التّفسير الحديث - ج ٤

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٤

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٧٥

شيء من التعليق لأن كتب المفسرين مستفيضة به فنقول : إن كلمة المسيح هي نفس كلمة (مسيا) العبرانية والمقصود بها رجل يمسح الرئيس الديني بالدهن على رأسه ويملك على اليهود وفقا لتقاليدهم.

وفي سفري صموئيل الأول والثاني في الطبعة البروتستانتية وسفري الملوك الأول والثاني في الطبعة الكاثوليكية خبر مسح أول ملك بالدهن وهو طالوت حيث طلب بنو إسرائيل من كاهنهم الأكبر أن يجعل لهم ملكا فاختار لهم طالوت بأمر الله ومسح رأسه بالزيت وقال له : إن الربّ مسحك قائدا على ميراثه (١) وصار يدعى مسيح الرب (٢). وكان هذا شأن داود وملوك بني إسرائيل من بعدهما. واليهود يعتقدون استنادا إلى ما في أيديهم من أسفار وبخاصة في سفر نبوءة أشعيا من بشارات بظهور مسيح للربّ يملك عليهم ويصلح حالهم ويقوم معوجهم ويعيد لهم مجدهم. ولما ظهر عيسى عليه‌السلام ظن بعضهم أنه المسيح المنتظر (٣) فلما رأوه يخالف منهجهم ويهاجم رجال الدين المنحرفين عن الشريعة ويدعو جميع الناس إلى الله عزوجل بدون اختصاص لبني إسرائيل ويبشر بملكوت السموات دون ملكوت الأرض كذبوه وناوأوه وصاروا يلقبونه بمسيح الربّ وملك اليهود استهزاء وسخرية (٤). ثم ظلوا ينتظرون مسيحا ، وقد ظهر عدة مسحاء من اليهود بعد عيسى ولكنهم جحدوهم ونعتوهم بالكذابين أيضا. وكلمة الدجال وردت في الأحاديث النبوية المروية ، ومعنى الكلمة : المضلل الكذاب. فمن الطبيعي أن يكون هذا الوصف غير يهودي لأنه لا يعقل أن يسمي اليهود مسيحهم المنتظر به كما ذكرت الرواية التي رواها المفسرون وأوردناها قبل. والمتبادر أنه نعت نصراني على اعتبار أن المسيح الصادق قد ظهر وهو عيسى وأن ما ينتظره اليهود مسيح كذاب ودجال. وأن هذا النعت مقابلة مسيحية لما كان ينعت به اليهود عيسى ابن مريم عليه‌السلام

__________________

(١) انظر الإصحاحين ٩ و ١٠ من صموئيل الأول.

(٢) انظر الإصحاح ٢٤ من السفر نفسه.

(٣) انظر مثلا الإصحاح ١٦ من إنجيل متى.

(٤) انظر مثلا الإصحاح ٢٧ من إنجيل متى والإصحاح ١٥ من إنجيل مرقس.

٣٨١

من نعوت بذيئة حيث كان العداء مشتدا بين اليهود والنصارى. وكلمة (الدجال) عربية فصحى وردت كما قلنا في الأحاديث النبوية. ونرجح أنها كانت مستعملة قبل البعثة في نعت المسيح الذي ينتظره اليهود من قبل النصارى ، بل نكاد أن نجزم بذلك. وفي الإصحاح الثاني من سفر رسالة القديس يوحنا الأولى وهذا السفر من ملحقات العهد الجديد ذكر للمسيح الدجال بصيغة تؤيد ذلك على ما سوف نورده بعد قليل. ومن المحتمل أن يكون نصارى العرب الصرحاء الفصحاء في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بلاد الشام والعراق أو جزيرة العرب قد استعملوها كذلك. كما أن من المحتمل أن يكونوا ترجموها من لغة النصارى غير العرب الصرحاء من سريانيين وفينقيين وكلدانيين وأقباط وأشوريين أو روم.

ولقد قلنا إن أحاديث نبوية عديدة مختلفة الرتب والنصوص قد رويت في المسيح الدجال وصفته وظهوره وفتنته ونزول عيسى عليه‌السلام من السماء في النهاية وتمكنه من قتله. ومن هذه الأحاديث ما رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود. منها حديث رواه مسلم عن أنس بن مالك جاء فيه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يتبع الدجال من يهود أصفهان سبعون ألفا عليهم الطيالسة». ومنها حديث رواه مسلم والترمذي عن أبي بكر جاء فيه : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الدجال يخرج من أرض بالمشرق يقال لها خراسان يتبعه أقوام كأنّ وجوههم المجانّ المطرقة». ومنها حديث عن ابن عمر رواه البخاري ومسلم والترمذي جاء فيه : «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام في الناس فأثنى على الله بما هو أهله ثمّ ذكر الدجال فقال : إنّي لأنذركموه وما من نبيّ إلّا وقد أنذر قومه ، ولكنّي سأقول لكم فيه قولا لم يقله نبيّ لقومه ، إنّه أعور وإنّ الله ليس بأعور». ومنها حديث رواه البخاري ومسلم عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء فيه : «ليس من بلد إلّا سيطؤه الدجّال إلّا مكة والمدينة ، وليس نقب من أنقابها إلّا عليه الملائكة صافّين تحرسها ، فينزل بالسبخة فترجف المدينة ثلاث رجفات فيخرج إليه منها كلّ كافر ومنافق». ومنها حديث عن عبد الله بن عمر رواه مسلم جاء فيه : «أنّ رسول الله قال : يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين لا أدري أربعين يوما أو أربعين شهرا أو أربعين عاما فيبعث الله عيسى ابن مريم عليه

٣٨٢

السلام كأنّه عروة بن مسعود فيطلبه فيهلكه ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة» (١).

ومنها حديث رواه أبو داود والحاكم والإمام أحمد عن أبي هريرة جاء فيه : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ليس بيني وبين عيسى عليه‌السلام نبيّ. وإنّه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه. رجل مربوع إلى الحمرة والبياض بين ممصّرتين وكأنّ رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل فيقاتل الناس على الإسلام فيدقّ الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويهلك الله في زمانه الملل كلّها إلّا الإسلام ويهلك المسيح الدجال ثم تقع الأمنة على الأرض حتى ترتع الأسد مع الإبل والنمار مع البقر والذئاب مع الغنم وتلعب الصبيان بالحيّات ، فيمكث عيسى في الأرض أربعين سنة ثم يتوفّى فيصلّي عليه المسلمون» (٢).

ومنها حديث رواه الشيخان وأحمد عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «والذي نفسي بيده ليوشكنّ أن ينزل فيكم ابن مريم عليه‌السلام حكما مقسطا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها» ثم قال أبو هريرة : واقرأوا إن شئتم : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (١٥٩)) (٣) [سورة النساء : ١٥٩].

ومنها حديث رواه الشيخان والنسائي جاء فيه : «كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو اللهمّ إني أعوذ بك من عذاب القبر ومن عذاب النار ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجّال» (٤). ومنها حديث طويل رواه مسلم عن فاطمة بنت قيس أخبر فيه

__________________

(١) انظر التاج ج ٥ ص ٣١٣ ـ ٣٢٧ وفي هذه الصحف أحاديث أخرى اكتفينا منها بما أوردناه. وجملة (إن الله ليس بأعور) تتضمن كون الدجال سيدعي الألوهية.

(٢) التاج ج ٥ ص ٣٢٥ ـ ٣٢٦.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) التاج ج ١ ص ٣٤٠.

٣٨٣

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس بحديث حدثه به تميم الداري عن مسيح الدجال فقال له إنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلا من لخم وجذام. فلعب بهم الموج شهرا في البحر ثم أرفأوا إلى جزيرة في البحر حين مغرب الشمس فجلسوا في أقرب السفينة فدخلوا الجزيرة فلقيتهم دابة أهلب كثير الشعر لا يدرون ما قبله من دبره من كثرة الشعر فقالوا : ويلك ما أنت فقالت : أنا الجسّاسة قالوا : وما الجسّاسة قالت : أيّها القوم انطلقوا إلى هذا الرجل في الدير فإنّه إلى خبركم بالأشواق فخافوا أن تكون شيطانة وانطلقوا سريعا حتى دخلوا الدير فإذا فيه أعظم إنسان رأوه خلقا وأشدّه وثاقا مجموعة يداه إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد فسألهم عن نخل بيسان هل يثمر وعن ماء بحيرة طبريا هل لا يزال فيها ماء وعن عين زغر هل فيها ماء وهل يزرع أهلها فأجابوه نعم. فسألهم عن نبيّ الأميين ما فعل قالوا : قد خرج من مكة ونزل يثرب قال : أقاتله العرب قالوا : نعم قال : كيف صنع بهم فأخبروه أنه ظهر عليهم وأطاعوه فقال لهم : إني مخبركم إني أنا المسيح وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج فأخرج فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلّا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة فهما محرّمتان عليّ ، كلما أردت أن أدخل واحدة استقبلني ملك بيده السيف صلتا يصدّني عنها وأنّ على كل نقب منها ملائكة يحرسونها قالت الراوية قال رسول الله : وطعن بمخصرة في المنبر هذه طيبة هذه طيبة هذه طيبة يعني المدينة ألا هل كنت حدثتكم ذلك فقال الناس : نعم قال : فإنه أعجبني حديث تميم أنه وافق الذي كنت أحدثكم عنه وعن المدينة ومكة» (١).

وفي رواية الترمذي من هذا الحديث عن تميم الداري : «أنّ أناسا من أهل فلسطين ركبوا سفينة في البحر فجالت بهم حتى قذفتهم في جزيرة من جزائر البحر فإذا هم بدابة لبّاسة ناشرة لشعرها فقالوا : ما أنت؟ قالت : أنا الجسّاسة قالوا : فأخبرينا قالت : لا أخبركم ولا أستخبركم ولكن ائتوا أقصى القرية فإنّ ثمّ من يخبركم ويستخبركم. فأتينا أقصى القرية فإذا رجل موثق بسلسلة فقال : أخبروني عن عين زغر قلنا ملأى تدفّق. قال : أخبروني عن البحيرة؟ قلنا : ملأى تدفّق.

__________________

(١) التاج ج ٥ ص ٣١٣ ـ ٣١٥.

٣٨٤

قال : أخبروني عن نخل بيسان الذي بين الأردن وفلسطين هل أطعم؟ قلنا : نعم. قال : أخبروني عن النبيّ هل بعث؟ قلنا : نعم. قال : أخبروني كيف الناس إليه؟ قلنا : سراع. قال : فنزا نزوة حتى كاد قلنا فما أنت؟ قال : إنه الدجّال وإنه يدخل الأمصار كلّها إلا طيبة وطيبة المدينة» (١). وحديث رواه الشيخان عن المغيرة قال : «ما سأل أحد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الدجال ما سألته وإنه قال لي : ما يضرّك منه؟ قلت : لأنهم يقولون إن معه جبل خبز ونهر ماء ، قال : هو أهون على الله من ذلك» (٢). وحديث رواه الشيخان والترمذي عن حذيفة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لأنا أعلم بما مع الدجّال منه معه نهران يجريان أحدهما رأي العين ماء أبيض والآخر رأي العين نار تأجّج ، كلما أدركن أحدا فليأت النهر الذي يراه نارا وليغمض ثم ليطأطىء رأسه فيشرب منه فإنه ماء بارد ، وإن الدجّال ممسوح العين عليها ظفرة غليظة مكتوب بين عينيه كافر ، يقرأه كلّ مؤمن كاتب وغير كاتب» (٣). وحديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن النواس بن سمعان قال : «ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الدجال ذات غداة فخفّض فيه ورفع حتى ظننّاه في طائفة النخل ، فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا فقال : ما شأنكم؟ قلنا : يا رسول الله ذكرت الدجال غداة فخفّضت فيه ورفّعت حتى ظننّاه في طائفة النخل. فقال : غير الدجال أخوفني عليكم إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم وإن يخرج ولست فيكم فكل امرئ حجيج نفسه والله خليفتي على كلّ مسلم ، إنه شاب قطط ، عينه طافئة كأنّي أشبّهه بعبد العزّى بن قطن. فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف إنه خارج خلّة بين الشام والعراق فعاث يمينا وعاث شمالا ، يا عباد الله فاثبتوا. قلنا : يا رسول الله وما لبثه في الأرض؟ قال : أربعون يوما يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم. قلنا : يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال : لا ، اقدروا له قدره. قلنا : يا رسول الله وما إسراعه في الأرض؟ قال : كالغيث استدبرته الريح. فيأتي

__________________

(١) التاج ج ٥ ص ٣١٦.

(٢) المصدر نفسه ص ٣١٨.

(٣) المصدر نفسه.

٣٨٥

على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرا وأسبغه ضروعا وأمدّه خواصر ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردّون عليه قوله فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم ، ويمرّ بالخربة فيقول أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل. ثم يدعو رجلا ممتلئا شبابا فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ثم يدعوه فيقبل ويتهلّل وجهه يضحك. فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح ابن مريم عليه‌السلام فينزل عند المنارة البيضاء شرقيّ دمشق بين مهرودتين (حلتين) واضعا كفّه على أجنحة ملكين. إذا طأطأ رأسه قطر ، وإذا رفعه تحدّر منه جمان كاللؤلؤ ، فلا يحلّ لكافر يجد ريح نفسه إلّا مات ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه. فيطلبه حتى يدركه بباب لدّ فيقتله. ثم يأتي عيسى ابن مريم قوم قد عصمهم الله منه فيمسح عن وجوههم ويحدّثهم بدرجاتهم في الجنة ، فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى إنّي قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد بقتالهم ، فحرّز عبادي إلى الطور. ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كلّ حدب ينسلون فيمرّ أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ويمرّ آخرهم فيقولون لقد كان بهذه مرّة ماء ويحصر نبيّ الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مائة دينار لأحدكم اليوم فيرغب نبيّ الله عيسى وأصحابه فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة. ثم يهبط نبيّ الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلّا ملأه زهمهم ونتنهم فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل الله طيرا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله ثمّ يرسل الله مطرا لا يكنّ منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلقة. ثمّ يقال للأرض أنبتي ثمرتك وردّي بركتك ، فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلّون بعجفها ويبارك في الرّسل حتى أن اللّقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس واللّقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحا طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كلّ مؤمن وكلّ مسلم ويبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة» (١).

__________________

(١) التاج ج ٥ ص ٣٢١ ـ ٣٢٤.

٣٨٦

وهناك أحاديث أخرى يرويها البغوي وهو من أئمة الحديث في سياق تفسير هذه الآية ، منها حديث عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يأتي المسيح الدجّال من قبل المشرق وهمته المدينة حتى ينزل دير أحد ثم تصرف الملائكة وجهه قبل الشام وهناك يهلك» ، وحديث عن أبي سعيد الخدري قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يتبع الدجّال من أمتي سبعون ألفا عليهم التيجان» وعن أبي أمامة : «مع الدجّال يومئذ سبعون ألف يهودي كلّهم ذو تاج وسيف محلى».

وحديث عن أسماء بنت يزيد الأنصارية قالت : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بيتي فذكر الدجّال فقال إن بين يديه ثلاث سنين تمسك السماء فيها في أول سنة ثلث قطرها والأرض ثلث نباتها والثانية تمسك السماء ثلثي قطرها والأرض ثلثي نباتها والثالثة تمسك السماء قطرها كلّه والأرض نباتها كلّه فلا يبقى ذات ظلف ولا ذات ضرس من البهائم إلّا هلك وإنّ من أشدّ فتنته أنه يأتي الأعرابي فيقول أرأيت إن أحييت لك إبلك ألست تعلم أني ربّك؟ فيقول بلى فيتمثل له الشيطان نحو إبله كأحسن ما تكون ضروعا وأعظم سناما ، ويأتي الرجل قد مات أخوه ومات أبوه فيقول : أرأيت إن أحييت لك أباك وأخاك ألست تعلم أني ربك؟ فيقول : بلى ، فيتمثل له الشيطان نحو أبيه ونحو أخيه. قالت : ثم خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحاجته ثم رجع والقوم في اهتمام وغمّ ممّا حدثهم قالت : فأخذ بلحمتي الباب فقال : مهيم أسماء فقلت يا رسول الله لقد خلعت أفئدتنا بذكر الدجّال ، قال : إن يخرج وأنا حيّ فأنا حجيجه وإلّا فإن ربي خليفتي على كل مؤمن. قالت أسماء : فقلت يا رسول الله والله إنا لنعجن عجينا فما نخبره حتى نجوع فكيف بالمؤمنين يومئذ؟ قال : يجزئهم ما يجزىء أهل السماء من التسبيح والتقديس».

فتعليقا على ذلك نقول : إن من واجب المسلم أن يؤمن بما يرد في القرآن وبما يثبت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أخبار غيبية متصلة بالدنيا والآخرة وأنها في نطاق قدرة الله تعالى ويفوض الأمر فيما لم يدرك عقله مداها إلى الله تعالى الذي لا بد من أن يكون له فيها حكمة وإن لم تظهر للناس أو تدركها عقولهم. ومن جملة

٣٨٧

ذلك أن يؤمن بما جاء في الأحاديث التي أوردناها إذا صحت ويؤمن بأنها قد استهدفت عظة أو عبرة أو تنبيها أو إنذارا مما يتصل بالرسالة النبوية ، وهذه نقطة مهمة جدا في الموضوع. والموضوع بعد ليس من الأمور التي تدخل في صميم الدين ومبادئ الإسلام المحكمة ، فلا طائل من التوقف عنده والتزيد والتخمين فيه.

ومع ذلك فهناك ما يسوّغ القول إن ما جاء في الأحاديث من خبر ظهور الدجّال ونزول عيسى عليه‌السلام وقتله إياه كان مما يتداوله أهل عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيئته وبخاصة النصارى بسبب ما كان من عداء وتناحر وتناظر بينهم وبين اليهود. وليست أخبارا غيبية بحتة ، فكان ذلك مناسبة للأحاديث التي هدفت إلى العظة والتحذير والإنذار والتنبيه والعبرة فيما هدفت إليه.

ولقد كان من جملة الأحاديث حديث رواه مسلم وأبو داود والحاكم عن الدجال حدث به تميم الداري النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد جاء في الحديث أن تميما هذا كان نصرانيا يقيم في فلسطين حيث قد يكون في هذا تأييد لذلك الاحتمال. وفي الإصحاح الثاني من رسالة القديس يوحنا الأول من أسفار العهد القديم هذه العبارة : «أيها الأولاد هذه هي الساعة الأخيرة وكما أنكم سمعتم أن المسيح الدجّال يأتي ، يوجد الآن مسحاء دجالون كثيرون ، فمن هذا نعلم أن هذه هي الساعة الأخيرة. منّا خرجوا ولكنهم لم يكونوا منا ، لأنهم لو كانوا منا لاستمروا معنا ولكن ليتبين أن ليسوا جميعا منا أما أنتم فإن لكم مسحة من القدوس وتعلمون كل شيء. فلم أكتب إليكم لأنكم لا تعرفون الحق بل لأنكم عارفون به وبأن كل كذب ليس من الحق من الكذاب إلّا الذي ينكر أن يسوع هو المسيح. هذا هو المسيح الدجال الذي ينكر الأب والابن. لأن كل من ينكر الابن ليس له الأب ومن يعترف بالابن له الأب أيضا». وفي الإصحاح العشرين من سفر رؤيا هذا القديس وهذا السفر هو كذلك من ملحقات العهد الجديد هذه العبارة : «وإذا تمت الألف سنة يحل الشيطان من سجنه ويخرج ليضل الأمم الذين في زوايا الأرض الأربع يأجوج ومأجوج ليحشدهم للقتال في عدد كرمل البحر. فطلعوا على سعة الأرض

٣٨٨

وأحاطوا بمعسكر القديسين وبالمدينة المحبوبة. فهبطت نار من عند الله من السماء وأكلتهم وطرح إبليس الذي أضلّهم في بحيرة النار والكبريت حيث الوحش والنبي الكذاب. هناك يعذبون نهارا وليلا إلى دهر الدهور». وهذان السفران متداولان اليوم وقد كانا متداولين بين أيدي النصارى في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقبله. وهناك عبارات وردت في رسائل بولس أحد رسل وحواريي عيسى وهي مجموعة رسائل من ملحقات الأناجيل أيضا قد تفيد أن المسيح سيظهر ويجيء. من ذلك في الإصحاح الثالث من سفر رسالة بولس إلى أهل كولسي «ومتى ظهر المسيح الذي هو حياتنا فأنتم أيضا تظهرون حينئذ معه في المسجد» وفي الإصحاح الثاني من رسالته إلى أهل تسالونيكي : «ماذا رجاؤنا أو فرحنا أو إكليل فخرنا. أليس إياكم أمام ربنا يسوع المسيح عند مجيئه». وفي الإصحاح الرابع من هذه الرسالة : «إنا نحن الأحياء الباقين إلى مجيء الرب لا نسبق الراقدين لأن الرب نفسه عند الهتاف عند صوت رئيس الملائكة وبوق الله سينزل من السماء» حيث ينطوي في هذه النصوص تأييد لتلك الاحتمالات أيضا والله تعالى أعلم (١).

(لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (٥٨) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (٥٩)) [٥٧ ـ ٥٩]

في الآيات :

(١) تنبيه إلى أن خلق السموات والأرض أعظم من خلق الناس مما ينطوي فيه قصد تقرير كون الله الذي خلق السموات والأرض على عظم ما فيها من دليل على قدرة الله قادرا من باب أولى على خلق الناس وإعادتهم.

__________________

(١) سنعلق على موضوع ظهور يأجوج ومأجوج في سورة الكهف لأنهم ذكروا فيها بصراحة.

٣٨٩

(٢) وتنديد بأكثر الناس الذين يغفلون عن هذه الحقيقة البديهية فيجادلون في مسألة البعث.

(٣) وتنبيه إلى عدم جواز التسوية بين الأعمى والبصير وبين المؤمنين الصالحين والكافرين المسيئين ، وتنديد بالذين لا يدركون هذه الحقيقة البديهية الثانية التي تنطوي فيها حكمة الله في البعث والجزاء الأخروي ليوفى كل امرئ بما قدم.

(٤) وتوكيد حاسم بمجيء الساعة وحقيقة البعث وتنديد بالذين يصرون على جحودهما مع ثبوت قدرة الله عليهما وحكمته فيهما.

وقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآية الأولى من هذه الآيات مدنية ، ويلحظ أنها في صدد التدليل على قدرة الله على البعث وخلق الناس ثانية على ما شرحناه مما احتوت توكيده الآية الثالثة ومما ظلت الآيات السابقة تشير إليه وتؤكده. وليس فيها صورة ما للعهد المدني ، وهي أشد مماثلة للأسلوب والآيات المكية. وهذا ما يجعلنا نتوقف في رواية مدنيتها ونرجح مكيتها ثم نرجح صلة الآيات بالسياق السابق وموضوعه.

(وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (٦٠) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٦١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٦٣)) [٦٠ ـ ٦٣]

(١) داخرين : صاغرين.

(٢) تؤفكون : تنصرون وتذهبون ومعنى (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) إلى أين تذهبون بعيدا عن الحق والحقيقة.

٣٩٠

في الآيات :

١ ـ بيان بأن الله فرض على الناس أن يتجهوا إليه وحده في الدعاء والعبادة ووعدهم بالاستجابة لدعائهم وشمولهم بعطفه وعنايته ، وأوعد الذين يستكبرون عن عبادته ودعائه وحده بجهنم يدخلونها صاغرين.

٢ ـ وتنبيه إلى بعض مظاهر عظمة الله وأفضاله على الناس. فهو الذي جعل الليل مظلما ليسكن الناس فيه ويرتاحوا ، وجعل النهار مضيئا ليسعوا فيه في سبيل الرزق ومظاهر الحياة. فهو صاحب الفضل على الناس المستحق من أجله شكرهم وإخلاصهم له.

٣ ـ وتنديد بأكثر الناس الذين يهملون هذا الواجب ولا يؤدون حق الله عليهم من الشكر والإخلاص.

٤ ـ وتقريع للجاحدين لفضل الله الحائدين عن سبيله ، فالله رب الناس جميعهم وخالق كل شيء لا إله إلا هو فكيف ينصرف الناس عن سبيله ويذهبون بعيدا عن الحق والحقيقة ويجحدون فضله وعظمته.

٥ ـ وقد احتوت الآية الأخيرة استدراكا هاما فالذين يذهبون بعيدا عن الحق والحقيقة وينصرفون عن سبيل الله إنما هم الذين يكابرون في آيات الله ومشاهد عظمته ويجحدونها.

والآيات استمرار في موضوع الآيات التعقيبية التي جاءت بعد الفصل القصصي كما هو المتبادر ، وقد احتوت التفاتا أو انتقالا من الغائب للمخاطب ودعوة وتنويها وإنذارا وتنديدا ، وقد يدل هذا على أن السياق كله في صدد مشهد من مشاهد الجدل والحجاج أو في صدد التعقيب عليه.

وقد انطوى في الآية الأخيرة شيء من الوعيد للجاحدين الغافلين وتقرير كون الجحود إنما يحدث ممن خبثت نياتهم ورغبوا عن الحق والحقيقة ، ولذلك يتحملون مسؤولية عملهم.

٣٩١

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٥)) [٦٤ ـ ٦٥]

(١) قرارا : مستقرّا.

والآيتان استمرار للسياق في التعقيب على مشهد الجدل والحجاج أو في صدده وقد احتوت كالآيات السابقة لها تنبيها إلى مشاهد فضل الله وعظمته ورحمته في جعل الأرض للناس مستقرا والسماء فوقهم بناء وتصويرهم على أحسن الصور وتيسير الطيبات من الرزق لهم ، واحتوت كذلك إهابة بالناس بدعائه وحده والإخلاص له وحده والشكر له وحده فهو ربهم الذي لا إله إلا هو ربّ العالمين تبارك وتعالى.

(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦٦)) [٦٦]

عبارة الآية واضحة ، وهي صريحة الدلالة أكثر مما قبلها على أن السياق في صدد مشهد جدلي أو صدد التعقيب عليه ، وقد تكرر ما جاء في الآية من نهي وأمر في هذه السورة مباشرة وعلى لسان مؤمن آل فرعون وفي السورة السابقة حيث يدل ذلك على أن المشركين ظلوا يواصلون اقتراحاتهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التساهل معهم والمشاركة فيما هم عليه من طقوس وتقاليد.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى

٣٩٢

وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨)) [٦٧ ـ ٦٨]

في الآيات تقرير موجه للمخاطبين بأن الله ربّ العالمين الذي نوهت به الآيات السابقة بمشاهد قدرته هو الذي خلقهم أيضا من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم أخرجهم إلى الدنيا أطفالا ثم يبلغون أشدهم رجالا ومنهم من يتوفى ومنهم من يفسح في عمرهم فيصيرون شيوخا ويعيشون الأجل المعين في علم الله وتتاح لهم الفرصة لتدبر آيات الله وتعقلها وهو الذي بيده كذلك الحياة والموت وهو الذي يوجد كل ما يريده بمجرد اقتران إرادته بوجوده.

والآيات استمرار للسياق في صدد البرهنة على عظمة الله وقدرته واستحقاقه وحده للعبادة والإخلاص والشكر.

ويلفت النظر إلى ما في أسلوب هذه الآيات والتي قبلها من قوة وروعة ، وقد وجه الخطاب فيها إلى العقول والقلوب معا مما من شأنه أن يؤثر في ذوي النيات الطيبة والعقول السليمة والرغبات الصادقة فيجعلهم يدركون ما في عبادة غير الله من سخف وضلال واستحقاق الله وحده للعبادة والدعاء والاعتماد. والأسلوب متساوق مع مشاهدات المخاطبين في الكون وفي أنفسهم ثم مع مدركاتهم وليس هو بسبيل تقريرات فنية على ما نبهنا إليه في سياق الفصول المماثلة الكثيرة ومنها ما ورد في هذه السورة.

وجملة (وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) في الآية [٦٧] قد تلهم أن اختصاص بني آدم بالذكر بأطوار خلقهم التي يشترك فيها معهم غيرهم من الحيوانات إنما هو بقصد التنويه بما اقتضت حكمة الله من تمييزهم عن غيرهم بالعقل والتكليف ومن ترتيب نتائج ذلك عليهم مما لم يرتب على غيرهم من الحيوانات ، والله أعلم.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا

٣٩٣

بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ (٧٤) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦)) [٦٩ ـ ٧٦]

(١) يسجرون : من سجر بمعنى وضع وقودا في التنور ، ومعنى الجملة الواردة فيها أنهم يلقون في النار ليكونوا فيها وقودا.

(٢) ضلوا عنا : هنا بمعنى غابوا عنا.

(٣) كذلك يضل الله الكافرين : بمعنى لا يسعدهم ولا يوفقهم.

(٤) تمرحون : بمعنى تبطرون ويشتد فرحكم أو زهوكم ولهوكم.

وجه الخطاب في الآيات إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو إلى السامع إطلاقا بأسلوب قصد به استثارة تعجبه من انصراف الكفار عن آيات الله ومكابرتهم فيها وتكذيبهم لكتاب الله ورسله وما أرسلهم به من رسالة الحق والهدى. ثم أخذت الآيات تصف ما سوف يلقونه يوم القيامة من نكال وعذاب وخزي وخذلان. وتذكر ما سوف يوجه إليهم من التنديد والتقريع وما سوف يكون منهم من الندم والحسرة والاعتراف بما كانوا فيه من ضلال.

والآيات كما هو المتبادر تعقيب على تلك السلسلة القوية الرائعة المملوءة بالشواهد العقلية والقلبية على عظمة الله وآياته وربوبيته وقدرته التي جاءت في صدد المشهد الجدلي الحجاجي. والإنذار والوصف اللذان احتوتهما الآيات قويان رهيبان من شأنهما إثارة الرعب والندم والارعواء وهو مما استهدفته الآيات كما هو المتبادر. ولعل فيها كذلك تطمينا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين وتسلية لهم بما سوف يكون من مصير المكذبين المكابرين وحسرتهم وندمهم.

٣٩٤

تعليق على جملة (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ (٧٤))

وهذه الجملة جاءت بمثابة تعقيب أو تعليق على اعتراف المشركين كما هو واضح ، وقد تضمنت تقرير كون الذين يضلهم الله ولا يوفقهم ولا يسعدهم هم الكافرون أي الذين بيتوا أو تعمدوا الكفر والجحود والمكابرة وهي من نوع : (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) في آية سورة إبراهيم [٢٧](وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) في آية سورة البقرة [٢٦] ويصح أن تكون محكمة يزول بها الإشكال في ما يرد من الآيات المطلقة.

ولما كان معظم الكافرين من العرب الذين كانت هذه الآية وأمثالها تشير إليهم وتندد بهم وتذكر مصائرهم السيئة في الآخرة قد أسلموا فيصح أن يقال إنها من جهة تسجيل لواقع أمرهم حين نزول القرآن من جهة وأن فحواها إنما يبقى قائما بالنسبة للذين يظلون على كفرهم وظلمهم حتى الممات.

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٧٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨)) [٧٧ ـ ٧٨]

في الآيات :

١ ـ أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصبر على ما يراه من المشركين من مكابرة وعناد.

٢ ـ وتطمين له بأن وعد الله فيهم حق محتم التحقيق سواء أعاش حتى يراه بعينه أم مات قبل ذلك.

٣ ـ وتقرير بأنهم على كل حال سوف يرجعون إليه وهو القادر عليهم في كل آن.

٣٩٥

٤ ـ وتنبيه موجه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى سنة الله في الرسل من قبله. فقد أرسل الله من قبله رسلا كثيرين منهم من قص عليه أخبارهم ومنهم من لم يقصها. وأن سنة الله جرت على أن لا يأتي أحد من رسله بآية مما يتحداه به الكفار أو فيها عذاب الله إلا بإذنه وحيثما تقتضيه حكمته وأن الذي عليه هو انتظار أمر الله وقضائه فإذا ما جاء كان النصر للحق وأصحابه والخسران للباطل وأهله.

ولم نطلع على رواية خاصة في نزول الآيات ، ومع أن المتبادر منها أنها استمرار للآيات السابقة في التعقيب والتطمين والتسلية فإن مضمونها قد يلهم احتمال تضمنها ردا على تحدّ للكفار بدر منهم في ظروف نزول السورة باستعجال العذاب الموعود أو الإتيان بآية وهو ما تكرر منهم على ما حكته آيات أخرى في سور مرّ تفسيرها أو أن يكون فيها جواب على ما كان يقوم في ذهن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو المؤمنين من تساؤل عن موعد تحقيق وعيد الله فيهم أو رجاء بإحداث آية تقنعهم أو ترهبهم حتى ينتهوا من موقف عنادهم وجحودهم. وهذا أيضا مما حكته آيات أخرى في سور مرّ تفسيرها.

وقد علق المفسر ابن كثير على هامش الآية الأولى أن الله سبحانه وتعالى قد أرى نبيه مصارع كثير من كبار زعماء الكفار في بدر وغيرها كما أراه علو كلمة الله وانخذال الكفر والشرك في جزيرة العرب فحقق له بذلك بعض ما وعده الله به من نصر.

تعليق على روايات عدد الأنبياء

ولقد كانت الآية الثانية وسيلة لإيراد بعض الأحاديث والروايات في عدد الأنبياء حيث روى الطبرسي في «مجمع البيان» بدون سند ولا اسم راو أن عددهم مائة وأربعة وعشرون ألفا وروى كذلك رواية أخرى ذكرت أن عددهم ثمانية آلاف منهم أربعة آلاف من بني إسرائيل. وقد روى الطبري الرواية معزوة إلى أنس بن مالك بدون رفعها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما روى رواية عن سلمان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أن الله بعث أربعة آلاف نبي. ورواية عن علي بن أبي طالب أن الله بعث نبيا عبدا حبشيا

٣٩٦

وهو الذي لم يقصصه عليه. ولقد أورد ابن كثير بعض هذه الأحاديث بنصها أو مع التغاير ، كما أورد أحاديث أخرى من بابها في سياق تفسير الآية [١٦٣] من سورة النساء. ومن ذلك حديث طويل عن أبي ذرّ جاء فيه فيما جاء : «قلت يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال : مائة وأربعة وعشرون ألفا. قلت : كم الرسل منهم؟ قال : ثلاثمائة وثلاثة عشر جم غفير. قلت : يا رسول الله آدم نبي مرسل؟ قال : نعم. ثم قال : يا أبا ذر أربعة سريانيون وهم آدم وشيت ونوح وخنوخ وهو إدريس وأربعة من العرب هود وشعيب وصالح ونبيك. وأول أنبياء بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى ، وأول الرسل آدم وآخرهم محمد. قلت يا رسول الله كم كتاب أنزله الله؟ قال : مائة كتاب وأربعة كتب. أنزل على شيت خمسين صحيفة وعلى خنوخ ثلاثين وعلى إبراهيم عشرا ، وعلى موسى قبل التوراة عشرا وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان». ومن ذلك عن أنس حديث جاء فيه : «إنّ الله بعث ثمانية آلاف نبي أربعة آلاف بني إسرائيل وأربعة آلاف إلى سائر الناس». وحديث روي عن أبي سعيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إني خاتم ألف نبي أو أكثر» وفي رواية : «إني أختم ألف ألف نبي أو أكثر» وليس شيء من هذه الأحاديث واردا في كتب الصحاح. وقد أورد ابن كثير أقوال بعض أئمة الحديث في صددها. من ذلك أن الإمام أبا الفرج بن الجوزي ذكر حديث أبي ذر في «الموضوعات» واتهم به إبراهيم بن هشام أحد رواته وقال المفسر : إن غير واحد من أئمة الجرح والتعديل تكلموا في إبراهيم من أجل هذا الحديث. ومن ذلك قول المفسر عن الحديث المروي عن أنس أنّ إسناده ضعيف وفيه رواة ضعفاء. ومن ذلك قوله عن الرواية الثانية من حديث أبي سعيد أنها قد تكون مقحمة. وفي متن حديث أبي ذرّ مآخذ أخرى فليس أول أنبياء بني إسرائيل موسى ، فإنّ الأسباط هم أيضا بنو إسرائيل الذي هو اسم آخر ليعقوب. وهم أنبياء موحى إليهم ومنزل عليهم على ما يستفاد من آية سورة البقرة هذه : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ ...) وآيات سورة النساء هذه التي فيها نصّ مماثل للنصّ الذي نحن في صدده : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى

٣٩٧

إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (١٦٣) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤)) [١٦٣ ـ ١٦٤].

وقد ذكر يوسف الذي هو أحد الأسباط باسمه الصريح كرسول في إحدى آيات سورة غافر نفسها ، وذكر كذلك في سورة الأنعام في عداد الأنبياء. وآية سورة البقرة المذكورة آنفا تفيد أنه أنزلت كتب على الأسباط بالإضافة إلى إسماعيل وإسحق ويعقوب. ولم يذكر هؤلاء في عداد من أنزل عليهم كتب الله في الحديث. واللغة السريانية لهجة من اللغة الآرامية لم تتميز باسمها إلّا قبيل الميلاد المسيحي أو بعده بقليل. في حين يذكر الحديث أنها لغة آدم ونوح وشيت وخنوخ. وكل هذا يوجب التحفظ والتوقف في هذا الأمر الذي هو من الأمور الغيبة التي لا يصح الأخذ فيها إلّا بما صح وثبت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والله تعالى أعلم.

ومهما يكن من أمر فالآيات صريحة أن الله تعالى أرسل رسلا لم تشأ حكمة التنزيل أن يقصهم على رسوله. وفي القرآن ورد أربعة وعشرون ذكروا في سور متعددة بأن الله أوحى إليهم وأنزل عليهم وهم : آدم ونوح وإدريس وهود وصالح وإبراهيم ولوط وإسماعيل وإسحق ويعقوب ويوسف وأيوب وشعيب وموسى وهرون ويونس وداود وسليمان وإلياس واليسع وزكريا وعيسى ويحيى وذو الكفل وهناك اسم مختلف فيه وهو لقمان. وهناك الأسباط الذين لم يذكر منهم باسمه إلّا يوسف ، وقد ذكرنا أسماءهم في سياق تفسير سورة الأعراف نقلا عن الإصحاح (٤٦) من سفر التكوين.

وفي القرآن آيات تفيد أن هناك أنبياء ورسلا آخرين من بني إسرائيل مثل آية سورة البقرة هذه : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧)) وآية سورة آل عمران هذه : (الَّذِينَ

٣٩٨

قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣)).

وفي أسفار العهد القديم المتداولة اليوم أسماء عديدة لأنبياء كانوا يظهرون في بني إسرائيل ويأمرهم الله بتبليغ أوامره وإنذاراته مثل دبوره وابينوعيم وناتان وياهو وأحيا (١) وغيرهم وغيرهم. وبين أسفار هذا العهد أسفار عديدة منسوبة إلى رجال يبدو من صيغتها وعناوينها أنهم من أنبياء الله أيضا مثل يشوع وعزرا ونحميا وطوبيا وأشعيا وأرميا وباروك وحزقيال ودانيال وهوشع ويوئيل وعاموس وعوبديا وميخا ونحوم وحبقوق وصفنيا وحجاي وملاخي. ويصح أن يسلك في هذا السلك تلامذة أو حواريو عيسى عليه‌السلام الذين ذكرت بعض آيات القرآن خبرهم مثل هذه الآية من سورة المائدة : (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١)) وهذه الآية من سورة الصف : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) والذين ذكرت الأناجيل المتداولة أن عيسى عليه‌السلام أمرهم بالتبشير بين الناس فقاموا بذلك في حياته وبعد وفاته. وهم سمعان المدعو بطرس ثم اندراوس أخوه ويعقوب بن زبدى ويوحنا أخوه وفيلبس وبرتلماوس وتوما ومتى العشار ويعقوب بن حلفى وتداوس وسمعان القانوني ويهوذا الاسخريوطي الذي أسلمه. وقد يستثنى الأخير لخيانته (٢) والله أعلم.

ومنطقة الرسل والأنبياء المذكورين في القرآن بما فيهم الأسباط ولقمان المختلف فيه والأنبياء الآخرون من بني إسرائيل والحواريون هي جزيرة العرب وما

__________________

(١) انظر الإصحاح ٤ من سفر القضاة و ١٢ من سفر الملوك الثاني في الطبعة الكاثوليكية الأول في الطبعة البروتستانتية و ١٥ من سفر الملوك الثالث و ١٦ من هذا السفر أيضا.

(٢) انظر الإصحاح ١٠ من إنجيل متى و ٣ من إنجيل مرقس و ٦ من إنجيل لوقا.

٣٩٩

جاورها باستثناء بعض حواريي عيسى الذين وصلوا إلى سواحل أوروبا الجنوبية الشرقية وبشروا فيها. ولقد ذكر القرآن أن الله تعالى شاءت حكمته أن يبعث في كل أمة رسولا كما جاء في آية سورة النحل هذه : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦)) وفي سورة فاطر التي مرّ تفسيرها آية من هذا الباب وهي (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤)) بحيث يمكن القول إن من الرسل الذين لم تشأ حكمة الله ذكرهم في القرآن رسلا أرسلوا إلى مختلف أنحاء الدنيا ومختلف أجناس البشر في مختلف الأدوار السابقة للبعثة النبوية. وليس ما يمنع أن يكون الرجال العظام الذين تنسب إليهم الشرائع والأديان والكتب المتنوعة التي فيها أحكام وتعاليم ووصايا اجتماعية وأخلاقية في بلاد الهند والصين وجاوا والفرس واليابان وغيرها منهم أيضا. وليس لمسلم أن ينفي ذلك جزافا ، وقد يكون فيما ينسب إلى بعضهم من وصايا مخالفة لمبادىء القرآن كذبا أو محرفا ، والشأن في ذلك مثل الشأن في الأسفار التي يتداولها اليهود والنصارى.

وفي سورة الحديد آية مهمة في هذا الباب وهي : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦)) فذكر ذرية نوح من ذرية إبراهيم يفيد أنه قصد من ذلك تقرير ظهور أنبياء آخرين من غير ذرية إبراهيم التي منها معظم أنبياء بني إسرائيل وبخاصة موسى وعيسى عليهما‌السلام اللذين تنسب إليهما اليهودية والنصرانية. وأنزلت عليهم كتب الله مثل ما أنزل على الأنبياء من ذرية إبراهيم. وقد ذكر القرآن أن الله تعالى نجّى نوحا من الطوفان مع أهله وجعل ذريته هم الباقون كما جاء مثلا في آية سورة الصافات [٧٧] وفي سفر التكوين (١) أول أسفار العهد القديم ذكر أن الذين نجوا

__________________

(١) انظر الإصحاحات ٧ ـ ١٠.

٤٠٠