علم اليقين في أصول الدين - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٧١٦

١
٢

فهرس عناوين المقدمة :

تقديم........................................................................... ٥

اسرة الفيض..................................................................... ٦

اسمه ونسبه...................................................................... ٦

ولادته ومدفنه................................................................... ٧

سيرته........................................................................... ٧

ما كتبه ـ قدس‌سره ـ حول حياته......................................................... ٩

كلمات العلماء في شأنه......................................................... ١٧

سيرته العلمية.................................................................. ٢٠

تأملات في تطوّر أفكاره العلمية................................................ ٢١

مقارنة بين كتابين من تأليفاته.................................................. ٢٨

نتيجة المقارنة................................................................ ٣٣

الفيض ـ قدس‌سره ـ تجاه المدارس المختلفة................................................ ٣٧

المتكلمون................................................................... ٣٨

الفلاسفة................................................................... ٣٨

المتصوفة................................................................... ٣٩

العرفاء المحققون.............................................................. ٤٠

الفيض وعلم الأخلاق.......................................................... ٤١

الفيض والسياسة والحكومة....................................................... ٤٢

٣

دراية الحديث.................................................................. ٤٤

شعره.......................................................................... ٤٦

أساتذته....................................................................... ٥٠

تلامذته والراوون عنه............................................................ ٥٤

تأليفاته والمخطوطات الموجودة منها................................................ ٥٦

علم اليقين..................................................................... ٨٢

علم اليقين وعين اليقين......................................................... ٨٦

طبع الكتاب وتحقيقه............................................................ ٩١

نسخ الكتاب.................................................................. ٩٢

تلخيص علم اليقين............................................................. ٩٩

رسالة من المؤلف إلى بعض تلامذته حول السلوك العملي........................... ١٠٠

صور من المخطوطات.......................................................... ١٠٦

* * *

٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

رب يسّر ولا تعسّر

چون مست مى شويد ز شرب مدام مى

مستىّ بنده هم به دعا آرزو كنيد

دُردى كشان ، بهم چو بپاشد وجود من

در گردن شما كه ز خاكم سبو كنيد

بى بادگان ، چو مستيتان آرزو شود

آئيد وخاكِ مقبره فيض بو كنيد (١)

تقديم :

ثلاثة من قدماء المحدّثين ألّفوا كتبا أصبحت مراجع أساسيّة للحديث عند الشيعة الإمامية ، واشتهروا بالمحمّدين الأوائل ، وهم مؤلّفو الكتب الأربعة ـ الشيخ الكليني والصدوق والطوسي ، وكل منهم اسمه «محمد» ـ قدّس الله أسرارهم ـ ؛ واتّفق أن جاء في متأخّري المحدّثين ـ الذين عاشورا في المائة الحادية عشرة ـ ثلاثة ودوّنوا كتبا أصبحت كذلك على غرار كتب الأوائل ؛ ومن نوادر الصدف ـ لو صحّت التسمية ـ أنّ هؤلاء أيضا اسمهم «محمد» ، وهم محمّد بن الحسن الحرّ العاملي صاحب الوسائل ، ومحمّد باقر المجلسي صاحب البحار ، ومحمّد محسن الفيض الكاشاني صاحب الوافي ـ الذي نتصدي نحن الآن للتعريف به وتفصيل ترجمته ـ قدّس الله أسرارهم جميعا وجزاهم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء ـ.

__________________

(١) ـ ديوان فيض : ٢ / ٥٢٠ ـ ٥٢١.

٥

وقد امتاز الفيض عن معاصريه بخاصّة ـ ولكلّ منهم ميزات ـ جعلته ينفرد عنهما عند الاعتبار ، وهو جامعيّته في العلم والتأليف والعمل ؛ فإنّه محدّث نحرير ، وفقيه فحل ، وحكيم إلهي ، ومتكلم شهير ، وشاعر مفلق ، وفوق هذا كلّه عارف عامل ذو نسك واجتهاد ، وقلّما يتّفق اجتماع هذه الخصوصيّات في شخص واحد ، و (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [٦٢ / ٤].

أسرة الفيض :

وامتاز بأنّه ولد ونشأ في أسرة عريقة وبيت حافل بالعلماء والمؤلّفين ، ولعله لم يتّفق لاسرة اخرى هذه المجموعة الممتازة ، فقد كان جدّه تاج الدين محمود ، وأبوه الشاه مرتضى ، وخاله نور الدين محمّد بن ضياء الدين ، وإخوان الفيض : محمّد مؤمن ، وعبد الغفور ، وضياء الدين محمّد ، وصدر الدين محمد ومرتضى بن مرتضى ؛ وأبناؤه : أبو حامد محمّد نور الهدى ، وأبو علي معين الدين أحمد ، ومحمّد بن محمّد علم الهدى ، وكذلك أحفاده ، كلهم من العلماء والمحدّثين والمؤلفين ـ على أنّه صاهر الحكيم الإلهي والعارف الربّاني الشهير المولى صدرا الشيرازي ـ رحمة الله عليهم أجمعين (١).

اسمه ونسبه :

اسمه ـ كما كتبه في أوائل كتبه ـ محمّد بن المرتضى المدعوّ بمحسن. وأبوه الشاه مرتضى بن الشاه محمود ولد سنة ٩٥٠ ه‍ ـ وتوفى سنة ١٠٠٩ (٢) ه ـ في كاشان ، وبها قبره الشريف. وحيث أنّ الفيض ولد سنة ١٠٠٧ ه‍ ـ فكان عند وفاة والده في الثانية من عمره الشريف.

__________________

(١) ـ لقد أشبع الكلام في هذا المضمار وفصّل القول فيه المرحوم آية العظمى المرعشي النجفي ـ قدس‌سره ـ في مقدمة كتاب معادن الحكمة : ٢٦ ـ ٦٣. راجع أيضا مقدمة ديوان الفيض : ١ / ٢١ ـ ٥٩.

(٢) ـ مقدمة معادن الحكمة : ١١.

٦

ولادته ووفاته :

[ولد المترجم له ـ كما جاء في مجموعة المواليد والوفيات (١) ـ في رابع عشر شهر صفر سنة ١٠٠٧.] على أنّه نفسه أيضا أفصح عن سنة ولادته حيث قال في خاتمة كتابه الحقائق (٢) : «ولقد وفّقنا الله تعالى لجمعها وتأليفها في مدّة أشهر قلائل من سنة تسعين وألف الهجريّة ، حين كنت أشرفت على الرحيل ، وكان قد مضى من عمري ثلاث وثمانون ونيف قليل». فلو أخذنا (٨٣) من (١٠٩٠) تكون سنة ولادته (١٠٠٧).

[وتوفّى في الثاني والعشرين من ربيع الآخر سنة ١٠٩١] ـ كما جاء في المجموعة المذكورة وسائر المراجع أيضا.

سيرته :

[عاش ـ قدس‌سره ـ في أوج اقتدار الدولة الصفويّة في إيران وعاصر أربعة من ملوكها] ـ الشاه عبّاس الأول (٩٩٦ ـ ١٠٣٨) ، الشاه صفي (١٠٣٨ ـ ١٠٥٢) ، الشاه عباس الثاني (١٠٥٢ ـ ١٠٧٧) ، والشاه سليمان (١٠٧٧ ـ ١١٠٦) ـ ومع أنّ ذلك العصر كان مسرحا لحروب طاحنة في عدة مناطق حدودية ـ مثل آذربيجان وخراسان والعراق ـ بين الصفويين ومجاوريهم ـ من العثمانيّين والكوركانيين وغيرهم ـ فإنّ المناطق الداخليّة والمركزيّة كانت في أمن ودعة ، وبذلك تمكّن المواطنون من الإقبال على التعلم والتعليم ، كما صار سببا لهجرة جمع من العلماء إليها ؛ وصار عاصمة الدولة الصفويّة ـ أصبهان ـ مركزا علميّا حافلا لجهابذة من المشاهير ، اشتغلوا فيها بالإفادة والاستفادة ـ مثل الشيخ البهائي والسيد الداماد والمير الفندرسكي وغيرهم.

وفي هذه الظروف الزمانيّة والمكانيّة نشأ الفيض وعاش ودرس وسافر

__________________

(١) ـ نقلا عن مقدمة معادن الحكمة : ٩. وهذه المجموعة المكتوبة بخط ابنه علم الهدى موجودة في مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي كما كتبه ـ ره ـ في هذه المقدمة.

(٢) ـ الحقائق : ٣٢٤.

٧

واشتغل بالتأليف والتعليم وإرشاد العوام والخواصّ. ويظهر من التأمّل في سيرته أنّه سار مراحل ثلاث :

ففي المرحلة الاولى اشتغل بتحصيل المقدّمات والعلوم الظاهرية إلى أن بلغ رتبة الاجتهاد فيها ، وذلك حين اشتغاله بالتعلم في مولده كاشان ثم رحلته إلى أصبهان وشيراز.

والمرحلة الثانية تبدأ من حين رجوعه من شيراز ، حيث لم ير فيما حصّله في المرحلة الاولى رواء غلّته وشفاء علّته ؛ فأخذ بعد ما أحكم العلم الظاهر يتفحّص عمن عنده شيء من علم الباطن ؛ وإن كان من أول أمره أيضا راغبا في ذلك سائلا عنه ، إلا أنه لم يكن فيه مجدّا إلى ذلك المقدار ، فسافر في البلاد وطاف الديار حتّى وصل ـ كما قال ـ في قم إلى صدر المتألهين الشيرازي ، فأقام عنده سنين مشتغلا بالرياضات وتحصيل علم الباطن ، وكان في هذه الأوان ذا شوق واهتمام وجدّ ، يكتب ويقول ويصرح بمكنوناته ويبتهج بها ؛ وهذه المرحلة ابتدأت من رجوعه من شيراز إلى أصبهان ثم رحلاته إلى البلاد وإقامته في قم ورجوعه مع صدر المتألهين إلى شيراز ورجوعه بالأخير وبعد فوت صدر المتألهين إلى مولده كاشان وبقائه فيها مدة.

والمرحلة الثالثة تبدأ من هذا التأريخ بعد ما تكامل وحصّل العلوم والتجارب الضروريّة في العلم والعمل ، ونال من العوام والخواصّ من معاصريه ما نال ، فرأى النجاة والراحة في الإعراض عن الخلق باطنا والكون معهم ظاهرا ، والإقبال على الاهتمام بالنفس عملا والتمسك بالثقلين والتفكر فيهما علما ، وفي هذه المرحلة نراه عالما عارفا معتدلا ، بلا إفراط ولا تفريط ، يراعي الظاهر والباطن ، يعيش مع الخلق ويكتب لهم ويهديهم في الظاهر ، ولا يختلط بهم وينعزل عنهم ويستمر مسيره في الباطن.

هذا ما نستنتجه من التأمّل في سيرة المترجم له قدس‌سره ـ العلمية والعملية ـ ولنستمع إلى ما كتبه في رسالته «شرح الصدر» حيث شرح فيها قسما من سيرته وسوانح أيّام حياته ، قائلا أنّه «لمّا لم يجد أحدا يظهر له ما في قلبه من عقد المكاره ، رأى أن يكتب ذلك بمعونة القلم في أوراق ينفّس بها كربته ؛ والرسالة مؤلّفة في سنة (١٠٦٥) حين كان في الثامنة والخمسين من

٨

عمره الشريف ـ قدس‌سره ـ وبما أنّها مكتوبة بالفارسية نقوم بتعريب المقصود منها ملخّصا (١) :

قال ـ قدس‌سره ـ :

«المنّة لله ـ عزوجل ـ بما ألقى من أوان الصبا في قلب عبده هذا شوقا إلى تحصيل الكمال وطلبه ، وكرّمه بإخلاص النيّة ، حتى تكون هذه النعم معينة له في سفره في طريق الحق. ووفّقه لأن يكون من مبدأ أمره إلى الآن ـ وقد جاوز عمره الثامنة والخمسون ـ إذا صرف شيئا من عمره فيما لا يعني أو في غير سلوك سبيل الحقّ ، رأى ذلك غبنا عظيما ـ ولا فخر.

كنت (٢) برهة في خدمة خالى المعظّم ـ الذي كان من الممتازين في عصره ـ في كاشان ، مشتغلا بتعلم التفسير والحديث والفقه واصول الدين وما تتوقّف عليه هذه العلوم من العربيّة والمنطق وغيرها ، إذ كان أبي وجدّي من المشتغلين بهذه العلوم والمخصوصين بالصلاح والعزلة ، ولم يتلوّث ذيل عزّتهم بغبار فضول الدنيا.

وبعد انقضاء العشرين من العمر سافرت إلى أصبهان لتحصيل الزيادة من العلوم الدينيّة ، وتشرّفت بخدمة جمع من الفضلاء ـ كثّر الله أمثالهم ـ ولكن لم أجد هنا أحدا عنده خبر من علم الباطن ، وتعلمت فيه شيئا من العلم الرياضي ، ثم توجّهت إلى شيراز لتحصيل الحديث والإسنادات المعنعنة ، ووصلت إلى خدمة فقيه العصر والمتبحّر في العلوم الظاهرية ، أعنى السيد ماجد بن هاشم الصادقي البحراني ـ تغمّده الله بغفرانه ـ واستفدت من حضرته ـ سماعا وقراءة وإجازة ـ شطرا معتدّا به من الحديث ومتعلقاته ، حتّى حصلت لي بصيرة ـ في الجملة ـ في علم الحلال والحرام وسائر الأحكام ، واستغنيت عن التقليد.

فرجعت إلى أصبهان ووصلت إلى حضرة الشيخ بهاء الدين محمد العاملي ـ قدس‌سره ـ وأخذت منه إجازة الرواية أيضا ، ثم توجّهت إلى

__________________

(١) ـ مجموعة الرسائل العشر الفارسية للفيض ـ قدس‌سره ـ : ٤٥ ـ ٧٣.

(٢) ـ الضمائر في النص الأصلي جميعها بصيغة الغائب ، وقد أبدلناها إلى الضمير الحاضر لكونه أوضح.

٩

الحجاز وبعد توفيق التشرّف إلى حجّة الإسلام وزيارة سيّد الأنام والأئمّة المعصومين عليهم‌السلام تشرّفت في هذا السفر بخدمة الشيخ محمّد بن الشيخ حسن بن الشيخ زين الدين العاملي ـ أطاب الله ثراه ـ واستفدت منه ، وأخذت منه إجازة الحديث أيضا.

وفي أثناء عودتي من هذا السفر أصابتني مصيبة شديدة بسبب قطّاع الطرق ، إذ قتل بيدهم أخي الذي كان أعزّ عندي من نفسي ، وقد وصل إلى رتبة الاجتهاد وهو في الثامنة عشر من عمره ، وقد جمع له مع الذكاء البالغ الدرجة العالية من التقوى والفهم الصحيح والذهن الوقّاد وجودة الطبع ؛ وكان في الموافقة والمناسبة والمؤالفة معي إلى حدّ تحسبنا روحا في بدنين وكنا رفيقين شفيقين ومونسين وظهيرين ـ أطاب الله ثراه وجعل الجنّة مثواه ـ. فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

ولم أزل بعد هذه المصيبة العظمى كنت طائفا في البلاد متفحّصا عن العلم والكمال ، وحيث اشير إلى أحد بأنّ عنده شيئا من الكمال سعيت إليه سحبا على إلهام لا مشيا على الأقدام ؛ ومستفيدا منه بقدر الإمكان والاستعداد.

حتّى وصلت في بلدة قم ـ الطيّبة ـ بخدمة صدر أهل العرفان وبدر سماء الإيقان صدر الدين محمّد الشيرازي ـ قدّس الله روحه وسرّه ـ وكان في علم الباطن وحيد دهره وفريد عصره ، فأقمت عنده ثماني سنين مشتغلا بالرياضات والمجاهدات ، حتّى حصل لي ـ في الجملة ـ بصيرة في علم الباطن ، وتشرّفت في الأخير بمصاهرته الشريفة.

ولما عزم على التوجّه إلى شيراز سرت معه ، وبمقتضى (فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ) [٢٨ / ٢٧] أقمت عنده قرب سنتين أيضا ، واستفدت من بركات أنفاسه الطيّبة كثيرا.

ثم عملا بنصّ كريمة (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) [٩ / ١٢٢] رأيت من الواجب الرجوع والاشتغال بتدريس أحاديث أهل بيت العصمة والالتجاء إلى زاوية والاهتمام بالجمعة والجماعة وتأليف الكتب والرسائل ، ونصيحة العوام وبيان المسائل.

١٠

وكنت أرى قدري أعلى من أن يحوم حول حطام الدنيا ؛ حتّى وصل إليّ يوما أحد مقرّبي السلطان المغفور له سلالة السادات الملك صفي (١) ـ تغمّده الله بغفرانه ـ وأخبرني أنه يريد ملاقاتي وعليّ أن أتوجّه إلى حضرته ؛ فلما تشرّفت لملاقاته قرّبني وكلفني الإقامة في خدمته.

ولكن لما كان في حاشيته جمع من علماء الظاهر ، ولم أكن أعرف كيفيّة التعامل معهم ، ولا أرى في ذلك صلاح ديني ودنياي ـ فإنّ تأييد الدين لم يكن ميسورا لي معهم على هذه الحال ، وتفوتنى ـ مع هذا الوبال ـ حرّيتي وراحتي في الدنيا أيضا ـ فلذلك استعفيت من هذا الأمر ، وصار استعفائي ـ والحمد لله ـ مقرونا بالإجابة.

فاشتغلت مدة بعد ذلك في ظل القناعة بترويج الدين قولا وفعلا حسب المقدور ، وكنت ببركة العلم والعمل ومحبة أهل البيت أزداد يوما فيوما من استكشاف أسرار كلماتهم ـ سلام الله عليهم ـ وأفوز بفتوحات وفيوضات في المعارف الدينية والمعارف اليقينية ، ويفتح لي في كل برهة باب من علم ، ومن كل باب أبواب أخر.

وكانت الأيام تنقضي على ذلك إلى أن وصلت إليّ رسالة من الملك المقتدر ، مستعبد السلاطين ، شاه عباس الثاني (٢) ـ خلد الله ملكه ـ يأمرني

__________________

(١) ـ حكم بعد الشاه عبّاس الأول : ١٠٣٨ ـ ١٠٥٢.

(٢) ـ تولى الحكم بعد الشاه صفي (١٠٥٢ ـ ١٠٧٧) وكان زمان كتابة رسالة الفيض ـ هذه (١٠٦٥) ـ على سرير الحكم كما هو ظاهر من تعبير الفيض أيضا.

ويوجد في مخطوطة (٣٩٤٥) مكتبة آية الله المرعشي (فهرس مخطوطات المكتبة : ١٠ / ٣٢٦) رسالة من بعض السلاطين إلى الفيض يحتمل كونها سواد هذه الرسالة ، جاء فيها :

«آنكه افادت وافاضت پناه ، فضائل وكمالات دستگاه ، حقائق ومعارف آگاه ، زمره وايافتگان دين مبين ، عمده وارسيدگان حق ويقين ، جامع المعقول والمنقول ، حاوى الفروع والاصول ، علامى فهامى ، شمس الافادة والافاضة والفضيلة والمعالي ، مولانا محمد محسن ، به عنايت بيكران خسروانه مست مال بوده بداند ، كه چون پاداش دارى شكر هر چيزى بازآيد ، انعام منعم ووجوب اتيان تحميد ، درخور اكرام مكرم ـ

١١

بالتوجّه إليه. وذلك الطلب وإن كان مضمونة ترويج الجمعة والجماعات ونشر العلوم الدينية وتعليم الشريعة ، ولكن يستشمّ من مطاويه ريح الاستغراق في بحر لا ساحل له ؛ ولذلك تحيّر العقل وتردّد فيه ، إلى أن هبّ نسيم الصبا من مشرق النفس الرحماني إلى العالم الجسماني ، يعاتبني بأنك ـ مع استجماع أسباب العزلة لك ووصولك إلى خزانة القناعة والفراغ والحرّية وطهارة الذيل عن الأعمال ـ ما بدا للهمة التي لم تتنزل في شبابها لدى نعيم الكونين ، ترغب في سنين الشيخوخة في هذه الامور وترضى لأن تكون موطأ للحوادث والدهور؟!

فكنت متردّدا فيها حتّى أقبل إليّ الحاكم العقلانيّ وأظهر نكتة تستفاد من

__________________

ـ مى باشد ... واز اين قرار هر گروهى كه از درگاه عنايت كريم مطلق اعطاى گوهر گرانبهاى مذهب بحق ائمه اثنا عشر وفرمانفرماى نوع بشر ، كه عمده عطايا وزبده مرايا بخشنده عطياتست اختصاص يافته باشند ، رعايت اين معنى بيشتر از ديگران لازم ومراعات آن فرض ومتحتم است ؛ وچنانچه اين فرقه والا طبقه معلى مشغول الذمه اين دين واجب الأعداء مى باشد ، بر واقفان رموز عرفانى وعارفان ايقانى نيز در مذهب دين دارى وكيش تيقّظ وبيدارى فرض عين وعين فرض است كه معاضدت حارسان نقود شريعت وحافظان گوهر نواميس ملت نمايند ... ودرين وقت كه تقويت اين مرام واستحصال اين كام بر سوالف ايام رجحان دارد ، مطمح نظر والا ، ومركوز خاطر معلى آنست كه ، تيمار جماعت كه در حقيقت اداى دين واجبى به شهادت عدول مؤمنين است قيام نمايد ؛ كه چون بر مضمون فرمان واجب الاذعان اطلاع حاصل نمايد از روى اميدوارى تمام روانه درگاه جهان پناه ما شده ، به تقديم اين امر شريف ، كه در حقيقت استرضاء فرمانروايى صورت ومعنى است عمده عبادات وخلاصه طاعات داند. وبه توجهات شاهانه مست مال بوده اميدوار باشد». وفي مخطوطة رقم (٤٦٠٢) مكتبة جامعة طهران (فهرس مخطوطات المكتبة ١٤ / ٣٥٣٣) مجموعة من مراسلات الفيض وغيره ويوجد فيها رسالة من الشاه عباس إليه (الورقة ٣٦١ ـ ٣٦٤) وأيضا رسالة من الفيض إليه (الورقة ٣٦٤ ـ ٣٦٨) وجاء في الفهرس أن مضمون مكتوب الفيض حول صلاة الجمعة وطلب الانزواء ، وحيث ذكر أنّ تاريخ رسالة الفيض (ذي القعدة ١٠٦٦) ـ يعني بعد مضيّ سنة من تأليف رسالة شرح الصدر يعلم منها أنّ طلب السلطان من الفيض تكرر أيضا بعد المرّة الاولى وأنّه استعفى عن الأمر وقدّم تلك الأعذار.

١٢

نصّ كريمة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [٥ / ١] وأزال بها ما عرض لي من الشبهات والشكوك.

وملخّص ذلك أنّ رابطة الإيمان مع الشرع المحمديّ تستحكم إذا وفى المؤمن بكل عهد عاهده في كل من الحضرات والعوالم مع كل من الكائنات ، وعمل بمقتضى تلك العهود وقام بها ؛ وهذا المعنى لا يتحقق إلا بالاختلاط مع أهل الزمان ومقاساة الحوادث في الأزمان.

بلى ـ في ابتداء الحال لما لم يتوجّه من تفرقة الخارج إلى جمعية الداخل وكان منسرحا في عالم الهوى لا خبر له من وجوده ومعرفة نفسه ، يقتضي حكم «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» (١) أن يسلك سبيل الترك وينزل في منزل التجريد ؛ ولكن بعد ما وصل إلى مقام الفتوّة والرجوليّة ، يتحتّم عليه الولوج في سوق الاختلاط ، حتّى تصيبه إصابات الحوادث ، وتصل إليه في كل لحظة نائبة من نوائب الدهر. فالواجب عليّ لما وقعت في زمان ودولة قاهرة مريدة لاستحكام قواعد الملك واستمرار الدين الشريف ، أن أكون في حواشيها عونا ، نصرة في ترويج الدين وسياق الامور إلى الصراط المستقيم.

وبعد اللتيا واللتي توجّهت إلى صوب الملك ، ولما وصلت إليه رأيته أكثر مما كنت أسمع وأتصوّر ، ولما تشرّفت بملاقاته قرّبني وكرّمني ، وبعد جلسة أو جلستين من الحديث معه رأيته متوجّها إلى تشييد مباني الدين القويم والشرع المستقيم ؛ وإقامة الصلوات وترويج الجمعة والجماعات ؛ فلعله بحكم (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) [٢٩ / ٤٥] يترك بعض ما كان في طباع الناس من المنكر ويهجر.

ولكن بحكم أن كل من اختصّ بعناية ملك من الملوك صار هدفا لسهام غيظ جمع من العفاريت المتشبّهين بالآدميّين ، والجهّال المتلبّسين بلباس أهل العلم ، والمريدين العلوّ والفساد ـ الذين هم موجودون في جميع الحواشي ، منتظرون للوصول إلى هذه المقامات التي لا يتصوّرون فوقها شيئا في هذا الملك والملكوت ـ فعادوني وسعوا فيّ وأرادوا إطفاء نور الله بأفواههم.

__________________

(١) ـ تحف العقول : وصية الإمام الكاظم عليه‌السلام لهشام ، ٣٩٥. عنه البحار : ١ / ١٥٠.

١٣

وكذلك جمع من أرباب العمائم المدّعين للاجتهاد والعلوم الشرعيّة انصرفوا مع جمع من العوام في ناحية مشتغلين بهذه العبادات تاركين للجمع حبّا للرئاسة.

وجمع آخر ـ من الذين غابوا عن افق الإنسانيّة جدّا ولم يبق فيهم شيء من الدين الحنيف ـ أخذوا يحرّمون الاشتغال بالجمعة والجماعات عند العوام ، ويعدّونه من العار والحرام ؛ (يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ) [٦١ / ٨].

وبالجملة أجمع الجميع على أن لا يعتصموا بحبل الله ويتفرّقوا ، ويعرضوا عن الثقلين ولا يصغوا إلى محكمات القرآن والحديث ؛ لا يسمح لهم طبعهم أن يقلدوا ، ولم يكن لهم توفيق أن يحقّقوا.

فجماع هذه الامور صار باعثا لفتور العزم السلطاني ، ولم يتمكّن الجمع الموجودون بالحضرة من الأذكياء ـ الذين كانوا عارفين بحقيقة الأمر ـ من نصرتي وإعانتي ، ولم أر نفسي فارس ميدان الجهّال والجدال ؛ ورأيتني تركت ما كنت فيه من الدعة والعافية والانزواء ، ولم أصل إلى منيتي وخاطري ، ملقى بين الأعداء ، ليس لي ناصر ولا معين ولا راحة في دنيا ولا ترويج لدين.

بلى في هذا الابتلاء والامتحان ، والوقوع في أمواج هذا البحر الخضم ، حصلت لي تجارب وصرت مصداقا للحديث المعروف (١) : «عارفا بأهل زمانه» ؛ وعرفت وجه ارتداد العامة بعد وفاة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وزاد معرفتي بالحقّ وأوليائه وأعدائه ، وأعرضت عن غير الحق بالمرة.

مونس وغمگسار من نيست بجز خيال او

گر نبود خيال او ، با كه دمى بسر برم

ديده دمى گشوده ام ، گو كه درآيد از درم

تخم ولاش كشته ام ، تا كه ازو ثمر برم

كى بود آنكه وصل او روزى جان من شود

روى كنم به روى او ، غصه ز دل بدر برم

__________________

(١) ـ الكافي : ٢ / ٢٢٤. كتاب الإيمان والكفر ، باب الكتمان ، ح ١٠.

١٤

ليس ما أقول إلا قصّة العشق والاشتياق ، وشرحا للقلب المحروق من الفراق ، يفهم ذلك من كان له قلب أو ألقى السمع وسمع الكلام من قائله لا من يخبر عنه ، أعنى من كان من أهل الحضور والشهود ، لا من الذين (يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) [٤١ / ٤٤] (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [٥ / ٣٧].

قصه عشق سروديم بسى

سوى ما گوش نينداخت كسى

ناله بيهوده ، تا چند توان

كو درين باديه فرياد رسى

نيست در روى زمين اهل دلى

نيست در زير فلك هم نفسى

نيست در باغ جهان جز خارى

نيست در دور زمان غير خسى

به سراپاى جهان گرديدم

آشناىِ دل ما كيست كسى

رفته رفته زبر ما رفتند

نيست جز ناله كنون هم نفسى

 ......

كو كسى تا كه بفهمد سخنى

كو كسى تا ببرد مقتبسى

چه سُرايم سخن ، پيش كران

گوهرى را چه محل نزدِ خسى

چه نمائيم به كوران خوبى

شكرى را چه كند خر مگسى

سرِ اين شهد بپوشان اى فيض

نيست در دهر خريدار كسى

 ـ انتهى ما أخذناه وعرّبناه من رسالة شرح الصدر (١).

__________________

(١) ـ وله ـ قدس‌سره ـ رسالة (طبعت باسم «الاعتذار» مع عدة من رسائله بأصبهان سنة ١٣٧١ ، ص ٢٧٨ ـ ٢٩١) كتبها معتذرا عمن سأله التوسط لدى السلطان لأن ينصبه إماما للجمعة والجماعات في مشهد الرضا عليه‌السلام ؛ فاعتذر عن إجابة المأمول وكتب سيرته وعدم طلبه شيئا من أحد ـ وسيما من الحكام ـ طوال عمره كعذر إلى السائل ؛ وهذه الرسالة ـ كما يظهر منها ـ كتبها حينما كان في أصبهان مشتغلا بإقامة الجمعة والجماعات وهدفا لسهام الحسّاد والجهّال من العوام والخواصّ ؛ تكرر فيها ما جاء من ذلك في رسالة شرح الصدر وقال في آخرها : «ولقد صرت في أمري والها حيران ، لا أدري ما ذا أصنع ، وإلى أين أهرب ، ضلت عنّي الفتوّة ، والمروّة ، ولا أجد أحدا محلا للاخوّة ، ولا أهلا للمروّة ، بين قوم لا يدرون أيّا من أيّ ، وليسوا من رعاة الدين في شيء ، حتّى اسرتي وأصحابي ، فإنّهم سالكون غير سبيلي وليس أحد منهم من قبيلي ، ...». ـ

١٥

ونلخص المعلومات الواردة في هذه الرسالة وغيرها حول رحلات الفيض كما يلي :

إنّه سافر إلى أصبهان في العشرين من عمره ، أي في سنة ١٠٢٧ ـ بناء على أنّ سنة ولادته هي: ١٠٠٧.

رحل إلى شيراز في نفس السنة بناء على أنّ وفات السيد ماجد البحراني كانت في سنة ١٠٢٨ ، وصرح الفيض أنه أقام عنده مدّة وأخذ منه إجازة ، فلا أقلّ أن يكون ذلك في سنتين أو ما يقرب منها.

والظنّ الغالب أنّه رجع إلى أصبهان في نفس السنة ، وقد صرح أنّه بعد الرجوع إلى أصبهان والاستفادة من الشيخ البهائي وأخذ إجازة الحديث منه سافر إلى الحج وبعد الرجوع من الحج والطواف في بعض البلاد وصل إلى صدر المتألهين في قم ، فيمكن أن نحدس أنّه كان حوالي سنة ١٠٣٢.

وقد أقام في قم ثماني سنين ـ على ما صرّح به ـ وبنى ببنت صدر المتألهين فيه ، ثمّ رحل معه إلى شيراز بعد سنة ١٠٣٩ ، إذ فيها ولد ابنه علم الهدى في قم ، فكان الفيض فى هذه السنة ساكنا في قم ، فالرجوع إلى شيراز وقع في هذه السنة أو بعدها. وعلى هذا لا يصح ما جاء في بعض المصادر (١) من أنَّ رجوع صدر المتألهين إلى شيراز كان بأمر الشاه عباس الأول الصفوي ، فإنّ هذا السلطان توفّى سنة ١٠٣٨ ، والفيض كان بعد هذه

__________________

ـ وليست في هذه الرسالة زيادة على ما في شرح الصدر غير أنّه قال فيها : «... وإنّي كنت برهة من الزمان أعيش مع جماعة من الأطفال والعيال بلا كسب ولا وقف ولا وظيفة ولا سؤال ، ولا قبول تصديق ولا إدرار من شبهة أو حلال ، وما كان لي صناعة ولا بضاعة سوى غنى النفس ؛ بل كنت قد ورثت من والدي ـ طاب ثراه ـ من الحلال ما لو كان وظيفة عام لأحدكم لاستقله غاية الاستقلال ، كنت قد أودعته عند من يتّجر لي به ـ وكنت اكافيه على تجارته بشيء من ربحه لئلا يكون لمخلوق عليّ منّة ـ وكان يعطيني من ربحه ما أكتفي به وأقنع ، وبالقناعة به أشبع ؛ وكنت معرضا عن الإنفاق في الفضول ، ورضيت عن نفسي بترك مروّة للإعطاء ، لما رأيت أن المروّة في التعفّف أكثر منه في الإعطاء ...».

(١) ـ عالم آراى عباسى.

١٦

السنة أيضا في قم مع صهره صدر المتألهين ، أو لعلّ الأمر به صدر قبل فوت الشاه عباس وتأخّر العمل بها لبعض الامور.

وبعد سنتين رجع إلى كاشان وأقام فيها ؛ فالوصول إلى كاشان كان حوالي سنة ١٠٤١ ـ ١٠٤٢ ، على التخمين القريب من اليقين.

كاشان وصفاهان وقم وقمصر وشيراز

برديم بسر در همه با مهتر وكهتر

هرچند كه جستيم نديديم ونماندست

آن يار إلهى كه بريم از سخنش بر (١)

كلمات العلماء في شأنه

ترجم له جميع مصنفي كتب التراجم وأثنى عليه جميع العلماء والمترجمين إلا من شذّ وندر.

فأقدم من ذكره معاصره السيد علي خان المدني حيث قال (٢) :

«المولى العلامة محمد بن الشاه مرتضى الشهير بملا محسن القاشاني ، له كتب ومصنفات جليلة في الفقه والحديث والكلام والحكمة ، وهو من أهل العصر الموجودين الآن».

ثم الشيخ الحرّ العاملي في أمل الآمل (٣) :

«المولى الجليل محمد بن مرتضى المدعوّ بمحسن ، كان فاضلا عالما ماهرا حكيما متكلما محدّثا فقيها محقّقا شاعرا أديبا حسّن التصنيف من المعاصرين له كتب منها كتاب الوافي ، جمع الكتب الأربعة مع شرح أحاديثها المشكلة إلا أنّ فيه ميلا إلى بعض طريقة الصوفيّة ، وكذا جملة من كتبه ...».

وكتب تلميذه السيد نعمة الله الجزائري (٤) :

«وحكى لي جماعة من الثقات أنّها نقلت بعض القرى من أماكنها ، فلمّا

__________________

(١) ـ ديوان الفيض : ١ / ٣٣٤.

(٢) ـ سلافة العصر : ٤٩١.

(٣) ـ أمل الآمل : ٢ / ٣٠٥ ـ ٣٠٦.

(٤) ـ زهر الربيع : ٧٢ ـ ٧٣.

١٧

بلغ خبرها إلى الملك كان أستادنا العلامة المحقّق الكاشاني ـ صاحب كتاب الوافي ونحوه من المصنّفات التي بلغ عددها مائتي كتاب ، بل تزيد على ذلك ـ حاضرا في المجلس ، فسأله عن السبب في ذلك ، فقال : «هذا من جور القضاة ، لأنّهم يحكمون بما يوافق آراءهم وما تدعو إليه البراطيل والرشا ، وينسبون الكلام إلى رسول الله والأئمة الطاهرين ـ صلوات الله عليهم أجمعين» فقال : «ينبغي أن نقرّر في كلّ بلد مجتهدا من المجتهدين إذا رجعنا من هذا السفر إلى أصبهان» وكان ذلك الوقت في نواحي خراسان وعزم إذا رجع أن يجعل المولى محمّد باقر الخراساني قاضيا في أصبهان لأنه فقيه عادل ؛ ثمّ قال للفاضل الكاشاني : «إنّ المولى محمد باقر إذا لم يقبل كيف نصنع معه؟». فقال : «نعم ، يجب عليه أن لا يقبل ، ويجب عليك أن تجبره على ذلك حتّى يتعيّن عليه القبول». فعزم السلطان على ذلك ، ثمّ انتقل في ذلك السفر إلى جوار الله سبحانه ولم يتّفق له ما أراده ؛ نعم ، اتّفق لولده السلطان المؤيّد الشاه سليمان ـ نصره الله تعالى إلى آخر الزمان ـ فإنّه عيّن في هذا الوقت شيخنا المحقّق المحدّث صاحب بحار الأنوار ...».

ويعلم من هذا النقل أن الملك الذي تكلم معه الفيض ـ قدس‌سره ـ كان الشاه عباس الثاني ، وبما أنّه مات سنة (١٠٧٧) في سفره إلى المشهد الرضوي (١) ـ عليه آلاف التحية والثناء ـ فلا بدّ أن الفيض لاقاه في هذا السفر ، ويتبيّن منه أنّ الاتّصال بين الفيض والحكومة لم ينقطع بالمرّة بعد انفصاله عن إقامة الجمعة والجماعات في عاصمة الحكومة الصفويّة أصبهان ورجوعه إلى كاشان (٢).

ونقل صاحب لؤلؤة البحرين (٣) : «حكى السيد نعمة الله الجزائري الشوشتري ـ قال ـ كان لاستاذنا المحقق المولى محمد محسن الكاشاني ـ صاحب الوافي وغيره ـ مما يقارب مائتي كتاب ورسالة ، وكان نشؤه في بلدة قم ، فسمع بقدوم السيد الأجل المحقّق المدقّق ، الإمام الهمام السيد ماجد

__________________

(١) ـ تاريخ مفصّل ايران تأليف عباس إقبال : ٦٩٨.

(٢) ـ صرّح في رسالة شرح الصدر أنه ترك إقامة الجمعة والجماعات في أصبهان ورجع إلى موطنه كاشان ـ لامور ذكرها ـ والرسالة مكتوبة في سنة (١٠٦٦).

(٣) ـ لؤلؤة البحرين : ١٣٠. ولم أعثر على مصدره من كتب السيد الجزائري ـ ره ـ.

١٨

البحراني الصادقي إلى شيراز ، فأراد الارتحال إليه لأخذ العلوم منه ، فتردّد والده في الرخصة إليه ، ثمّ بنوا الرخصة وعدمها على الاستخارة ، فلمّا فتح القرآن جاءت الآية (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) [٩ / ١٢٢] ـ ولا آية أصرح وأنصّ وأدلّ على هذا المطلب مثلها ـ ثمّ بعد تفأل بالديوان المنسوب إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فجاءت الأبيات هكذا :

تغرّب عن الأوطان في طلب العلى

وسافر ، ففي الأسفار خمس فوائد

تفرّج همّ واكتساب معيشة

وعلم وآداب وصحبة ماجد

فإن قيل : في الأسفار ذلّ ومحنة

وقطع الفيافي وارتكاب الشدائد

فموت الفتى خير له من مقامه

بدار هوان بين واش وحاسد

وهذه أيضا أنسب بالمطلوب ، ولا سيّما قوله : «وصحبة ماجد». فسافر إلى شيراز وأخذ العلوم الشرعيّة عنه ، وقرأ العلوم العقليّة على الحكيم الفيلسوف المولى صدر الدين الشيرازي وتزوّج ابنته ...».

والظنّ الغالب كون هذه الحكاية مخترعة ، والعجب من السيد الجزائري وصاحب اللؤلؤة كيف لم يتنبّها لمواضع النظر فيها : فأولا كان نشوء الفيض في مولده كاشان. وثانيا اتّفقت وفاة والد الفيض في الثانية من عمره ولم يره ـ قدس‌سره ـ حتى يتمكّن من الاستشارة والاستجازة منه. وثالثا : ـ على ما هو ظاهر من رسالة شرح الصدر ـ لم يكن الفيض في ابتداء السفر عازما إلى شيراز ، بل قصد تحصيل العلم في أصبهان ، ثم عزم فيه على الرحيل إلى شيراز.

وقال صاحب جامع الرواة (١) :

«محسن بن المرتضى الكاشي ، رحمه‌الله تعالى ، العلامة المحقّق المدقّق جليل القدر عظيم الشأن ، رفيع المنزلة ، فاضل كامل أديب متبحّر في جميع العلوم ، له قريبا من مائة تأليفات ، منها ...».

__________________

(١) ـ جامع الرواة : ٢ / ٤٢.

١٩

وذكره الشيخ يوسف البحراني (١) عند ذكر مشايخ المولى محمد باقر المجلسي ، قائلا :

«ومنهم المحدّث القاساني محمّد بن مرتضى المدعوّ بمحسن ؛ وهذا الشيخ كان فاضلا محدّثا أخباريّا صلبا كثير الطعن على المجتهدين ، ولا سيّما في رسالته سفينة النجاة ، حتّى يفهم منها نسبة جمع من العلماء إلى الكفر ـ فضلا عن الفسق ـ مثل إيراده آية : (يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا) ، أي (وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) [١١ / ٤٢] ؛ وهو تفريط وغلوّ بحت ، مع أنّ له من المقالات التي جرت على مذهب الصوفيّة والفلاسفة ما يكاد يوجب الكفر ـ والعياذ بالله ـ مثل ما يدلّ في كلامه على القول بوحدة الوجود ، وقد وقفت له على رسالة قبيحة صريحة في القول بذلك ...».

سيرته العلمية

[مضى القول بأنّه ـ قدس‌سره ـ كان جامعا للعلوم العقلية والنقلية ومن مصاديق الحديث المعروف : «من علم وعمل بما علم ، ورّثه الله علم ما لم يعلم» ؛ تشهد بذلك كتبه القيّمة المصنّفة في شتّى المجالات:

فهو فقيه أخباريّ (٢) ، كما قال صاحب لؤلؤة البحرين :

«كان فاضلا محدّثا أخباريّا صلبا كثير الطعن على المجتهدين».

وقد صنّف في انتصار مذهبه كتابين ـ سفينة النجاة والاصول الأصلية ـ على أنّه لم يفوّت أيّة مناسبة في تبيين مرامه والتحامل على المجتهدين (٣) ، ولذلك أيضا لقى معاناة مخالفيه كما أشار إليه فيما نقلناه من رسالة شرح الصدر :

__________________

(١) ـ لؤلؤة البحرين : ١٢١ ـ ١٣١.

(٢) ـ ذكر المغفور له السيد محمد مشكاة ـ ره ـ الفتاوى النادرة التي خالف الفيض فيها اجماع الفقهاء في مقدمة المحجة البيضاء ١ / ٣٤ ـ ٣٨ و ٤ / ١٦ ـ ١٧.

(٣) ـ مثل جاء في : قرة العيون : ٤٤٠ ـ ٤٤٤. الكلمات المكنونة ٢١٧ ـ ٢٢٨. الحقائق : ١٥ ـ ٢١.

الوافي : ١ / ١٣ ـ ١٨. المحجة البيضاء : ١ / ٤٩ ـ ٥٢ ، وغيرها.

٢٠