الإقتصاد فيما يتعلّق بالإعتقاد - المقدمة

الإقتصاد فيما يتعلّق بالإعتقاد - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٦

١
٢

٣
٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(١)

يقترن دائما تاريخ النجف وعنوانها الحضاري بشخصية الشيخ محمد ابن الحسن الطوسي مؤلف هذا الكتاب .. حيث اعتبرت هجرته في حدود منتصف القرن الخامس الهجري من بغداد إلى النجف إثر محنة معروفة امتحن بها هذا الوطن العزيز : تأسيسا لمدرسة النجف الفكرية ونقلة للمرجعية الدينية المتمثلة به وانعطافا متميزا في تاريخ هذه الحاضرة.

ولعل اختيار الشيخ أبي جعفر الطوسي لهذه المدينة كي تكون موطنا له وبالتالي مركزا قياديا للمسلمين : يرجع إلى جملة عوامل اصيلة ، فمضافا إلى كونها ـ أي النجف ـ مدينة مقدسه ترنو إليها انظار المسلمين. لما تضمه من مرقد الامام علي (ع) ، فانها تتصل بمنطقة ذات حضارات أصيلة متميزة :

فهي من جهة تقيم اصولها على مدرسة الكوفة التي نشأت بعد اتخاذها عاصمة للمسلمين من قبل الامام علي والتي ازدهرت أو ازدادت ازدهارا ورسوخا في أيام الامام الصادق في النصف الأول من القرن الثاني للهجرة وما يليه.

وهي من جهة ثانية ترتبط بمنطقة (الحيرة) المجاورة المعروفة

٥

بعطائها وآثارها الحضارية التي ظلت شاخصة حتى عهد قريب.

* * *

وعليه فقد تأتى للنجف بعد هجرة الطوسي إليها واتخاذها موطنا له ان تنشط للحركة العلمية نشاطا ملحوظا .. بحيث ظل هذا النشاط ـ خلا فترة يسيرة ـ متأصلا وممتدا إلى هذا الحين.

وكان طبيعيا أن تتسع عبر كل هذه الحقبة دائرة المعارف التي يتلقاها الدارسون في حاضرة النجف ، وبخاصة تلك المتعلقة بالدراسات الشرعية واللغوية ، وأن يتسع أيضا حجم هذه الدراسات وما ينتج عنها من مصنفات وآثار مختلفة.

والمعروف ان هذه المصنفات والآثار ـ حسبما تشير إليه بعض الاحصاءات ـ قد شغلت حيزا غير يسير من مساحة الموسوعات المعجمية الخاصة بكتب الحاضر والتراث ، بيد أنه لم يتسن لأية جهة علمية او مركز من مراكز المعرفة المعنية بنشر التراث وغيره ان تنهض بنشر ما يتناسب والحاجة من تلك المصنفات وتحقيق ما يفتقر منها إلى التحقيق.

(٢)

لذلك وضعت « جمعية منتدى النشر » في برنامجها منذ تأسيسها قبل نحو من خمسة عقود زمنية ان تعمل على نشر تلك المصنفات وتعميم الانتفاع بها ، وبالفعل فقد تهيأ لها ان تنشر بعضا منها ولعدد من المؤلفين القدامى والمعاصرين. وتعبيرا عن اهمية هذه المنشورات وقيمتها الفكرية والأدائية لوحظ أن عددا من دور النشر المعروفة

٦

اخذت في الآونة الأخيرة تتسابق لاعادة نشرها على نطاق واسع.

ولو قدر لجمعيتنا هذه ـ التي تعاود اليوم ثانية عملها الآنف في نشر التراث وغيره ـ أن تمضي في مهمتها الرئيسة المذكورة في عملية النشر وتحقيق التراث وتنصرف إلى تحقيق برنامجها في هذا السبيل لاستطاعت اغناء المكتبة الاسلامية بشيء غير يسير آخر من نتاج مدرسة النجف المذكورة.

(٣)

بيد أنها ـ وخاصة في العقدين أو الثلاث الأخيرة من مسيرتها ـ عمدت إلى تركيز جهودها وتكثيفها في مجال آخر .. كان في رأيها ابعد نفعا وأوفى ثمرات .. ذلك هو مجال تأسيس المدارس وإدارتها ، بهدف تطوير الدراسة الدينية منهجة واسلوبا وتفاعلا ببعض ما جد من الفكر التربوي المعاصر.

ومن غير شك انها نجحت نجاحا متميزا في هذا السبيل .. خاصة إذا ما روعيت تلك العوائق التي وقفت في وجه الحركة الاصلاحية المذكورة واعاقتها في كثير من الأحيان عن بلوغ ذروة أهدافها.

ولعل من أبرز معالم نجاحها في ذلك ـ وقد واتت الفرصة للحديث عنها وتسجيل جانب من منجزات الجمعية من خلالها ـ هر قدرتها على تأسيس وإدارة عدد من الكليات والمدارس ذات المراحل المختلفة ، ومن بينها ما سمي بمدرسة منتدى النشر العالية التي قامت في السنة التالية من تأسيس الجمعية أي سنة ١٣٥٦ ه‍ ـ ١٩٣٦ م والتي ما فتئت

٧

أن ذابت ، وكلية منتدى النشر التي انشأت سنة ١٣٦٣ ه‍ ـ ١٩٤٣ م والتي استمرت إلى قيام نظيرتها او خليفتها كلية الفقه ... هذه التي تأسست سنة ١٣٧٦ ه‍ ـ ١٩٥٧ م حتى رسمت سنة ١٩٧٤ م وظلت قائمة بذات المنهج إلى وقتنا الحاضر.

كذلك تولت الجمعية من جانب آخر تحقيقا للترابط والانسجام في مسيرة الطالب العلمية : تأسيس وإدارة عدد آخر من المدارس الاعدادية والمتوسطة والابتدائية في النجف والكاظمية والشامية ، ومثلها في البصرة والحلة وكربلاء وان لم يتأت لهذه المدن الأخيرة ان تحظى مدارسها بالاستمرار.

بل ان فكرتها في تبني التعليم ومناهضة الجهل امتدت حتى إلى تأسيس وإدارة عدد من مراكز محو الأمية وتعليم اليافعين ، حيث بادرت الجمعية إلى تأسيس أول مركز أهلي في القطر قبل نحو من خمسة وثلاثين عاما .. أي سنة ١٣٦٤ ه‍ ـ ١٩٤٤ م ثم اعادت فتحه سنة ١٩٥٨ م وأخيرا قامت لدى تشريع قانون محو الأمية والتعليم الالزامي الأخير بانشاء مركزها الثالث الذي لا يزال قائما يؤدي مهمته إلى هذا الحين.

كل هذا مضافا إلى قيامها بفتح دورات زمنية خاصة تتصل ببعض العلوم التي دعت الحاجة إليها ملحة في حينه ، مثل دورة مسك الدفاتر التجارية ، ودورة قسم من العلوم الرياضية .. إلى جانب الدورة الخاصة ببعض اللغات الأجنبية.

* * *

٨

على أن محاولاتها في مجال الدراسة الجامعية المذكورة امتدت إلى تأسيس عدد آخر من الكليات والمعاهد الاسلامية مثل (كلية الوعظ والارشاد) التي بدأ التدريس فيها فعلا سنة ١٣٦٣ ه‍ ولكنه سرعان ما توقف لظروف لا مجال لذكرها هنا ، وذلك لتكون هذه الكليات ونحوها نواة لقيام (الجامعة الاسلامية) التي كان المغفور له (الشيخ محمد رضا المظفر) مؤسس الجمعية قد وضع خطوطها الأولى وصمم فكرتها ومنهجها الدراسى كما لاحظنا ذلك مثبتا في مذكراته.

والأهم من هذا وذاك فالملاحظ ـ فيما لمسناه ـ ان مسعى الجمعية وبرنامجها الاصلاحي في تطوير الدراسات الدينية وتنهيجها قد انعكس فعلا على معظم الحوزات الدينية التقليدية ، بما غيرته هذه من مناهجها وأسلوبها التدريسي ، وبما عمدت إليه أخيرا من إنشاء بعض الدورات الدينية التي لا تختلف كثيرا عن مسار ومنهجة مدارس منتدى النشر ، وذلك بعد أن لمست هذه الحوزات صواب ما كانت تصبو إليه جمعية منتدى النشر وتهدف إلى تحقيقه.

(٤)

وعلى أية حال .. وإذ لم يتأت للجمعية ان تمضي في مهمتها المذكورة وبرنامجها الاصلاحي الهادف إلى تأسيس المدارس وإدارتها بناء على ترسيم التعليم في العراق ، فقد ترتب عليها ان تنصرف إلى مهمتها الرئيسة الأخرى ، وهي المتعلقة بنشر الآثار والنتاجات العلمية لحاضرة النجف أو غيرها وتحقيق ما يفتقر منها إلى التحقيق .. حيث

٩

عمدت بالفعل إلى تشكيل لجنة علمية من بين اعضائها لتتولى عملية اختيار ما يصلح من تلك النتاجات للنشر ، وبخاصة ما كان منها تراثيا لتضيفه الى جملة منشوراتها السابقة.

ومما يبعث على الأمل والاعتزاز ان يكون أول إصداراتها بعد تشكيل هذه اللجنة وقيامها بمهمتها هو كتاب (الاقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد) الذي نقدم له الآن ونقدمه إلى الباحثين المعنيين بالدراسات العقائدية والذي هو من تصنيفات الشيخ محمد بن الحسن الطوسي مؤسس مدرسه النجف وباعث حركتها العلمية.

ولا نذكر جديدا هنا إذا قلنا ان الطوسي ـ الذي نمر بذكره كمؤلف لهذا الكتاب ـ كان وما يزال من ألمع بناتنا العلميين واكثرهم شخوصا وشموخا عبر تاريخنا الطويل ، فهو مؤلف وباحث موسوعي .. برع وأحاط بشتى صنوف المعرفة الاسلامية من تفسير وحديث وفقه وأصول وعلم رجال .. إلى جانب ما برع به من علوم العقائد واللغة والآداب ونحوها.

وهو فوق ذلك رائد حركة اصلاحية في تطوير الدراسة الدينية وتنهيجها وفي تأسيس وتأصيل كثير من مناحي المعرفة ، مثلما هو رائد اسلامي تسنم بخاصة منصب زعامة الامامية حتى لقب بشيخ الطائفة ، اشارة إلى هذه الطائفة الثانية الكبيرة من طوائف المسلمين. وقد تعرضت نتيجة لذلك حياته للخطر .. الأمر الذي اضطره للهجرة إلى (النجف) واتخاذها موطنا له فيما المعنا إليه من قبل » كما تعرضت

١٠

من جانب آخر حريته الفكرية للحجر حتى اضطر إلى إتلاف الكثير من آثاره ونتاجاته العلمية إثر الغزو السلجوقي المعروف لمدينة بغداد.

(٥)

ولكل هذا وغيره من الجوانب البارزة في حياة شيخنا الطوسي الدالة على اتساع آفاقه العلمية والقيادية فقد كنت أرجو من اللجنة القائمة بتحقيق هذا الكتاب ، بل رجوت منها فعلا أن تتولى ـ وهي تعرض دراستها عن هذا الكتاب ـ : ترجمة حياة المؤلف الطوسي على النحو الذي يسمح لها موضوعها كمقدمة لكتاب. وذلك كما يقضى به نهج الدارسين من محققي كتب التراث.

غير ان بعضهم واجهني بعدم جدوى هذا النحو من الدراسات القائمة على التركيز والاختصار ، من حيث عدم قدرتها ـ في تقديره ـ على ابراز شخصية المترجم له واستيعاب كل جوانبها ومعالمها المهمة ، وخاصة إذا ما كانت هذه الشخصية نظير شخصية الطوسي المتسعة الآفاق ، ولعله كان على جانب من الحق في تبريره هذا .. بيد أن النهج العلمي ـ على أية حال ـ لا يعفيه من هذه المهمة اللصيقة بعمله ومنهاجه.

(٦)

اما الكتاب فان أهميته ـ خلا كونه منسوبا إلى الشيخ الطوسي تلك الشخصية العلمية البارزة ـ ترجع إلى اعتباره من أوفى الكتب العقائدية الصادرة في تلك الحقبة الزمنية المتقدمة ، ومن اكثرها عمقا

١١

وقدرة على معالجة وابراز خصائص الفكر الامامى في مسائل العقيدة وذاتيته المتميزة عن الفكر الاعتزالي .. وهذا ينفي ما ظل بحسبان طائفة من الباحثين (١) من تبعية الامامية للمعتزلة في تلك المسائل وارتباطها بها في هذا المجال .. مستندين في ذلك إلى ما لاحظوه من التقاء الامامية مع المعتزلة في كثير من هذه المسائل ، ومنها ـ على ما يظهر ـ مسألة الحسن والقبح الذاتيين ، ومسألة العدل الالهي ، ومسألة الرؤيا وعموم الادراك ، ومسألة حرية الإرادة في خطوطها العامة وليس في جانبها التفويضي ، ثم مسألة بقاء الاعراض ، ومسألة أن النظر عقلي لا سمعي ... ونظائرها من المسائل والافكار المتناثرة في كتب العقائد ، والتي تتطابق فيها وجهات نظر الفريقين قبال رأي الأشعرية.

والواقع ان الامامية وان تطابقت أو تقاربت آراؤهم مع المعتزلة في هذه المسائل ونحوها ، فلا أجد انهم بذلك يشكلون منزعا واحدا في معالجاتهم لها ، كما لا صحة لدعوى تلك التبعية.

فقد عرف الامامية منذ البداية بمنازعهم الفكرية والعقائدية المستقلة قبل نشوء الاعتزال نفسه وظهوره كمذهب واتجاه متميز.

بل لنا ـ على العكس ـ ان نذهب إلى القول بتأثر الفكر الاعتزالي بالفكر الامامي في جملة المسائل المذكورة ونحوها لأسبقيتهم ـ أي

__________________

(١) انظر ابن تيمية في منهاج السنة ١ / ٣١ ، والمظفر في دلائل الصدق ١ / ١٥٨ ط ٣.

١٢

الامامية ـ عهدا بذلك وأقربيتهم إلى ينابيع الرسالة .. غير أن جهر المعتزلة بآرائهم ومناداتهم بها إثر اعتزالهم عن الاشاعرة في وقائع خصامية معروفة ، ثم تميزهم بأفكار معينة من علم الكلام اعطاهم تلك الشهرة وطبعهم بها كمذهب مستقل حر الاتجاه.

ولا أجد مجالا لنا ، في هذا الحيز المحدود كمقدمة لكتاب ، للخوض في إثبات هذه الحقيقة وإيراد شواهدها وبيناتها .. هذه التي سبق لغيرنا أن عالجها وعرض لها باسهاب.

(٧)

ومع أن الكتاب في مباحثه التى بين أيدينا هو ليس بالشكل الذي صوره مؤلفه بأنه « الاقتصاد » فيما يتعلق بالاعتقاد ، غير أنه يمكن ان يعتبر اقتصادا واختصارا فعليا بالقياس إلى كتابه الآخر الموسوم ب (تمهيد الأصول) الذي هو شرح على كتاب جمل العلم والعمل للسيد الشريف المرتضى .. حيث نحا فيه المؤلف إلى التفصيل واصفا إياه بأنه كتاب كبير في الأصول (٢) ويعني بها أصول العقائد ، ولكنه كقرينه (الاقتصاد) لم يتلمس ـ إلى الآن ـ طريقه للنشر ولم يتهيأ له في حدود علمنا من يتكفل بتحقيقه وضبط نصوصه.

ولو هيأ لهذا الكتاب الموصوف بالسعة من يتولى تحقيقه هو الآخر لاضاف شيئا جديدا ونافعا إلى معلومات الباحثين عن الفكر الامامي ولعزز كثيرا من رأينا الآنف في ذاتية هذا الفكر واستقلاليته عن فكرة الاعتزال وعسى ان تتهيأ الفرصة أيضا لمحققي هذا الكتاب في

١٣

تولي تحقيق قرينه (تمهيد الأصول) باعتبارهما ينهجان ذات الاتجاه.

(٨)

وإذ جاء ذكر الاخوة محققي هذا الكتاب فمن الاعتراف بالجميل أن نشيد بجهودهم البالغة التي بذلوها في تحقيق الكتاب ، وما تطلبه ذلك من مراجعة كل ما أمكن لهم الحصول عليه من نسخة المخطوطة ، فقد بذلوا في حدود علمي واسعا من جهودهم في سبيل ضبط النص وتقويمه ، ولكن جهودهم هذه وانصرافهم إلى ضبط النص وما أخذوه على انفسهم من الدقة والامانة ، حال ـ كما يبدو ـ دون العناية كثيرا بالتعليق على ما يستحق التعليق من نصوص الكتاب .. هذه التي يرى بعض الباحثين انها قضية اساسية ومنهجية في عمل المحققين ، وخاصة بالنسبة إلى كتب التراث والدراسات المرجعية لتجلية ما قد غلق من عبارات الكتاب ومطالبه أو خفي من مصطلحاته على قارئ اليوم.

وبعد فمما يدعو إلى التقدير ان يكون الاخوة محققو هذا الكتاب صفوة من شبابنا المؤمن المتطلع الى الفضيلة والمعرفة وإلى العمل المخلص الجاد والذين تحتضنهم مدرسة النجف العتيدة ، هذه التي نهض باشادتها وتأسيسها وبعث حركتها الفكرية الشيخ أبو جعفر الطوسي مؤلف هذا الكتاب الذي نقدم له ونقدمه إلى القراء كأول نتاج من نتاجات جمعية منتدى النشر في نهجها الجديد .. التي ستتوالى باذن الله وتسديده في الصدور.

النجف الأشرف ٨ رمضان المبارك ١٣٩٩

محمود المظفر

سكرتير جمعية منتدى النشر

١٤

تقديم

لجنة التحقيق

في جمعية منتدى النشر

النجف الأشرف

١٥