علم اليقين في أصول الدين - ج ١

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]

علم اليقين في أصول الدين - ج ١

المؤلف:

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]


المحقق: محسن بيدارفر
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: انتشارات بيدار
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
ISBN: 964-90800-2-3
ISBN الدورة:
964-90800-1-5

الصفحات: ٧١٦

وروى محمد بن الحسن الصفّار ـ ره ـ في بصائر الدرجات (١) بإسناده عن هشام الجواليقي (٢) ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّ لله مدينة خلف البحر سعتها مسيرة أربعين يوما للشمس ، فيها قوم لم يعصوا الله قطّ ، ولا يعرفون إبليس ، ولا يعلمون خلق إبليس ؛ نلقاهم في كل حين ، فيسألونا عمّا يحتاجون إليه ، ويسألون الدعاء فنعلّمهم ، ويسألونا عن قائمنا : ـ متى يظهر؟ ـ وفيهم عبادة واجتهاد شديد.

لمدينتهم أبواب ما بين المصراع إلى المصراع مائة فرسخ ؛ لهم تقديس واجتهاد شديد ، لو رأيتموهم لاحتقرتم عملكم ، يصلّي الرجل منهم شهرا لا يرفع رأسه من سجوده ؛ طعامهم التسبيح ، ولباسهم الورع ، ووجوههم مشرقة بالنور ؛ إذا رأوا منّا واحدا لحسوه (٣) واجتمعوا إليه وأخذوا من أثره من الأرض يتبرّكون به ؛ لهم دويّ إذا صلّوا أشدّ من دويّ الريح العاصف ؛ فيهم جماعة لم يضعوا السلاح منذ كانوا ، ينتظرون قائمنا ، يدعون الله أن يريهم إيّاه ؛ وعمر أحدهم ألف سنة.

إذا رأيتهم رأيت الخشوع والاستكانة ، وطلب ما يقرّبهم إليه ، إذا احتبسنا ظنّوا أنّ ذلك من سخط الله ؛ يتعاهدون أوقاتنا التي نأتيهم فيها ، لا يسأمون ولا يفترون ، يتلون كتاب الله كما علّمناهم ؛ وإنّ فيما نعلّمهم ما لو تلي على الناس لكفروا به ولأنكروه ؛ ويسألونا عن الشيء إذا ورد

__________________

(١) ـ بصائر الدرجات : الجزء العاشر ، باب (١٤) أنّ الخلق الذين خلف المشرق والمغرب يعرفونهم ... : ٤٩٠ ، ح ٤. عنه البحار : ٢٧ / ٤٢ ، ح ٣.

(٢) ـ يظهر أنه هشام بن سالم الجواليقي ، وقد مضت الإشارة إليه في ص (٦٥) والله أعلم.

(٣) ـ في هامش النسخة : «تحيوه (نسخة). تقول : لحست الشيء إذا أخذته بلسانك. ويقال : ألحست منه حقّي : أي أخذته. واللاحوس : الحريص ـ قاله الجزري ـ منه».

٣٤١

عليهم من القرآن لا يعرفونه ، فإذا أخبرناهم به انشرحت صدورهم لما يسمعون منّا ، وسألوا الله لنا طول البقاء ، وأن لا يفقدونا ، ويعلمون أن المنّة من الله عليهم فيما نعلّمهم عظيمة. ولهم خرجة مع الإمام إذا قاموا يسبقون فيها أصحاب السلاح منهم ويدعون الله أن يجعلهم ممّن ينتصر به لدينه.

فيهم كهول وشبّان ، إذا رأى شابّ منهم الكهل جلس بين يديه جلسة العبد ، لا يقوم حتّى يأمره ، لهم طريق هم أعلم به من الخلق إلى حيث يريد الإمام ، فإذا أمرهم الإمام بأمر قاموا عليه أبدا ، حتّى يكون هو الذي يأمرهم بغيره.

لو أنّهم وردوا على ما بين المشرق والمغرب من الخلق لأفنوهم في ساعة واحدة ، لا يختلّ الحديد فيهم ، ولهم سيوف من حديد غير هذا الحديد ، لو ضرب أحدهم بسيفه جبلا لقدّه حتّى يفصله ؛ يغزو بهم الإمام الهند والديلم والكرك والترك والروم وبربر ، وما بين جابرس إلى جابلق ـ وهما مدينتان : واحدة بالمشرق واخرى بالمغرب ـ

لا يأتون على أهل دين إلّا دعوهم إلى الله ، وإلى الإسلام ، وإلى الإقرار بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن لم يقرّ بالإسلام ولم يسلم قتلوه حتّى لا يبقى بين المشرق والمغرب وما دون الجبل أحد إلّا أقرّ» (١).

__________________

(١) ـ لو صحّت الرواية ـ وكذا الروايات الآتيات ـ فلا استغراب فيها ، إذ الظاهر من القرائن المتعدّدة المذكورة فيها كونهم خلقا غيرنا لا يشبهونا ، ولعلّهم غير جسمانيين ، كما يومي إليه قوله : «طعامهم التسبيح» و «لا يختل فيهم الحديد» و «يصلي الرجل منهم شهرا لا يرفع رأسه من السجود» و «لا يعرفون إبليس ، ولا يعلمون خلق إبليس».

٣٤٢

وبإسناده (١) عن الحسن بن عليّ عليهما‌السلام ـ قال : ـ «إنّ لله مدينتين إحداهما بالمشرق ، والاخرى بالمغرب. عليهما سور من حديد ، وعلى كلّ مدينة منها سبعون ألف ألف مصراع من ذهب ، وفيها سبعون ألف ألف لغة ، يتكلّم كلّ لغة بخلاف لغة صاحبه ، وأنا أعرف جميع اللغات ، وما فيهما وما بينهما وما عليهما حجّة غيري وغير الحسين أخي».

وبإسناده (٢) عن أبي عبد الله ، عن أبيه ، عن علي بن الحسين عن أمير المؤمنينعليهم‌السلام ـ قال : ـ «إنّ لله بلدة خلف المغرب ، يقال لها جابلقا ، وفي جابلقا سبعون ألف أمّة ، ليس منها أمّة إلّا مثل هذه الامّة ، فما عصوا الله طرفة عين ، فما يعملون من عمل(٣) ولا يقولون قولا إلّا الدعاء على الأوّلين ، والبراءة منهما ، والولاية لأهل بيت رسول الله».

وبإسناده (٤) عن أبي عبد الله عليه‌السلام ـ قال : ـ «إنّ من وراء أرضكم هذه أرضا بيضاء ، ضوؤها منها ؛ فيها خلق يعبدون الله لا يشركون به شيئا ، يتبرّءون من فلان وفلان».

وبإسناده (٥) عن أبي جعفر عليه‌السلام ـ قال : ـ «إنّ الله خلق جبلا محيطا بالدنيا من زبرجد خضر ـ وإنّما خضرة السماء من خضرة ذلك الجبل ـ وخلق خلفه خلقا لم يفترض عليهم شيئا مما افترض على خلقه من صلاة

__________________

(١) ـ بصائر الدرجات : الباب السابق : ٤٩٤ ، ح ١١.

عنه البحار : ٢٧ / ٤٤ ، ح ٤. و ٤٣ / ٣٣٧. و ٥٧ / ٣٢٧ ، ح ٦.

(٢) ـ بصائر الدرجات : الباب السابق : ٤٩٠ ، ح ١. عنه البحار : ٥٧ / ٣٢٩ ، ح ١١.

(٣) ـ المصدر : عملا.

(٤) ـ بصائر الدرجات : الباب السابق : ٤٩٠ ، ح ٢. عنه البحار : ٥٧ / ٣٢٩ ، ح ١٢.

(٥) ـ بصائر الدرجات : الباب السابق : ٤٩٢ ، ح ٦. راجع البحار : ٢٧ / ٤٧ ، ح ١٠.

٣٤٣

وزكاة ، وكلّهم يلعن رجلين من هذه الامّة» ـ وسمّاهما.

وبإسناده (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام ـ قال : ـ «إنّ من وراء عين شمسكم هذه أربعين عين شمس ، فيها خلق كثير ؛ وإنّ من وراء قمركم أربعين قمرا ، فيها خلق كثير ، لا يدرون أنّ الله خلق آدم أم لم يخلقه ، ألهموا إلهاما لعنة فلان وفلان».

وفي كتاب الكافي (٢) بإسناده عن أبي حمزة الثمالي (٣) ، عن أبي جعفر عليهما‌السلام ـ قال : ـ قال في ليلة وأنا عنده ونظر إلى السماء فقال : «يا [أ] با حمزة ، هذه قبّة أبينا آدم عليه‌السلام وإنّ لله ـ تعالى ـ سواها تسعة وثلاثين قبّة ، فيها خلق ما عصوا الله طرفة عين».

وروى الشيخ الصدوق ـ محمد بن علي بن بابويه ـ في كتاب الخصال (٤) بإسناده عن جابر بن يزيد (٥) ، قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن

__________________

(١) ـ بصائر الدرجات : الباب السابق : ٤٩٠ ، ح ٣. عنه البحار : ٥٧ / ٣٢٩ ، ح ١٣.

(٢) ـ الكافي : الروضة ، حديث القباب : ٨ / ٢٣١ ، ح ٣٠٠.

(٣) ـ قال النجاشي (الترجمة : ٢٩٦ ، ص ١١٥) : «ثابت بن أبي صفيّة أبو حمزة الثمالي ، واسم أبي صفية : دينار ، مولى ، كوفي ، ثقة ... لقى علي بن الحسين وأبا جعفر وأبا عبد الله ، وأبا الحسن عليهم‌السلام ، وروى عنهم ، وكان من خيار أصحابنا وثقاتهم ومعتمديهم ...».

راجع معجم الرجال : ٣ / ٣٨٥ و ٢١ / ١٣٥. قاموس الرجال : ٢ / ٤٤٤.

(٤) ـ الخصال : باب ما بعد الألف : ٢ / ٦٥٢ ، ح ٥٤. التوحيد : باب ذكر عظمة الله جلّ جلاله : ٢٧٧ ، ح ٢. البحار : ٥٧ / ٣٢١ ، ح ٣. و ٨ / ٣٧٥ ، ح ٢.

(٥) ـ جابر بن يزيد الجعفي ، روى عن الباقر والصادق عليهما‌السلام وكان من خواص أصحابهم.

راجع : معجم الرجال : ٤ / ١٧. قاموس الرجال : ٢ / ٣٢٣ ، ٢ / ٥١٤. ونقل الذهبي (ميزان الاعتدال : ١ / ٣٧٩) أقوال علماء العامة فيه وتوثيقهم له وتوصيفهم له بأنّه «من أوثق الناس» و «أورع الناس في الحديث» إلا أنهم ضعفوه بأنه شيعي ومؤمن بالرجعة.

٣٤٤

قول الله ـ تعالى ـ : (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) [٥٠ / ١٥] فقال :

«يا جابر ـ تأويل ذلك أنّ الله ـ عزوجل ـ إذا أفنى هذا الخلق وهذا العالم ، وسكّن أهل الجنّة الجنّة ، وأهل النار النار ، جدّد الله عزوجل عالما غير هذا العالم ، وجدّد خلقا من غير فحولة ولا اناث ، يعبدونه ويوحّدونه ، وخلق لهم أرضا غير هذه الأرض تحملهم ، وسماء غير هذه السماء تظلّهم ؛ لعلّك ترى أنّ الله ـ عزوجل ـ إنّما خلق هذا العالم الواحد ، وترى أنّ الله ـ عزوجل ـ لم يخلق بشرا غيركم ؛ بلى ـ والله خلق ـ تبارك وتعالى ـ ألف ألف عالم ، وألف ألف آدم ، أنت في آخر تلك العوالم واولئك الآدميّين».

وروى العامّة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يقرب من بعض هذه ، والروايات في أمثال ذلك كثيرة.

* * *

وقال بعض أهل المعرفة (١) :

«في كلّ نفس خلق الله فيها عوالم يسبّحون الليل والنهار لا يفترون ، وخلق الله من جملة عوالمها عالما على صورنا إذا أبصرها العارف يشاهد نفسه فيها. وقد أشار إلى ذلك عبد الله بن عبّاس فيما روي عنه في حديث : «هذه الكعبة ، وإنّها بيت واحد من أربعة عشر بيتا ، وإنّ في كل أرض من الأرضين

__________________

(١) ـ مقططفات من الفتوحات المكية : الباب الثامن : ١ / ١٢٦ ـ ١٣٠.

راجع عين اليقين : ٢٨٩. الوافي : ٢٦ / ٤٨٠.

٣٤٥

السبع خلقا مثلنا ، حتّى أنّ فيهم ابن عبّاس ، مثلي».

وصدقت هذه الرواية عند أهل الكشف ... وكلّ ما فيها حيّ ناطق ... وهي باقية لا تفنى ولا تتبدّل ... وإذا دخلها العارفون إنّما يدخلون بأرواحهم لا بأجسامهم ، فيتركون هياكلهم في هذه الأرض الدنيا ويتجرّدون ... وفيها مدائن لا تحصى ... بعضها يسمّى مدائن النور ـ لا يدخلها من العارفين إلا كلّ مصطفى مختار ... وكلّ حديث وآية وردت عندنا فصرفها العقل عن ظاهرها ، وجدناها على ظاهرها في هذه الأرض ، وكلّ جسد يتشكّل فيه الروحاني من ملك وجنّ ، وكلّ صورة يرى الإنسان فيها نفسه في النوم فمن أجساد هذه الأرض».

وقال الغزالي في المقالة الحادية والثلاثين من كتاب سرّ العالمين (١) :

__________________

(١) ـ طبع الكتاب (على ما جاء في مؤلفات الغزالي : ٢٢٥) في بومباي سنة ١٣١٤ ه‍ ـ ، والقاهرة سنة ١٣٢٤ و ١٣٢٧. وطهران بغير تأريخ. وأما الموجود عندي فطبعة المكتبة الثقافة الدينية ، النجف الأشرف ، سنة ١٣٨٥ ه‍ ـ. ويشتمل الكتاب على ثلاثين مقالة ، ويوجد النصّ في المقالة الثلاثين منه ـ مع فروق ـ فما قاله المؤلف ـ قدس‌سره ـ إما سهو جرى على القلم ، أو لاختلاف في ترتيب نسخته مع ما بأيدينا.

ويجدر بنا الإشارة إلى تشكيكات وقعت في نسبة الكتاب إلى الغزالي (راجع ٢٨١ من مؤلفات الغزالي) ؛ ومن مستندات النافين قوله فيه (المقالة السادسة والعشرون : ١٤٢) : «أنشد المعري لنفسه وأنا شاب في صحبة يوسف بن علي شيخ الإسلام ...» ـ ثمّ أورد أشعارا يوجد بعضها في اللزوميات لأبي العلاء المعري. وأبو العلاء ـ هذا ـ قد توفى سنة (٤٤٨) بينما الغزالي ولد سنة (٤٥٠).

وتحقيق الأمر يطلب مجالا آخر ونطاقا من البحث أوسع ، فإن وضوحها ذا أهميّة ، إذ به يصح ما اعتقده بعض الباحثين ـ منهم المؤلف في مقدمة كتابه «المحجة البيضاء في إحياء الإحياء» ـ بأن الغزالي تشيّع في أواخر عمره.

٣٤٦

«قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) : «إنّ بالمغرب عنّا لأرضا بيضاء من وراء قاف ، لا تقطعها الشمس في أربعين سنة».

قالوا : «يا رسول الله ، أو فيها خلق»؟

قال : «نعم ؛ فيها قوم مؤمنون لا يعصون الله طرفة عين ، لا يعرفون آدم ولا إبليس ، بينهم الملائكة يعلّمونهم شريعتنا ، ويحكمون بينهم ويدرسونهم الكتاب العزيز».

قالوا : «يا رسول الله ، زدنا من هذه الأعاجيب».

فقال : «إنّ لي صدّيقة من مؤمني الجنّ غابت عنّي سنين ، فسألتها أين كنت؟ فقالت : كنت عند اختي من وراء الأرض البيضاء التي من وراء قاف. فقلت : أوهم مؤمنون؟ فقالت : نعم ؛ قرأت عليهم كتابك فآمن بذلك كلّهم ...... فقلت : أو تصعد الشمس في ذلك البلاد؟ قالت : نعم .......

«(٢) وأمّا قصّة زعيم بن بلعام ، فهي عجيبة : فإنّه أراد أن ينظر من أين منبع النيل ، فلم يزل يسير حتّى وجد الخضر عليه‌السلام فقال له «ستدخل مواضع» ـ ثمّ أعطاه علائمها ـ فوصل إلى جبل وفيه قبّة من ياقوت على أربعة أعمدة ، والنيل يخرج من تحتها ، وفيه فاكهة لا تتغيّر.

ـ قال : ـ فرقيت رأس الجبل ، فرأيت وراءه بساتين وقصورا ودورا وعالما غزيرا ، وكنت شيخا أبيض الشعر فهبّ

__________________

(١) ـ لم أعثر على الحديث على ما فيه من أمارات الوضع.

(٢) ـ سر العالمين : ١٨١.

٣٤٧

عليّ نسيم سوّد شعري وأعاد شبابي ، فنوديت من تلك القصور «إلينا يا زعيم ، إلينا ، فهذه دار المتّقين» فجذبني الخضر ومنعني.

* * *

فهذا سرّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) : سبعة أنهار من الجنّة : جيحون ، وسيحون ، ودجلة ، والفرات ، والنيل ، وعين ماليرون (٢) ، وبالمقدس عين سلوان (٣)

* * *

«(٤) وأعجب من هذا الحديث حديث بلوقيا وعفّان ؛

__________________

(١) ـ هذا الحديث ليس في سرّ العالمين. والأظهر كونه من إضافات المؤلف ، ولعله كان في نسخته. وجاء في الخصال (٢٥٠ ، باب الأربعة ، ح ١١٦) والمسند (٢ / ٢٦١) : «أربعة أنهار من الجنة : الفرات والنيل وسيحان وجيحان». وجاء ما يقرب منه في مسلم : كتاب صفة الجنة ، باب (١٠) ما في الدنيا من أنهار الجنة ، ٤ / ٢١٨٣ ، ح ٢٦.

والمعجم الكبير : ١٧ / ١٨ ـ ١٩ ، ح ١٩. وكنز العمال : ١٢ / ٣٤٤ و ٣٣٥ ، ح ٣٥٣٣٤ و ٣٥٣٣٥ و ٣٥٣٤٠ و ٣٥٣٤٢.

وقال السيوطي (الدر المنثور : تفسير الآية المؤمنون / ١٩ / ٦ / ٩٥) : «أخرج ابن مردويه والخطيب بسند ضعيف عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ قال : ـ «أنزل الله من الجنة إلى الأرض خمسة أنهار : سيحون وهو نهر الهند ؛ وجيحون وهو نهر بلخ ؛ ودجلة والفرات وهما نهري العراق ؛ والنيل وهو نهر مصر ...». وأما عدد السبعة فلم أعثر عليه.

(٢) ـ عين ماليرون لم أعثر عليه.

(٣) ـ قال ياقوت (معجم البلدان : عين سلوان) : «قال أبو عبد الله البشاري المقدسي : سلوان محلة في ربض ، مدينة بيت المقدس ، تحتها عين عذبة ، تسقي جنانا عظيمة ، وقفها عثمان بن عفان على ضعفاء البلد ، تحتها بير أيوب ، ... قال عبيد الله الفقير : ليس من هذا الوصف اليوم شيء ، لأن عين سلوان محلة في وادي جهنم ، في ظاهر المقدس ، لاعمارة عندها البتة ، إلا أن يكون مسجدا أو ما يشبهه. وليس هناك جنان ولا ربض ، ولعل هذا كان قديما ـ والله أعلم.

(٤) ـ سر العالمين : ١٨١.

٣٤٨

فحديثهما طويل ، وإشارة منه كافية :

فقد بلغ من سفرهما حتّى وصلا إلى المكان الذي فيه النبيّ سليمان عليه‌السلام ، فتقدّم بلوقيا إلى سليمان ليأخذ الخاتم من إصبعه ، فنفخ فيه التنين الموكّل معه فأحرقه ، فضربه عفّان بقاذورة فأحياه ، ثمّ مدّ يده ثانية وثالثة فأحياه بعد ثلاث ، فمدّ يده رابعة ، فاحترق وهلك.

فخرج عفّان وهو يقول : «أهلك الشيطان ، الشيطان».

فناداه التنين : «ادن أنت وجرّد ، فهذا الخاتم لا يقع في يد أحد إلّا في يد محمّد إذا بعث ؛ فقل له : إنّ الملأ الأعلى قد اختلفوا في فضلك وفضل الأنبياء قبلك فاختارك الله على الأنبياء».

ـ قال عفّان : ـ ثمّ أتيت فانتزعت خاتم سليمان ، فجئت بها إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فأخذها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأعطاه عليّا عليه‌السلام ، فوضعه في إصبعه ، فحضر الطير والجان والناس يشاهدون ويشهدون ...

فلمّا كانوا في صلاة الظهر تصوّر جبرئيل بصورة سائل طائف بين الصفوف ، فبيناهم في الركوع ، إذ وقف السائل من وراء عليّ طالبا ، فأشار عليّ بيده ، فطارت الخاتم إلى السائل ، فضجّت الملائكة تعجّبا ، فجاء جبرئيل مهنّئا وهو يقول : «أنتم أهل بيت أنعم الله عليكم ، الذين أذهب عنكم الرجس وطهّركم تطهيرا».

فأخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك عليّا ، فقال عليّ عليه‌السلام : «ما نصنع

٣٤٩

بنعيم زائل ، وملك حائل ، ودنيا [في] حلالها حساب ، و [في] حرامها عقاب» (١). ـ انتهى كلام الغزالي (٢).

وأمثال هذه الحكايات العجيبة والقصص الغريبة أكثر من أن تحصى ، سيّما عن أئمّتنا المعصومين ، وخصوصا عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، مثل حديث الغمامة (٣) وغيره ، وحديث صاحب الأمر عليه‌السلام ومدنه ومملكته وأولاده مشهور (٤).

__________________

(١) ـ في هامش النسخة : «قال الغزالي بعد هذا الكلام بلا فصل (ص ١٨٢) : فإن اعترض المفتن وقال : «كيف قاتل معاوية على الدنيا»؟ فالجواب أنه قاتل على حق هو له ، ليصل به إلى حق ، وقد قال أبو حازم : «أول حكومة تجري بين العباد في المعاد بين علي عليه‌السلام ومعاوية ، والباقون تحت المشية». وقد صح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال لعمار : «تقتلك الفئة الباغية» ، ولا ينبغي للإمام أن يكون باغيا ـ هذا كلامه قدس‌سره ـ (منه)».

(٢) ـ سر العالمين : ١٨٢. والقصتان ـ كما ترى ممّا يضعه القاصّ لجلب السامعين وقد يستفاد فيها مما له أصل ـ كتصدق علي عليه‌السلام خاتمه راكعا في الصلاة ، ونزول آيه التطهير في شأن أهل الكساء ـ وأما كون بقية الكلام موضوعا مما لا يخفى على أحد. وإنّما أورده المصنّف استطرادا ولحسن ظنه بالكتاب واعتقاده بكونه من الغزالي. إذ لو صحّ القصة يمكن توجيهها بتأويلات بعيدة جدا.

(٣) ـ حديث الغمامة أيضا من ضعاف الروايات ولم يرد في الجوامع المعتبرة ، وقد نقله صاحب المحتضر. ولتلميذ المؤلف القاضي سعيد القمي ـ ره ـ عليه شرح غير مطبوع.

(٤) ـ النظر في قصة مدن صاحب الأمر عليه‌السلام التي أوردها المجلسي (ره) أيضا في البحار ـ مع شك منه في صحتها ـ مما لا يبقي شكا ـ لقاربها المتأمل ـ في كونها موضوعة من قبيل القصص الخرافية التي يضعها القاص ، ولو أحسنّا الظنّ فمن قبيل ما يراه النائم أو المكاشف. وقد ألمح المؤلف بذلك أيضا فيما نقله آنفا عن أثولوجيا «في كل نفس خلق الله فيها عوالم يسبحون ...» ؛ ثمّ إنّ العجائب الموجودة في خلقه تعالى ـ وقد اشير إلى نزر قليل منها ـ أكثر وأعظم بكثير من أن يحتاج إلى ذكر هذه المطالب الغير الثابتة أو الغير المأنوسة. وقد نقل عن أمير المؤمنين وإمام الموحدين عليه‌السلام : «لا تحدّث بما تخاف تكذيبه» (غرر الحكم : رقم ١٠١٧٣).

٣٥٠

فصل [١٧]

اعلم أنّه لو استقصينا أعمارا طويلة لم نقدر على شرح ما تفضّل الله ـ عزوجل ـ علينا بمعرفته ، وكلّ ما عرفناه قليل نزر بالإضافة إلى ما عرفه جملة الأولياء والعلماء ، وما عرفوه قليل بالإضافة إلى ما عرفه الأنبياء ، والملائكة المقرّبون ـ كجبرئيل وإسرافيل وغيرهما ـ صلوات الله عليهم ـ.

ثمّ جميع علوم الأنبياء والملائكة والجنّ والإنس إذا اضيف إلى علم الله ـ سبحانه وتعالى ـ لم يستحقّ أن يسمّى علما ، بل هو إلى أن يسمّى دهشا وحيرة وقصورا وعجزا أقرب ؛ فسبحان من عرّف عباده ما عرّف ، ثمّ قال مخاطبا جميعهم : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) [١٧ / ٨٥].

فهذا بيان معاقد الجمل التي يجول فيها فكر المتفكّرين في خلق الله ـ عزوجل ـ وليس فيها فكر في ذات الله ، ولكن تستفاد من الفكر في الخلق لا محالة معرفة الخالق ، وعظمته ، وجلاله وقدرته ، وكلّما استكثرت من معرفة عجيب صنع الله كانت معرفتك بجلاله وعظمته أكثر.

وهذا كما أنّك إن تعظّم عالما بسبب معرفتك بعلمه ، فلا تزال تطّلع على غريبة غريبة من تصنيفه أو شعره ، فتزداد به معرفة ، وتزداد بحسبه له توقيرا وتعظيما واحتراما ، حتّى أنّ كلّ كلمة من كلماته وكلّ بيت من أبيات شعره يزيده محلّا في قلبك ، ويستدعي التعظيم له من نفسك.

فهكذا تأمّل في خلق الله وتصنيفه وتأليفه ، وكلّ ما في الوجود من

٣٥١

خلق الله وتصنيفه ؛ فالنظر والفكر فيه لا يتناهى أبدا ، وإنّما لكلّ عبد منها بقدر ما رزق.

* * *

فسبحان بديع السماوات والأرض ،

ما أعظم ما نرى من خلقك ،

وما أصغر عظيمه في جنب قدرتك ،

وما أهول ما نرى من ملكوتك ،

وما أحقر ذلك فيما غاب عنّا من سلطانك ،

وما أسبغ نعمك في الدنيا

وما أصغرها في نعم الآخرة.

* * *

هذا آخر الكلام في العلم بالله ـ والحمد لله وحده.

* * *

٣٥٢

المقصد الثاني

في العلم بالملائكة

(عِبادٌ مُكْرَمُونَ* لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (١) [٢١ / ٢٦ ـ ٢٧] (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [١٦ / ٥٠] (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) [٢١ / ٢٠]

__________________

(١) ـ في هامش النسخة :

الآية الاولى في سورة الأنبياء.

(مُكْرَمُونَ) : أي مقربون.

(لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) : لا يقولون شيئا حتى يقوله ، كما هو شيمة العبيد المؤدبين.

(وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) : لا يعملون قط ما لم يأمره به.

٣٥٣

[١]

باب الملائكة المقرّبين

(لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) [٤ / ١٧٢]

فصل (١) [١]

[الملائكة الكروبيون]

الملائكة المقرّبون منهم الكروبيّون (٢) المهيّمون ، المستغرقون في بحار الأحديّة ، المتحيّرون في عظمة ربّ العالمين ، المتواجدون في جلال أوّل الأوّلين ، المستهترون بذكر آلائه ، المتواضعون لجبروته وكبريائه ؛ لا التفات لهم إلى ذواتهم المنوّرة بنور الحقّ ـ فضلا عن غيرهم ـ لولههم وهيمانهم في جمال الحقّ ـ أبدا سرمدا ـ وكأنّه إليهم اشير في الحديث حيث قيل (٣) : «إنّ لله ملائكة لا يعلمون أنّ الله خلق آدم وذريّته».

__________________

(١) ـ راجع مفاتيح الغيب : الفصل الثالث من المفتاح الثامن : ٣٣٩.

(٢) ـ في القاموس : الكروبيون ـ مخففة الراء ـ : سادة الملائكة.

(٣) ـ لم أعثر عليه. وجاء في شرح القاساني لمنازل السائرين (باب السر : ٤٧٧) : «الملائكة الذين قيل فيهم : إنهم لا يعلمون أنّ الله خلق آدم».

٣٥٤

وروى محمّد بن الحسن الصفّار (١) بإسناده عن مولانا الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «إنّ الكرّوبيّين قوم من شيعتنا من الخلق الأوّل ، جعلهم الله خلف العرش لو قسّم نور أحدهم على أهل الأرض لكفاهم».

ـ ثمّ قال : ـ «إنّ موسى عليه‌السلام لمّا أن سئل ربّه ما سأل ، أمر واحدا من الكرّوبيّين فتجلّى للجبل فجعله دكّا».

أقول : لا منافاة بين الحديثين عند اولى الألباب ، وإن حملنا الأوّل على الكرّوبيّين ، لأنّ التشيّع لا يتوقّف على العلم بخلق آدم وذريّته ، كما يظهر عند تفسيرنا الشيعة ـ إن شاء الله.

فصل (٢) [٢]

[الملائكة العقلية]

ومنهم الملائكة العقليّة الذين أبدعهم الله عزوجل وسائط جوده ورحمته ، وحجب جلاله وعظمته ، وهم مبادئ سلسلة الموجودات وغاياتها ، ومنتهى أشواق النفوس ونهاياتها.

وقد أشرنا إليهم فيما سبق (٣) ، وذكرنا أنّهم أوّل ما خلق الله ، وأنّ لهم

__________________

(١) ـ بصائر الدرجات : الجزء الثاني ، باب نادر من الباب (٦) ، ما خصّ به الأئمّة من ولاية الملائكة : ٦٩.

عنه البحار : ١٣ / ٢٢٤ ، ح ١٨. ٢٦ / ٣٤٢ ، ح ١٢. ٥٩ / ١٨٤ ، ح ٢٦.

(٢) ـ راجع مفاتيح الغيب : الباب السابق : ٣٤٠.

(٣) ـ راجع ما مضى في الفصل الأول من الباب السابع من المقصد الأول.

٣٥٥

أسام متعدّدة باعتبارات مختلفة ، وأنّ لهم جهتي وحدة وكثرة ، وأنّ كثرتهم بإزاء كثرة المخلوقات نوعا.

كما روينا (١) عن مولانا زين العابدين عليه‌السلام : «إنّ في العرش تمثال جميع ما خلق الله» ، وإنّه تأويل قوله سبحانه : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) [١٥ / ٢١].

وكأنّه إليهم اشير في حديث المعراج (٢) حيث قيل :

«أنزل الله العزيز الجبّار عليه محملا من نور ، فيه أربعون نوعا من أنواع النور ، كانت محدقة حول العرش ـ عرش الله ـ يغشي أبصار الناظرين ، أما واحد منها فأصفر ، فمن أجل ذلك اصفرّت الصفرة ؛ وواحد منها أحمر ، فمن أجل ذلك احمرّت الحمرة ؛ وواحد منها أبيض ، فمن أجل ذلك ابيضّ البياض ، والباقي على قدر ما خلق الله من الأنواع والألوان».

وكذا ما نقلناه عن بعض الحكماء (٣) : «إنّ من وراء هذا العالم سماء وأرضا ...» ـ إلى آخر ما قال ـ.

وإنّما خلق الله سبحانه بسبب تراكيب جهاتها ومشاركتها ومناسبتها وهيئاتها النوريّة وأشعّتها العقليّة ـ من المحبّة واللذّة ، والعزّ والذلّ ، والقهر والانقهار ، والاستغناء والافتقار ، وغير ذلك من المعاني والهيئات ـ امورا في هذا العالم تناسبها من عجائب الترتيبات ولطائف

__________________

(١) ـ راجع الصفحة : ٢٣٥.

(٢) ـ يأتي حديث المعراج مفصلا في باب المعراج.

(٣) ـ مضى في الصفحة : ٣٤٠.

٣٥٦

النسب وبدائع النظم في السماوات والأرضين ، وما فيهما من الأجسام وتوابعها ، وفي عالم النفوس ـ من العجائب الروحانيّة والغرائب الجسمانيّة من أحوال قواها وكيفيّة تعلقها بالأبدان وغير ذلك ـ كما اشير إليه في حديث المعراج بقوله : «ومن أجل ذلك اصفرّت الصفرة ... ومن أجل ذلك احمرّت الحمرة» ـ وما يشبه ذلك.

فصل [٣]

وإذ ليس للملائكة المقرّبين حجاب ـ لبراءتهم من الغواشي ـ فذواتهم ظاهرة لأنفسهم ، معقولة لهم ؛ وكذا ذوات بعضهم لبعض ؛ وبهم ظهور من دونهم من الموجودات.

فهم إذن انوار مجرّدة وأشعّة إلهيّة وأضواء قاهرة ؛ وكلّهم أحياء ناطقون ، عالمون ، وعالمهم عالم القدرة ؛ وللعالي منهم قهر على السافل ، وإشراق وإحاطة ؛ وللسافل عشق إلى العالي ، ومحبّة له ومشاهدة من دون إحاطة ، لانقهاره عنه (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) [٨٥ / ٢٠] (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) [٦ / ٦١].

والكلّ مبتهجون بالله ـ تعالى ـ وبذواتهم ، لا من حيث هم هم ، بل من حيث كونهم مبتهجين به ، لأنّهم يعرفون أنفسهم به تعالى ، فلذّتهم ـ أيضا ـ بذاته سبحانه.

وأمّا لذّتهم بأنفسهم فهي من حيث رأوا أنفسهم عبيدا وخدما له مسخّرين ، فهي ترجع إلى لذّتهم به ، فهم على الدوام في مطالعة ذلك الجمال ، لا يرتدّ إلى أنفسهم طرفهم طرفة عين ، لاستهلاكهم في ذات الحبيب الأوّل ، لا فرق بينهم وبين حبيبهم ـ كذا قال بعض المحققين.

٣٥٧

[٢]

باب

الملائكة المدبّرين

(فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) [٧٩ / ٥]

فصل [١]

الملائكة المدبّرون هم الروحانيّات (١) المتعلّقة بعالم الأجسام ، على كثرة أجناسها وأنواعها ، وطبقاتها المتخالفة المتفاوتة حسب تخالف طبقات الأجسام السماويّة والأرضيّة وتفاوتها ـ كما مرّت الإشارة إليهم.

ونسبتهم إلى النفس الكليّة ـ المسمّاة ب «اللوح» ـ كنسبة سائر العقول والأرواح إلى العقل الأوّل المسمّى ب «القلم» ؛ وإليهم الإشارة في كلمات الأنبياء الماضين عليهم‌السلام (٢) «إنّ لكلّ شيء ملكا».

__________________

(١) ـ كذا.

(٢) ـ لم أعثر عليه.

٣٥٨

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال في كثرة ملائكة السماء (١) : «أطّت السماء وحقّ لها أن تئطّ (٢) ، ما فيها موضع قدم إلّا وفيه ملك ساجد أو راكع».

وقال في كثرة ملائكة الأرض (٣) : «ما من قطرة تنزل من السماء إلّا ومعها ملك ، حتّى يضعها موضعها».

وقد يكون الواحد منهم ذا قوى متعدّدة يفعل بكل قوّة فعلا من الأفاعيل ، وتلك القوى ملائكة اخرى مسخّرة تحت سلطانه ـ كأنّها أجزاؤه وجوارحه وأجنحته ـ وهو جهة وحدتها والمشتمل عليها كلّها.

وذلك (٤) لأنّ الملائكة كلّهم وحدانيّة الصفات ، ليس فيهم خلط وتركيب ـ البتة ـ فلا يكون لكلّ واحد منهم بجهة واحدة وقوّة واحدة ـ إلّا فعل واحد ـ كما اشير إلى ذلك بقوله سبحانه حكاية عنهم : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) [٣٧ / ١٦٤].

فلذلك ليس لهم تنافس وتقابل ، بل مثال كلّ واحد في مرتبته

__________________

(١) ـ بلفظ : «... موضع أربع أصابع ...» في المسند : ٥ / ١٧٣. الترمذي : كتاب الزهد ، باب (٩) ، ٤ / ٥٥٦ ، ح ٢٣١٢. مستدرك الحاكم : كتاب التفسير ، سورة هل أتى ، ٢ / ٥١٠. وكتاب الفتن : ٤ / ٥٤٤ ، وكتاب الأهوال ، ٤ / ٥٧٩. حلية الأولياء : ترجمة مورق العجلي ، ٢ / ٢٣٦. كنز العمال : ١٠ / ٣٦٧ ، ح ٢٩٨٣٨.

راجع أيضا تخريجاتها في الدر المنثور : الصافات / ١٦٤ ، ٧ / ١٣٥ ـ ١٣٦.

(٢) ـ قال ابن الأثير (النهاية : أطط : ١ / ٥٤) : «الأطيط : صوت الأقتاب ، وأطيط الإبل : أصواتها وحنينها ؛ أي إن كثرة ما فيها من الملائكة قد أثقلها حتّى أطّت ؛ وهذا مثل وإيذان بكثرة الملائكة ، وإن لم يكن ثمّ أطيط ؛ وإنما هو كلام تقريب اريد به تقرير عظمة الله تعالى».

(٣) ـ مضت الإشارة إليه في الصفحة : ١٨٦.

(٤) ـ إلى آخر الفصل مقتبس من إحياء علوم الدين : كتاب الشكر ، الطرف الثامن : ٤ / ١٧٧.

٣٥٩

وفعله مثال الحواسّ ، فإنّ البصر لا يزاحم السمع في إدراك الأصوات ، ولا الشمّ يزاحمهما ، ولا هما يزاحمان الشمّ ، بل هي ـ أيضا ـ نوع منهم كما سنشير إليه.

وهذا بخلاف اليد والرجل ، فإنّك قد تبطش بأصابع الرجل ـ بطشا ضعيفا ـ وقد تضرب غيرك برأسك ، فتزاحم بذينك اليد التي هي آلة البطش والضرب ؛ وكذلك الإنسان الذي يتولّى بنفسه الأفاعيل المختلفة ، فإنّ هذا نوع من العدول والاعوجاج عن العدل ، سببه اختلاف صفات الإنسان واختلاف دواعيه ، فإنّه ليس وحدانيّ الصفة ، فلم يكن وحدانيّ الفعل ؛ فلذلك تراه يطيع الله تارة ، ويعصيه اخرى ، لاختلاف دواعيه وصفاته.

وذلك غير ممكن في طباع الملائكة ، بل هم مجبولون على الطاعة لا مجال للمعصية في حقّهم ، فلا جرم (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [٦٦ / ٦] (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) [٢١ / ٢٠] ، والراكع منهم راكع أبدا ، والساجد منهم ساجد أبدا ، والقائم منهم قائم أبدا.

وطاعتهم لله ـ عزوجل ـ من حيث لا مجال للمخالفة فيهم يمكن أن يشبه بطاعة أطرافك لك ، فإنّك مهما جزمت الإرادة بفتح الأجفان لم يكن للجفن الصحيح تردّد ولا اختلاف في طاعتك مرّة ومعصيتك اخرى ، بل كأنّه منتظر لأمرك ونهيك ، ينفتح وينطبق متّصلا بإشارتك ، فهذا يشبهه من وجه ، ولكن يخالفه من وجه ، إذ الجفن لا علم له بما يصدر عنه من الحركة ـ فتحا وإطباقا ـ والملائكة أحياء عالمون بما يفعلون.

٣٦٠