الإقتصاد فيما يتعلّق بالإعتقاد

أبي جعفر محمّد بن الحسن بن علي بن الحسن الطّوسي [ شيخ الطائفة ]

الإقتصاد فيما يتعلّق بالإعتقاد

المؤلف:

أبي جعفر محمّد بن الحسن بن علي بن الحسن الطّوسي [ شيخ الطائفة ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٦

تقديم

يتفق الباحثون في ان الضرورات التاريخية ألحت على المسلمين في الانفتاح على البحث العقلي الكلامي ، والانتقال في مباحث العقيدة ، وطريقة التفكير الديني إلى مرحلة جديدة ، تمتاز باستحداث منهج جديد في الفكر لم يكن للمسلمين به عهد.

لقد كانت طلائع ذلك في أواخر القرن الأول للهجرة ، وبدايات القرن الثاني. ويمكننا إجمال تلك الضرورات بالنقاط التالية :

أولا ـ انفتاح المسلمين على حضارة اليونان ، الذي تمثل واضحا في حركة الترجمة السريعة لتراثهم العلمي ، لا سيما ما يختص منه بالفلسفة والمنطق والعقيدة.

ثانيا ـ بروز حركة الإلحاد والزندقة في الوسط الاسلامي ، وقد حرص زعماؤها على استغلال الطريقة العلمية المنطقية في دعم تشكيكاتهم ومقولاتهم.

ثالثا ـ تطور العقلية الاسلامية ، إثر الابتعاد عن عصر النصوص ، ومواجهة اسئلة عقائدية بدأت تتزايد طبيعيا ، وتنبثق باستمرار ، الأمر

١

الذي دفع إلى محاولة الإجابة الشاملة عن تلك الاسئلة.

كانت هذه الضرورات شاخصة امام رجال الفكر المسلمين ، تدعوهم إلى اتخاذ موقف.

فالطريقة المنطقية في البحث سيطرت على الأفق ، وأحدثت ضجة كبيرة في الوسط الاسلامي ، فكان لا بدّ من دعم المعتقد الديني وتعزيزه على أساس هذه الطريقة.

كما ان العناصر غير الاسلامية برعت في استغلال هذه الطريقة بعد استعارتها من المصادر اليونانية وغيرها ، مما زاد في حراجة موقف العلماء الاسلاميين.

وكان في آخر المطاف اتساع أفق التفكير في المجمع الإسلامي عقيب التطورات والتحولات الاجتماعية والسياسية التي مر بها.

أمام هذا النداء التاريخي ، ظهر اتجاهان لتحديد الموقف ، واشباع حاجة النداء : اتجاه تقليدي محافظ. واتجاه تحرري منفتح.

مثل الاتجاه الأول (السلف والمحدثون) كما اصطلح عليهم أخيرا.

ومثل الاتجاه الثاني (العدلية) كما اصطلح عليهم أيضا.

طبعا. كان كل من الاتجاهين يقصد الدفاع عن ساحة العقيدة ، واكتساب النصر لها ، وإنما اختلفوا في طريقة ذلك. فالمحدثون رأوا ان مهمة الدفاع عن العقيدة تقتضي الامساك بالزمام سريعا ، وسد الباب أمام موجة الانفتاح الفكري ، أمام كتب اليونان ، أمام العقلية المتفتقة الجديدة ، أمام شبهات الملحدين الموسومة بالطابع المنهجي.

٢

والبقاء المطلق في القشر الظاهري للنصوص (قرآنا وسنة) دون أية محاولة لتطعيمها بالأداة العقلية في البحث.

ومن هنا أعلنوها حربا صريحة ضد الاتجاه الثاني ، حتى كان من قولهم «لا تجوز الصلاة خلف المتكلم ، وان تكلم بحق فهو مبتدع» (١).

أما (العدلية) ـ نسبة إلى قولهم بالعدل الإلهي ـ فقد رأوا ان المواجهة الصحيحة تقتضي الترحيب بالمنهج العلمي الجديد ، وهضمه جيدا ، وبالتالي الانطلاق منه ، وبنفس الطريقة ، لدعم المعتقد الديني. وهكذا كان.

مدرسة أهل البيت (ع):

وكان الأئمة من أهل البيت (ع) في قلب الساحة ، وعلى تفهم تام لأبعاد المشكلة ، وفي سائر الميادين كانوا هم المرجع العلمي. حتى نجد ان الحسن البصري الذي هو من أبرز العلماء والوعاظ في عصر التابعين ، يكتب إلى الامام الثاني من أهل البيت (ع) ـ الحسن بن علي يسأله عن رأيه في مسألة القضاء والقدر التي أغلقت عليه (٢) ، وحتى بحد عمرو بن عبيد شيخ المعتزلة ، يستعلم من الامام السادس من أهل البيت (ع) ـ جعفر الصادق ـ عن عدد كبير من قضايا التفسير وغيره (٣)

__________________

(١) مفتاح السعادة / طاش كبرى زاده / ج ٢ / ٢٤.

(٢) تحف العقول ، / ١٦٢.

(٣) بحار الانوار / ج ٤٧ / ٢١٦ وغيرها.

٣

وكان موقفهم في مواجهة المشكلة يعتمد على أساس الثقة بالمعتقد الديني ، والثقة في الوقت ذاته بالتفكير العقلي المنطقي ، ومعنى هذا أنهم انطلقوا من الرؤية القائلة بأن احكام العقل لا تصطدم مع المعتقد الديني ، بل هي دائما في صالح العقيدة.

ومن هنا فلا خطر من حركة الانفتاح العقلي ، ولا شيء يخاف منه على الدين.

إذن فالموقف الصحيح هو الترحيب بالمنهج العلمي ، والاستفادة منه في دعم قضايا العقيدة. وكان هذا هو موقف المعتزلة ، الذين انشقوا عن السلف والمحدثين من أهل السنه.

وعلى ذلك فقد أصبح كل من الشيعة والمعتزلة يمثل الموقف الايجابي تجاه البحث العقلي الكلامي ، وكان لقب (العدلية) هو اللقب الجامع لهما ، من حيث اشتراكهما في الايمان بالعدل الالهي.

وتاريخيا تحرك كل من الشيعة والمعتزلة للنهوض بأعباء المهمة العلمية ، مهمة الدفاع عن المعتقد الديني بما يناسب المرحلة ، بينما ظل الآخرون ممثلو الاتجاه الأول (السلبي ، التقليدي) في حالة شه انغلاق ، وهروب من المسئولية. ومن رجال الشيعة والمعتزلة تركبت فئة (المتكلمين) ، الذين واجهوا باصرار وجدارة حركة الالحاد والزندقة ، وأشبعوا العقلية الجديدة ، وحصنوا إطار العقيدة كله.

يبقي ان نلاحظ في هذا الصدد أمرين :

الأمر الأول : ان مدرسة أهل البيت في الوقت الذي تحركت في

٤

المجال العقيدي وسعت لاشباع حاجة المرحلة ، لم تنس أنها ذات مهمة شمولية يدخل في دائرتها كل ما يرتبط بالدين ، سواء على المستوى الفكري ، أو الخلقي ، أو السياسي. وسواء في العقيدة ، أو الفقه.

وحاجة الأمة في هذه المرحلة لم تقتصر على جوانب العقيدة ، وضرورة تأطيرها وصياغتها بشكل أنسب. وإنما كانت الحاجة مماثلة في الفقه أيضا ، في الحلال والحرام.

فقد اتسع أفق الناس في علاقاتهم ، وطريقة معيشتهم ، وصنوف تعاملهم ، بينما هم يبتعدون بالتدريج عن عصر النصوص (القرآن وسنة الرسول) ، ولأجل ذلك كانت الضرورة ملحة أيضا في التوفر على هذا الجانب ، وخلق فئة (الفقهاء) لاشباع هذه الحاجة.

وهنا أيضا كان أهل البيت (ع) في قلب الساحة ، وعلى تفهم تام لمستوى الحاجة ، وبذلك اندفعت مدرستهم لملء هذا المجال ، كما اندفعت لملء المجال العقيدي.

وقد كانت العناية مهمة للغاية بمستوى اننا نلاحظ ظاهرة (التخصص) في تلاميذ هذه المدرسة. فهناك فئة تخصصوا للجانب الفقهي ، يدخل فيها زرارة ، ومحمد بن مسلم ، وأبو بصير ورجال آخرون ، وفئة تخصصوا للجانب العقيدي يدخل فيهم هشام بن الحكم ، وهشام بن سالم ، ومؤمن الطاق ، وآخرون.

وبهذه الطريقة وفقت هذه المدرسة للإجابة العملية ـ لا فقط النظرية ـ عن مخاوف وشكوك الاتجاه التقليدي السلبي ، حيث خيل لأربابه ان

٥

الانفتاح على البحث العقلي الكلامي يعني التقدم على حساب صالح الفقه ـ قرآنا وسنة ـ ففي تصورهم يوجد تقابل حدي بين الفقه والكلام ، يوضح ذلك الكلمة المنسوبة إلى أحد رجالهم.

«حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم في العشائر والقبائل ، ويقال هذا جزاء من ترك السنة وأخذ في الكلام» (١).

هذا التصور اجابت عنه عمليا مدرسة الشيعة التي أخذت على عهدتها التفرغ لكل من المهمتين ، والتوفيق بين العقل والدين.

وبهذا يمكن أن نسجل نقطة امتياز للشيعة على المعتزلة الذين يقفون في نفس الخط.

فقد لوحظ ان الاهتمام الكلامي عند المعتزلة أحدث عندهم انحسارا عن المهمة الفقهية ، فتركوا الساحة لغيرهم ـ إلا ما ندر ـ وربما يكونوا قد عولوا في ذلك على تفرغ المحدثين لهذه المهمة.

الأمر الثاني : وبحكم صعوبة البحث الكلامي ، وجدته في الوقت نفسه ، وخطورة موضوعه ، كان اطلاق العنان لكل الناس في خوضه والامعان فيه شيئا غير صحيح.

ولعل هذه الخطورة هي التي حدت بالسلف والمحدثين إلى الوقوف بوجه البحث الكلامي واعتباره بدعة وضلالا.

وبلا شك ، كان الايغال في هذه المباحث سببا مساعدا على ظهور حركة الالحاد والزندقة التي سندت نفسها بطابع العلمية والمنهجية.

__________________

(١) مفتاح السعادة / ج ٢ / ٢٦.

٦

وتحسبا لهذه العواقب ، وتحفظا منها ، كان الأئمة من أهل البيت يرقبون باهتمام المشتغلين بعلم الكلام ، فيجيزون بعضا وينهون آخرين.

فقد روي ان الامام الصادق نهى رجلا عن الكلام وأمر آخر به ، فقال له بعض أصحابه : جعلت فداك نهيت فلانا عن الكلام وأمرت هذا به؟ فقال : هذا أبصر بالحجج وأرفق منه» (١).

وهناك رواية أخرى عن عبد الأعلى مولى آل سام ، قال : قلت لأبي عبد الله (الصادق) (ع) : ان الناس يعيبون عليّ بالكلام ، وأنا أكلم الناس. فقال : أما مثلك مثل من يقع ثم يطير فنعم ، وأما من يقع ثم لا يطير فلا» (٢).

وبهذا نستطيع أن نفسر بعض ما ورد عن أهل البيت في النهي عن الاشتغال بعلم الكلام. كما أن به نستطيع أن نفسر ما يحكيه ابن الراوندي : بأن كثيرا من الشيعة كانوا يكرهون الكلام. فيما نقله عنه الخياط المعتزلي (٣).

* * *

على ان هناك مسألة حظت باهتمام الباحثين عن تاريخ العقيدة ، وهي مسألة الصلة بين التشيع والاعتزال. وفي الاغلب لم يكن الدخول في بحث هذه المسألة موضوعيا مخلصا.

__________________

(١) تصحيح الاعتقاد / الشيخ المفيد / ١٧٢.

(٢) رجال الكشي / ٢٧١.

(٣) الانتصار في الرد على ابن الراوندي / ١٣.

٧

وقد وجد رأيان في تحديد هذه الصلة هما على طرفي النقيض ، رأي يرجع التشيع الى الاعتزال ورأي يرجع الاعتزال الى التشيع. ويستند هؤلاء إلى تتلمذ واصل بن عطاء على أبي هاشم بن محمد بن الحنفية ابن الإمام على ، وتتلمذه أيضا على زيد بن علي بن الحسين. والواقع ان هذه الحجة لا يمكن الاعتراف لها بالصحة ، فانه لم تكن التلمذة وحدها في يوم من الأيام دليلا على التبعية ، وعلى سلب كل الابتكارات والابداعات عن التلميذ ونسبتها إلى الاستاذ. كما انه لم يعرف ما هي مادة البحث بين التلميذ واستاذه ، ومن المظنون قويا أن تكون هي الفقه والحديث ، كما كان هو المتداول. على ان هناك من ينكر تلمذة واصل على زيد ، ويحسبها مجرد زمالة علمية.

أما الذاهبون إلى تبعية الشيعة للمعتزلة ، فالى حد كبير لم تكن دعواهم هذه مبرهنة ، وكأنهم قنعوا بالتاريخ المجيد للمعتزلة ، ومبادراتهم الكلامية ، دليلا على أصالتهم وأسبقيتهم.

وقد حاول الدكتور عرفان عبد الحميد أن يبرهن على هذه الدعوى معتمدا على النقاط التالية :

أولا ـ وضوح الاتجاه العقلي لدى علماء الشيعة في العهد البويهي.

الأمر الذي فسره جملة من المؤرخين على أنه تأثر الشيعة بطريقة المعتزلة. كما ذكر ذلك المقريزي والمقدسي وغيرهما.

ثانيا ـ تشيع عدد من مشايخ المعتزلة ومتكلميهم ، مما يقتضي طبعا تسرب الفكر المعتزلي إلى الشيعة عن طريق هؤلاء.

٨

ثالثا ـ أن أسبق كتاب عقائدي للشيعة هو كتاب الصدوق ٣٨١ ه‍ (عقائد الشيعة الامامية) وهو يجري في هذا الكتاب على طريقه المحدثين ، وبعيدا عن المنهج العقلي ، مما يعني ان قبول الشيعة لهذا المنهج جاء في عهد متأخر عن هذا التاريخ.

وسوف نتناول هذه الملاحظات في حدود ما يتسع له هذا التقديم ، وفي ايجاز ملحوظ.

ويجب أن نؤكد مسبقا على أن قضية التأثر المتبادل بين الشيعة والمعتزلة غير قابلة للشك.

وربما كانت ملاحظات الدكتور صالحة للاستشهاد بهما على هذه الحقيقة ، إلا ان ما ندخل لمناقشته هو اعتبار الفكر الشيعي فرعا على الاعتزال واقتباسا منه.

فبصدد الملاحظة الأولى يمكن القول : ان بروز المنهج العقلي في دائرة متكلمي الشيعة خلال فترة الحكم البويهي يرجع الى قضيتين تاريخيتين.

فمن ناحية كان الحكام البويهيين على مذهب الشيعة ، وبالطبع أتاح ذلك لمتكلمي الشيعة قدرا أكبر من النشاط والحركة ، بعد الضغط والمطاردة في طول تاريخ التشيع قبل هذا الحين.

ومعلوم ان حياة القلق والقمع التي عاناها الشيعة قبل هذا التاريخ لم توفر لهم الفرصة لمواصلة النشاط العلمي كالذي أتيح للمعتزلة يوم خضع لهم السلطان ، وأصبحوا يديرون أمور الدولة. فترة وجيزة

٩

جدا هي التي تنفس فيها علماء الشيعة شبه حرية ، وهي فترة الامام الباقر. والإمام الصادق من أهل البيت.

أما بعد هذا التاريخ فقد كانت السلطات شديدة على رجال الشيعة ، وعلى سبيل المثال نجد ان أبا يحيى الجرجاني ـ وهو من متكلمي الشيعة ، وله تصانيف في الرد على الحشوية ، وله كتبا في الاحتجاج كثيرة ـ هجم عليه محمد بن طاهر ، فأمر بقطع لسانه ويديه ورجليه ، ويضربه ألف سوط ، ويصلبه (١).

وبأثر هذا الضغط صدرت أوامر من أهل البيت لشيعتهم ، بالأقلاع والسكوت عن المحاججات الكلامية. فقد كتب الإمام الكاظم (ع) الى هشام بن الحكم ينهاه عن الكلام ، قال هشام : فأمسكت عن الكلام (٢).

ولم يتحسن حال الشيعة حتى حكم البويهيون ، فأطلق العنان لعلماء الشيعة في التحرك العلمي ، وبهذا مارسوا نشاطاتهم بحرية ، ولوحظ في تصانيفهم وكتبهم المنهج العقلي في البحث.

ومن ناحية ثانية كان المعتزلة قد طردوا من دوائر أهل السنة ، بعد ان انقلبت الدائرة عليهم ، وكان ذلك في بداية عهد الواثق بالله ، وبذلك أصبح الشيعة وحدهم ، رواد البحث العقلي. وهذا هو الذي ساعد على اقتناع جملة من المؤرخين بانتقال منهج المعتزلة إلى التشيع.

__________________

(١) رجال الكشي / ٤٤٧.

(٢) رجال الكشي / ٢٣٠.

١٠

أما حقيقة الحال فهي انتهاء المعتزلة بعد الضربة السياسية ، وتحرر الشيعة في العهد البويهي.

وأما قضية تشيع عدد من رجال المعتزلة فيمكن القول : ان أحدا لا يشك في تأثر الشيعة بنتاج المعتزلة الفكري ، وذلك أمر طبيعي في كل نشاط علمي يعيش منطقة واحدة ، واعتقد ان إنكار التأثير والتأثر المتبادل بين كل المدارس العلمية التي عاشت المرحلة أمر غير موضوعي. وعلى هذا فأن تشيع عدد من المعتزلة لا يشهد على أكثر من تلاقح فكري بين الشيعة والمعتزلة ، دون أن يكون له أية دلالة على ان الشيعة استوردوا فكرهم الكلامي من المعتزلة.

وبصدد الملاحظة الثالثة مما ذكره الدكتور يمكن التعليق باختصار يناسب هذا التقديم ، بالقول :

ان كتبا عديدة في مجال العقائد سبقت كتاب الصدوق ، وجملة كبيرة منها كانت لأصحاب الأئمة (ع) ، ومن عاصروا مشايخ المعتزلة الأوائل. ورغم ان هذه الكتب فقدت خلال عمليات الاحراق والمصادرة التي منيت بها مكتبات الشيعة ، فأن ذلك لا يبعث على الشك في وجودها ، وصحة نسبتها ، بعد ما دونت اسماؤها في كتب التراجم ، ونسبت إلى مؤلفيها بطرق موثوقة. ومن اليقين أن طريقة البحث في الكثير من تلك التصانيف كانت عقلية ، وعلى طريقة المتكلمين ، نعرف ذلك من خلال تصوراتنا عن مؤلفيها ، أمثال هشام بن الحكم ، وهشام بن سالم ، اللذين تشهد كل المسائل والآراء والمناقشات الواردة عنهم على

١١

أنهم سلكوا طريقة البحث العقلي ، ونعرف ذلك أيضا حين ندرك ان طريقة المحدثين في البحث تضيق عن تناول المسائل العقائدية بشكل مفصل ومسهب ، ومن هنا لم يكن للمحدثين دور يذكر في التضيف في هذه المسائل. بينما نظرة واحدة في عناوين تلك الكتب والرسائل لأصحاب الأئمة تكفينا للاقتناع بسعة البحث ، وطبيعته العقلية.

على ان الصدوق ينتمي إلى مدرسة (قم) ، وهي مدرسة عرفت بتطرفها ، تجاه العقليين ، حتى كانت تتهم بالغلو من يؤمن بعصمة النبي وأهل البيت ، وقد شمل هذا الاتهام عددا كبيرا من علماء الشيعة آنذاك. ومعنى هذا ان الصدوق لا يمثل إلا اتجاها واحدا سلكته مدرسة قم ، ولا يمكن أبدا تعميم هذا الاتجاه ، ونسبته إلى الشيعة كلهم ، فأن الذين شملهم اتهام الصدوق بالغلو ، كانوا من الشيعة ، وممن مارسوا الأدلة العقلية ، واعتمدوا عليها في القول بعصمة الأئمة والأنبياء.

على ان الشيخ المفيد الذي رد كتاب الصدوق ، ومارس الطريقة العقلية ، يشيد بذكر (بني نوبخت) وكانوا من أبرز متكلمي الشيعة ، وممن انفتح على البحث العقلي ، وحتى مطالب الفلسفة ، كما يظهر من آرائهم التي يستعرضها الشيخ في كتاب (أوائل المقالات).

ومن المفيد ان ننقل نص كلام ابن النديم عند ذكر (الحسن بن موسى النوبختي) ، فقد قال «متكلم فيلسوف ، كان يجتمع إليه جماعة من النقلة لكتب الفلسفة ، مثل أبي عثمان الدمشقي وإسحاق وثابت

١٢

وغيرهم» (١).

وقال أيضا عند ذكر (أبو سهل اسماعيل).

«وكان فاضلا متكلما ، وله مجلس يحضره جماعة من المتكلمين»

وبعد فانه لا ينبغي ان ننسى أثر الوضع التاريخي للشيعة على حركتهم وبروزهم العلمي ، ولا يصح لنا بحال ان نقرن بينهم وبين المعتزلة الذين عضدتهم السياسة ، ودعمت وجودهم ونشاطهم.

وعلى أي حال فأن المتتبع لتاريخ الشيعة يرى بوضوح كامل أن صفوة من رجالهم المعاصرين للأئمة (ع) ، قد اشتغلوا في علم الكلام ، بمنهجه العقلي.

يمكن أن نستشهد لذلك فعلا وبقدر يناسب التقديم بمجموعة نصوص تاريخية.

هناك نص يقول ان علي بن يونس سأل الإمام الرضا (ع) عن اختلاف الشيعة ، فقال (ع) : في أي شيء اختلفوا؟

قلت : جعلت فداك من ذلك ما اختلف فيه زرارة وهشام بن الحكم ، فقال زرارة ان المنفي ليس بشيء وليس بمخلوق ، وقال هشام ان المنفي شيء مخلوق.

فقال لي : قل في هذا بقول هشام ولا تقل بقول زرارة» (٢)

مسألة عقيلة ، وأدلتها مستندة إلى العقل ولا ترتبط بالنصوص في

__________________

(١) أنظر الفهرست / ابن النديم / ٢٥١.

(٢) رجال الكشي / ٢٢٩.

١٣

شيء ، ومع هذا فقد كانت محلا لدراسة هشام وزرارة ، ومحلا لاهتمام السائل.

هناك نص آخر عن هشام بن الحكم قال : سألت أبا عبد الله (الامام الصادق) بمنى عن خمسمائة حرف من الكلام. فأقبلت أقول يقولون كذا وكذا. قال : فيقول لي قل كذا» (١).

ويبدو أن توغل بعض علماء الشيعة يوم ذاك في الأبحاث الكلامية العقلية بلغ إلى حد أثار تساؤل القطاع العام من الشيعة الذين لم يألفوا هذه الأبحاث.

يحدثنا جعفر بن عيسى انه قال للامام موسى بن جعفر :

يا سيدي نستعين بك على هذين الشيخين يونس وهشام وهما حاضران ، وهما أدبانا وعلمانا الكلام ، فان كنا يا سيدي على هدى فقرنا ، وإن كنا على ضلال فهذان أصلانا ، فمرنا بتركه ونتوب إلى الله منه يا سيدي ، فادعنا الى دين الله نتبعك.

فقال (ع) : ما أعلمكم إلا على هدى ، جزاكم الله خيرا على النصيحة القديمة والحديثة» (٢).

* * *

وعلى ضوء القرائن المتقدمة فالذي نميل إليه ـ وإن كنا نختلف بذلك حتى مع بعض كتاب الشيعة ـ هو الاعتراف بالاستقلالية في البحث

__________________

(١) رجال الكشي / ٢٣٣.

(٢) رجال الكشي / ٤٢٠.

١٤

والمنهج لكل من الشيعة والمعتزلة ، والاعتراف بالاصالة لهما معا. فلا جهد الشيعة كان ثانويا وتتميما ، ولا جهد المعتزلة كان ذلك.

والوحدة في النتائج ، والآراء الكلامية بين الشيعة والمعتزلة في الغالب ، جاءت بسبب وحدة المنهج الذي مارسه كل منهما. غير ان الانتصار السياسي الذي حازه المعتزلة ، واشغالهم للدوائر والمناصب الرسمية ، وفي المقابل التطويق السياسي المستمر الذي أحاق بالشيعة ، هما السبب في تألق نجم المعتزلة ، وضمور نجم الشيعة في هذا المجال.

حتى على مستوى الفقه كان ذلك واضحا ، فرغم ان أهل البيت باعتراف الجميع كانوا في القمة ، فان مذهبهم الفقهي لم يظفر بالاعتراف به فضلا عن تأييده والانتماء إليه.

اذن فالنفوذ إلى أعماق التاريخ ، وتجاوز السطح الظاهري له ، يؤكد لنا ما انتهينا إليه من رأي في تحديد الصلة بين الشيعة والمعتزلة ، والاعتراف بالاصالة لكل منهما.

وكانت طريقتي في ذلك إثبات الاقتران في البداية التاريخية لخوض المسائل الكلامية ، بين الشيعة والمعتزلة ، فقد كان هناك واصل وعمرو بن عبيد ، وكان هناك في خط الشيعة هشام بن الحكم ، وهشام بن سالم وآخرون.

لقد كان هشام هو الناطق باسم مدرسة أهل البيت ، وكان متكلما ذائع الصيت ، وصاحب شخصية لامعة ، حتى أن عمرو بن عبيد ـ شيخ المعتزلة ـ لم يخطر على باله أحد يقوى على مناقشته وإفحامه

١٥

سوى هشام بن الحكم ، في المناقشة المعروفة التي جرت بينهما ، والتي كان هشام فيها متنكرا.

وقائمة مؤلفات هشام تذكر ان له كتاب (التوحيد) و (الرد على أصحاب الاثنين) و (الرد على أصحاب الطبائع) و (الجبر والقدر) و (المعرفة) و (الاستطاعة) (١). وكلها كتب كلامية عقلية.

* * *

وهناك (أبو سهل النوبختي) الذي تقدم ذكره ، وله كتاب (تثبيت الرسالة) و (الرد على أصحاب الصفات) و (الرد على من قال بالمخلوق) و (كتاب الصفات) (٢).

وعلى ذلك لا يبقى أي مجال للقول بأن الشيعة ورثوا المنهج العقلي من المعتزلة في وقت متأخر.

* * *

وفي ختام هذا البحث نود الاشارة إلى دعوى غريبة بصدد البرهنة على اصالة الفكر الشيعي ، وعدم اقتباسه من المعتزلة. ذلك ما ذكره الاستاذ هاشم معروف من ان الخلاف بين الشيعة والمعتزلة أكثر من الخلاف بينهم وبين الاشاعرة ، وعلى ذلك لا يصح أبدا القول باقتباس الشيعة من المعتزلة (٣).

__________________

(١ ـ ٢) انظر الفهرست / ابن النديم).

(٣) انظر (الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة) / ٢٨٣.

١٦

فالذي نراه أن اقتراب الشيعة من المعتزلة فكريا ، وفي الآراء الكلامية ، أمر غير قابل للتشكيك وهذا هو الذي ساعد على الوهم القائل بتبعية الشيعة للمعتزلة لقد استخدم الشيعة والمعتزلة منهجا واحدا ، ومشيا بخطى واحدة ، والعقلية التي يلمسها القارئ لأفكار المعتزلة يجدها نفسها في أفكار وكتابات الشيعة ، حتى إنه من الصعب تمييز الكاتب فيما إذا كان شيعيا أو معتزليا ـ لو قطع النظر عن مسألة الإمامة ـ.

ونحن في غنىّ عن هذا الجدل بعد أن اكتشفنا أصالة الفكر الشيعي عن طريق الالتفات إلى الاقتران التاريخي في البداية الكلامية.

١٧

طريقة تحقيق الكتاب :

اعتمدنا في تحقيق هذا الكتاب على ثلاث نسخ

الأولى ـ نسخة خطبة في مكتبة الامام الحكيم العامة ، في النجف الأشرف. وهي بخط الشيخ محمد طاهر السماوي وبتاريخ ١٣٣٦ ه‍. وتقع في ١١٨ ورقة. وبرقم ١٠٨٤.

وقد رمزنا لهذه النسخة بالحرف (أ).

الثانية ـ نسخة خطية في مكتبة سماحة الحجة الشيخ علي كاشف الغطاء في النجف الأشرف. وهي نسخة مجهولة الناسخ ، وتاريخ النسخ. كما إنها غير مشتملة على أكثر مباحث العبادات ، فالموجود منها ينتهي إلى كتاب الصلاة عدا أوراق منه.

وقد رمزنا لهذه النسخة بالحرف (ب).

الثالثة ـ نسخة مصورة عن أصل مصور أيضا موجود في المكتبة المركزية التابعة لجامعة طهران ، وتقع في ١٧٩ ورقة بخط عبد المجيد ابن مظفر التوبلي الكوري ، وبتاريخ ١٠٤٤ هجرية. شهر جمادى الأولى. وهي نسخة شاملة ، جيدة الخط. اعتمدنا عليها في تتميم كثير من نواقص النسختين السابقتين.

وقد رمزنا لهذه النسخة بالحرف (ج).

هذا وقد أغفلت الإشارة إلى كثير من الأغلاط الواضحة ، والمصححة

١٨

في نسخة أخرى ، كما أغفلت الإشارة إلى اختلاف النسخ في طريقة الترقيم ففي بعضها أحدها ، وفي أخرى رقم ١ وفي ثالثة الحرف (أ)

كما وأغفلت الإشارة إلى بعض الإضافات الساقطة من بعض النسخ والموجودة في أخرى. مثل كلمة (تعالى) بعد ذكر لفظ الجلالة» أو الصلاة على محمد وآله ، أو التعليق على المشيئة.

وقد كان عزمنا في البداية على التوسع في تحقيق هذا الكتاب ، على مستوى الشرح والتعليق ، لو لا اننا رأينا ذلك خارجا عن مهمة المحقق ، كما أن حجم الكتاب لا يساعد على ذلك ، فقد حرصنا على أن يكون بالحجم المناسب.

ومن هنا آثرنا الاقتصار على تحقيق النسخ الخطية ، والمقارنة بينها ، مع إضافة تعاليق مختصرة وقليلة.

هذا وقد عمدنا إلى تقسيم الكتاب إلى خمسة أقسام حسب مواضيعه :

القسم الأول : مباحث التوحيد.

القسم الثاني : مباحث الوعد والوعيد.

القسم الثالث : مباحث النبوة.

القسم الرابع : مباحث الإمامة.

القسم الخامس : مباحث العبادات.

وقد جاء هذا التقسيم شاملا ، عدا بعض الفصول التي لم تدخل تحت واحد من تلك الأقسام.

وعمدنا أيضا إلى عنونة فصول جديدة حسب ما يناسب موضوع

١٩

البحث ، ومن أجل التسهيل على القارئ. واشرنا إلى العناوين المضافة في محالها.

كما ان العناوين الجانبية الموضوعة في هذا الكتاب ليست في الأصل ، وإنما وضعناها تسهيلا. وفصول الكتاب جاءت في الأصل غير مرقمة ، ورأينا من الأحسن ترقيمها.

* * *

أما نسبة هذا الكتاب إلى الشيخ الطوسي رحمه‌الله فهي قطعية. فقد ذكره الشيخ من جملة مؤلفاته في كتابه (الفهرست) ، كما إنه أحال فيه على مجموعة من كتبه كالنهاية ، وتلخيص الشافي ، والمفصح في الامامة ، وشرح الجمل ، وغيرها. كما ان النسخ التي اعتمدنا عليها في التحقيق متفقة على نسبته إليه.

النجف الأشرف

لجنة التحقيق

في جمعية منتدى النشر

٢٠