محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]
المحقق: محسن بيدارفر
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: انتشارات بيدار
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
ISBN: 964-90800-2-3
ISBN الدورة:
الصفحات: ٧١٦
عزوجل ، الذي فطر على معرفته وتوحيده ، فبكاؤه توسّل إليه ، والتجاء به ـ سبحانه ـ خاصّة ، دون غيره ، فهو شهادة له بالتوحيد.
وأربعة اخرى يعرف أمّه من حيث أنّها وسيلة إلى اغتذائه فقطّ ، لا من حيث أنّها أمّه ، ولهذا يأخذ اللبن من غيرها أيضا في هذه المدّة غالبا ، فلا يعرف فيها بعد الله إلّا من هو وسيلة بين الله وبينه في ارتزاقه الذي هو مكلّف به ـ تكليفا طبيعيّا ـ من حيث أنّها وسيلة لا غير ـ وهذا معنى الرسالة ـ فبكاؤه في هذه المدّة بالحقيقة شهادة بالرسالة.
وأربعة اخرى يعرف أبويه وكونه محتاجا إليهما في الرزق ، فبكاؤه توسّل إليهما والتجاء بهما ، فبكاؤه فيها دعاء لهما بالسلامة والبقاء في الحقيقة.
وقد ظهر من هذه الكلمات أنّ «كلّ مولود يولد على الفطرة ، وأبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه» كما ورد في الحديث النبوي صلىاللهعليهوآلهوسلم (١).
ولهذا جعلت الناس معذورين في تركهم اكتساب المعرفة بالله ـ عزوجل ـ متروكين على ما فطروا عليه ، مرضيّا عنهم بمجرّد الإقرار بالقول ، ولم يكلّفوا الاستدلالات العلميّة في ذلك(٢).
__________________
(١) ـ مع فرق يسير في اللفظ في أمالي المرتضى : المجلس ٥٦ ، ٢ / ٨٢ (وليس فيه : يمجسانه).
عوالي اللئالي ، ح ١٨ ، ١ / ٣٥. عنه البحار : ٣ / ٢٨١. وفي البخاري (كتاب التفسير ، سورة الروم : ٦ / ١٤٣) : «ما من مولود إلا يولد على الفطرة ...».
مسلم : كتاب القدر ، باب معنى كل مولود ... ، ٤ / ٢٠٤٧ (بلفظ البخاري).
المعجم الكبير : مسند أسود بن سريع ، ١ / ٢٨٣ ـ ٢٨٥ ، ح ٨٢٦ ـ ٨٣٥ (أسند الحديث بألفاظه المختلفة). وحكى السيوطي في الجامع الصغير (باب الكاف : ٢ / ٩٤) عن أبي يعلي والبيهقي والطبراني. ومضى صدر الحديث فيما نقل عن التوحيد آنفا.
(٢) ـ كتب هنا : «كما يأتي تحقيقه في محله» ثم شطب عليه.
قال نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم (١) : «امرت أن اقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلّا الله» (٢).
وإنّما التعمّق والاستدلال لزيادة البصيرة ، ولطائفة مخصوصة ، وللردّ على أهل الضلال ؛ ولهذا أيضا امرت الأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ بقتل من أنكر وجود الصانع فجأة بلا استتابة ولا عتاب ، لأنّه ينكر ما هو من ضروريات الامور.
__________________
(١) ـ عيون أخبار الرضا : فيما جاء عن الرضا عليهالسلام من الأخبار المجموعة ، ح ٢٨٠ ، ٢ / ٦٤.
البخاري : كتاب الإيمان ، باب (١٧) فإن تابوا وأقاموا الصلاة ... ، ١ / ١٣.
وكتاب الصلاة ، باب (٢٨) فضل استقبال القبلة ، ١ / ١٠٩. وكتاب الزكاة ، باب (١) وجوب الزكاة ، ٢ / ١٣١. وكتاب الاعتصام ، باب (٢) الاقتداء بسنن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ٩ / ١١٥. كتاب استتابة المرتدين ، باب (٣) من أبى قبول الفرائض ، ٩ / ١٩. مسلم : كتاب الإيمان ، باب (٨) الأمر بقتال الناس حتى يقولوا ... ، ١ / ٥١ ـ ٥٣ ، ح ٣٢ ـ ٣٦. أبو داود : كتاب الزكاة ، باب (١) ، ٢ / ٩٣. وكتاب الجهاد ، باب (٩٥) على ما يقاتل المشركون ، ٣ / ٤٤ ، ح ٢٦٤٠ ، ح ١٥٥٦.
الترمذي : كتاب الإيمان ، باب (١ ـ ٢) ، ٥ / ٣ ـ ٤ ، ح ٢٦٠٦ ـ ٢٦٠٨. وكتاب التفسير ، باب (٧٨) سورة الغاشية : ٥ / ٤٣٩ ، ح ٣٣٤١. ابن ماجة : المقدمة ، باب (٩) في الإيمان ، ١ / ٢٧ ـ ٢٨ ، ح ٧١ ـ ٧٢.
(٢) ـ كتب في الهامش : «تمام الحديث : «فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلا بحقّها ، وحسابهم على الله».
قال بعض العلماء : «إنّ الله تعالى جعل العذاب عذابين : أحدهما السيف ـ في يد المسلمين ـ والثاني عذاب الآخرة. والسيف في غلاف يرى ، والنار في غلاف لا يرى ؛ فقال تعالى لرسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : من أخرج لسانه من الغلاف المرئي ـ وهو الفم ـ فقال : «لا إله إلّا الله» أدخلنا السيف في الغمد المرئي. ومن أخرج لسان قلبه من الغلاف الذي لا يرى ـ وهو غلاف الشرك ـ فقال : «لا إله إلا الله» أدخلنا سيف عذاب الآخرة في غمد الرحمة ؛ واحدة بواحدة ، جزاء ولا ظلم اليوم» ـ انتهى كلامه ـ منه عفي عنه».
سئل بعض أهل المعرفة والتوحيد عن الدليل على إثبات الصانع فقال : «لقد أغنى الصباح عن المصباح».
واعلم أن أفهام الناس وعقولهم متفاوتة في قبول مراتب العرفان وتحصيل الاطمينان ، كمّا وكيفا ، شدّة وضعفا ، سرعة وبطءا ، حالا وعلما ، وكشفا وعيانا ، وإن كان أصل المعرفة فطريّا ضروريّا ، أو يهتدى إليه بأدنى تنبيه.
فلكلّ طريقة هداه الله ـ عزوجل ـ إليها إن كان من أهل الهداية ، و «الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق» (١) ، و (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ) [٣ / ١٦٣] و (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) [٥٨ / ١١].
__________________
(١) ـ نسب إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم (جامع الأسرار : ٨) ولم أعثر عليه في الجوامع الروائية.
فصل [٧]
قال بعض العلماء (١) :
اعلم أنّ أظهر الموجودات وأجلاها هو الله عزوجل (٢) ، فكان هذا يقتضي أن تكون معرفته أوّل المعارف وأسبقها إلى الأفهام ، وأسهلها على العقول ، ونرى الأمر بالضدّ من ذلك ؛ فلا بدّ من بيان السبب فيه.
وإنّما قلنا : «إنّ أظهر الموجودات وأجلاها هو الله تعالى» لمعنى لا تفهمه إلّا بمثال : وهو أنّا إذا رأينا إنسانا يكتب أو يخيط ـ مثلا ـ كان كونه حيّا من أظهر الموجودات ، فحياته وعلمه وقدرته للخياطة ، أجلى عندنا من سائر صفاته الظاهرة والباطنة ؛ إذ صفاته الباطنة ـ كشهوته وغضبه وخلقه وصحّته ومرضه ، وكلّ ذلك لا نعرفه ، وصفاته الظاهرة لا نعرف بعضها ، وبعضها نشكّ فيه ـ كمقدار طوله ، واختلاف لون بشرته ، وغير ذلك من صفاته ـ ؛ أمّا حياته وقدرته وإرادته وعلمه وكونه حيوانا ، فإنّه جليّ عندنا من غير أن يتعلّق حسّ البصر بحياته وقدرته وإرادته ، فإنّ هذه الصفات لا تحسّ بشيء من الحواسّ الخمس.
__________________
(١) ـ الغزالي : إحياء علوم الدين ، كتاب المحبّة والشوق ، بيان السبب في قصور أفهام الخلق عن معرفة الله تعالى: ٤ / ٤٦٤ ـ ٤٦٧. راجع أيضا الوافي : ٤ / ٥٩.
(٢) ـ في هامش النسخة : «لأنّ كلّ ما هو أقوى وجودا فهو أشدّ ظهورا ؛ إذ الوجود هو النور ؛ والله أقوى الموجودات لأنّ وجودات ما سواه منه وبه حصلت ، وبإشراق ذاته عليها ظهرت ـ منه».
ثمّ لا يمكن أن يعرف حياته وقدرته وإرادته ، إلّا بخياطته وحركته ؛ فلو نظرنا إلى كلّ ما في العالم سواه لم نعرف به صفاته ، فما عليه إلّا دليل واحد ، وهو مع ذلك جليّ واضح ؛ ووجود الله وقدرته وعلمه وسائر صفاته ، يشهد له بالضرورة : كلّ ما نشاهده وندركه بالحواسّ الظاهرة والباطنة ـ من حجر ومدر ، ونبات وشجر وحيوان ، وسماء وأرض وكوكب ، وبرّ وبحر ، ونار وهواء ، وجوهر وعرض ـ بل أوّل شاهد عليه أنفسنا وأجسامنا وأصنافنا(١) ، وتقلّب أحوالنا ، وتغيّر قلوبنا ، وجميع أطوارنا في حركاتنا وسكناتنا ؛ وأظهر الأشياء في علمنا أنفسنا ، ثمّ محسوساتنا بالحواسّ الخمس ، ثمّ مدركاتنا بالبصيرة والعقل ، وكلّ واحد من هذه المدركات له مدرك واحد وشاهد واحد ودليل واحد ، وجميع ما في العالم شواهد ناطقة ، وأدلّة شاهدة بوجود خالقها ومدبّرها ومصرّفها ومحرّكها ، ودالّة على علمه وقدرته ولطفه وحكمته ، والموجودات المدركة لا حصر لها.
فإن كان حياة الكاتب ظاهرة عندنا وليس يشهد له إلّا شاهد واحد ـ وهو ما أحسسنا (٢) من حركة يده ـ فكيف لا يظهر عندنا من لا يتصوّر في الوجود شيء داخل نفوسنا وخارجها إلّا وهو شاهد عليه وعلى عظمته وجلاله ، إذ كلّ ذرّة فإنّها تنادي بلسان حالها أنّه ليس وجودها بنفسها ، ولا حركتها بذاتها ؛ وإنّما تحتاج إلى موجد ومحرّك لها.
__________________
(١) ـ الإحياء والمحجة : أوصافنا.
(٢) ـ الإحياء والمحجة : أحسسنا به.
يشهد بذلك أولا تركيب أعضائنا وائتلاف عظامنا ولحومنا وأعصابنا ونبات شعورنا وتشكّل أطرافنا وسائر أجزائنا الظاهرة والباطنة ، فإنّا نعلم أنّها لم تأتلف بنفسها ، كما نعلم أنّ يد الكاتب لم تتحرّك بنفسها.
ولكن لمّا لم يبق في الوجود مدرك ومحسوس ومعقول وحاضر وغائب إلّا وهو شاهد عليه ومعرّف له ، عظم ظهوره (١) ؛ فانبهرت العقول ، ودهشت عن إدراكه.
فإذن ما يقصر عن فهمه عقولنا ، له سببان :
أحدهما خفاؤه في نفسه وغموضه ـ وذلك لا يخفى مثاله.
والآخر ما يتناهى وضوحه ، وهذا كما أنّ الخفّاش يبصر بالليل ، ولا يبصر بالنهار ـ لا لخفاء النهار واستتاره ، ولكن لشدّة ظهوره ، فإنّ بصر الخفّاش ضعيف ، يبهره نور الشمس إذا أشرق ، فيكون قوّة ظهوره مع ضعف بصره سببا لامتناع إبصاره ، فلا يرى شيئا إلّا إذا امتزج الظلام بالضوء وضعف ظهوره ؛
فكذلك عقولنا ضعيفة ، وجمال الحضرة الإلهيّة في نهاية الإشراق والاستنارة ، وفي غاية الاستغراق والشمول ، حتّى لا يشذّ (٢) عن ظهوره ذرّة من ملكوت السماوات والأرض ، فصار
__________________
(١) ـ في الإحياء والمحجة : وهو شاهد ومعرف عظم ظهوره. وفي نسخة الأصل أيضا كتب كذلك أولا ثم استدرك وكتب «عليه» و «له» فوق الخط.
(٢) ـ في الإحياء والمحجة : لم يشذ.
ظهوره سبب خفائه. فسبحان من احتجب بإشراق نوره ، واختفى عن البصائر والأبصار بظهوره (١).
ولا يتعجّب من اختفاء ذلك بسبب الظهور ، فإنّ الأشياء تستبان بأضدادها ، وما عمّ وجوده ـ حتّى [أنّه] (٢) لا ضدّ له ـ عسر إدراكه ؛ فلو اختلف الأشياء ، فدلّ بعضها دون البعض ، ادرك التفرقة على قرب ، ولمّا اشتركت في الدلالة على نسق واحد ، أشكل الأمر.
ومثاله نور الشمس المشرق على الأرض : فإنّا نعلم أنّه عرض من الأعراض يحدث في الأرض ، ويزول عند غيبة الشمس ، فلو كانت الشمس دائمة الإشراق ـ لا غروب لها ـ لكنّا نظنّ أن لا هيئة في الأجسام إلّا ألوانها ، وهي السواد والبياض وغيرهما ؛ فإنّا لا نشاهد في الأسود إلّا السواد ، وفي الأبيض إلّا البياض ؛ فأمّا الضوء فلا ندركه وحده ، لكن لمّا غابت الشمس وأظلمت المواضع ، ادركت تفرقة بين الحالتين ؛ فعلمنا أنّ الأجسام كانت قد استضاءت بضوء ، واتّصفت بصفة فارقتها عند الغروب ، فعرفنا وجود النور بعدمه ، وما كنّا نطّلع عليه ـ لو لا عدمه ـ إلّا بعسر شديد ؛ وذلك لمشاهدتنا الأجسام متشابهة غير مختلفة في الظلام والنور.
هذا مع أنّ النور أظهر المحسوسات ـ إذ به يدرك سائر
__________________
(١) ـ في هامش النسخة :
حجاب روى تو هم روى تست در همه حال |
|
نهانى از همه عالم ز بس كه پيدائى |
(٢) ـ زيادة من الإحياء والمحجة.
المحسوسات ـ فما هو ظاهر في نفسه وهو مظهر لغيره ، انظر كيف تصوّر استبهام أمره بسبب ظهوره ـ لو لا طريان ضدّه ـ.
فإذن الربّ ـ تعالى ـ هو أظهر الامور ، وبه ظهرت الأشياء كلّها ، ولو كان له عدم أو غيبة أو تغيّر ، لانهدّت السماوات والأرض ، وبطل الملك والملكوت ، ولادركت التفرقة بين الحالتين ؛ ولو كان بعض الأشياء موجودا به وبعضها موجودا بغيره ، لادركت التفرقة بين الشيئين في الدلالة ؛ ولكن دلالته عامّة في الأشياء على نسق واحد ، ووجوده دائم في الأحوال يستحيل خلافه ، فلا جرم أورث شدّة الظهور خفاء.
فهذا هو السبب في قصور الأفهام.
وأمّا من قويت بصيرته ، ولم تضعف منّته ، فإنّه في حال اعتدال أمره لا يرى إلّا الله وأفعاله (١) ؛ وأفعاله أثر من آثار قدرته ، فهي تابعة له ، فلا وجود لها بالحقيقة (٢) ، وإنّما الوجود للواحد الحقّ الذي به وجود الأفعال كلّها.
ومن هذا حاله فلا ينظر في شيء من الأفعال إلّا ويرى فيه الفاعل ، ويذهل عن الفعل من حيث أنّه سماء وأرض ، وحيوان وشجر ؛ بل ينظر فيه من حيث أنّه صنع (٣) ، فلا يكون نظره مجاوزا له إلى غيره ؛ كمن نظر في شعر إنسان ، أو خطّه ، أو
__________________
(١) ـ المحجة : + ولا يعرف غيره ويعلم أنه ليس في الوجود إلا الله وأفعاله.
(٢) ـ الإحياء والمحجة : + دونه.
(٣) ـ الإحياء والمحجة : + الواحد الحق.
تصنيفه ، ورأى فيه الشاعر والمصنّف ، ورأى آثاره من حيث هو آثاره ، لا من حيث أنّه حبر وعفص وزاج مرقوم على بياض ، فلا يكون قد نظر إلى غير المصنّف.
فكلّ العالم تصنيف الله ـ تعالى ـ فمن نظر إليها من حيث أنّها فعل الله ، وعرفها من حيث أنّها فعل الله ، وأحبّها من حيث أنّها فعل الله ، لم يكن ناظرا إلّا في الله ، ولا عارفا إلّا بالله ، ولا محبّا إلّا لله ؛ وكان هو الموحّد الحقّ الذي لا يرى إلّا الله ، بل لا ينظر إلى نفسه من حيث نفسه ؛ بل من حيث هو عبد الله (١).
فهذا هو الذي يقال فيه : «إنّه فنى في التوحيد ، وإنّه فنى من نفسه» ؛ وإليه الإشارة بقول من قال : «كنّا بنا ، ففنينا عنّا ، فبقينا بلا نحن».
فهذه امور معلومة عند ذوي البصائر أشكلت لضعف الأفهام عن دركها ، وقصور قدرة العلماء عن إيضاحها وبيانها بعبارة مفهمة موصلة للغرض إلى الأفهام ، أو لاشتغالهم بأنفسهم ، واعتقادهم أنّ بيان ذلك لغيرهم مما لا يعنيهم.
فهذا هو السبب في قصور الأفهام عن معرفة الله ـ تعالى ـ.
وانضمّ إليه أنّ المدركات كلّها التي هي شاهدة على الله إنّما يدركها الإنسان في الصبى ، عند فقد العقل (٢) قليلا قليلا ، وهو
__________________
(١) ـ في هامش النسخة :
بهر چه مى نگرم صورت تو مى بينم |
|
وزان ميان همه در چشم من تو مى آئى |
(٢) ـ الإحياء والمحجة : + ثم تبدو فيه غريزة العقل.
مستغرق الهمّ بشهواته ، وقد أنس بمدركاته ومحسوساته وألفها ، فسقط وقعها عن قلبه بطول الانس ، ولذلك إذا رأى على طريق الفجأة حيوانا غريبا ، أو فعلا من أفعال الله خارقا للعادة عجيبا : انطلق لسانه بالمعرفة طبعا ، فقال : «سبحان الله» ؛ وهو يرى طول النهار نفسه وأعضاءه وسائر الحيوانات المألوفة ـ وكلّها شواهد قاطعة ـ ولا يحسّ بشهادتها لطول الانس بها.
ولو فرض أكمه بلغ عاقلا ، ثمّ انقشعت غشاوة عن عينه ، فامتدّ بصره إلى السماء والأرض ، والأشجار والنبات والحيوان ـ دفعة واحدة ، على سبيل الفجأة ـ يخاف على عقله أن ينبهر ، لعظم تعجّبه من شهادة هذه العجائب على خالقها.
فهذا وأمثاله من الأسباب ، مع الانهماك في الشهوات هي التي سدّت على الخلق سبيل الاستضاءة بأنوار المعرفة والسباحة في بحارها الواسعة ، والجليّات إذا صارت مطلوبة صارت معتاصة.
فهذا سرّ (١) الأمر ، فليتحقّق ، ولذلك قيل :
لقد ظهرت فلا تخفى على أحد |
|
إلّا على أكمه لا يعرف القمرا |
لكن بطنت بما أظهرت محتجبا |
|
وكيف يعرف من بالعرف استترا |
انتهى كلامه (٢).
__________________
(١) ـ يحتمل القراءة في النسخة : سد الأمر.
(٢) ـ إحياء علوم الدين : ٤ / ٤٦٧.
وفي كتاب التوحيد ، بإسناده (١) ، عن مولانا الكاظم عليهالسلام : «ليس بينه وبين خلقه حجاب غير خلقه ، احتجب بغير حجاب محجوب ، واستتر بغير ستر مستور» (٢).
وفي كلام مولانا أمير المؤمنين عليهالسلام ما يقرب منه (٣).
وعنه عليهالسلام (٤) : «إنّ الله تجلّى لعباده من غير أن رأوه ، وأراهم نفسه من غير أن يتجلّى لهم».
وفي كلام مولانا الحسين بن عليّ عليهماالسلام في بعض دعواته (٥) : «كيف يستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟ أيكون لغيرك من الظهور
__________________
(١) ـ التوحيد : باب نفي المكان والزمان والحركة ، ١٧٩ ، ح ١٢. عنه البحار : ٣ / ٣٢٧. وروي في التوحيد أيضا (باب أنه عزوجل ليس بجسم ولا صورة ، ٩٨ ، ح ٥) عن الرضا عليهالسلام : «... احتجب بغير حجاب محجوب ، واستتر بغير ستر مستور ، عرف بغير رؤية ...». عنه البحار : ٤ / ٢٦٣. ومثله في الكافي : كتاب التوحيد ، باب النهي عن الجسم والصورة ، ١ / ١٠٥ ، ح ٣.
(٢) ـ في هامش النسخة :
از فريب نقش نتوان صورت نقاش ديد |
|
ورنه در اين سقف زنگارى يكى در كار هست |
(٣) ـ نهج البلاغة (الكتاب : ٣١) : «... واعلم أنّ الذي بيده خزائن السماوات والأرض ... لم يجعل بينك وبينه من يحجبك عنه ...». وفي الخطبة ١٩٥ : «... فما قطعكم عنه حجاب ولا اغلق من دونه باب ، وإنّه لبكلّ مكان ، وفي كلّ حين وأوان ، ومع كلّ إنس وجانّ ...». وفي الكافي (كتاب التوحيد ، باب جوامع التوحيد ، ١ / ١٤٠ ، ح ٥) : «... لا تحجبه الحجب ، والحجاب بينه وبين خلقه خلقه إيّاهم ...».
(٤) ـ في الكافي (الروضة ، ح ٥٨٦ : ص ٣٨٧) ونهج البلاغة (الخطبة : ١٤٧) : «... فتجلّى لهم ـ سبحانه ـ في كتابه ، من غير أن يكونوا رأوه ...».
(٥) ـ إقبال الأعمال : دعائه عليهالسلام في يوم عرفة : ٣٤٩. عنه البحار : ٩٨ / ٢٢٥ ـ ٢٢٦.
ما ليس لك ، حتّى يكون هو المظهر لك؟! متى غبت حتّى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك؟! ومتى بعدت حتّى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟! عميت عين لا تراك عليها رقيبا ، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبّك نصيبا».
وقال أيضا (١) : «تعرّفت لكلّ شيء فما جهلك شيء».
وقال : «تعرّفت إليّ في كلّ شيء ، فرأيتك ظاهرا في كلّ شيء ، فأنت الظاهر لكلّ شيء».
فصل [٨]
اعلم أنّه لا يعرف الله حقّ معرفته إلا الله ـ سبحانه ـ لأنّ الخلق كلهم لم يعرفوا إلا احتياج العالم المنظوم المحكم إلى صانع مدبّر ، حيّ ، عالم ، سميع ، بصير ، قادر ؛ وهذه المعرفة لها طرفان :
أحدهما يتعلّق بالعالم ؛ ومعلومه احتياجه إلى مدبّر.
والآخر يتعلّق بالله ؛ ومعلومه أسام مشتقّة من صفات غير داخلة في حقيقة الذات وماهيّته ؛ وقد ثبت أنّه إذا أشار المشير إلى شيء وقال : «ما هو؟» لم يكن ذكر الأسماء المشتقّة جوابا أصلا ؛ فلو أشار شخص إلى حيوان (٢) فقال : «ما هو؟» ، فقال : «طويل» أو «أبيض» أو «بصير» ؛ أو أشار إلى ماء فقال : «ما هو؟» ، فأجاب بأنّه «بارد» ؛ أو إلى نار ، فقال : «حارّ» : فكلّ ذلك ليس بجواب عن الماهيّة البتّة.
__________________
(١) ـ إقبال الأعمال : من فقرات الدعاء المذكور : ٣٥٠. عنه البحار : ٩٨ / ٢٢٧.
(٢) ـ في النسخة : فلو أشار إلى شخص حيوان.
والمعرفة بالشيء هي معرفة حقيقته وماهيّته ، لا معرفة الأسامي المشتقّة ؛ فإنّ قولنا : «حارّ» ، معناه : شيء مبهم (١) له وصف الحرارة ؛ وكذلك قولنا : «قادر» و «عالم» ، معناه : شيء مبهم له وصف العلم والقدرة.
وأمّا قولنا : «إنّه واجب الوجود» ، فهو عبارة عن استغنائه عن الفاعل ، وهذا يرجع إلى سلب السلب عنه ؛ وقولنا : «إنّه يوجد عنه كلّ موجود» ، يرجع إلى إضافة الأفعال إليه ؛ وإذا قيل له : «ما هذا الشيء؟» ، فقلنا : «هو الفاعل» ؛ لم يكن جوابا. فكيف قولنا : «هو الذي لا سبب له» ؛ لأنّ كلّ ذلك إخبار عن غير ذاته ، وعن إضافة له إلى ذاته ، إمّا بنفي أو إثبات ؛ وكلّ ذلك في أسماء وصفات وإضافات.
فنهاية معرفة العارفين عجزهم عن المعرفة ، ومعرفتهم بالحقيقة أنّهم لا يعرفونه ، وأنّه لا يمكنهم ـ البتّة ـ معرفته (٢) ، وأنّه يستحيل أن يعرف الله ـ المعرفة الحقيقية المحيطة بكنه صفات الربوبيّة ـ إلا الله
__________________
(١) ـ في النسخة : شيء له مبهم له.
(٢) ـ في هامش النسخة :
مطلق كه بود زهر صفت پاك |
|
هرگز نتوان نمودش ادراك |
زان رو كه به عقل چون درآيد |
|
البتّه به صورتى بر آيد |
پس هرچه تو مى كنى خيالش |
|
باشد ز مظاهر جمالش |
* * *
جهان متفق بر الهيّتش |
|
فرومانده در كنه ماهيّتش |
نه ادراك در كنه ذاتش رسد |
|
نه فكرت به غور صفاتش رسد |
نه بر اوج ذاتش پرد مرغ وهم |
|
نه در ذيل وصفش رسد دست فهم |
كه خاصان درين ره فرس رانده اند |
|
به «لا احصي» از تك فرومانده اند |
تعالى ؛ فإذا انكشف لهم ذلك انكشافا برهانيّا ـ كما ذكرناه ـ فقد عرفوه ، أي بلغوا المنتهى الذي يمكن في حقّ الخلق من معرفته ؛ وهو الذي أشار إليه من قال : «العجز عن درك الإدراك إدراك».
بل هو الذي عناه سيّد البشر ـ صلوات الله عليه ـ حيث قال (١) : «لا احصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك». ولم يرد به أنّه عرف منه ما لا يطاوعه لسانه في العبارة عنه ، بل معناه : أنّي لا أحيط بمحامدك وصفات إلهيّتك ، وإنّما أنت المحيط به وحدك.
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم (٢) : «إنّ الله احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار ، وأنّ الملأ الأعلى يطلبونه كما تطلبونه أنتم» (٣).
__________________
(١) ـ مسلم : كتاب الصلاة ، باب (٤٢) ما يقال في الركوع والسجود ، ١ / ٣٥٢ ، ح ٢٢٢.
أبو داود : كتاب الصلاة ، باب الدعاء في الركوع والسجود ، ١ / ٢٣٢ ، ح ٨٧٩.
ابن ماجة : كتاب الدعاء ، باب (٣) ما تعوّذ منه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ٢ / ١٢٦٣ ، ح ٣٨٤١. الترمذي : كتاب الدعوات ، باب (٧٦) ، ٥ / ٥٢٤ ، ح ٣٤٩٣. المسند : ١ / ٩٦ و ١١٨ و ١٥٠. والشطر الأول منه في عوالي اللئالي : ١ / ٣٨٩. عنه البحار : ٨٥ / ١٦٩ ـ ١٧٠. وأخرج في الكافي (كتاب الصلاة ، باب السجود والتسبيح في الفرائض والنوافل ... ، ٣ / ٣٢٤ ، ح ١٢) بلفظ : «... لا أبلغ مدحك والثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك ...». عنه البحار : ٢٢ / ٢٤٥.
(٢) ـ استشهد بالحديث الشيخ البهائي ـ قدسسره ـ في الأربعين ، شرح ح ٢ ، ٨٠. وابن عربي في الفتوحات المكية : الباب الثالث ، ١ / ٩٥. وروى صاحب تحف العقول (٢٤٥) فيما نقل من كلمات سيد الشهداء الإمام الحسين عليهالسلام في التوحيد : «... احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار وعمن في السماء ، احتجابه كمن في الأرض ...».
(٣) ـ في هامش النسخة :
گفت اينجا آشنايان در مقام حيرتند |
|
دور نبود گر نشيند خسته وغمگين غريب |
فإذن لا يحظى مخلوق من ملاحظة حقيقة ذاته إلا بالحيرة والدهشة ، وأما اتّساع المعرفة ، فإنّما يكون في معرفة أسمائه وصفاته ، وبها تتفاوت درجات الملائكة والأنبياء والأولياء في معرفة الله ـ عزوجل ـ فليس من يعلم أنّه عالم قادر ـ على الجملة ـ كمن شاهد عجائب آياته في ملكوت السماوات والأرض ، وخلق الأرواح والأجساد ، واطّلع على بدائع المملكة ، وغرائب الصنعة ، ممعنا في التفصيل ، ومستقصيا دقائق الحكم ، ومستوفيا لطائف التدبير ، ومتّصفا بجميع صفات الملكيّة ، المقرّبة من الله ـ تعالى ـ نائلا لتلك الصفات نيل اتّصاف بها ؛
بل بينهما من البون البعيد ما لا يكاد يحصى ؛ وفي تفاصيل ذلك ومقاديره تتفاوت الدرجات.
هذا ملخّص ما أفاده بعض العلماء ـ قدّس الله أسرارهم ـ وسيأتي فيما بعد ما يؤكّده ويحقّقه ؛ وسيّما في كلام مولانا أمير المؤمنين عليهالسلام ـ إن شاء الله تعالى.
[٢]
باب
توحيده عزوجل
(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [٢ / ٢٥٥]
(كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [٢٨ / ٨٨]
فصل [١]
روي في كتاب التوحيد (١) بإسناده عن تشريح بن هاني (٢) قال : إنّ أعرابيّا قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين عليهالسلام فقال : «يا أمير المؤمنين أتقول أنّ الله واحد»؟
__________________
(١) ـ التوحيد : باب معنى الواحد : ٨٣. الخصال : باب الواحد : ١ / ٢. عنهما البحار : ٣ / ٢٠٦.
(٢) ـ قال ابن عبد البر (الاستيعاب : ١٤٩) : «شريح بن هانئ بن يزيد بن الحارث الحارثي بن كعب ، جاهلي اسلامي ، يكنى أبا المقدام ... من أجلة أصحاب عليّ عليهالسلام». وقال ابن سعد (الطبقات : ٦ / ١٢٨) : «شريح بن هانئ بن يزيد بن نهيك بن دريد بن سفيان بن الضباب من بني الحارث بن كعب ، روى عن عمر وعلي وسعد بن أبي وقاص وعائشة ...» وقال ابن الخياط (الطبقات : الترجمة ١٠٦٥ ، ص ٢٥٠) : «شريح بن هانئ بن يزيد بن نهيك بن دويد (كذا) بن سفيان بن الضباب ... قتل مع أبي بكرة بسجستان ، سنة ثمان وسبعين» راجع أيضا تاريخ ابن الخياط : سنة ثمان وسبعين : ٢١٢. سير أعلام النبلاء : ٤ / ١٠٧. الإصابة : الترجمة ٣٩٧٢.
وثّقه العامة ولم يذكر عنه شيء في كتب رجال الشيعة جرحا وتعديلا.
راجع جامع الرواة : ١ / ٣٩٩ ، رقم ٣٢٥٧. معجم الرجال : ٩ / ١٨.
ـ قال : ـ فحمل الناس عليه ، وقالوا : «يا أعرابي ، أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسّم القلب»؟
فقال أمير المؤمنين عليهالسلام : «دعوه ، فإنّ الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم».
ـ ثمّ قال : ـ «يا أعرابي ، إنّ القول في أنّ الله واحد ، على أربعة أقسام : فوجهان منها لا يجوزان على الله ـ عزوجل ـ ووجهان يثبتان.
فأمّا الذان لا يجوزان عليه ، فقول القائل : «واحد» يقصد به باب الأعداد (١) ؛ فهذا ما لا يجوز ، لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد ؛ أما ترى أنّه كفر من قال : «إنّه ثالث ثلاثة»؟ وقول القائل : «هو واحد من الناس» يريد به النوع من الجنس ؛ فهذا ما لا يجوز عليه ، لأنّه تشبيه ، وجلّ ربّنا وتعالى عن ذلك.
وأمّا الوجهان اللذان يثبتان فيه ، فقول القائل : «هو واحد ليس له في الأشياء شبه» ـ كذلك ربّنا ـ وقول القائل : «إنّه ربّنا ـ عزوجل ـ أحديّ المعنى» يعني به أنّه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم ، كذلك ربّنا عزوجل» (٢).
__________________
(١) ـ كتب فى هامش النسخة :
احد است وشمار ازو معزول |
|
صمد است ونياز ازو مخذول |
آن احد نى كه عقل داند وفهم |
|
وان صمد نى كه حس شناسد ووهم |
(٢) ـ ورد هذا الفصل في عين اليقين أيضا : ٣٠٤ ـ ٣٠٥.
فصل [٢]
الدليل على أنّ الله ـ سبحانه ـ واحد بالمعنيين من جهة النقل من الكتاب والسنة كثير.
ومن جهة العقل : (١) أنّه ـ عزوجل ـ لو كان منقسما في وجود أو عقل أو وهم لكان محتاجا ؛ لأنّ كلّ ذي جزء فإنّما هو بجزئه يتقوّم ، وبتحقّقه يتحقّق وإليه يفتقر ، وهو الله ـ سبحانه ـ غنيّ عن العالمين.
وأيضا : لو كان ذا جزء لكان جزؤه متقدّما عليه وأوّلا له ، فيكون الجزء أولى بأن يكون إلها منه ـ سبحانه ـ.
ومن هنا يظهر أنّ وجوده ـ عزوجل ـ ليس معنى وراء ذاته جلّ وعزّ زائدا عليها ؛ بل هو عين الوجود البحت الغير المنقسم ـ لا وهما ولا عقلا ولا عينا ـ.
وإذا كان كذلك كان واحدا بالمعنى الآخر أيضا ، ولا شريك له ولا نظير ، إذ لا تعدّد في صرف شيء ؛ ونعم ما قيل (٢) : «صرف الوجود ـ الذي لا أتمّ منه ـ كلّ ما فرضته ثانيا ، فإذا نظرت فهو هو ، إذ لا ميز في صرف شيء». فإذن : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) (٣) [٣ / ١٨].
__________________
(١) ـ راجع المبدأ والمعاد : ٤١.
(٢) ـ مجموعه آثار شيخ اشراق : التلويحات ، المورد الأول ، التلويح الأول : ١ / ٣٥.
(٣) ـ كتب فى هامش النسخة :
هم توئى ـ اى قديم فرد اله ـ |
|
وحدت خويش را دليل وگواه |
«شهد الله» تو بشنو وتو بگو |
|
«وحده لا إله إلّا هو» |
قال بعض العلماء (١) :
المتفرّد بالوجود هو الله ـ سبحانه ـ إذ ليس موجود معه سواه ، فإنّ ما سواه أثر من آثار قدرته لا قوام له بذاته ، بل هو قائم به ، فلم يكن موجودا معه ، لأنّ المعيّة توجب المساواة في الرتبة ، والمساواة في الرتبة نقصان في الكمال ، بل الكمال لمن لا نظير له في رتبته.
وكما أنّ إشراق نور الشمس في أقطار الآفاق ليس نقصا في الشمس ـ بل هو من جملة كماله [ا] ـ وإنّما نقصان الشمس بوجود شمس اخرى تساويها في الرتبة ... ، فكذلك وجود كلّ ما في العالم يرجع إلى إشراق أنوار القدرة فيكون تابعا ...
فإذن معنى الربوبيّة التفرّد بالوجود ـ وهو كمال (٢) ـ.
فصل (٣) [٣]
ومن الدلائل التي قيلت (٤) : أنّه لو اقتضى ذاته ـ من حيث هو ولأنّه غنيّ بذاته ـ أن يكون هذا بعينه ، فلا يصحّ أن يكون غيره ؛ وإن كان بسبب ما صار هذا ، فيكون هذا فقيرا ـ تعالى الله عن ذلك ـ
فإذن : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ).
__________________
(١) ـ إحياء علوم الدين : كتاب ذم الجاه والرياء ، سبب كون الجاه محبوبا ... : ٣ / ٤١٢.
(٢) ـ الإحياء : وهو الكمال.
(٣) ـ عين اليقين : ٣٠٣.
(٤) ـ راجع المبدأ والمعاد : ٤٤ و ٥٢.
وأيضا لو تعدّد فلا يمتاز أحدهما عن الآخر بنفس ما اشتركا فيه ، ولا بلازمه ـ وهو ظاهر ـ ولا بعارض غريب ، إذ ليس ورائهما مخصّص ؛ وإن خصّص أحدهما نفسه أو صاحبه ، فيكونان قبل التخصّص متعيّنين لا بالمخصّص ؛ هذا محال ف (لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [١١٢ / ٤].
وأيضا إمّا أن يقتضي ذاته الوحدة ، فلا يكون إلّا واحدا ؛ أو التعدّد ، فلا يوجد في واحد ، وإذ لا واحد ، فلا متعدّد ؛ أو لا ذا ولا ذاك ، فيتساوى نسبة مراتب الأعداد إليه ، فالتعيّن إمّا لمرجّح : فيفتقر إليه ؛ أو لا لمرجّح : فيلزم الترجيح بلا مرجّح ؛ فلا ندّ له.
وأيضا لو تعدّد ، فإمّا أن يفتقر كلّ منهما أو أحدهما إلى الآخر ، فلا يكون غنيّا مطلقا ولا وجودا تامّا ؛ أو يستغني عنه ، فيكون المستغنى عنه عادما لكمال ما هو فقر كلّ شيء إليه ، ومفتقرا في تحصيله إلى غيره ، ولزم المحذور أيضا ؛ ف (لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) [١٦ / ٥١].
وأيضا يلزم أن يكون أثر أحدهما بعينه ممكنا أن يكون أثر الآخر ، لاتّفاقهما في الحقيقة ـ أعني الوجود الأتمّ ـ فاستناده إلى أحدهما دون الآخر يوجب ترجّحا بلا مرجّح ، وصدوره عنهما جميعا يوجب صدور أمر واحد بالشخص عن متعدّد ـ وكلاهما محال ـ فإذن لو كان في السماوات والأرض (آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [٢١ / ٢٢] ولم توجدا.