علم اليقين في أصول الدين - ج ١

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]

علم اليقين في أصول الدين - ج ١

المؤلف:

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]


المحقق: محسن بيدارفر
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: انتشارات بيدار
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
ISBN: 964-90800-2-3
ISBN الدورة:
964-90800-1-5

الصفحات: ٧١٦

قلوبها. كما أخبر الله ـ عزوجل ـ به فقال : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) [٣ / ٧].

فالرسول والإمام والكتاب هم الحجّة على الامّة (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) [٨ / ٤٢].

وأيضا وجود الإمام لطف من الله ـ تعالى ـ بعبيده ، لأنّه بوجوده فيهم يجتمع شملهم ، ويتّصل حبلهم ، وينتصف الضعيف من القويّ ، والفقير من الغنيّ ، ويرتدع الجاهل ، ويتيقّظ الغافل ؛ فإذا عدم بطل الشرع وأكثر أحكام الدين وأركان الإسلام ـ كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقضايا ، ونحو ذلك ـ فتنتفي الفائدة المقصودة منها.

وأمّا غيبة بعض الأئمّة في بعض الأحيان ، وتعطّل الأحكام في المدد المتطاولة : فإنّما ذلك من جهة الرعيّة دون الإمام ، فليس ذلك نقصا على لطف الله ـ سبحانه ـ فإنّما على الله ـ عزوجل ـ إيجاد الإمام للرعيّة ليجمع به شملهم ، فإن لم يمكّنوه من فعله ـ لعدم قابليّتهم وسوء استعدادهم ـ فما على الله من ذلك حجّة : (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [٣٠ / ٩] ؛ وذلك كما في سائر الكمالات والخيرات ، فإنّها إنّما تفيض على العباد بقدر قابليّتهم. مع أنّ ما في الغيبة من الخيرات والحكم ـ من تضاعف مثوبات المؤمنين بها ، المصدّقين بوجود الإمام في أعمالهم الصالحات ـ ما يسهل معها فوات إقامة الحدود ونحوها. وسيأتي تمام الكلام في ذلك إن شاء الله.

٥٠١

فصل [٢]

[صفات الإمام]

ويجب أن يكون أفضل الامّة ، وأقربهم إلى الله ـ سبحانه ـ وأن تجتمع فيه خصال الخير المفرّقة في غيره ـ مثل العلم بكتاب الله وسنّة رسوله ، والفقه في دين الله ، والجهاد في سبيل الله ، والرغبة فيما عند الله ، والزهد فيما بيد خلق الله ، إلى غير ذلك من الخيرات ـ.

وأن يكون معصوما من الزيغ والزلل والخطأ في القول والعمل ، منزّها عن أن يحكم بالهوى أو يميل إلى الدنيا.

وقد مرّ حديث عصمة الإمام (١).

وفي معاني الأخبار (٢) بإسناده عن مولانا الكاظم ، عن أبيه ، عن أبيه ، عن السجّاد عليهم‌السلام قال : «الإمام منّا لا يكون إلّا معصوما ؛ وليست العصمة في ظاهر الخلق فيعرف بها ، ولذلك لا يكون إلّا منصوصا».

فقيل له : «يا ابن رسول الله ، فما معنى المعصوم»؟

فقال : «هو المعتصم بحبل الله ، وحبل الله هو القرآن ؛ لا يفترقان إلى يوم القيامة ؛ والإمام يهدي إلى القرآن ، والقرآن يهدي إلى الإمام ؛ وذلك قول الله ـ عزوجل : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [١٧ / ٩].

__________________

(١) ـ راجع الفصل السادس من الباب الثاني من هذا المقصد ، ص ٤٧٤.

(٢) ـ معاني الأخبار : باب معنى عصمة الإمام ، ١٣٢ ، ح ١. عنه البحار : ٢٥ / ١٩٤ ، ح ٥.

٥٠٢

وبالجملة ، كلّ ما اشترط في النبيّ من الصفات فهو شرط في الإمام ، ما خلا النبوّة.

قال مولانا الصادق عليه‌السلام (١) : «كلّ ما كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلنا مثله إلّا النبوّة والأزواج».

أقول : وذلك لما دريت أنّ الغرض الأصلي من بعثة الأنبياء والرسل تقوية الجنبة العالية ، واستخدام الغيب للشهادة ؛ لا مجرّد السياسة الحافظة للاجتماع الضروري ؛ ولأجل ذلك عبء الأمانة ثقيل ، وخطبها جليل ، وأمرها عظيم ، وخطرها جسيم.

فصل [٣]

[الإنسان الكامل غرض الخلقة]

اعلم أنّ الغاية القصوى والفائدة العظمى من إيجاد العالم الحسّي إنّما هي خلقة الإنسان ؛ وغاية خلقة الإنسان بلوغه إلى أقصى درجة الكمال ، واتّصاله بالملإ الأعلى ، ومعرفته للمعبود الحقّ ، والعبوديّة الكاملة له ـ عزوجل ـ كما قال سبحانه : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [٥١ / ٥٦].

فخلقة سائر الكائنات ـ من الجمادات والنباتات والحيوانات ـ إنّما هي لضرورة تعيّش الإنسان واستخدامه إيّاها وانتفاعه بها ، ولئلّا يهمل

__________________

(١) ـ حكاه المجلسي ـ قدس‌سره ـ في البحار (٢٦ / ٣١٧ ، ح ٨٣) نقلا عن كتاب تفضيل الأئمة على الأنبياء للحسن بن سليمان.

٥٠٣

فضالة الموادّ الّتي قد صرف صفوها وزبدتها في تكوّن الإنسان ؛ فإنّ الحكمة الإلهيّة والرحمة الرحمانيّة تقتضي أن لا يفوت حقّ من الحقوق ؛ بل يصيب كلّ مخلوق من السعادة قدرا يليق به ويحتمله ويستعدّ له.

والدليل (١) على أنّ الإنسان هو الغرض الأصلي من بين الكائنات تسخير الله ـ عزوجل ـ له كلّها كما قال ـ جلّ جلاله ـ : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) [٤٥ / ١٣].

(وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ* وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) [١٦ / ١٢ ـ ١٣].

قال بعض المحقّقين :

«التسخير على ضربين : حقيقيّ ، وغير حقيقيّ. أمّا الغير الحقيقي فهو على ثلاثة أقسام :

أدناها الوضعيّ العرضيّ ؛ كتسخير الله ـ سبحانه ـ للإنسان وجه الأرض وما فيها للحرث والزرع وغير ذلك ، و (سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) [٢٢ / ٦٥] جميعا.

ومن ذلك تسخير الجبال والمعادن : (جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) [١٦ / ٨١].

__________________

(١) ـ عين اليقين : ٣٩١.

٥٠٤

ومنه تسخير البحار : (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [١٦ / ١٤].

ومنه تسخير الفلك : (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ) [١٤ / ٣٢].

ومنه تسخير الأشجار للغرس وأخذ الثمار وغيرها : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ) (١) [٦ / ١٤١] (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ) [٢٠ / ٥٤] (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ* يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ) [١٦ / ١٠ ـ ١١] (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) [١٦ / ٦٧] (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) [٣٦ / ٨٠].

ومنه تسخير الدوابّ والأنعام للركوب والزينة وحمل الأثقال : (أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ* وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ) [٣٦ / ٧١ ـ ٧٢] (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ* وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ* وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ* وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) [١٦ / ٥ ـ ٨].

ومنه تسخير النسوان والجواري للنسل والتوليد (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) [٢ / ٢٢٣].

__________________

(١) ـ في النسخ : كلوا من الثمرات. والصحيح ما أثبتناه.

٥٠٥

وأوسطها التسخير الطبيعي : وهو تسخير جنود القوى النباتيّة ومواضعها له للتغذية والتنمية والتوليد والجذب والإمساك والهضم والدفع والتصوير والتشكل.

وأعلاها التسخير النفساني : وهو تسخير الحواسّ :

وهي على صنفين : صنف من عالم الشهادة ، وصنف من عالم الغيب :

أمّا الأوّل فلا يستطيعون له خلافا ، ولا عليه تمرّدا ، فإذا أمر العين بالانفتاح انفتحت ، وإذا أمر اللسان بالتكلّم وجزم الحكم به تكلّم ، وإذا أمر الرجل بالحركة تحرّكت ـ وكذا سائر الأعضاء الظاهرة.

وأمّا الثاني فكذلك ، إلّا أنّ الوهم له شيطنة بحسب الفطرة ، يقبل إغواء الشيطان فيعارض العقل في مقاصده البرهانيّة الإيمانيّة ، فيحتاج إلى تأييد جديد اخرويّ من جانب الله ليقهره ويغلب عليه ويطرد ظلماته.

وأمّا التسخير الحقيقي فهو عبارة عن تسخير الله المعاني العقليّة الإلهيّة للكامل من الإنسان ، وجعله بقوّته الباطنيّة إيّاها صورا روحانيّة ، أو أمثلة غيبيّة موجودة في عالمه العقلي والخيالي ، ونقله الأشياء من عالم الشهادة إلى عالم الغيب بانتزاعه من الجزئيّات ، وقبضه الأرواح من موادّ الأجسام والأشباح بإمداد الله من اسمه «القابض» ، راجعا من عالم الدنيا إلى الآخرة ، ومنقلبا من حالة التفرقة والافتراق إلى حالة الجمع والتلاق ـ انتهى كلامه ـ

٥٠٦

[لا يخلو الأرض من خليفة الله تعالى]

ولمّا ثبت أنّ خلق هذا العالم الجسماني إنّما هو لأجل الإنسان ، فالملائكة المدبّرون له كلّهم خادمون له ، مسخّرون لأجله ، مطيعون إيّاه ، سماويين كانوا أم أرضيّين ، موكّلين به أم بسائر ما خلق لأجله (١).

وبالجملة ـ فالغرض الأصلي من خلق الموجودات مطلقا إنّما هو وجود الإنسان الكامل ، الذي هو خليفة الله في أرضه ؛ كما اشير إليه في الحديث القدسي (٢) : «يا ابن آدم ، خلقت الأشياء لأجلك ، وخلقتك لأجلي».

وفي حديث آخر مشهور ـ خطابا لنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ (٣) : «لولاك لما خلقت الأفلاك».

وعن أهل البيت عليهم‌السلام (٤) : «نحن صنائع الله ، والناس بعد صنائع لنا ، مصنوعين لأجلنا».

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (٥) ـ في حديث طويل قاله لأمير المؤمنين عليه‌السلام : «إنّ

__________________

(١) ـ كتب أولا ما يلي ثم شطب عليه : «وكأن هذا هو تأويل السجود المأمور به الملائكة لآدم ـ والله أعلم ـ».

(٢) ـ لم أعثر عليه في الجوامع الروائية ، وورد كثيرا في مكتوبات العرفاء ؛ جاء في الفتوحات المكية (١ / ٢٩٥ ، الباب الستون) : «وأنزل الله في التوراة : يا ابن آدم ، خلقت الأشياء من أجلك وخلقتك من أجلي».

(٣) ـ أورده المجلسي ـ ره ـ في البحار (١٥ / ٢٨ و ٥٧ / ١٩٩) عن كتاب الأنوار المنسوب إلى الشيخ أبي الحسن البكري ؛ وقد ورد مضمونه في عدة من الروايات منها الذي تذكر بعد الرواية التالية.

(٤) ـ جاء في نهج البلاغة (الكتاب ٢٨) : «... فإنّا صنائع ربّنا والناس بعد صنائع لنا».

(٥) ـ كمال الدين : باب نصّ الله عزوجل على القائم عليه‌السلام : ٢٥٤ ، ح ٤.

٥٠٧

الله ـ تبارك وتعالى ـ فضّل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقرّبين وفضّلني على جميع النبيّين والمرسلين ، والفضل بعدي لك ـ يا علي ـ وللأئمة من بعدك ، وإنّ الملائكة لخدّامنا وخدّام محبّينا.

يا علي : الذين يحملون العرش ومن حوله يسبّحون بحمد ربّهم ويستغفرون للذين آمنوا بربّهم وبولايتنا.

يا علي : لو لا نحن ما خلق الله ـ تعالى ـ آدم ، ولا حوّاء ، ولا الجنّة ولا النار ، ولا السماء ، ولا الأرض» ـ الحديث ـ

وسيأتي تمامه فيما بعد.

وعن مولانا الصادق عليه‌السلام ، عن أبيه الباقر ، عن أبيه السجّاد عليه‌السلام ، قال : «نحن أئمّة المسلمين ، وحجج الله على العالمين ، وسادة المؤمنين ، وقادة الغرّ المحجّلين ، وموالي المؤمنين ، ونحن أمان لأهل الأرض كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء ، ونحن الذين بنا يمسك الله السماء أن تقع على الأرض إلّا بإذنه ، وبنا يمسك الأرض أن تميد بأهلها ، وبنا ينزّل الغيث ، وتنشر الرحمة ، ويخرج بركات الأرض ، ولو لا ما في الأرض منّا لساخت بأهلها».

ثمّ قال : «ولم تخل الأرض منذ خلق الله آدم من حجة لله فيها ظاهر مشهور ، أو غائب مستور ، ولا تخلو إلى أن تقوم الساعة من حجة لله فيها ، ولو لا ذلك لم يعبد الله».

ـ قال الراوي : ـ فقلت للصادق عليه‌السلام : «فكيف ينتفع الناس بالحجّة الغائب المستور»؟

٥٠٨

قال : «كما ينتفعون بالشمس إذا سترها سحاب».

رواهما الشيخ الصدوق في إكمال الدين وإتمام النعمة (١) ، والأخبار في هذا المعنى كثيرة.

وإذا ثبت ذلك ، ثبت أنّه لا بدّ في كلّ زمان من وجود خليفة يقوم به الأمر ويدوم به النوع ، ويحفظ به البلاد ، ويهتدي به العباد ، ويمسك به السماوات والأرضون ، وإلّا فيكون الكلّ هباء وعبثا ، إذ لا ترجع إلى غاية ، ولا تؤول إلى عاقبة ، ففنيت إذن وخربت ، وساخت الأرض بأهلها. كما في الحديث المذكور :

«فلو خلق الله الخليقة خلوا من الخليفة لكان قد عرضهم للتلف» (٢)

ولهذا لمّا أراد الله ـ عزوجل ـ خلق الناس قال : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [٢ / ٣٠]. فبدأ بالخليفة قبل الخليقة ؛ والحكيم العليم يبدأ بالأهمّ دون الأعمّ.

وتصديق ذلك قول مولانا الصادق عليه‌السلام (٣) في الصحيح : «الحجّة قبل الخلق ، وبعد الخلق ، ومع الخلق».

__________________

(١) ـ إكمال الدين : باب العلة التي من أجلها يحتاج إلى الإمام ، ٢٠٧ ، ح ٢٢.

أمالي الصدوق : الحديث الأخير من المجلس الرابع والثلاثون : ٢٥٢ ـ ٢٥٣.

وأورده الطبرسي ـ ره ـ في الاحتجاج : ٢ / ١٥١. عنها البحار : ٢٣ / ٥ ، ح ١٠.

(٢) ـ إكمال الدين : مقدمة المصنف : ٤.

(٣) ـ لفظ الحديث : «الحجّة قبل الخلق ، ومع الخلق ، وبعد الخلق» الكافي : كتاب الحجّة ، باب أن الحجّة لا تقوم على خلقه إلا بإمام : ١ / ١٧٧ ، ح ٤.

كمال الدين : الصفحة السابقة. و ٢٢١ ، ح ٥. و ٢٣٢ ، ح ٣٦.

٥٠٩

وقال تعالى : (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) [٦ / ٨٩] ، دلّ على أنّه لا يخلو كلّ زمان من حافظ للدين ، إمّا نبيّ أو إمام.

وقال عزوجل (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [٣٥ / ٢٤]. وهذا عامّ في سائر الامم ، وعمومه يقتضي أنّ في كلّ زمان ـ حصلت فيه أمّة مكلّفة ـ نذيرا ؛ ففي أزمنة الأنبياء عليهم‌السلام هم النذر للامم ، وفي غيرها الأئمّة عليهم‌السلام.

وقال سبحانه : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [١٦ / ٨٩] ، وقال : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [٤ / ٤١].

وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في طرق متعدّدة وألفاظ متكثّرة (١) : ـ «في كلّ خلف من أمّتي عدل من أهل بيتي ، ينفون عن الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين».

ولنزد من الأخبار تأكيدا وتشييدا.

__________________

(١) ـ كمال الدين : باب أن الأرض لا تخلو من حجة ، ٢٢١ ، ح ٧. وما يقرب منه في قرب الإسناد : ٧٧ ، ح ٢٥٠. عنه البحار : ٢٣ / ٣٠ ، ح ٤٦. والتفسير المنسوب إلى العسكري عليه‌السلام : في تفسير (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) : ص ٤٧. عنه البحار : ٢٧ / ٢٢٢ ، ح ١١. اختيار معرفة الرجال : ٤. عنه البحار : ٢ / ٩٢ ، ح ٢٢.

وقريب منه ما روي عن الصادق عليه‌السلام في بصائر الدرجات : ١٠ ـ ١١.

الاختصاص : ٤. عنهما البحار : ٢ / ٩٢.

الكافي : كتاب فضل العلم ، باب صفة العلم وفضله ... : ١ / ٣٢ ، ح ٢.

٥١٠

فصل [٤]

[وجوب وجود الحجة بالنصوص]

روى كميل بن زياد عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام في حديث طويل مشهور (١) : «إنّه لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة : إمّا ظاهر مشهور ، وإمّا خائف (٢) مغمور».

وروى في إكمال الدين (٣) ـ بإسناده ـ عن أبي حمزة الثمالي ، عن أبي

__________________

(١) ـ كمال الدين : ما أخبر به عليّ عليه‌السلام من وقوع الغيبة : ٢٩٠ ـ ٢٩٤ ، ح ٢ بألفاظه وأسانيده المختلفة. عنه البحار : ٢٣ / ٤٦ ـ ٤٩ ، ح ٩١. الخصال : باب الثلاثة ، ح ٢٥٧ ، ١ / ١٨٧. عنه البحار : ١ / ١٨٨ ، ح ٤. وما يقرب منه في أمالي الطوسي : المجلس الأول ، ٢٠ ، ح ٢٣. الغيبة للطوسي : ٢٢١ ، ح ١٨٣. نهج البلاغة : الحكمة الأول ، ٢٠ ، ح ٢٣. الغيبة للطوسي : ٢٢١ ، ح ١٨٣. نهج البلاغة : الحكمة (١٤٧). تحف العقول : من كلامه عليه‌السلام لكميل بن زياد : ١٧٠. الغارات : ١ / ١٥٣. عنها البحار : ١ / ١٨٩. تفسير القمي : في تفسير الآية الرعد / ٧ ، ١ / ٣٨٩. علل الشرائع : باب (١٥٣) العلة التي من أجلها لا تخلو الأرض من حجة ... ، ١ / ١٩٥ ، ح ٢. عنهما البحار : ٢٣ / ٢٠ ، ح ١٦ و ١٧. الغيبة للنعماني : الباب ٨ ، ح ١ ، ١٣٦. عنه البحار : ٢٣ / ٥٥ ، ح ١١٦.

(٢) ـ في المصدر : إما خاف.

(٣) ـ كمال الدين : باب العلة التي من أجلها يحتاج إلى الإمام : ٢٠١ ، ح ١. علل الشرائع : باب (١٥٣) العلة التي من أجلها لا تخلو الأرض من حجة الله عزوجل ، ١٩٦ ، ح ٥.

عنهما البحار : ٢٣ / ٢١ ، ح ٢٠. و ٢٣ / ٢٦ ، ح ٣٤. و ٢٣ / ٢٨ ، ح ٤٠.

الكافي : كتاب الحجة ، باب أن الأرض لا تخلو من الحجة ، ١ / ١٧٩ ، ح ١٠. الغيبة للطوسي : ٢٢٠ ، ح ١٨٢. الغيبة للنعماني : باب أن الله لا يخلو أرضه بغير حجة ، ١٣٨ ، ح ٨. عنهما البحار : ٢٣ / ٢٤ ، ح ٣٠. وما يقرب منه في بصائر الدرجات : الجزء العاشر ، باب (١٢) أن الأرض لا تبقى بغير إمام ... ، ص ٤٨٨ ، ح ٢. عنه البحار : ٢٣ / ٢٨ ، ح ٤٠. ومثله عن الرضا عليه‌السلام في كمال الدين : الباب المذكور ، ٢٠٢ ، ح ٥. و ٢٠٤ ، ح ١٥. عيون الأخبار : باب (٢٨) فيما جاء عن الرضا عليه‌السلام ـ

٥١١

عبد الله عليه‌السلام ـ قال : ـ قلت له : «أتبقى الأرض بغير إمام»؟

قال : «لو بقيت الأرض بغير إمام ساعة لساخت».

وبإسناده (١) عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «لو أنّ الإمام رفع من الأرض ساعة لماجت(٢) بأهلها كما يموج البحر بأهله».

وبإسناده (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث له في الحسين بن عليّ عليه‌السلام (٤) إنّه قال في آخره : «ولو لا من على الأرض من حجج الله :

لنفضت (٥) الأرض ما فيها ، وألقت ما عليها ؛ إنّ الأرض لا تخلو ساعة من الحجّة».

وبإسناده (٦) عن الحسن بن زياد ـ قال : ـ سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «إنّ الأرض لا تخلو من أن يكون فيها حجّة عالم ، إنّ الأرض لا يصلحها إلّا ذلك ، ولا يصلح الناس إلّا ذلك».

__________________

ـ من الأخبار المتفرقة ، ١ / ٢٧٢ ، ح ١ ـ ٤. بصائر الدرجات : الباب المذكور ، ٤٨٨ ـ ٤٨٩ ، ح ٣ ـ ٧. عنها البحار : ٢٣ / ٢٩ ، و ٣٤.

(١) ـ كمال الدين : الباب المذكور ، ٢٠٢ ، ح ٣. الكافي : الصفحة السابقة ، ح ١٢. الغيبة للنعماني ، ١٣٩ ، ح ١٠. وما يقرب منه في بصائر الدرجات : الباب السابق ، ٤٨٨ ، ح ٣. البحار : ٢٣ / ٣٤ ، ح ٥٦. وعن الرضا عليه‌السلام ما يقرب منه : كمال الدين : الصفحة المذكورة. البحار : ٢٣ / ٣٥.

(٢) ـ ماج البحر ، موجا : اضطرب (مصباح).

(٣) ـ كمال الدين : الباب المذكور : ٢٠٢. عنه البحار : ٢٣ / ٣٤.

(٤) ـ في النسخ : في علي بن الحسين عليه‌السلام ، والتصحيح من المصدر والمنقول عنه في البحار.

(٥) ـ في النسخ : لنقضت. والتصحيح من المصدر والبحار.

(٦) ـ كمال الدين : الباب السابق ، ٢٠٣ ، ح ٧. عنه البحار : ٢٣ / ٣٥ ، ح ٦٠.

٥١٢

وبإسناده (١) عنه عليه‌السلام ـ قال ـ : «إنّ الله تبارك وتعالى لم يدع الأرض إلّا وفيها عالم يعلم الزيادة والنقصان ، فإذا زاد المؤمنون شيئا ردّهم ، وإذا نقصوا شيئا أكمله لهم ، ولو لا ذلك لالتبست على المؤمنين امورهم».

وفي رواية (٢) : «ولو لا ذلك لما عرف الحقّ من الباطل».

وبإسناده (٣) عنه عليه‌السلام ـ قال ـ : «لو لم يبق في الأرض إلّا اثنان لكان أحدهما الحجّة».

وزاد في رواية (٤) : «ولو ذهب أحدهما بقي الحجّة». وفي لفظ آخر (٥) : «لو لم يكن في الدنيا إلّا اثنان لكان الإمام أحدهما».

وفي الكافي بأسانيده إلى الصادق والكاظم والرضا عليه‌السلام : «إنّ الحجّة لا تقوم لله تعالى على خلقه إلّا بإمام حتّى يعرف» (٦).

__________________

(١) ـ كمال الدين : الصفحة السابقة ، ح ١١. ويقرب منه ما في العلل : الباب السابق ، ١٩٩ ، ح ٢٢. وبصائر الدرجات : الجزء العاشر ، باب (١٠) الأرض لا يخلو من الحجة ... ، ٤٨٤. عنه البحار : ٢٣ / ٢١ و ٢٥ و ٢٦.

(٢) ـ المصادر السابقة.

(٣) ـ كمال الدين : الباب السابق ، ٢٠٣ ، ح ١٠ و ٢٣٠ ، ح ٣٠. علل الشرائع : الباب السابق ، ١ / ١٩٧ ، ح ١٠. عنهما البحار : ٢٣ / ٢٢ ، ح ٢٤. ٢٣ / ٣٦ ، ح ٦١. ٢٣ / ٤٣ ، ح ٨٥. الكافي : كتاب الحجة ، باب أنه لو لم يبق إلا رجلان ... ، ١ / ١٧٩ ، ح ١.

بصائر الدرجات : الجزء العاشر ، باب (١١) في الأئمة إن الأرض لا تخلو منهم ... ، ٤٨٨ ، ح ٢ و ٥. عنه البحار : ٢٣ / ٥٢ ، ح ١٠٧. الغيبة للنعماني : ١٤٠ ، ح ٤.

(٤) ـ راجع كمال الدين وبصائر الدرجات : الصفحات المذكورة.

(٥) ـ الكافي : الباب السابق : ١ / ١٨٠ ، ح ٥.

(٦) ـ الكافي : كتاب الحجة ، باب أن الحجة لا تقوم على خلقه إلا بإمام ، ١ / ١٧٧ ، ح ١ ـ ٣.

بصائر الدرجات : الجزء العاشر ، باب (١٠) الأرض لا تخلو من الحجة ... ، ـ

٥١٣

وفي الحديث النبويّ المشهور المتّفق عليه بين الخاصّة والعامّة (١) : «من مات ولم يعرف إمام زمانه فقد مات ميتة الجاهليّة».

__________________

ـ ٤٨٦ ، ح ١٣. عنه البحار : ٢٣ / ٥١ ، ح ١٠٣. وقال المجلسي ـ قدس‌سره ـ : «في بعض النسخ : (حتى يعرف) يمكن أن يقرأ : «يعرّف» ، على بناء التفعيل المعلوم ... وفي بعضها (الا بامام حىّ يعرف) وفي بعضها (حق يعرف)».

الاختصاص : ٢٦٨ ـ ٢٦٩. وفيه : «حيّ يعرف».

(١) ـ ورد بهذا اللفظ مسندا في كمال الدين : باب (٢٨) ما روي عن العسكري عليه‌السلام من وقوع الغيبة ، ٤٠٩ ، ح ٩. عنه البحار : ٥١ / ١٦٠ ، ح ٧.

وفي أعلام الدين للديلمي (باب ما جاء من عقاب الأعمال ، ٤٠٠) : «من مات لا يعرف إمام زمانه ...». عنه البحار : ٢٧ / ٢٠١ ، ح ٦٨. ومثله فى الفصول المختارة : ٢ / ١٠٢ ، عنه البحار : ٣٧ / ٢٧.

وحكى البحار (٢٣ / ٨٩) عن الكشي «من مات لا يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» ولكن ليس في المصدر (ص ٤٢٥) كلمة «زمانه».

وجاء بلا كلمة «زمانه» وبألفاظ مختلفة في عدة من المصادر ، منها في الكافي (كتاب الحجة ، باب من مات وليس له إمام ... : ١ / ٣٧٦ ـ ٣٧٧ ، ح ١ ـ ٣) عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من مات وليس عليه إمام فميتته ميتة جاهلية» و «من مات لا يعرف إمامه مات ميتة جاهليّة».

الاختصاص (ص ٢٦٩) عن الصادق عليه‌السلام : «من مات وليس عليه إمام حيّ ظاهر مات ميتة جاهليّة». المحاسن عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والباقر والصادق عليهما‌السلام : (كتاب الصفوة والنور : باب من مات لا يعرف إمامه : ١ / ١٥٣ ـ ١٥٥ ، ح ٧٨ و ٨٠ ـ ٨٢) : «من مات وهو لا يعرف إمامه ...» و «من مات ليس له إمام ...» و «من مات بغير إمام جماعة ...».

راجع أيضا : كمال الدين : ٤١٢ ، ح ١٠ ـ ١١. و ٤١٣ ، ح ١٥. و ٦٦٨ ، ح ١١ ، عن رسول الله والباقر والصادق والرضا عليهم‌السلام. البحار : كتاب الإمامة ، باب وجوب معرفة الإمام : ٢٣ / ٧٦ ـ ٩٥.

وعن طرق العامة : «من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية» المسند : ٤ / ٩٦. حلية الأولياء : ترجمة زيد بن أسلم ، ٣ / ٢٢٤. المعجم الكبير : ١٩ / ٣٨٨ ، ح ٩١٠.

كنز العمال : ١ / ١٠٣ و ٦ / ٦٥ ، الحديث ٤٦٤ و ١٤٨٦٣.

٥١٤

وفي بصائر الدرجات (١) : بإسناده عنه عليه‌السلام ـ أيضا ـ قال : «ما زالت الأرض إلّا ولله الحجّة ، يعرف الحلال والحرام ، ويدعو إلى سبيل الله ، ولا ينقطع الحجّة من الأرض إلّا أربعين يوما قبل يوم القيامة ، فإذا رفعت الحجة ، وغلق باب التوبة ف (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) [٦ / ١٥٨] أن يرفع الحجّة ؛ اولئك شرار من خلق الله ، وهم الذين تقوم عليهم القيامة».

والأخبار في هذه المعاني ـ في الكافي وغيره ـ كثيرة جدّا ،

ولنقتصر على ما ذكرنا ، فإنّ فيه كفاية.

* * *

__________________

(١) ـ بصائر الدرجات : الجزء العاشر ، باب أن الأرض لا تخلو من الحجّة ، ٤٨٤ ، ح ١. كمال الدين : باب اتصال الوصية ، ٢٢٩ ، ح ٢٤.

المحاسن : كتاب مصابيح الظلم ، باب لا تخلو الأرض من عالم : ١ / ٢٣٦ ، ح ٢٠٢.

البحار : ٦ / ١٨ ، ح ١. و ٢٣ / ٤١ ، ح ٧٨. راجع أيضا البحار : ٥١ / ٣٤٨.

٥١٥

[٦]

باب

تفاصيل الأنبياء والأولياء

ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وما يتبع ذلك

(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) [٢ / ٢٥٣]

فصل [١]

[عدد الأنبياء والرسل واولي العزم منهم]

قد روينا أنّ الأنبياء والرسل والأئمّة عليهم‌السلام من زمن آدم ـ على نبيّنا وعليه‌السلام ـ إلى الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله على طبقاتهم مائة وأربعة وعشرون ألف نبيّا. منهم من جمع إلى النبوّة الرسالة والإمامة ؛ كنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله كما قال الله عزوجل : (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) [٣٣ / ٤٠]. وكموسى ـ على نبيّنا وعليه‌السلام ـ كما قال الله تعالى في حقّه : (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) [١٩ / ٥١]. وكإبراهيم ـ على نبيّنا وعليه‌السلام ـ قال الله تعالى فيه : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) [٢ / ١٢٤].

٥١٦

وأولو العزم منهم خمسة : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمّد ـ صلوات الله عليهم ـ.

ومعنى اولي العزم ما رواه في الكافي (١) بإسناده عن سماعة (٢) ، عن مولانا الصادقعليه‌السلام في قول الله ـ عزوجل ـ : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [٤٦ / ٣٥]. فقال : «نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد ـ صلوات الله عليهم». قلت : «كيف صاروا اولي العزم»؟

فقال : «لأنّ نوحا بعث بكتاب وشريعة ، وكلّ من جاء بعد نوح أخذ بكتاب نوح وشريعته ومنهاجه ، حتى جاء إبراهيم عليه‌السلام بالصحف وبعزيمة ترك كتاب نوح ـ لا كفرا به ـ فكلّ نبيّ جاء بعد إبراهيم أخذ بشريعة إبراهيم ومنهاجه وبالصحف ، حتّى جاء موسى عليه‌السلام بالتوراة وشريعته ومنهاجه ، وبعزيمة ترك الصحف ، وكلّ نبيّ جاء بعد موسى أخذ بتوراته وشريعته ومنهاجه ، حتّى جاء المسيح عليه‌السلام بالإنجيل وبعزيمة ترك شريعة موسى ومنهاجه ، وكل نبيّ جاء بعد المسيح أخذ بشريعته ومنهاجه ، حتّى جاء محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله فجاء بالقرآن وشريعته ومنهاجه ، فحلاله حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة ، فهؤلاء أولو العزم من الرسل عليهم‌السلام».

__________________

(١) ـ الكافي : كتاب الإيمان والكفر ، باب الشرائع ، ٢ / ١٧ ، ح ٢. المحاسن : كتاب مصابيح الظلم ، ١ / ٢٦٩ ، ح ٣٥٨ ، وفيه فروق. عنهما البحار : ١٦ / ٣٥٣ ـ ٣٥٤ ، ح ٣٨ ١١ / ٥٦ ، ح ٥٥. ٦٨ / ٣٢٦ ، ح ٢. وما يقرب منه في العيون : باب (٣٢) في ذكر ما جاء عن الرضا عليه‌السلام من العلل ، ٢ / ٨٠ ، ح ٢٢. عنه البحار : ١١ / ٣٤ ، ح ٢٨.

(٢) ـ سماعة بن مهران بن عبد الرحمن الحضرمي ، روى عن الصادق والكاظم عليهما‌السلام ، قال النجاشي (١٩٣ ، رقم ٥١٧) : «ثقة ثقة». قال الصدوق (الفقيه : ٢ / ١٢١) : «كان واقفيا». راجع قاموس الرجال : ٥ / ٣٠٢ ـ ٣٠٧ ، رقم ٣٤٢٠.

٥١٧

وبإسناده (١) عن مولانا الباقر عليه‌السلام : «وإنّما سمّوا أولو العزم لأنّه عهد إليهم في محمّد والأوصياء من بعده والمهدى وسيرته ، فأجمع عزمهم أنّ ذلك كذلك ، والإقرار به» (٢).

فصل [٢]

[أكابر الأنبياء ومعجزاتهم]

والأكابر الأشراف من الأنبياء هم المشاهير الذين ذكرهم الله سبحانه في كتابه في مواضع :

منها قوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً* وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً* رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) [٤ / ١٦٣ ـ ١٦٥].

ومنها قوله عزوجل : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ

__________________

(١) ـ الكافي : كتاب الحجة ، باب نكت من التنزيل في الولاية : ١ / ٤١٦ ، ح ٢٢. تفسير القمي : تفسير الآية طه / ١١٥ ، ٢ / ٦٤ ـ ٦٥. علل الشرائع : باب (١٠١) العلة التي من أجلها سمي أولو العزم ... ، ١ / ١٢٢ ، ح ١. عنهما البحار ١١ / ٣٥ ـ ٣٦ ، ح ٣١. ١١ / ١١٢ ، ح ٣٠. بصائر الدرجات : الجزء الثاني ، باب (٧) ما خصّ الله به الأئمة من ولاية اولي العزم ... ، ٧٠ ، ح ١. عنه البحار : ٢٦ / ٢٧٨ ، ح ٢١.

(٢) ـ في هامش النسخة : «وقيل : هم أولو العزم الذين يبلغون رسالات ربّهم ويلزمون من ارسلوا إليهم بالإيمان ، فإن أبوا قاتلوهم ـ منه ـ».

٥١٨

نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ* وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ* وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ* وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ* أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ* أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [٦ / ٨٣ ـ ٨٩].

* * *

ولكلّ منهم آيات ومعجزات تدلّ على صدقه وحقيّته وتناسبه وتناسب أهل زمانه ، فمن الناس من آمن به ، ومنهم من صدّ عنه كما ذكر الله ـ عزوجل ـ تفصيل حكاياتهم وقصصهم في كتابه.

* * *

روى في الكافي : بإسناده (١) عن أبي يعقوب البغدادي (٢) ـ قال : ـ

__________________

(١) ـ الكافي : كتاب العقل والجهل ، ١ / ٢٤ ، ح ٢٠. عنه البحار : ١٧ / ٢١٠ ، ح ١٥.

علل الشرائع : باب (٩٨) علة احتجاب الله جل جلاله عن خلقه ، ١ / ١٢١ ، ح ٦. عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : باب (٣٢) في ذكر ما جاء عن الرضا عليه‌السلام من العلل ، ٢ / ٧٩ ـ ٨٠ ، ح ١٢.

الاحتجاج : ٢ / ٤٣٧. عنها البحار : ١١ / ٧٠ ، ح ١.

(٢) ـ مجهول لم يذكر عنه شيئا غير روايته هذه ؛ راجع تنقيح المقال : فصل الكنى من الجزء الثالث : ٣٩. معجم رجال الحديث : ٢٢ / ٨٩.

٥١٩

قال ابن السكّيت (١) لأبي الحسن عليه‌السلام : «لما ذا بعث الله موسى بن عمران بالعصا ويده البيضا وآلة السحر؟ وبعث عيسى بآلة الطبّ؟ وبعث محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى جميع الأنبياء ـ بالكلام والخطب»؟

فقال أبو الحسن عليه‌السلام : «إنّ الله لمّا بعث موسى عليه‌السلام كان الغالب على أهل عصره السحر ، فأتاهم من عند الله بما لم يكن في وسعهم مثله ، وما أبطل به سحرهم ، وأثبت به الحجّة عليهم. وإنّ الله بعث عيسى عليه‌السلام في وقت قد ظهرت فيه الزمانات (٢) ، واحتاج الناس إلى الطبّ ، فأتاهم من عند الله بما لم يكن عندهم مثله ـ بما أحيا لهم الموتى ، وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن الله ، وأثبت به الحجّة عليهم ـ.

وإنّ الله بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله في وقت كان الغالب على أهل عصره الخطب والكلام ـ وأظنّه قال : الشعر ـ فأتاهم من عند الله من مواعظه وحكمه ما أبطل به قولهم ، وأثبت به الحجّة عليهم».

ـ قال : ـ فقال ابن السكّيت : «تالله ـ ما رأيت مثلك قطّ ؛ فما الحجّة على الخلق اليوم»؟

ـ قال : ـ فقال عليه‌السلام : «العقل ؛ يعرف به الصادق على الله ، فيصدّقه ، والكاذب على الله فيكذّبه» ،

ـ قال : ـ فقال ابن السكّيت : «هذا ـ والله ـ هو الجواب».

__________________

(١) ـ قال النجاشي (الترجمة : ١٢١٤ ، ص ٤٤٩) : «يعقوب بن اسحاق السكيت أبو يوسف ، كان متقدما عند أبي جعفر الثاني وأبي الحسن عليهم‌السلام ، وله عن أبي جعفر رواية ومسائل ، وقتله المتوكل لأجل التشيّع ـ وأمره مشهور ـ وكان وجها في علم العربية.

(٢) ـ الزمانات ـ جمع الزمانة ـ : الآفات الواردة على بعض الأعضاء ، فيمنعها عن الحركة.

٥٢٠