غاية المرام وحجّة الخصام - ج ٧

السيّد هاشم البحراني الموسوي التوبلي

غاية المرام وحجّة الخصام - ج ٧

المؤلف:

السيّد هاشم البحراني الموسوي التوبلي


المحقق: السيد علي عاشور
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦١

١

٢

٣
٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الباب الثلاثون والمائة

في زهد أمير المؤمنين عليه‌السلام

من طريق الخاصّة وفيه ثلاثون حديثا

الأوّل : محمد بن يعقوب عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن عيسى عن ابن محبوب عن حمّاد عن حميد وجابر العبدي قالا : قال أمير المؤمنين : «إن الله جعلني إماما لخلقه ، ففرض عليّ التقدير في نفسي ومطعمي ومشربي وملبسي كضعفاء الناس كي يقتدي الفقير بفقري ، ولا يطغي الغني غناه» (١).

الثاني : ابن يعقوب هذا عن عليّ بن محمد عن صالح بن أبي حمّاد وعدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد وغيرهما بأسانيد مختلفة في احتجاج أمير المؤمنين عليه‌السلام على عاصم بن زياد حين لبس العباءة وترك الملاء وشكاه أخوه الربيع بن زياد إلى أمير المؤمنين أنّه قد غم أهله وأحزن ولده بذلك فقال أمير المؤمنين : «عليّ بعاصم بن زياد» فجيء به ، فلمّا رآه عبّس في وجهه فقال له : «أما استحييت من أهلك؟ أما رحمت ولدك؟ أترى الله أحلّ لك الطيبات وهو يكره أخذك منها؟ أنت أهون على الله من ذلك أو ليس الله يقول : (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ* فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ) (٢) ، أو ليس يقول : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ* بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) (٣) إلى قوله : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) (٤) فبالله لابتذال نعم الله بالفعال أحب إليه من ابتذالها بالمقال ، وقد قال عزوجل : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (٥)».

فقال عاصم : يا أمير المؤمنين فعلى ما اقتصرت في مطعمك على الجشوبة وفي ملبسك على الخشونة؟

__________________

(١) الكافي : ١ / ٤١٠ ، ح ١.

(٢) الرحمن : ١٠ ـ ١١.

(٣) الرحمن : ١٩ ـ ٢٠.

(٤) الرحمن : ٢٢.

(٥) الضحى : ١١.

٥

فقال : «ويحك إنّ الله عزوجل فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كي لا يتبيغ (١) بالفقير فقره» فألقى عاصم بن زياد العباء ولبس الملاء (٢) (٣).

الثالث : محمد بن يعقوب عن عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمد البرقي عن أبيه عن محمد ابن يحيى الخزاز عن حمّاد بن عثمان قال : حضرت أبا عبد الله وقال له رجل : أصلحك الله ذكرت أن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام كان يلبس الخشن ويلبس القميص بأربعة دراهم وما أشبه ذلك ، ونرى عليك اللباس الجديد فقال له : «إن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام كان يلبس ذلك في زمان لا ينكر ، ولو لبس مثل ذلك اليوم شهّر به ، فخير لباس كلّ زمان لباس أهله ، غير أن قائمنا أهل البيت عليه‌السلام إذا قام لبس ثياب عليّ وسار بسيرة عليّ» (٤).

الرابع : ابن يعقوب عن الحسين بن محمد عن معلّى بن محمد عن الحسن بن عليّ الوشّاء عن أحمد بن عائذ عن أبي خديجة عن معلّى بن خنيس عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إن عليّا عليه‌السلام كان عندكم فأتى بني ديوان فاشترى ثلاثة أثواب بدينار ، القميص إلى فوق الكعب ، والإزار إلى نصف الساق ، والرداء من بين يديه إلى ثدييه ومن خلفه إلى أليتيه ، ثمّ رفع يده إلى السماء فلم يزل يحمد الله على ما كساه حتّى دخل منزله ثمّ قال : هذا اللباس الذي ينبغي للمسلمين أن يلبسوه» قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «ولكن لا تقدرون أن تلبسوا هذا اليوم ، ولو فعلناه لقالوا : مجنون ولقالوا : مراء والله تعالى يقول : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) (٥) قال : وثيابك أرفعها ولا تجرّها ، وإذا قام قائمنا كان هذا اللباس» (٦).

الخامس : ابن يعقوب عن عدّة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن ابن القداح ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «كان أمير المؤمنين عليه‌السلام إذا لبس القميص مدّ يده فإذا طلع على أطراف الأصابع قطعه» (٧).

السادس : ابن يعقوب عن عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن خالد عن أبيه عن محمد بن سنان عن الحسن الصيقل قال : قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : «تريد أريك قميص عليّ عليه‌السلام الذي ضرب فيه واريك دمه قال : قلت : نعم ، فدعا به وهو في سفط فأخرجه ونشره ، فإذا هو قميص كرابيس يشبه

__________________

(١) التبيغ : الهيجان والغلبة.

(٢) الملاء بالضم والمد جمع ملاءة كذلك ثوب ليّن رقيق ، ومنه قوله : فلان لبس العباء وترك الملاء. مجمع البحرين.

(٣) الكافي : ١ / ٤١٠ ، ح ٣.

(٤) الكافي : ١ / ٤١١ / ح ٤.

(٥) المدّثر : ٤.

(٦) الكافي : ٦ / ٤٥٥ / ح ٢.

(٧) الكافي : ٦ / ٤٥٧ / ح ٧.

٦

السنبلاني ، فإذا موضع الجيب إلى الأرض ، وإذا أثر دم أبيض شبه اللبن شبيه شطب السيف فقال : هذا قميص عليّ عليه‌السلام الذي ضرب فيه ، وهذا أثر دمه فشبرت بدنه فإذا هو ثلاثة أشبار ، وشبرت أسفله فإذا هو اثنا عشر شبرا» (١).

السابع : ابن يعقوب عن أبي عليّ الأشعري عن محمد بن عبد الجبار ومحمد بن يحيى عن أحمد بن محمد جميعا عن الحجال عن ثعلبة بن ميمون عن زرارة بن أعين قال : رأيت قميص عليّ عليه‌السلام الذي قتل فيه عند أبي جعفر فإذا أسفله اثنا عشر شبرا وبدنه ثلاثة أشبار ، ورأيت فيه نضح دم (٢).

الثامن : الشيخ في أماليه بإسناده عن الحسين بن عليّ عليه‌السلام قال : «أتى أمير المؤمنينعليه‌السلام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام أصحاب القمص فسام وشيخا منهم فقال : يا شيخ بعني قميصا بثلاثة دراهم ، فقال الشيخ : حبّا وكرامة ، فاشترى منه قميصا بثلاثة دراهم ، فلبسه ما بين الرسفين إلى الكعبين وأتى المسجد فصلّى فيه ركعتين ثمّ قال : الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس وأؤدّي فيه فريضتي واستر به عورتي ، فقال له رجل : يا أمير المؤمنين أعنك نروي هذا الحديث أو شيء سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟

قال : بل شيء سمعته من رسول الله سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول ذلك عند الكسوة» (٣).

التاسع : الشيخ في أماليه قال : أخبرنا محمد بن مخلد قال : حدّثنا أبو عمرو عثمان بن أحمد بن عبد الله بن يزيد الدقّاق المعروف بابن الثمالي قال : حدّثنا أبو قلابة الوقاشي قال : حدّثنا عارم بن الفضل أبو النعمان قال : حدّثنا مرجا أبو يحيى صاحب القسط قال : وقد ذكرته لحمّاد بن يزيد فعرفه عن معمر بن زياد أن أبا مطر حدّثه قال : كنت بالكوفة فمرّ عليّ رجل فقال ، هذا أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه‌السلام ، فتبعته فوقف على خيّاط فاشترى منه قميصا بثلاثة دراهم فلبسه فقال : «الحمد لله الذي ستر عورتي وكساني الرياش» ثمّ قال : «هكذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول إذا لبس قميصا» (٤).

العاشر : محمد بن يعقوب عن عدّة من أصحابنا عن سهل بن زياد وأبي عليّ الأشعري عن محمد بن عبد الجبار جميعا عن ابن فضّال عن عليّ بن عقبة عن سعيد بن عمر الجعفي عن محمد ابن مسلم قال : دخلت على أبي جعفر ذات يوم وهو يأكل متّكئا ، وقد كان بلغنا أن ذلك يكره

__________________

(١) الكافي : ٦ / ٤٥٧ / ح ٨.

(٢) الكافي : ٦ / ٤٥٧ / ح ٩.

(٣) أمالي الطوسي : ٣٦٥ / مجلس ١٣ / ح ٢٢.

(٤) أمالي الطوسي : ٣٨٧ / مجلس ١٣ / ١٠٠. مع اختلاف في بعض أسانيد الرجال.

٧

فجعلت انظر فدعاني إلى طعامه فلمّا فرغ قال : «يا محمد لعلّك ترى أن رسول الله ما رأته عين يأكل وهو متكي من أن بعثه الله إلى أن قبضه ، ثمّ ردّ على نفسه فقال : لا والله ما رأته عين يأكل وهو متكئ منذ أن بعثه إلى أن قبضه ثمّ قال : يا محمد لعلك ترى أنّه شبع من خبز البر ثلاثة أيام متوالية منذ بعثه الله تعالى إلى أن قبضه ، أمّا إنّي لا أقول كان لا يجد ، لقد كان يجيز الرجل الواحد بالمائة من الإبل ، فلو أراد أن يأكل أكل ، ولقد أتاه جبرائيل عليه‌السلام بمفاتيح خزائن الأرض ثلاث مرّات يخيره من غير أن ينقصه الله تبارك وتعالى ما أعدّ له يوم القيامة شيئا ، فيختار التواضع لربّه جلّ وعزّ ، وما سئل شيئا قط فيقول : لا ، إن كان أعطي وإن لم يكن قال يكون ، وما أعطى على الله شيئا قط إلّا سلّم ذلك إليه حتّى إن كان ليعطي الرجل الجنّة فيسلّم الله ذلك له.

ثمّ تناولني بيده وقال : وإن كان صاحبكم ليجلس جلسة العبد ويأكل أكلة العبد ويطعم الناس خبز البر واللحم ويرجع إلى أهله ، فيأكل الخبز والزيت وإن كان ليشتري القميص السنبلاني ، ثمّ يخيّر غلامه خيرهما ، ثمّ يلبس الباقي فإذا جاز أصابعه قطعه وإذا جاز كعبه حذقه (١) ، وما ورد عليه أمران قط كلاهما لله رضا إلّا أخذ بأشدهما على بدنه ، ولقد ولى الناس خمس سنين فما وضع آجرة على آجرة ولا لبنة على لبنة ، ولا أقطع قطعة ولا أورث بيضاء ولا حمراء إلّا سبعمائة درهم فضلت من عطاياه أراد أن يبتاع لأهله بها خادما ، ولا أطاق أحد عمله ، وإن كان عليّ بن الحسين عليه‌السلام لينظر في كتاب من كتب عليّ عليه‌السلام فيضرب به الأرض ويقول : من طبق هذا؟» (٢).

الحادي عشر : الشيخ في مجالسه قال : أخبرنا الحسين بن إبراهيم القزويني قال : أخبرنا محمد ابن وهبان عن أحمد بن محمد بن زكريا عن الحسن بن عليّ بن فضال عن عليّ بن عقبة عن سعيد ابن عمرو الجعفي عن محمد بن مسلم قال : دخلت على أبي جعفر عليه‌السلام ذات يوم وهو يأكل متكئا ، وقد كان يبلغنا أن ذلك يكره ، وساق الحديث إلى آخره كما تقدّم إلّا أن في رواية الشيخ ، وأنّه كان ليشتري القميص السنبلاني ثمّ يخيّر غلامه (٣).

الثاني عشر : محمد بن يعقوب عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن عليّ بن النعمان عن ابن مسكان عن الحسن الصيقل قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «إن وليّ عليّ عليه‌السلام لا يأكل إلّا الحلال لأن صاحبه كذلك ، وإن وليّ عثمان لا يبالي أحلالا أكل أو حراما لأن صاحبه كذلك ، ثمّ

__________________

(١) حذقه حذقا عن باب فشربه قطعة.

(٢) الكافي : ٨ / ١٢٩ / ح ١٠٠ ، وجواهر الكلام : ٣٦ / ٤٥٩.

(٣) أمالي الطوسي : ٦٩٢ / مجلس ٣٩ / ح ١٣.

٨

عاد إلى ذكر عليّ عليه‌السلام فقال : أما والذي ذهب بنفسه ما أكل من الدنيا حراما قليلا ولا كثيرا حتّى فارقها ، ولا عرض له أمران كلاهما طاعة إلّا أخذ بأشدّهما على بدنه ، ولا نزلت برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله شديدة قط إلّا وجّهه فيها ثقة به ، ولا أطاق أحد من هذه الامّة عمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعده غيره ، ولقد كان يعمل عمل رجل كأنّه ينظر إلى الجنّة والنار ، ولقد أعتق ألف مملوك من صلب ماله ، كل ذلك تحفى فيه يداه ويعرق فيه جبينه التماس وجه الله عزوجل والخلاص من النار ، وما كان قوته إلّا الخل والزيت ، وحلواه التمر إذا وجده ، وملبوسه الكرابيس ، فإذا فضل من ثيابه شيء دعا بالجلم (١) فجزّه» (٢).

الثالث عشر : ابن يعقوب عن عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمد عن عليّ بن حديد عن مرازم بن حكيم عن عبد الأعلى مولى سام قال : قلت : لأبي عبد الله عليه‌السلام : إن الناس يروون أن لك مالا كثيرا فقال : «ما يسوؤني ذاك ، إن أمير المؤمنين عليه‌السلام مرّ ذات يوم على أناس شتّى من قريش وعليه قميص مخرّق فقالوا : أصبح عليّ لا مال له ، فسمعها أمير المؤمنين عليه‌السلام فأمر الذي يلي صدقته أن يجمع تمره ولا يبعث إلى إنسان شيء ، وأن يوفّره ثمّ قال له : بعه الأوّل فالأوّل ، واجعلها دراهم ثمّ اجعلها حيث تجعل التمر فاكبسه معه حيث لا يرى ، وقال للذي يقوم عليه : إذا دعوت بالتمر فاصعد وانظر المال فاضربه برجلك كأنك لا تعمد الدراهم حتّى تنشرها ، ثمّ بعث إلى رجل منهم يدعوه ثمّ دعا بالتمر ، فلمّا صعد ينزل التمر ضرب برجله فانتشر الدراهم فقال : ما هذا يا أبا الحسن؟

فقال : هذا مال من لا مال له ، ثمّ أمر بذلك المال فقال : انظروا أهل كل بيت كنت ابعث إليهم ، فانظروا حاله وابعثوا إليه» (٣).

الرابع عشر : ابن يعقوب عن عدة من أصحابنا عن الحسن بن عليّ عن ربعي بن عبد الله قال : سمعت أبا عبد الله يقول : «كان عليّ عليه‌السلام لينقطع ركابه في طريق مكّة فيشدّه بخوصة ليهون الحج على نفسه» (٤).

الخامس عشر : الشيخ المفيد في إرشاده قال : أخبرني أبو محمد الأنصاري قال : حدّثني محمد ابن ميمون البزاز قال : حدّثنا الحسين بن علوان عن عليّ بن زياد بن رستم عن سعيد بن كلثوم قال :

__________________

(١) الجلم بالتحريك الذي يجزّ به الشعر والصوف كالمقص.

(٢) الكافي : ٨ / ١٦٣ / ح ١٧٣.

(٣) الكافي : ٦ / ٤٣٩ / ح ٨.

(٤) الكافي : ٤ / ٢٨٠ / ح ٣.

٩

كنت عند الصادق جعفر بن محمد فذكر أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام فأطراه ومدحه بما هو أهله ثمّ قال : «والله ما أكل عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام من الدنيا حراما قط حتّى مضى لسبيله ، وما عرض له أمران فظن أنهما رضا الله إلّا أخذ بأشدهما عليه في دينه ، وما نزلت برسول الله نازلة إلّا دعاه فقدّمه ثقة به وما أطاق عمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من هذه الامّة غيره ، وإنّه كان ليعمل عمل رجل كأن وجهه بين الجنّة والنار يرجو ثواب هذه ، ويخاف عقاب هذه ولقد اعتق من ماله ألف مملوك في طلب وجه الله والنجاة من النار ممّا كدّ بيده ورشح منه جبينه وإن كان ليقوت أهله بالزيت والخل والعجوة ، وما كان لباسه إلّا الكرابيس ، إذا فضل شيء عن يده من كمّه دعا بالجلم فقصه ، وما أشبهه من ولده ولا أهل بيته أحد أقرب شبها به في لباسه وفقهه من عليّ بن الحسين عليه‌السلام ، ولقد دخل أبو جعفر ابنه عليه‌السلام فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد ، فرآه قد اصفر لونه من السهر ورمضت عيناه من البكاء ودبرت جبهته وانخرم أنفه من السجود وورمت ساقاه وقدماه من القيام إلى الصلاة ، فقال أبو جعفرعليه‌السلام: فلم أملك حين رأيته بتلك الحال من البكاء فبكيت رحمة عليه ، وإذا هو يفكر فالتفت إليّ بعد هنيئة من دخولي فقال : يا بني أعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام فأعطيته فقرأ فيها شيئا يسيرا ثمّ تركها من يده تضجّرا ، وقال : من يقوى على عبادة عليّ عليه‌السلام؟» (١).

السادس عشر : ابن بابويه قال : حدّثنا صالح بن عيسى العجلي قال : حدّثنا محمد بن عليّ بن عليّ قال : حدّثنا محمد بن منده الأصفهاني قال : حدّثنا محمد بن حميد قال : حدّثنا جرير عن الأعمش عن أبي سفيان عن أنس قال : كنت عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ورجلان من أصحابه في ليلة ظلماء مكفهرة إذ قال لنا رسول الله : «ائتوا باب عليّ عليه‌السلام» فأتينا باب عليّ عليه‌السلام فنقر أحدنا الباب نقرا خفيفا ؛ إذ خرج علينا عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام متزرا بإزار من صوف مرتديا بمثله ، في كفّه سيف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال لنا : أحدث حدث؟ قلنا : خير ، أمرنا رسول الله أن نأتي بابك وهو بالأثر ؛ إذ جاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : «يا عليّ قال : لبيك» قال : «أخبر أصحابي بما أصابك»؟

قال عليّ عليه‌السلام : «يا رسول الله إنّي لأستحيي».

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إن الله لا يستحيي من الحق».

قال عليّ عليه‌السلام : «يا رسول الله ، أصابتني جنابة البارحة من فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فطلبت في البيت ماء فلم أجد الماء فبعثت الحسن كذا والحسين كذا فأبطيا عليّ ، فاستلقيت على قفاي فإذا

__________________

(١) الإرشاد : ٢ / ١٤١.

١٠

بهاتف من سواد البيت : قم يا عليّ وخذ السطل واغتسل ، فإذا أنا بسطل من ماء مملوء ، عليه منديل من سندس فأخذت السطل واغتسلت ومسحت بدني بالمنديل ورددت المنديل على رأس السطل ، فقام السطل في الهواء فسقط من السطل جرعة ، فأصابت هامتي فوجدت بردها على فؤادي».

فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «بخ بخ يا بن أبي طالب أصبحت وخادمك جبرائيل عليه‌السلام ، أمّا الماء فمن نهر الكوثر ، وأمّا السطل والمنديل فمن الجنّة ، كذا أخبرني جبرئيل ، كذا أخبرني جبرئيل ، كذا أخبرني جبرئيل» (١).

السابع عشر : محمد بن يعقوب عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن خالد عن إسماعيل بن مهران عن حماد بن عثمان عن زيد بن الحسن قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «كان أمير المؤمنين أشبه الناس طعمة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان يأكل الخبز والخل والزيت ، ويطعم الناس الخبز واللحم»(٢).

الثامن عشر : ابن يعقوب عن عدّة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن عليّ بن أسباط عن يعقوب ابن سالم قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «كان أمير المؤمنين يأكل الخل والزيت ويجعل نفقته تحت طنفسته (٣)» (٤).

التاسع عشر : ابن يعقوب عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد عن عليّ بن الحكم عن ربيع المسلي عن معروف بن خربوذ عمن رأى أمير المؤمنين عليه‌السلام يأكل الخبز بالعنب (٥).

العشرون : المفيد في أماليه قال : أخبرني أبو الحسن عليّ بن بلال المهلبي قال : حدّثنا عبد الله ابن راشد الأصفهاني قال : حدّثنا إبراهيم بن محمد الثقفي قال : أخبرنا أحمد بن شمر قال : حدّثنا عبد الله بن ميمون المكي مولى بني مخزوم عن جعفر الصادق بن محمد الباقر عليه‌السلام عن أبيه عليهم‌السلام أن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : «أتي بخبيص (٦) فأبى أن يأكل فقالوا له : أتحرمه؟

قال : لا ، ولكنّي أخشى أن تتوق إليه نفسي فأطلبه ، ثمّ تلا هذه الآية : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي

__________________

(١) أمالي الصدوق : ٢٩٦ / مجلس ٤٠ / ح ٤.

(٢) الكافي : ٦ / ٣٢٨ / ح ٣.

(٣) الطنفسة هي بكسرتين وفي لغة بكسر الطاء والفاء وبضمّها ، وبكسر الطاء وضمّ الفاء ، البساط الذي له محمل رقيق ، تجعل تحت الرجل على كتفي البعير ، والجمع الطنافس. مجمع البحرين.

(٤) الكافي : ٦ / ٣٢٨ ، ح ٩.

(٥) الكافي : ٦ / ٣٥٠ / ح ١.

(٦) الخبيص والخبيصة : طعام معمول من التمر والزبيب والسمن والحلواء.

١١

حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها) (١)» (٢).

الحادي والعشرون : ابن بابويه في أماليه قال : حدّثنا أبي قدس‌سره قال : حدّثنا عليّ بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه عن عبد الرحمن بن أبي نجران عن عاصم بن حميد عن محمد بن قيس عن أبي جعفر الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «والله إن كان عليّ عليه‌السلام ليأكل أكل العبد ويجلس جلسة العبد ، وإنّه كان ليشتري القميصين السنبلانيين فيخيّر غلامه خيرهما ثمّ يلبس الآخر ، فإذا جاز أصابعه قطعه ، وإذا اجاز كعبه حذفه ، ولقد ولي خمس سنين ما وضع آجرّة على آجرّة ولا لبنة على لبنة ، ولا قطع قطيعا ولا أورث بيضاء ولا حمراء ، وإنّه ليطعم الناس من خبز البر واللحم وينصرف إلى منزله ويأكل خبز الشعير والزيت والخل ، وما ورد عليه أمران كلاهما لله رضا إلّا أخذ بأشدهما على بدنه ، ولقد اعتق ألف مملوك من كدّ يده ، تربت فيه يداه وعرق فيه وجهه ، وما أطاق عمله أحد من الناس ، وإن كان ليصلي في اليوم والليلة ألف ركعة ، وإن كان أقرب الناس شبها به عليّ بن الحسين عليه‌السلام ، وما أطاق عمله أحد من الناس بعده» (٣).

الثاني والعشرون : ابن شهرآشوب في المناقب عن الأصبغ وأبي مسعدة والباقر عليه‌السلام أنّه أتى البزازين فقال لرجل : بعني ثوبين ، فقال الرجل : يا أمير المؤمنين عليه‌السلام عندي حاجتك ، فلمّا عرفه مضى عنه ، فوقف على غلام وأخذ ثوبين أحدهما بثلاثة دراهم والآخر بدرهمين فقال : «يا قنبر خذ الذي بثلاثة» قال : فأنت أولى به ، تصعد المنبر وتخطب الناس ، قال : «وأنت شاب فلك شره الشباب ، وأنا أستحيي من ربي أن أتفضل عليك ، سمعت رسول الله يقول : ألبسوهم ممّا تلبسون وأطعموهم ممّا تأكلون» فلمّا لبس القميص مدّ كم القميص فأمر بقطعه واتخاذه قلانس للفقراء ، فقال الغلام : هلمّ أكفه قال : «دعه كما هو فإن الأمر أسرع من ذلك» فجاء أبو الغلام فقال : إن ابني لم يعرفك وهذان درهمان ربحهما فقال : «ما كنت لأفعل ، قد ماكست وماكسني واتفقنا على رضا» (٤).

الثالث والعشرون : عن الأصبغ بن نباته قال عليّ عليه‌السلام : «دخلت بلادكم بأسمالي هذه ورحلي وراحلتي ، فإن أنا خرجت من بلادكم بغير ما دخلت فإنني من الخائنين» وفي رواية «يا أهل البصرة ما تنقمون منّي ، إن هذا لمن غزل أهلي» وأشار إلى قميصه (٥).

الرابع والعشرون : ورأى أمير المؤمنين سويد بن غفلة وهو يأكل رغيفا يكسره بركبتيه ويلقيه في

__________________

(١) الأحقاف : ٢٠.

(٢) أمالي المفيد : ١٣٤ / ح ٢.

(٣) أمالي الصدوق : ٣٥٦ / مجلس ٤٧ / ح ١٤.

(٤) مناقب آل أبي طالب : ١ / ٣٦٦.

(٥) مناقب آل أبي طالب : ١ / ٣٦٧.

١٢

لبن حامض يجد ريحه من حموضته وقال : ويحك يا فضّة أما تتقون الله في هذا الشيخ فتنخلون له طعاما، لمّا رأى فيه النخالة ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «بأبي وأمّي من لم ينخل له طعام ولم يشبع من خبز الشعير حتّى قبضه الله تعالى» وقال لعقبة بن علقمة : «يا أبا الجنوب أدركت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يأكل أيبس من هذا ، ويلبس أخشن من هذا فإن أنا لم آخذ به خفت أن لا ألحق به» وترصد غداه عمرو بن حريث فأتت فضة بجراب مختوم فأخرج منه خبز شعير خشنا ، فقال عمرو : يا فضة لو نخلت هذا الدقيق وطيبته فقالت : كنت أفعل فنهاني ، وكنت أضع في جرابه طعاما طيبا فختم جرابه ، ثمّ إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام فتّه في قصعة وصبّ عليه الماء ، ثمّ ذرّ عليه الملح وحسر عن ذراعيه فلمّا فرغ قال : «يا عمرو لقد خابت هذه» ومدّ يده إلى محاسنه ، وخسرت هذه أن أدخلها النار من أجل الطعام ، وهذا يجزيني (١).

الخامس والعشرون : أبو الحسن عليّ بن أحمد بن محمد قال : أخبرنا الحسن بن معاذ ، أخبرنا سفيان بن وكيع ، أخبرنا أبي عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن علقمة قال : دخلنا على أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام وبين يديه طبق من خوص عليه قرص أو قرصان من خبز شعير ، نخالته تبين في الخبز وهو يكسره على ركبتيه ويأكله على جريش ، فقلت لجارية له سوداء يقال لها فضّة : ألا نخلت هذا الدقيق لأمير المؤمنين عليه‌السلام؟

فقالت : يأكل هو المهنأ ويكون الوزر في عنقي ، فتبسّم عليه‌السلام وقال : «أنا أمرتها أن لا تنخله» فقلنا : لم يا أمير المؤمنين؟

قال : «ذلك أحرى أن يذل النفس ويقتدي بي المؤمنون وألحق بأصحابي» (٢).

السادس والعشرون : روى عدي بن حاتم أنّه رآه عليه‌السلام وهو بين يديه شنة فيها قراح ماء وكسيرات من خبز شعير وملح ، فقال : إنّي لا أرى لك يا أمير المؤمنين لتظل نهارك طاويا مجاهدا ، وبالليل ساهرا مكابدا ، ثمّ هذا فطورك! فقال عليه‌السلام «علل النفس بالقنوع وإلّا طلبت منه فوق ما يكفيها» (٣).

الأحنف بن قيس : دخلت على معاوية فقدم إليّ من الحلو والحامض ما كثر تعجّبي منه ، ثمّ قدّم ألوانا ما أدري ما هي : فقلت : ما هذا؟

فقال : مصارين البط محشوّة بالمخ قد قلي بدهن الفستق وذرّ عليه السكر ، فبكيت فقال : ما

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب : ١ / ٣٦٧.

(٢) ما وجدنا له بهذا الإسناد مصدرا ، نعم نقله المصنف في حلية الأبرار : ٢ / ٢٣٠ / ح ١٣.

(٣) مناقب آل أبي طالب : ١ / ٣٦٨.

١٣

يبكيك؟

فقلت : ذكرت عليّا عليه‌السلام ، بينا أنا عنده حضر وقت إفطاره فسألني المقام إذ دعا بجراب مختوم فقلت : ما هذا الجراب؟

قال : «سويق الشعير» فقلت : خفت عليه أن يؤخذ أو بخلت به؟

قال : «لا ولا أحدهما لكني خفت أن يلينه الحسن والحسين بسمن أو زيت» قلت : محرّم هو؟

قال : «لا ولكن يجب على أئمّة الحق أن يعدّوا أنفسهم (١) من ضعفاء الناس كيلا يطغى الفقير فقره» فقال معاوية : ذكرت من لا ينكر فضله (٢).

السابع والعشرون : العرني قال : وضع خوان من فالوذج بين يدي أمير المؤمنين عليه‌السلام فوجأ بإصبعه حتّى بلغ أسفله ولم يأخذ منه شيئا ، وتلمظ بإصبعه وقال : «طيب طيب ، وما هو بحرام ولكن أكره أن أعوّد نفسي بما لم أعودها».

وفي خبر آخر عن الصادق أنّه مد يده إليه ثمّ قبضها ، فقيل له في ذلك فقال : «ذكرت رسول الله أنّه لم يأكله قط فكرهت أن آكله».

وفي خبر عن الصادق عليه‌السلام قالوا له : تحرّمه؟

قال : «لا ولكنّي أخشى أن تتوق إليه نفسي» ثمّ تلا (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا) (٣).

وعن الباقر في خبر كان عليه‌السلام ليطعم الناس خبز البر واللحم ، وينصرف إلى منزله ويأكل خبز الشعير والزيت والخل (٤).

الثامن والعشرون : عمر الزاهد ، قال ابن الأعرابي : إن عليّا عليه‌السلام دخل السوق وهو أمير المؤمنين فاشترى قميصا بثلاثة دراهم ونصف فلبسه في السوق ، فطال أصابعه فقال للخياط : «قصّه» قال : فقصّه فقال الخياط : أخوصه يا أمير المؤمنين قال : «لا» قال : ومشى والدرة على كتفه وهو يقول : «شرعك ما بلغك المحل ، وشرعك حسبك» أي كفاك (٥).

التاسع والعشرون : السيّد الرضى قال : روي عن مولى لبني الأشتر النخعي : رأيت أمير المؤمنينعليه‌السلام وأنا غلام وقد أتى السوق بالكوفة ، فقال لبعض باعة الثياب : «أتعرفني»؟

__________________

(١) في المخطوط والحلية : يعتدوا بالقسم ، وما أثبتناه من كتاب شيخ المضيرة ، وفي الكافي في رواية مشابهة : أن يقدروا أنفسهم.

(٢) حلية الأبرار للمصنف : ٢ / ٢٣٣ ، وشيخ المضيرة أبو هريرة عن الآبي : ٢٠٨.

(٣) الأحقاف : ٢٠.

(٤) مناقب آل أبي طالب : ١ / ٣٦٨.

(٥) الغارات : ٢ / ٩٤٢.

١٤

قال : نعم أنت أمير المؤمنين ، فتجاوزه وسأل آخر فأجاب بمثل ذلك إلى أن سأل واحدا فقال : ما أعرفك ، فاشترى منه قميصا فلبسه ثمّ قال : «الحمد لله الذي كسا عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام» وإنّما ابتاع عليه‌السلام ممّن لا يعرفه خوفا من المحاباة في إرخاص ما ابتاعه (١).

قال عليّ عليه‌السلام يوما على المنبر : «من يشتري سيفي هذا؟ ولو أن لي قوت ليلة ما بعته» (٢) وغلّة صدقته تشتمل حينئذ على أربعة آلاف دينار».

الثلاثون : ابن بابويه في أماليه قال : حدّثنا أبي رحمه‌الله قال : حدّثنا سعد بن عبد الله قال : حدّثنا إبراهيم ابن هاشم عن إسماعيل بن مرار عن يونس بن عبد الرحمن عن عبد الله بن سنان عن أبي حمزة الثمالي عن الأصبغ بن نباتة أنّه قال : كان أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام إذا أتى بالمال أدخله بيت مال المسلمين ، ثمّ جمع المستحقين ، ثمّ ضرب يده بالمال فنثره يمنة ويسرة وهو يقول : «يا صفرا يا بيضاء لا تغريني ، غرّي غيري».

هذا جناي وخياره فيه

إذ كل جان يده إلى فيه

ثمّ لا يخرج حتّى يفرق ما في بيت مال المسلمين ويؤتي كل ذي حق حقه ، ثمّ يأمر أن يكنس ويرشّ ، ثمّ يصلّي فيه ركعتين ثمّ يطلّق الدنيا ثلاثا يقول بعد التسليم : «يا دنيا لا تتعرّضي لي ولا تتشوقي ولا تغريني ، فقد طلقتك ثلاثا لا رجعة لي عليك» (٣).

__________________

(١) خصائص الأئمّة : ٨٠.

(٢) خصائص الأئمّة : ٧٩.

(٣) أمالي الصدوق : ٣٥٧ / مجلس ٤٧ / ح ١٧.

١٥

الباب الحادي والثلاثون والمائة

في خوفه من الله وبكائه من خشية الله تعالى

وخبر ضرار وخبر أبي الدرداء ، وطلاقه الدنيا ثلاثا

من طريق العامّة وفيه عشرة أحاديث

الأوّل : ابن شهرآشوب في المناقب من طريق العامّة عن سفيان بن عيينة عن الزهري عن مجاهد عن ابن عباس (فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا) هو علقمة بن الحارث بن عبد الدار (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، خاف وانتهى عن المعصية ونهى عن الهوى نفسه ، فإن الجنّة هي المأوى خاصا لعليّ ومن كان على منهاج عليّ هكذا عامّا (١).

الثاني : ابن شهرآشوب من طريق العامّة أيضا عن تفسير أبي أبو يوسف يعقوب بن سفيان عن مجاهد عن ابن عباس (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ) من اتقى الذنوب عليّ بن أبي طالب والحسن والحسين في ظلال من الشجر ، والخيام من اللؤلؤ طول كل خيمة مسيرة فرسخ في فرسخ ، ثمّ ساق الحديث إلى قوله (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) المطيعين لله أهل بيت محمد في الجنّة (٢).

الثالث : ابن شهرآشوب من طريقهم عن ابن بطه في الإبانة ، وأبو بكر بن عيّاش في الأمالي عن أبي داود السبيعي عن عمران بن حصين قال : كنت عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّ إلى جنبه إذ قرأ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله هذه الآية : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ (٣)) قال: «فارتعد عليّعليه‌السلام» فضرب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على كتفه وقال : «ما لك يا عليّ»؟

قال : «قرأت يا رسول الله هذه الآية فخشيت أن ابتلى بها ، فأصابني ما رأيت».

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا يحبّك إلّا مؤمن ولا يبغضك إلّا منافق إلى يوم القيامة» (٤).

الرابع : ابن شهرآشوب عن أنس بن مالك قال : لما نزلت الآيات الخمس في طس (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً) (٥) انتفض عليّ انتفاض العصفور فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما لك يا عليّ»؟

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب : ١ / ٣٦٤.

(٢) مناقب آل أبي طالب : ١ / ٣٦٤.

(٣) النمل : ٦٢.

(٤) مناقب آل أبي طالب : ١ / ٣٧١.

(٥) النمل : ٦١.

١٦

قال : «عجت يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من كفرهم وحلم الله عنهم» فمسحه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بيده ثمّ قال : «أبشر فإنّه لا يبغضك مؤمن ولا يحبك منافق ، ولو لا أنت لم يعرف حزب الله» (١).

الخامس : صاحب كتاب الصفوة في فضائل العشرة من العامّة قال : أخبرنا أبو بكر بن حبيب الصوفي قال : حدّثنا أبو سعيد بن أبي صادق الحيري قالوا : أنبأنا أبو عبد الله بن باكويه الشيرازي قال : حدّثنا عبد الله بن فهد قال : حدّثنا فهد بن إبراهيم الساجي قال : حدّثنا محمد بن زكريا بن دينار قال : حدّثنا العباس بن بكار قال : حدّثنا عبد الواحد بن أبي عمرو عن الكلبي عن أبي صالح قال معاوية بن أبي سفيان لضرار بن ضمرة : صف لي عليّا.

قال : أو تعفيني؟

قال : لا أعفيك.

قال : أمّا إذا لا بدّ فإنّه والله كان بعيد المدى ، شديد القوى ، يقول فصلا ويحكم عدلا ، يتفجر العلم من جوانبه وتنطق الحكمة من نواحيه ، يستوحش من الدنيا وزهرتها ويأنس بالليل وظلمته ، كان والله غزير الدمعة طويل الفكرة ، يقلّب كفيه ويخاطب نفسه ، يعجبه من اللباس ما خشن ومن الطعام ما جشب ، كان والله كأحدنا ، يجيبنا إذا سألناه ويبتدئنا إذا أتيناه ، ويأتينا ، إذا دعوناه ، ونحن والله مع تقريبه لنا وقربه منّا لا نكلّمه هيبة ولا نبتدئه لعظمته ، فإن تبسّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم ، يعظم أهل الدين ويحب المساكين ، لا يطمع القوي في باطله ولا ييأس الضعيف عن عدله ، فأشهد بالله لقد رايته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه ، وقد مثل في محرابه قابضا على لحيته يتململ تململ السليم ، ويبكي بكاء الحزين وكأني أسمعه وهو يقول : «يا دنيا يا دنيا أبي تعرضت أم لي تشوّقت؟ هيهات ، هيهات ، غرّي غيري ، قد أبنتك ثلاثا لا رجعة لي فيك ، فعمرك قصير وعيشك حقير وخطرك كبير ، آه من قلّة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق».

قال فذرفت دموع معاوية على لحيته فما يملكها وهو ينشّفها بكمّه وقد اختنق القوم بالبكاء ، ثمّ قال معاوية : رحم الله أبا الحسن ، كان والله كذلك ، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟

قال : حزن من ذبح ولدها في حجرها فلا ترقى عبرتها ولا يسكن حزنها (٢). وهذا الخبر من مشاهير الأخبار في الكتب والأسفار.

السادس : وفي نهج البلاغة خبر ضرار بن ضمرة الضابي عند دخوله على معاوية ومسألته عن

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب : ١ / ٣٩٠.

(٢) صفوة الصفوة : ١ / ٣١٥ ، ورواه المصنف في حلية الأبرار : ٢ / ٢١٣ / ح ٦.

١٧

أمير المؤمنين قال : فأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وهو قائم في محرابه قابض على لحيته ، يتململ تململ السّليم ويبكى بكاء الحزين وهو يقول : «يا دنيا ، يا دنيا إليك عنّي ، أبي تعرضت أم إلى تشوقت ، لا حان حينك ، هيهات ، هيهات غرّي غيري ، لا حاجة لي فيك قد طلّقتك ثلاثا لا رجعة فيها ، فعيشك قصير وخطرك يسير وأملك حقير ، آه من قلّة الزاد وطول الطريق وبعد السفر وعظم المورد».

قال ابن أبي الحديد في الشرح وهو من أكابر علماء المعتزلة : السليم الملسوع ، وقوله : لا حان حينك : دعاء عليها أي لا حضر وقتك كما تقول : لا كنت فأمّا ضرار بن ضمرة فإن الرياشي روى خبره ونقلته أنا من كتاب عبد الله بن إسماعيل في التنزيل على نهج البلاغة قال : دخل ضرار على معاوية، وكان ضرار من أصحاب عليّ عليه‌السلام فقال له معاوية : يا ضرار صف لي عليّا ، قال أو تعفيني؟

قال : لا أعفيك ، قال ما أصف منه؟ كان والله شديد القوى بعيد المدى ، يتفجر العلم من أنحائه والحكمة من أرجائه ، حسن المعاشرة ، سهل المباشرة ، خشن المأكل ، قصير الملبس ، غزير العبرة ، طويل الفكرة ، يقلّب كفّه ، ويخاطب نفسه ، وكان فينا كأحدنا ، يجيبنا إذا سألنا ويبتدئنا إذا سكتنا ، ونحن مع تقريبه إلينا أشدّ ما يكون صاحب لصاحبه هيبة ، لا نبتدئه بالكلام لعظمته ، يحب المساكين ويقرّب أهل الدين ، وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه ... وتمام الكلام مذكور في الكتاب (١).

السابع : ابن أبي الحديد : وذكر أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستيعاب هذا الخبر وقال : حدّثنا عبد الله بن محمد بن يوسف قال : حدّثنا يحيى بن مالك بن عائد قال : حدّثنا أبو الحسن محمد بن محمد بن مقلة البغدادي بمصر ، وحدّثنا أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد قال : حدّثنا العكلي عن الحرمازي عن رجل من همدان قال : قال معاوية لضرار الضبابي ، يا ضرار صف لي عليّا ، وقال : أعفني يا أمير المؤمنين ، قال لتصفنّه.

قال : أمّا إذا لا بدّ من وصفه فقال : كان والله بعيد المدى شديد القوى ، يقول فضلا ويحكم عدلا ، يتفجر العلم من جوانبه وتنطق الحكمة من نواحيه ، يستوحش من الدنيا وزهرتها ويأنس بالليل ووحشته ، غزير العبرة طويل الفكرة ، يعجبه من اللباس ما قصر ومن الطعام ما خشن ، وكان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه وينبئنا إذا استفتيناه ، ونحن والله مع تقريبه إيّانا وقربه منّا لا نكاد نكلّمه هيبة له، يعظّم أهل الدين ويقرّب المساكين ، لا يطمع القوي في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله

__________________

(١) شرح نهج البلاغة : ١٨ / ٢٢٤.

١٨

وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى اللّيل سدوله وغارت نجومه قابضا على لحيته ، يتململ تململ السليم ويبكى بكاء الحزين ويقول : «يا دنيا غرّي غيري ، أبي تعرضت أم إليّ تشوقت؟ هيهات قد طلقتك ثلاثا لا رجعة لي فيها ، وعمرك قصير وخطرك حقير ، آه من قلّة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق» فبكى معاوية وقال : رحم الله أبا حسن كان والله كذلك ، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟

قال حزن من ذبح ولدها في حجرها (١).

الثامن : ابن شهراشوب عروة بن الزبير قال تذاكرنا صالح الاعمال فقال أبو الدرداء : أعبد الناس عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام سمعته قائلا بصوت حزين ونغمة شجية في موضع خال : «إلهي كم من موبقة حملتها عنّي فقابلتها بنعمك ، وكم من جريرة تكرّمت عليّ بكشفها بكرمك ، إلهي إن طال في عصيانك عمري وعظم في الصحف ذنبي ، فما أنا مؤمّل غفرانك ولا أنا براج غير رضوانك» ثمّ ركع ركعات فأخذ في الدعاء والبكاء فمن مناجاته : «إلهي أفكر في عفوك فتهون عليّ خطيئتي ، ثمّ أذكر العظيم من أخذك فتعظم عليّ بليتي» ثمّ قال : «آه ، إن أنا قرأت في الصحف سيئة أنا ناسيها وأنت محصيها فتقول : خذوه فيا له من مأخوذ لا تنجيه عشيرته ولا تنفعه قبيلته ، يرجمهم البلاء إذا أذن فيه بالنداء ، آه من نار تنضج الأكباد والكلى ، آه من نار نزّاعة للشوى ، آه من غمرة من لهبات لظى» ثمّ انفجر في البكاء فلم اسمع له حسّا فقلت : غلب عليه النوم ، أوقظه لصلاة الفجر فأتيته فإذا هو كالخشبة الملقاة ، فحرّكته فلم يتحرّك فقلت إنّا لله وإنّا إليه راجعون مات والله عليّ بن أبي طالب ، قال فأتيت منزله مبادرا أنعاه إليهم ، فقالت فاطمة : ما كان من شأنه؟

فأخبرتها فقالت : «هي والله الغشية التي تأخذه من خشية الله» ثمّ أتوه بماء فنضحوه على وجهه فأفاق ، ونظر إليّ وأنا أبكي فقال : ممّا بكاؤك يا أبا الدّرداء؟

فكيف لو رأيتني ودعي بيّ إلى الحساب ، وأيقن أهل الجرائم بالعذاب ، واحتوشتني ملائكة غلاظ شداد ، وزبانية فظاظ ، فوقفت بين يدي الملك الجبّار ، قد أسلمتني الاحباء ورحمني أهل الدنيا أشد رحمة لي بين يدي من لا يخفى عليه خافية (٢).

التاسع : ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة قال : روى زرارة قال : قيل لجعفر بن محمد عليه‌السلام : إنّ قوما هاهنا ينتقصون عليّا قال : «بم ينتقصونه لا أبا لهم؟ وهل فيه موضع نقيصة ، والله ما عرض لعليّ أمران قط كلاهما لله طاعة إلّا عمل بأشدّهما وأشقّهما عليه ، ولقد كان يعمل العمل كأنّه قائم بين

__________________

(١) شرح نهج البلاغة : ١٨ / ٢٢٥.

(٢) مناقب آل أبي طالب : ١ / ٣٨٩.

١٩

الجنّة والنار ينظر الى ثواب هؤلاء فيعمل له ، وينظر إلى عقاب هؤلاء فيعمل له ، وإن كان ليقوم إلى الصلاة فإذا قال : وجهت وجهي تغيّر لونه حتّى يعرف ذلك في وجهه ، ولقد أعتق ألف عبد من كدّ يده كلّهم يعرق فيه جبينه ويحفى فيه كفّه ، ولقد بشّر بعين نبعت في ماله مثل عنق الجزور فقال : بشّر الوارث بشرّ ، ثمّ جعلها صدقة على الفقراء والمساكين وابن السبيل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ليصرف الله النار عن وجهه ويصرف وجهه عن النار» (١).

العاشر : ابن أبي الحديد قال : قال عليّ عليه‌السلام لأخيه عقيل : «والله لئن أبيت على حسك السعدان مسهدا ، أو أجرّ في الأغلال مصفدا أحبّ إليّ من أن ألقي الله ورسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد أو غاصبا لشيء من الحطام ، وكيف أظلم أحدا لنفس يسرع إلى البلاء قفولها ، ويطيل في الثرى حلولها ، والله لقد رأيت عقيلا وقد أملق وقد استماحني من برّكم صاعا ورأيت صبيانه شعث الشعور غبر الألوان من فقرهم فكأنّما سوّدت وجوههم بالعظلم ، وعاودني مؤكّدا وكرّر عليّ مرددا ، فأصغيت إليه سمعي فظن أنّي أبيعه ديني وأتبع قياده مفارقا طريقتي ، فأحميت له حديدة ثمّ أدنيتها من جسمه ليعتبر بها فضج ضجيج ذي دنف من ألمها ، وكاد أن يحترق من ميسمها ، وقلت له : ثكلتك الثواكل ، أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه ، وتجرّني إلى نار سجّرها جبارها لغضبه ، أتئن من الأذى ولا أئن من لظى ، وأعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة في دعائها معجونة شنئتها كأنها عجنت بريق حيّة أو فيئها ، فقلت أصلة أم زكاة أم صدقة فذاك محرّم علينا أهل البيت؟ فقال : لا ذا ولا ذا ولكنّها هدية ، فقلت : هبلتك الهبول أعن دين الله أتيتني لتخدعني مختبط أم ذو جنة أم تهجر؟ فو الله لو أعطيت الاقاليم السّبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله تعالى في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته ، وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها ما لعليّ ونعيم يفنى ولذّة لا تبقى نعوذ بالله من سبات العقل وقبح الزلل وبه نستعين» (٢).

__________________

(١) شرح نهج البلاغة : ٤ / ١١٠.

(٢) شرح نهج البلاغة : ١١ / ٢٤٥.

٢٠