدمها ولا تصل النوبة الى التشبث بذيل اصالة عدم الحجية اصلا لما قلنا من ان موضوعها صفة العلم وهو مرتفع قطعا بمجيء الشك.

ضرورة انّه بدونه لا يصحّ المؤاخذة على مخالفة التّكليف بمجرّد اصابته ولا يكون عذر الذى مخالفته مع عدمها ولا يكون مخالفته تجرّيا ولا يكون موافقته بما هى موافقة انقيادا وان كانت بما هى محتملة لموافقة الواقع كذلك اذا وقعت برجاء اصابته.

حاصله ان الحجية صفة اعتبارية عبارة عن صلاحية الشيء للاحتجاج به وهى مأخوذة من الحجة بمعنى الغلبة كما نص عليه اهل الميزان وكون الشيء بحيث يصح الاحتجاج به وكونه قاطعا للعذر

١٤٣

فمهما احرز الحجة فلا محالة يصير ذلك الطريق مما يصح الاحتجاج به به ويكون قاطعا للعذر ومع كونه حجة من قبل المولى لا يبقى عذر للعبد فى المخالفة ويصح للمولى مؤاخذته على مخالفة التكليف بمجرد اصابته ويكون مخالفته تجريا عند عدم الاصابة وموافقته انقيادا

واما بدون الاحراز لا يصح المؤاخذة على مخالفة التكليف بمجرد اصابته ولا يكون عذرا عند المخالفة بحيث لا يحسن عقابه ما لم يحرز العبد كون الطريق معتبرا ولا يكون مخالفته عند الخطاء تجريا وموافقته بما هى محتملة لموافقة الواقع انقيادا نعم اذا وقعت برجاء اصابته بمعنى انه قد وافقه لا بعنوان انه موافقته بل برجاء اصابته للواقع كان ذلك انقيادا ايضا.

فمع الشّك فى التعبّد به يقطع بعدم حجّيته وعدم ترتيب شيء من الآثار عليه للقطع بانتفاء الموضوع معه ولعمرى هذا واضح لا يحتاج الى مزيد بيان او اقامة برهان

فتحصل مما ذكرناه انه مع الشك فى التعبد بالظن نقطع بعدم حجيته وعدم ترتيب شيء من الآثار المرتبة على الحجية عليه للقطع بانتقاء الموضوع والموضوع كما اشير اليه هو ما اتصف بالحجية فعلا واحرز التعبد به شرعا وهو مرتفع قطعا بمجيء الشك.

وامّا صحّة الالتزام بما ادّى اليه من الأحكام وصحة نسبته اليه تعالى فليسا من آثارها ضرورة انّ حجّية الظّن عقلا على تقرير الحكومة فى حال الانسداد لا توجب صحّتهما.

١٤٤

قد عرفت ان العلم بالحجية يكون موضوعا لترتب الاثر لما تقدم آنفا من ان الاثر مترتب على الحجية الواصلة المعلومة للمكلف فمجرد الشك فى جعلها يحصل القطع بعدم الموضوع وبعدم ترتب الاثر ومع القطع بالعدم لا معنى لتعبد الشارع بعدم الحجية ظاهرا.

وبعبارة اخرى ان الشك فى جعلها يستتبع العلم بعدم الموضوع اعنى الحجة الواصلة المعلومة للمكلف لعدم الوصول وجدانا ومعه يحصل القطع بالعدم فحينئذ لا يتعقل التعبد بالعدم ظاهرا.

فالاصل عند المصنف هو الظن الذى لم يحرز التعبد به خلافا للشيخ ره حيث قد جعل مجرى الاصل هو الظن الذى لم يرد دليل على اعتباره واحرز عدم التعبد به فالاصل هل يقتضى جواز العمل بمثل هذا الظن ام لا فاختار اعلى الله مقامه حرمته واستدل له بالأدلة الاربعة.

ثم قال بعد كلام طويل ولكن حقيقة العمل بالظن هو الاستناد اليه فى العمل والالتزام بكون مؤداه حكم الله فى حقه وهو الذى يحرم بالادلة الاربعة.

وحاصل ايراد المصنف عليه هو انه لا ملازمة بين الحجية وجواز التعبد والالتزام بما أدت اليه من الاحكام لجواز التفكيك بينهما كما فى الظن على الانسداد والحكومة فانه حجة عقلا كالعلم فى حال الانفتاح مع انه لا يجوز التعبد والالتزام بكون المظنون حكم الله ولا يصح نسبته الى الله تعالى فلو كان الالتزام والنسبة من آثارها لما جاز التفكيك بين الموضوع وآثاره فعليه فالاستدلال على عدم الحجية بما دل على حرمة الالتزام وحرمة النسبة ليس فى محله.

فلو فرض صحّتهما شرعا مع الشّك فى التّعبّد به لما كان يجدى فى الحجّية

١٤٥

شيئا ما لم يترتّب عليه ما ذكر من آثارها ومعه لما كان يضرّ عدم صحّتهما اصلا كما اشرنا اليه آنفا.

محصل الكلام ان الالتزام والنسبة على فرض صحتهما مع الشك فى الحجية لم ينفع فى الحجية لما عرفت من انهما لم يكونا من آثار الحجية بل النافع فيها هو ترتب الآثار المرغوبة من المنجزية والعذرية ومع ترتب تلك الآثار لم يضر عدم صحتهما كما اشرنا اليه آنفا من جواز التفكيك بينهما كما فى الظن الانسداد على الحكومة.

فبيان عدم صحّة الالتزام مع الشّك فى التّعبّد وعدم جواز الاستناد اليه تعالى غير مرتبط بالمقام

فلا يكون الاستدلال عليه بمهمّ كما اتعب به شيخنا العلّامة اعلى الله مقامه نفسه الزكّية بما اطنب من النقض والابرام فراجعه بما علقّناه عليه وتامّل

فتحصل مما ذكرنا ان الاستدلال على عدم الحجية بما دل على حرمة الاستناد فى العمل والالتزام بكون مؤداه حكم الله فى حقه مع الشك فى التعبد غير مرتبط بالمقام اذ صحة الامرين مع الشك فى الحجية لم ينفع فيها كما عدم صحتهما لم يضر فيها والنافع والقادح هو ترتب الآثار المرغوبة وعدمها فما اتعب به شيخنا العلامة اعلى الله مقامه نفسه الزكية بما اطنب من النقض والابرام فى غير محله.

وقد انقدح بما ذكرنا انّ الصّواب فيما هو المهمّ فى الباب ما ذكرنا فى تقرير الاصل فتدبّر جيّدا

١٤٦

اى قد انقدح من جميع ما ذكرنا ان الصواب فى تقرير الاصل هو ما ذكرنا من ان الاصل مما شك فى التعبد به هو عدم الحجية.

اذا عرفت ذلك فما خرج موضوعا عن تحت هذا الاصل او قيل بخروجه نذكر فى ذيل فصول

اى اذا عرفت ان الاصل فيما شك اعتباره هو عدم الحجية فما خرج موضوعا عن تحت هذا الاصل او قيل بخروجه وان لم يكن مختارنا نذكر فى ذيل فصول.

فى حجيّة الظواهر

فصل لا شبهة فى لزوم اتباع ظاهر كلام الشّارع فى تعيين مراده فى الجملة لاستقرار طريقة العقلاء على اتباع الظّهورات فى تعيين المرادات مع القطع بعدم الرّدع عنها لوضوح عدم اختراع طريقة اخرى فى مقام الافادة لمرامه من كلامه كما هو واضح

اختلفوا فى ان الظهور حجة من باب الظن النوعى او الظن الشخصى والمراد من الظن النوعى هو كون اللفظ بنفسه لو خلى وطبعه مفيدا للظن بالمراد بمعنى كونه كاشفا عن المراد بالنظر الى نفس الوضع وان كان محفوفا بما يصلح ان يكون قرينة فان الاقتران به لا يكون مانعا عن الكشف الذاتى كالعام المتعقب بضمير يرجع الى بعض افراده وكالجمل المتعقبة بالاستثناء.

١٤٧

وقد يراد من الظن النوعى الظهور العرفى وهو كون الكلام بحيث يحمل عرفا على ذلك المعنى ولو بواسطة القرائن المكتنفة بالكلام والمحكى عن جماعة اشتراط الظن الشخصى فى حجية الظواهر كالمحقق الخوانساري والسيد فى المفاتيح وشريف العلماء والمحكى عن بعض اشتراط عدم قيام الظن الشخصى على خلاف الظاهر مطلقا او بشرط حصوله من امارة لم يقم دليل قطعى على عدم اعتبارها بالخصوص كالقياس.

وكيف كان لا شبهة فى لزوم اتباع ظاهر كلام الشارع فى تعيين مراده فى الجملة لامرين احدهما استقرار السيرة وطريقة العقلاء على اتباع الظهورات فى تعيين المرادات بمعنى انه قد استقر بناء العقلاء على اتباع الظهور من لدن آدم (ع) الى زماننا هذا وثانيهما عدم ردع الشارع عنها لوضوح عدم اختراعه طريقة اخرى فى مقام الافادة لمرامه من كلامه فحيث لم يخترع تقطع بانه لم يردع.

وبالجملة السيرة المستمرة الى زمن الشارع مع عدم ردعه عنها تدل على حجية الظهور واعتباره فى الجملة اتفاقا هذا مما لا اشكال فيه ولا شبهة تعتريه انما الاشكال والخلاف فى كيفية اعتباره بالكشف والظن النوعى كان هناك ظن شخصى غير معتبر على الخلاف ام لم يكن او فى خصوص صورة عدم الظن الشخصى على الخلاف مطلقا او بشرط حصوله من امارة لم يقم دليل قطعى على عدم اعتباره بالخصوص.

او باعتبار حصول الظن الشخصى من نفس اللفظ فلا يصح البناء

١٤٨

عليه مع عدم الظن المذكور اذا استند الى ما لم يقم دليل على اعتباره بالخصوص كالقياس مثلا او اذا استند الى وجود حجة شرعية فى المسألة كما لا يصح البناء عليه اذا حصل الظن الشخصى بالمراد من غير جهة نفس اللفظ كفهم الراوى او مذهبه او استناد المشهور او فهم الاكثر او غير ذلك.

او باعتبار الظن الشخصى مطلقا ولو من الامور الخارجية او باعتبار الظهور العرفى من اللفظ وهو كون الكلام بحيث يحمل عرفا على ذلك المعنى ولو بواسطة القرائن المكتنفة بالكلام او باعتبار انه بنفس وضع اللفظ من غير اعتبار كشف وظن فى ذلك وهو مختاره هنا واشار اليه بقوله.

والظّاهر انّ سيرتهم على اتباعها من غير تقييد بافادتها للظّن فعلا ولا بعدم الظّن كذلك على خلافها قطعا ضرورة انّه لا مجال عندهم للاعتذار عن مخالفتها بعدم افادتها للظّنّ بالوفاق ولا بوجود الظّن بالخلاف

والحاصل انه قد استقر بناء العقلاء على اتباع الظهور من غير اشتراط بحصول الظن بالوفاق ولا بعدم الظن بالخلاف بل الظن بالوفاق لا يزيد الظهور قوة كما لا ينقص الظن بالخلاف عنه رتبة

ويشهد لذلك سلوك الموالى مع عبيدهم فى اوامرهم ونواهيهم لوضوح انه لا مجال لاعتذار العبيد عن مخالفتها بعدم افادتها الظن بالوفاق او بوجود الظن بالخلاف فاذا امر المولى عبده باكرام الصلحاء ولم يحصل للعبد ظن بارادة المولى اكرام الجميع او ظن بكون المراد خصوص العلماء من الصلحاء فاكرامهم خاصة فلا ريب انه لا يسمع منه

١٤٩

ذلك وكان مستحقا للذم والتوبيخ.

كما انّ الظّاهر عدم اختصاص ذلك بمن قصد افهامه ولذا لا يسمع اعتذار من لا يقصد افهامه اذا خالف ما تضمّنه ظاهر كلام المولى من تكليف يعمّه او يخصّه ويصحّ به الاحتجاج لدى المخاصمة واللجاج كما تشهد به صحّة الشّهادة بالاقرار من كلّ من سمعه ولو قصد عدم افهامه فضلا عمّا اذا لم يكن بصدد افهامه

وهذا التفصيل منسوب الى المحقق القمى قده قال شيخنا العلامة اعلى الله مقامه واما التفصيل الآخر فهو الذى يظهر من صاحب القوانين قده فى آخر مسئلة حجية الكتاب وفى اول مسئلة الاجتهاد والتقليد وهو الفرق بين من قصد افهامه بالكلام.

فالظواهر حجة بالنسبة اليه من باب الظن الخاص سواء كان مخاطبا كما فى الخطابات الشفائية ام لا كما فى الناظر فى الكتب المصنفة لرجوع كل من ينظر اليها وبين من لم يقصد افهامه بالخطاب كامثالنا بالنسبة الى اخبار الائمة الصادرة عنهم فى مقام الجواب عن السؤال السائلين وبالنسبة الى الكتاب العزير بناء على عدم كون خطاباته موجهة الينا وعدم كونه من باب تأليف المصنفين فالظهور اللفظى ليس حجة حينئذ لنا الا من باب الظن المطلق الثابت حجيته عند انسداد باب العلم انتهى.

ثم ان الشيخ بعد ما وجه هذا التفصيل قال ما هذا لفظه.

ولكن الانصاف انه لا فرق فى العمل بالظهور اللفظى واصالة عدم الصارف عن الظاهر بين من قصد افهامه وبين من لم يقصد فان جميع ما دل من اجماع العلماء واهل اللسان على حجية الظواهر بالنسبة الى

١٥٠

من قصد افهامه جار فيمن لم يقصد لان اهل اللسان اذا نظروا الى كلام صادر من متكلم الى مخاطب يحكمون بارادة ظاهره منه اذا لم يجدوا قرينة صارفة بعد الفحص فى مظان وجودها ولا يفرقون فى استخراج مرادات المتكلمين بين كونهم مقصودين بالخطاب وعدمه.

فاذا وقع المكتوب الموجه من شخص الى شخص بيد ثالث فلا يتأمل فى استخراج مرادات المتكلم من الخطابات الموجه الى المكتوب اليه فاذا فرضنا اشتراك هذا الثالث مع المكتوب اليه فيما اراد المولى منهم فلا يجوز له الاعتذار فى ترك الامتثال بعدم الاطلاع على مراد المولى وهذا واضح لمن راجع الامثلة العرفية هذا حال اهل اللسان فى الكلمات الواردة اليهم.

واما العلماء فلا خلاف بينهم فى الرجوع الى اصالة الحقيقة فى الالفاظ المجردة عن القرائن الموجهة من متكلم الى مخاطب سواء كان ذلك فى الاحكام الجزئية كالوصايا الصادرة عن الموصى المعين الى شخص معين ثم مست الحاجة الى العمل بها مع فقد الموصى اليه فان العلماء لا يتأملون فى الافتاء بوجوب العمل بظاهر ذلك الكلام الموجه الى الموصى اليه المفقود

وكذا فى الاقارير ام كان فى الاحكام الكلية كالاخبار الصادرة عن الائمة مع كون المقصود منها تفهيم مخاطبهم لا غير فانه لا يتأمل احد من العلماء فى استفادة الاحكام من ظواهرها معتذرا بعدم الدليل على حجية اصالة عدم القرينة بالنسبة الى غير المخاطب او من قصد افهامه انتهى موضع الحاجة من كلام رفع مقامه

١٥١

وبالجملة ان الظاهر يكون حجة ويجب اتباعه من غير تفصيل بين ما كان موجبا للظن الفعلى وبين ما قام على خلافه ظن غير معتبر وبين من قصد افهامه وبين من لم يقصد.

ولا فرق فى ذلك بين الكتاب المبين واحاديث سيّد المرسلين والائمة الطاهرين وان ذهب بعض الاصحاب الى عدم حجّية ظاهر الكتاب

والوجه فى نفى هذا التفصيل هو الوجه فى نفى ساير التفاصيل التى ذكرناه آنفا وهو استقرار بناء العقلاء على التمسك بالظهورات فى جميع هذه الموارد وان ذهب بعض الاصحاب الى عدم حجية ظاهر الكتاب كما هو المحكى عن الاخباريين منا.

حيث انهم قد ذهبوا الى عدم حجيته بدون التفسير من اهل البيت عليهم‌السلام خلاف ما ذهب اليه الاصوليون منا حيث انهم لم يفرقوا بين حجيته وبين سائر الظواهر.

وقد ذكر المنصف للاخبارين وجوها خمسة الاول الاخبار وهى بين ما يدل على اختصاص فهم القرآن بمن خوطب به وبين ما يدل على النهى عن تفسير القرآن بالرأى واشار المصنف الى الفرقة الاولى من الاخبار بقوله.

امّا بدعوى اختصاص فهم القرآن ومعرفته باهله ومن خوطب به كما يشهد به ما ورد فى ردع ابى حنيفة وقتادة عن الفتوى به

وحاصل هذا الوجه ان القرآن العزيز من سنخ المرموزات التى

١٥٢

قصد بها افهام من خوطب بها وهم الائمة عليهم‌السلام ويدل عليه ما فى مرسلة شبيب بن انس عن ابى عبد الله (ع) انه قال لابى حنيفة انت فقيه اهل العراق قال نعم قال (ع) فبم تفتيهم قال بكتاب الله وسنة نبيه قال قال يا أبا حنيفة تعرف كتاب الله حق معرفته وتعرف الناسخ والمنسوخ قال نعم قال يا أبا حنيفة لقد ادعيت علما ويلك ما جعل الله ذلك الا عند اهل الكتاب الذين انزل عليهم ويلك لا وهو الا عند الخاص من ذرية نبينا محمد (ص) وما ورثك الله من كتابه حرفا.

وفى رواية زيد الشحام قال دخل قتادة ابن دعامة على ابن جعفر (ع) فقال يا قتادة انت فقيه اهل البصرة فقال هكذا يزعمون فقال ابو جعفر (ع) بلغنى انك تفسر القرآن فقال له قتادة نعم فقال له ابو جعفر «ع» فان كنت تفسره يعلم فانت انت وانا اسألك الى ان قال ابو جعفر «ع» ويحك يا قتادة انما يعرف القرآن من خوطب به وفى رواية اخرى وقد جعل للقرآن ولعلم القرآن اهلا وهم اهل الذكر الذين امر الله هذه الامة بسؤالهم.

او بدعوى انّه لاجل احتوائه على مضامين شامخة ومطالب غامضة عالية لا يكاد تصل اليها ايدى افكار اولى الانظار الغير الراسخين العالمين بتاويله كيف ولا يكاد يصل الى فهم كلمات الاوائل الّا الاوحدى من الافاضل فما ظنّك بكلامه تعالى مع اشتماله على علم ما كان وما يكون وحكم كلّ شيء.

هذا هو الوجه الثانى من الوجوه الخمسة التى ذكره المصنف للاخباريين ولعل هذا الوجه من الامين الأسترآباديّ فى محكى فوائده

١٥٣

قال ان القرآن فى الاكثر ورد على وجه التعمية بالنسبة الى اذهان الرعية انتهى.

ووجه التعمية كونه محتويا على مطالب غامضة لا يكاد يصل اليها ايدى اولى الاذهان المتعارفة من الرعية والسر فى غموضها ان للقرآن ظاهرا وليس فى ظهوره قصور لعدم اشتماله على ما ينافى البلاغة من التعقيد والغرابة ونحوها وله بطن لا يصل اليه الافهام والنبى وخلفائه مرآة مجلوة شطر الحق تنعكس فيها الحقائق ولا بد للرعية من الاقتباس عن مشكاتهم.

او بدعوى شمول المتشابه الممنوع عن اتباعه للظاهر لا اقلّ من احتمال شموله لتشابه المتشابه واجماله

هذا هو الوجه الثالث من الوجوه الخمسة وقد تشبث بذلك السيد الصدر فى شرح الوافية.

وقد ذكر الشيخ (ره) ملخص كلامه فى فرائده قال ما هذا لفظه الثانية ان المتشابه كما يكون فى اصل اللغة كذلك يكون بحسب الاصطلاح مثل ان يقول احدنا استعمل العمومات وكثيرا ما اريد الخصوص من غير قرينة وربما اخاطب احدا واريد غيره ونحو ذلك فحينئذ لا يجوز لنا القطع بمراده ولا يحصل لنا الظن به والقرآن من هذا القبيل لانه نزل على اصطلاح خاص

لا اقول على وضع جديد بل اعم من ان يكون ذلك او يكون فيه مجازات لا يعرفها العرب ومع ذلك قد وجدت فيه كلمات لا يعلم

١٥٤

المراد منها كالمقطعات ثم قال قال سبحانه (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) الآية ذم على اتباع المتشابه ولم يبين لهم المتشابه ما هى وكم هى بل لم يبين لهم المراد من هذا اللفظ وجعل البيان موكولا الى خلفائه والنبى نهى الناس عن التفسير بالآراء وجعلوا الاصل عدم جواز العمل بالظن الا ما اخرجه الدليل اذا تمهده المقدمتان فنقول مقتضى المقدمة الاولى العمل بالظواهر ومقتضى الثانية عدم العمل لان ما صار متشابها لا يحصل الظن بالمراد منه وما بقى ظهوره مندرج فى الاصل المذكور فنطالب بدليل جواز العمل لان الاصل الثابت عند الخاصة هو عدم جواز العمل بالظن الا ما اخرجه الدليل.

لا يقال ان الظاهر من المحكم ووجوب العمل بالمحكم اجماعى لانا نمتنع الصغرى اذا لمعلوم عندنا مساواة المحكم للنص واما شموله للظاهر فلا الى ان قال لا يقال ان ما ذكرتم لو تم لدل على عدم جواز العمل بظواهر الاخبار ايضا لما فيها من الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه والعام والخاص والمطلق والمقيد.

لانا نقول انا لو خلينا وانفسنا لعملنا بظواهر الكتاب والسنة جميعا مع عدم نصب القرينة على خلافها ولكن منعنا من ذلك فى القرآن للمنع من اتباع المتشابه وعدم بيان حقيقته الى ان قال واما الاخبار فقد سبق ان اصحاب الائمة كانوا عاملين باخبار واحد من غير فحص عن مخصص او معارض ناسخ او مقيد ولو لا هذا لكنا فى العمل بظواهر الاخبار ايضا من المتوفقين انتهى والظاهر من عبارة السيد انه لم يدع شمول المتشابه الممنوع للظاهر وانما احتمل لتشابه المتشابه.

١٥٥

او بدعوى انّه وان لم يكن منه ذاتا الّا انّه صار منه عرضا للعلم الاجمالى بطر والتخصيص والتّقييد والتّجوز فى غير واحد من ظواهره كما هو الظّاهر

هذا رابع الوجوه الخمسة التى ذكرها المصنف للاخباريين حاصله ان ظاهر الكتاب وان لم يكن من المتشابهات ذاتا إلّا انه صار من المتشابهات عرضا من جهة طرو المخصصات والمقيدات والتجوزات فظواهر الكتاب تارة داخلة فى المتشابه ذاتا كما ذهب اليه السيد الصدر واخرى داخلة فيها عرضا لاجل العلم الاجمالى الموجب للاجمال الموجب لدخول الظواهر فى المتشابه.

او بدعوى شمول الاخبار النّاهية عن تفسير القرآن بالرّاى لحمل الكلام الظّاهر فى معنى على ارادة هذا المعنى

هذا خامس الوجوه الخمسة التى ذكره المصنف للاخباريين وهو الاخبار الناهية عن التفسير بالرأى وهى كثيرة مثل ما رواه فى الوسائل فى القضاء فى باب عدم جواز القضاء والحكم بالرأى عن الرضا (ع) عن ابيه عن آبائه عن امير المؤمنين (ع) قال قال رسول الله (ص) ما آمن بى من فسر برأيه كلامى الحديث وما رواه فى الباب ايضا عن محمد بن مسعود العياشى فى تفسيره عن عمار بن موسى عن ابى عبد الله (ع) قال سأل عن الحكومة فقال من حكم برأيه بين اثنين فقد كفر ومن فسر برأيه آية من كتاب الله فقد كفر.

وما رواه فى القضاء ايضا فى باب عدم جواز الاستنباط الاحكام

١٥٦

النظرية من القرآن عن عبد الرحمن بن سمرة قال قال رسول الله (ص) لعن الله المجادلين فى دين الله الى ان قال ومن فسر القرآن برأيه فقد افترى على الله الكذب.

وما ذكره الشيخ فى الرسائل قال وعن ابى عبد الله (ع) من فسر القرآن برأيه ان اصاب لم يؤجر وان أخطأ سقط ابعد من السماء وما فى النبوى العامى من فسر القرآن برأيه فاصاب فقد أخطأ وعن مجمع ـ البيان انه قد صح عن النبى «ص» وعن الائمة القائمين مقامه ان تفسير ـ القرآن لا يجوز إلّا بالاثر الصحيح والنص الصريح قال وقوله «ع» ليس شيء ابعد من عقول الرجال من تفسير القرآن ان الآية يكون اولها فى شيء وآخرها فى شيء.

ووكلام متصل ينصرف الى وجوه انتهى الى غير ذلك من الاخبار المشتملة على النهى عن تفسير القرآن بالرأى ربما تبلغ حد التواتر ولازم شمول التفسير بالرأى للحمل على الظاهر هو ان النهى عنه كاشف عن ان مقصود الشارع ليس تفهيم مقاصده بنفس كلامه وليس من سنخ المحاورات العرفية.

ولا يخفى انّ النزاع يختلف صغرويّا وكبرويّا بحسب الوجوه فبحسب غير الوجه الاخير والثّالث يكون صغرويّا وامّا بحسبهما فالظّاهر انّه كبروىّ ويكون المنع عن الظّاهر امّا لانّه من المتشابه قطعا او احتمالا او لكون حمل الظّاهر على ظاهره من التفسير بالرّأي وكلّ هذه الدّعاوى فاسدة

حاصله ان النزاع بحسب الوجه الاول وهو ما دل على اختصاص

١٥٧

فهم القرآن ومعرفته باهله ومن خوطب به والوجه الثانى وهو احتواء الكتاب على مضامين شامخة ومطالب غامضة عالية يكون النزاع صغرويا لان معنى اختصاص فهم القرآن ومعرفته باهله ومن خوطب به ومعنى احتوائه على مضامين شامخة ومطالب عالية غامضة ان غيرهم لا يفهمون شيئا من الكتاب.

لوضوح ان احتواء الكتاب على مضامين شامخة عالية مانع عن فهم مقاصده فهناك تخيل الظهور فيما يتراءى منه فى بادئ الرأى ولا ظهور حقيقة فيما يتخيل من المعانى كما هو قضية اختصاص فهم القرآن باهله فهم ينكرون الظهور للقرآن ونحن ندعى وجوده وبحسب الوجه الرابع

وهو العلم الاجمالى بطر والمخصصات والمقيدات والتجوزات والوجه الخامس وهو كون حمل اللفظ على معناه الظاهر فيه داخلا فى التفسير فى الرأى يكون النزاع كبرويا بمعنى انهم يعترفون بتحقق الظهور لقرآن المجيد بحيث لو خلينا وانفسنا ولم يرد المنع عن العمل به لكان يجب علينا العمل على طبقه وينكرون حجيته لورود المنع عن العمل بظواهر الكتاب لاجل كونها متشابهات او لاجل كون اللفظ على معناه الظاهر فيه داخلا فى التفسير بالرأى ولكن نحن ندعى حجية ظواهر الكتاب كحجية سابر الظواهر فيكون النزاع كبرويا وعلى كل حال فجميع هذه الدعاوى فاسدة.

امّا الاولى فانّما المراد ممّا دلّ على اختصاص فهم القرآن ومعرفته باهله اختصاص فهمه بتمامه بمتشابهاته ومحكماته بداهة انّ فيه ما لا يختصّ به كما لا يخفى.

١٥٨

حاصله ان المراد مما دل على اختصاص فهم القرآن ومعرفته باهله اختصاص فهمه بتمامه بمتشابهاته ومحكماته وذلك لبداهة ان فى القرآن ما لا يختص علمه بهم صلوات الله عليهم كيف وقد وقع فى غير واحد من الروايات الارجاع الى الكتاب والاستدلال بغير واحد من آياته قد ذكرها الشيخ ره فى الرسائل مثل قوله (ع) فى رواية عبد الاعلى فى حكم حكم من عثر فوقع ظفره فجعل على اصبعه مرارة ان هذا وشبهه يعرف من كتاب الله ما جعل عليكم فى الدين من حرج وقوله (ع) فى مقام نهى الدوانقى عن قبول خبر التمام انه فاسق وقال الله ان جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا.

وقوله (ع) لابنه اسماعيل ان الله عزوجل يقول يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين فاذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم الى غير ذلك من الارجاعات والاستدلالات التى ذكرها الشيخ ره فلو اختص فهم القرآن ومعرفته باهله ومن خوطب به ولم يكن لغير من خوطب به حظ من فهم الكتاب لم يكن وجه لارجاعهم الى الكتاب ولا لاستدلالهم به.

وردع ابى حنيفة وقتادة عن الفتوى به انّما هو لاجل الاستقلال فى الفتوى بالرّجوع اليه من دون مراجعة اهله لا عن الاستدلال بظاهره مطلقا ولو مع الرّجوع الى رواياتهم والفحص عمّا ينافيه والفتوى به مع الياس عن الظّفر به كيف وقد وقع فى غير واحد من الروايات الارجاع الى الكتاب والاستدلال بغير واحد عن آياته.

ولقائل ان يقول ان فهم القرآن لو لم يختص باهله ومن خوطب به

١٥٩

فلم قد ردع الامام (ع) أبا حنيفة وقتاد عن الفتوى به قال المصنف فى مقام دفعه وردع ابى حنيفة وقتادة عن الفتوى به انما هو لاجل استقلالهما بالفتوى من دون مراجعة الى الروايات الواردة عن اهل بيت العصمة فى تفسيره لا عن الاستدلال بظاهر الكتاب بعد المراجعة الى الائمة (ع) ورواياتهم وعدم الظفر فيها بما ينافيه كيف.

وقد وقع كثير من الروايات الارجاع الى الكتاب والاستدلال بغير واحد من آياته فردع ابى حنيفة وقتادة عنه مما لا يدل على عدم جواز الاستدلال بظاهره بعد المراجعة الى رواياتهم والفحص عما ينافيه بحد اليأس.

وامّا الثانية فلانّ احتوائه على المضامين العالية الغامضة لا يمنع عن فهم ظواهره المتضمّنة للأحكام وحجيّتها كما هو محلّ الكلام

حاصلة ان احتواء القرآن على المضامين العالية الغامضة مما لا يمنع عن فهم الظواهر المتضمنة للاحكام وحجيتها والعمل بها مما لا غموض فيها تعرفها اهل العرف واللسان إلّا اذا ادعى الخصم ان مضامين القرآن كلها غامضة عالية لا تصل اليها افهام العرف اصلا وهو كما ترى

وامّا الثّالثة فللمنع عن كون الظّاهر من المتشابه فانّ الظّاهر كون المتشابه هو خصوص المجمل وليس بمتشابه ومجمل

حاصله ان الظاهر ليس داخلا فى المتشابه فان الظاهر ان المتشابه هو خصوص المجمل وليس الظاهر بمتشابه ومجمل فليست آيات الاحكام

١٦٠