نهاية الحكمة - ج ٢

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

نهاية الحكمة - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-470-624-0
الصفحات: ٣٣٦

١
٢

المرحلة الثامنة

في العلّة والمعلول

وفيها خمسة عشر فصلا

٣
٤

الفصل الأوّل

في إثبات العلّيّة والمعلوليّة ، وأنّهما في الوجود

قد تقدّم (١) أنّ الماهيّة في حدّ ذاتها لا موجودة ولا معدومة (٢) ، فهي متساوية النسبة إلى الوجود والعدم ، فهي في رجحان أحد الجانبين لها محتاجة إلى غيرها الخارج من ذاتها. وأمّا ترجّح أحد الجانبين لذاتها لا لمرجّح وراء ذاتها (٣) فالعقل

__________________

(١) راجع الفصل الأوّل من المرحلة الخامسة.

(٢) بمعنى أنّ الموجود واللاموجود ليس شيء منهما مأخوذا في حدّ ذاتها ، بأن يكون عينها أو جزءها.

(٣) وفي النسخ : «لا لمرجّح من ذاتها ، ولا من غيرها». والصحيح ما أثبتناه. والوجه في ذلك أنّه لا معنى لكون ذات الماهيّة مرجّحة لوجودها إلّا بناء على القول بالأولويّة الذاتيّة الكافية الّذي لا قائل به ، كما قال صدر المتألّهين في الأسفار ١ : ٢٠٠ ـ ٢٠١ : «فأمّا تجويز كون نفس الشيء مكوّن نفسه ومقرّر ذاته مع بطلانه الذاتيّ فلا يتصوّر من البشر تجشّم في ذلك ما لم يكن مريض النفس». مضافا إلى أنّه يناسب القول بأصالة الماهيّة ، وإلّا فالماهيّة من حيث هي ليست إلّا هي ، لا موجودة ولا معدومة ، لا مرجّحة ولا مترجّحة ، فكيف تكون مرجّحة؟! فلا يصحّ أن يقال : «لا لمرجّح من ذاتها» ، فإنّ المرجّح خارج عن ذات الشيء لا محالة.

فالصحيح أن يقال : «وأمّا ترجّح أحد الجانبين لذاتها ـ بحيث كان الوجود أو العدم عينها أو جزءها ـ لا لمرجّح وراء ذاتها ، فالعقل الصريح يحيله».

والوجه في الاستحالة أنّه يستلزم عدم كون الماهيّة متساوية النسبة إلى الوجود والعدم في ـ

٥

الصريح يحيله.

وعرفت سابقا (١) أنّ القول بحاجتها في عدمها إلى غيرها نوع من التجوّز ، حقيقته أنّ ارتفاع الغير ـ الّذي يحتاج إليه في وجودها ـ لا ينفكّ عن ارتفاع وجودها ، لمكان توقّف وجودها على وجوده ، ومن المعلوم أنّ هذا التوقّف على وجود الغير ، لأنّ المعدوم لا شيئيّة له (٢).

فهذا الوجود المتوقّف عليه نسمّيه : «علّة» والشيء الّذي يتوقّف على العلّة «معلولا» له (٣).

__________________

ـ حدّ ذاتها ، بل تكون إمّا واجب الوجود أو ممتنع الوجود ، وهذا انقلاب في الذاتي ، وهو محال.

ويصحّ أيضا أن يقال : «وأمّا ترجّح أحد الجانبين لا لمرجّح وراء ذاتها فالعقل الصريح يحيله».

(١) راجع الفصل الرابع من المرحلة الاولى.

(٢) فلا معنى لتوقّف شيء عليه.

(٣) اعلم انّ عبارات الحكماء والمتكلّمين في تعريف العلّة والمعلول مختلفة.

قال الشيخ الرئيس في رسالة الحدود : «إنّ العلّة هي كلّ ذات يلزم منه أن يكون وجود ذات اخرى انّما هو بالفعل من وجود هذا بالفعل ، ووجود هذا بالفعل من وجود ذلك بالفعل».

راجع رسائل ابن سينا : ١١٧.

وقال في عيون الحكمة : «السبب هو كلّ ما يتعلّق به وجود الشيء من غير أن يكون ذلك الشيء داخلا في وجوده أو محقّقا به وجوده».

وناقش فيهما فخر الدين الرازيّ في شرح عيون الحكمة ٣ : ٤٥.

وقال المحقّق الطوسيّ : «كلّ شيء يصدر عنه أمر إمّا بالاستقلال أو بالانضمام فانّه علّة لذلك الأمر والأمر معلول له». راجع كشف المراد : ١١٤. وأورد عليه القوشجيّ في شرحه للتجريد : ١١٢ ، ثمّ قال : «فالصواب أن يقال : العلّة ما يحتاج إليه أمر في وجوده».

ولهم في كتبهم عبارات شتّى غير ما ذكر في تعريف العلّة والمعلول ، فراجع شرح المنظومة : ١١٧ ، والأسفار ٢ : ١٢٧ ، وحكمة الإشراق : ٦٢ ، وشرح المقاصد ١ : ١٥٢ ، وشرح المواقف : ١٦٨.

ويمكن أن يقال في تعريفهما : «العلّة هي ما يؤثّر في وجود ، والمعلول وجود يتأثّر من مؤثّر». أو يقال : «العلّة حقيقة تؤثّر في وجود الشيء من حيث هي مؤثّرة بالفعل. والمعلول ذلك الوجود من حيث هو متأثّر بالفعل. فإن كان المؤثّر مؤثّرا غير متأثّر فهو العلّة التامّة ، وإن كان مؤثّرا هو متأثّر عن المؤثّر الآخر فهو العلّة الناقصة».

٦

ثمّ إنّ مجعول العلّة والأثر الّذي تضعه في المعلول (١) هو إمّا وجود المعلول أو ماهيّته أو صيرورة ماهيّته موجودة (٢). لكن يستحيل أن يكون المجعول هو الماهيّة لما تقدّم أنّها اعتباريّة (٣) والّذي يستفيده المعلول من علّته (٤) أمر أصيل ؛ على أنّ العلّيّة والمعلوليّة رابطة عينيّة خاصّة بين المعلول وعلّته ، وإلّا لكان كلّ شيء علّة لكلّ شيء ، وكلّ شيء معلولا لكلّ شيء ، والماهيّة لا رابطة بينها في ذاتها (٥) وبين غيرها. ويستحيل أن يكون المجعول هو الصيرورة ، لأنّ الأثر العينيّ الأصيل حينئذ هو الصيرورة الّتي هي أمر نسبيّ قائم بطرفين ، والماهيّة ووجودها

__________________

(١) لا يخفى عليك أنّ هذا البيان يناسب القول بأصالة الماهيّة ، حيث فرض أنّ للمعلول ثبوت مّا وتضع العلّة فيه الأثر ، والحقّ أنّ المعلول نفسه أثر العلّة لا أثره. فالأولى أن يقال : «ثمّ إنّ مجعول العلّة وأثرها إمّا وجود المعلول أو ...».

(٢) فالأقوال في مجعول العلّة ثلاثة :

الأوّل : أنّ مجعولها ماهيّة المعلول.

الثاني : أنّ مجعولها وجود المعلول.

الثالث : أنّ مجعولها صيرورة ماهيّة المعلول موجودة.

أمّا الأوّل ، فذهب إليه الإشراقيّون. قال الشيخ الإشراقيّ : «ولمّا كان الوجود اعتبارا فللشيء من علّته الفيّاضة هويّته» راجع شرح حكمة الإشراق : ٤١٦. ونسب هذا القول إلى المحقّق الدوانيّ أيضا ، فراجع الأسفار ١ : ٤٠٧ ـ ٤٠٨.

وأمّا الثاني والثالث ، فذهب إليهما الحكماء المشّائيون. قال الحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة : ٥٨ : «لكن محقّقوهم مشوا إلى جانب مجعولية الوجود ، وغيرهم إلى مجعولية الاتّصاف وصيرورة الماهية موجودة». وقال صدر المتألّهين في الأسفار ١ : ٣٩٨ : «فجمهور المشّائين ذهبوا ـ كما هو المشهور ـ إلى أنّ الأثر الأوّل للجاعل هو الوجود المعلول. وفسّره المتأخّرون بالموجوديّة ، أي اتّصاف ماهيّة المعلول بالوجود بالمعنى الّذي ذكرناه ، لا أنّ الأثر الأوّل هو ماهيّة الاتّصاف أو ذات المعلول أو نفس الوجود ، لاستغناء الماهيات بحقائقها التصوّريّة عندهم من الجاعل».

(٣) في الفصل الثاني من المرحلة الاولى.

(٤) والأولى أن يقال : «والّذي تفيده العلّة» لما مرّ في التعليقة رقم (١).

(٥) لأنّها من حيث هي ليست إلّا هي.

٧

اعتباريان على الفرض (١) ، ومن المحال أن يقوم أمر عينيّ أصيل بطرفين اعتباريّين. وإذا استحال كون المجعول هو الماهيّة أو الصيرورة تعيّن أنّ المجعول هو الوجود ، وهو المطلوب.

فقد تبيّن ممّا تقدّم :

أوّلا : أنّ هناك علّة ومعلولا.

وثانيا : أنّ كلّ ممكن فهو معلول.

وثالثا : أنّ العلّيّة والمعلوليّة رابطة وجوديّة بين المعلول وعلّته ، وأنّ هذه الرابطة دائرة بين وجود المعلول ووجود العلّة ، وإن كان التوقّف والحاجة والفقر ربّما تنسب إلى الماهيّة ؛ فمستقرّ الحاجة والفقر بالأصالة هو وجود المعلول (٢) ، وماهيّته محتاجة بتبعه (٣).

ورابعا : أنّه إذ كانت الحاجة والفقر بالأصالة للوجود المعلول ـ وهو محتاج في ذاته ، وإلّا لكانت الحاجة عارضة ، وكان مستغنيا في ذاته ، ولا معلوليّة مع الاستغناء ـ فذات الوجود المعلول عين الحاجة ، أي إنّه غير مستقلّ في ذاته قائم بعلّته الّتي هي المفيضة له.

ويتحصّل من ذلك أنّ وجود المعلول بقياسه إلى علّته وجود رابط موجود في غيره ، وبالنظر إلى ماهيّته الّتي يطرد عنها العدم وجود في نفسه ، جوهريّ أو عرضيّ على ما تقتضيه حال ماهيّته.

__________________

(١) أي : على فرض كون المجعول صيرورة ماهيّته موجودة.

(٢) والأولى أن يقال : الوجود المعلول.

(٣) ويرد عليه : أنّ الماهيّة بناء على اعتباريّتها لا حقيقة لها حتّى تكون محتاجة ولو بالتبع.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ مراد المصنّف رحمه‌الله من قوله : «بتبعه» هو بالعرض ، بمعنى أنّه يسند الحاجة إلى وجود المعلول بالأصالة ، وإلى ماهيّته بالعرض ، أي بواسطة حاجة وجودها.

٨

الفصل الثاني

في انقسامات العلّة (١)

تنقسم العلّة إلى تامّة وناقصة.

فالعلّة التامّة هي الّتي تشتمل على جميع ما يتوقّف عليه المعلول ، بحيث لا يبقى للمعلول معها إلّا أن يتحقّق.

والعلّة الناقصة هي الّتي تشتمل على بعض ما يتوقّف عليه المعلول في تحقّقه لا على جميعه.

وتفترقان بأنّ العلّة التامّة يلزم من وجودها وجود المعلول ـ كما سيأتي (٢) ـ ومن عدمها عدمه. والعلّة الناقصة لا يلزم من وجودها وجود المعلول ، لكن يلزم من عدمها عدمه ، لمكان توقّف المعلول عليها وعلى غيرها (٣). وليعلم أنّ عدم

__________________

(١) أي : انقسامات للعلّة.

(٢) في الفصل الآتي.

(٣) ولا يخفى أنّ في اطلاق العلّة على بعض ما يتوقّف عليه الشيء المعبّر عنه ب «العلّة الناقصة» نظر.

بيان ذلك : أنّه قال صدر المتألّهين في الأسفار ٢ : ١٢٧ : «العلّة لها مفهومان : أحدهما هو الشيء الّذي يحصل من وجوده وجود شيء آخر ، ومن عدمه عدم شيء آخر. وثانيهما هو ما يتوقّف عليه وجود الشيء ، فيمتنع بعدمه ، ولا يجب بوجوده».

أقول : وفي إطلاق العلّة على بعض ما يتوقّف عليه الشيء في تحقّقه نظر. أمّا إطلاقها ـ

٩

__________________

ـ عليه بالمعنى الأوّل فواضح ، فإنّها ينحصر في ما لا يبقى للشيء معها إلّا أن يتحقّق. وأمّا بالمعنى الثاني ـ وهو ما بنى المصنّف رحمه‌الله كلامه عليه في صدر الفصل ـ فلأنّه ليس ما يتوقّف عليه الشيء في تحقّقه ، بل المتوقّف عليه مجموع المركّب منه ومن غيره ، وأمّا نفس الأجزاء فليس بينها وبين المعلول رابطة العلّيّة حتّى يطلق العلّة عليها.

فالأولى أن يقال : العلّة هي ما يؤثّر في وجود ، والمعلول وجود يتأثّر من مؤثّر. وبتعبير أوضح وأكمل : العلّة حقيقة تؤثّر في وجود من حيث هي مؤثّرة فيه بالفعل. والمعلول ذلك الوجود من حيث هو متأثّر بالفعل.

فإن كان المؤثّر في الوجود مؤثّرا غير متأثّر فهو العلّة التامّة ، وهي العلّة الحقيقيّة الّتي تنحصر في علّة العلل ، أي الواجب تعالى ، فإنّه علّة كلّ موجود حدوثا وبقاء ، لأنّه المؤثّر في وجود الأشياء بالفعل وبقاء ، كما كان مؤثّرا في وجودها حدوثا.

وإن كان المؤثّر في الوجود مؤثّرا هو متأثّر عن المؤثّر الآخر في وجوده فهو العلّة الناقصة ، وهي العلّة المجازيّة ، لأنّه وإن كان علّة من جهة أنّه مؤثّر في الوجود بالفعل إلّا أنّ وجود نفسه متأثّر من غيره ، ولا استقلال له في التأثير كي يكون مؤثّرا تامّا.

ومن هنا يظهر أنّ العلّة الحقيقيّة هي العلّة التامّة الواحدة البسيطة ، الّتي قريبة من الأشياء غير ملابسة ، وبعيدة منها غير مباينة ، داخلة في الأشياء لا بالممازجة ، وخارجة عنها لا بالمزايلة. وهي الواجب تعالى ، فإنّه المؤثّر التامّ الغنيّ الّذي يتأثّر منه كلّ أثر حدوثا وبقاء ، وهو علّة واحدة لما سيأتي في باب التوحيد ، وبسيطة لأنّه صرف الوجود ، وصرف الوجود بسيط ، وقريبة لأنّه لا واسطة بينه وبين الوجودات المتأثّرة عن فيضه ، وبعيدة لأنّ بين مرتبة وجوده الغير المتناهي ومرتبة وجود غيرها بون بعيد.

ويظهر أيضا أنّ ما يعبّر عنه بالعلّة الناقصة والعلّة الكثيرة والعلّة المركّبة وغيرها ليس علّة حقيقيّة ، بل هي معدّات تقرّب المادّة إلى إفاضة الفاعل وتهيّئها للخروج من العدم إلى الوجود بعد إفاضة الفاعل.

قال الحكيم السبزواريّ : «ومذهب الحكماء أنّ العلل معدّات. ومراد القوم بكون القوّة معدّة معناها اللغويّ ، أي المهيّئ والواسطة في إيصال أثر المؤثّر الحقيقيّ. والمصنّف رحمه‌الله أيضا أطلق المعدّ بهذا المعنى على المبادئ المقارنة والمطارقة في الإلهيّات وفي كتابه المبدأ والمعاد ، حيث ذكر أنّ الفاعل الحقيقيّ المعطي للوجود لا يكون إلّا بريء ممّا بالقوّة مطلقا ، وهو ليس إلّا واجب الوجود بالذات تعالى ، وما عداه معدّات ووسائط الوجود». راجع تعليقته على الأسفار ٩ : ٦٩. ـ

١٠

العلّة ـ سواء كان عدم علّة تامّة أو ناقصة (١) ـ علّة تامّة لعدم المعلول (٢).

وتنقسم أيضا إلى الواحدة والكثيرة ، لأنّ المعلول من لوازم وجود العلّة واللازم قد يكون أعمّ.

وتنقسم أيضا إلى بسيطة ومركّبة. والبسيطة ما لا جزء لها ، والمركّبة خلافها. والبسيطة قد تكون بسيطة بحسب الخارج ، كالعقل والأعراض ؛ وقد تكون بسيطة بحسب العقل ، وهي ما لا تركّب فيه خارجا من مادّة وصورة ولا عقلا من جنس وفصل ؛ وأبسط البسائط ما لا تركّب فيه من وجود وماهيّة ، وهو الواجب تعالى.

وتنقسم أيضا إلى قريبة وبعيدة ، فالقريبة ما لا واسطة بينها وبين معلولها ، والبعيدة ما كانت بينها وبين معلولها واسطة ، كعلّة العلّة.

وتنقسم أيضا إلى داخليّة وخارجيّة. فالداخليّة هي المادّة بالنسبة إلى المركّب منها ومن الصورة (وهي الّتي بها الشيء بالقوّة) ، والصورة بالنسبة إلى المركّب [منها ومن المادّة] (وهي الّتي بها الشيء بالفعل) ، وتسمّيان : «علّتي القوام». والخارجيّة هي الفاعل (وهو الّذي يصدر عنه المعلول) والغاية (وهي

__________________

ـ وقال أيضا : «وأمّا الإلهيّ فنظره إلى الوجود. والحقّ هو معطي الوجود ومخرج الشيء من كتم العدم إلى فضاء الكون وجاعل مادّته وصورته وفاعله وغايته. وأمّا هؤلاء الفواعل فشغلهم تحريك مادّة موجودة لا بصنعهم ، بل بصنع الله تعالى إلى صورة مفاضة من الله ، فالفاعل الحقيقيّ عند الإلهي هو الله تعالى». راجع تعليقته على الأسفار ٢ : ٢١٤.

وهذا هو ما ذهب إليه مالبرانش (Malbransh) من فلاسفة الغرب. وهذا هو المشهور بنظريّة العلل المعدّة «Occasional causes docsrine».

(١) وفي النسخ : «سواء كانت علّة تامّة أو ناقصة». والصحيح ما أثبتناه.

(٢) لا يخفى أنّه لا علّيّة بين عدم وعدم آخر ، فضلا عن العلّيّة التامّة ، فإنّ العدم لا شيئيّة له ، فلا يمكن أن يكون مؤثّرا أو متأثّرا.

وأمّا قولهم : «عدم العلّة علّة لعدم المعلول» فهو نوع من التجوّز ، حقيقته الإشارة إلى ما بين الوجودين من التوقّف ، كما صرّح بذلك المصنّف رحمه‌الله في الفصل الرابع من المرحلة الاولى تبعا للحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة : ٤٨.

١١

الّتي يصدر لأجلها المعلول) ، وتسمّيان : «علّتي الوجود» ، وسيأتي بيانها (١).

وتنقسم أيضا إلى علل حقيقيّة وعلل معدّة (٢). وشأن المعدّات تقريب المادّة إلى إفاضة الفاعل بإعدادها لقبولها ، كانصرام القطعات الزمانيّة المقرّبة للمادّة إلى حدوث ما يحدث فيها من الحوادث.

__________________

(١) في الفصول اللاحقة من الفصل السادس إلى الفصل الرابع عشر من هذه المرحلة.

(٢) وفي إطلاق العلّة على المعدّات نظر ، كما مرّ. بل لا علّة حقيقة إلّا العلّة الحقيقيّة الفائضة الّتي يخرج الأشياء من الليس إلى الأيس ومن كتم العدم إلى الوجود.

١٢

الفصل الثالث

في وجوب وجود المعلول عند وجود علّته التامّة (١)

ووجوب وجود العلّة عند وجود معلولها (٢)

وهذا وجوب بالقياس ، غير الوجوب الغيريّ (٣) الّذي تقدّم في مسألة :

__________________

(١) وقد يعبّر عنه ب «امتناع تخلّف وجود المعلول عن وجود العلّة التامّة».

(٢) ومعناه على ما مرّ منّا في تعريف العلّة والمعلول أنّه يجب الأثر ـ وهو الوجود المعلول ـ عند وجود مؤثّره من حيث هو مؤثّر بالفعل ، ويجب وجود المؤثّر عند وجود أثره من حيث هو أثره بالفعل.

وإن شئت فقلت : يجب وجود الفيض عند وجود الفيّاض من حيث هو فيّاض له بالفعل. ويجب وجود الفيّاض عند وجود فيضه من حيث هو فيضه بالفعل. وبتعبير آخر : إنّ العلّة ـ كما مرّ ـ ذات تؤثّر في الوجود من حيث هي مؤثّرة بالفعل ، فإن كانت الذات تؤثّر في الوجود من دون أن تتأثّر من غيره فهي العلّة التامّة ، وإلّا فهي العلّة الناقصة.

ومن هنا يظهر أنّ الذات لا تتّصف بالعلّيّة ما لم تؤثّر في غيره ؛ فإنّها من حيث هي ليس إلّا نفسها ، فتخلّفت عن الوجود المعلول قبل أن تؤثّر ، وأمّا من حيث هي مؤثّرة بالفعل يمتنع تخلّفها عن الوجود المتأثّر.

فالأولى أن يقال : إذا صارت الذات علّة تامّة فيمتنع تخلّف المعلول عنها ، لأنّ الذات لم تصر علّة إلّا إذا تؤثّر في الشيء وجودا ، والتأثير غير منفكّ عن الأثر ، فإنّ نسبة الأثر إلى المؤثّر نسبة الظلّ إلى الشاخص. وأمّا قبل أن تؤثّر فيه وجودا فلا يمتنع تخلّفها عن المعلول.

(٣) والفرق بين الوجوب بالقياس والوجوب الغيريّ من وجهين :

١٣

«الشيء ما لم يجب لم يوجد» (١).

أمّا وجوب وجود المعلول عند وجود علّته التامّة فلأنّه لو لم يجب وجوده عند وجود علّته التامّة لجاز عدمه (٢). ولو فرض عدمه مع وجود العلّة التامّة ، فإمّا أن تكون علّة عدمه ـ وهي عدم العلّة ـ متحقّقة وعلّة وجوده موجودة ، كان فيه اجتماع النقيضين وهما علّة الوجود وعدمها ، وإن لم تكن علّة عدمه متحقّقة كان في ذلك تحقّق عدمه من غير علّة ، وهو محال. (٣)

وكذا لو لم يجب عدمه عند عدم علّته لجاز وجوده. ولو فرض وجوده مع تحقّق علّة عدمه ـ وهي عدم علّة الوجود ـ فإن كانت علّة الوجود موجودة اجتمع النقيضان وهما علّة الوجود وعدمها الّذي هو علّة العدم ، وإن لم تكن علّة الوجود موجودة لزم وجود المعلول مع عدم وجود علّته.

__________________

ـ ١ ـ الوجوب الغيريّ هو الوجوب المختصّ بالمعلول في مقابل القول بكفاية الأولويّة. والوجوب بالقياس لا يختصّ بالمعلول بل يعمّ العلّة.

٢ ـ الوجوب الغيريّ لا يتحقّق إلّا فيما إذا كان أحد الشيئين معلولا والآخر علّة له. والوجوب بالقياس يتحقّق حتّى فيما إذا كانا معلولي علّة ثالثة.

(١) راجع الفصل الخامس من المرحلة الرابعة.

(٢) أي لجاز عدمه عند وجود علّته التامّة. ولكن لا يجوز عدمه عند وجودها ، فيجب وجوده عند وجودها.

والوجه في عدم جواز عدم المعلول عند وجود علّته التامّة أنّه يلزم أن لا تكون العلّة التامّة علّة تامّة ، فإنّها ـ على ما مرّ ـ هي ما يؤثّر في الوجود المعلول ، ولو جاز عدم الوجود المعلول عند وجود ما يؤثّر فيه لزم أن لا يكون المؤثّر فيه مؤثّرا فيه ، وهو محال ، فإنّه من اجتماع النقيضين ، وهما : كون الشيء مؤثّرا وعدم كونه مؤثّرا في آن واحد.

(٣) يرد عليه : أنّه ـ قد مرّ ـ أنّ علّيّة عدم العلّة لعدم المعلول تجوّز ، حقيقته الإشارة إلى ما بين الوجودين من التوقّف الشديد. فلا وجه للقول بأنّه لو فرض عدمه مع وجود العلّة التامّة فإمّا أن تكون علّة عدمه ـ وهي عدم العلّة ـ متحقّقة ، وإمّا أن لا تكون متحقّقة ، ضرورة أنّه لا شيئيّة لعدم العلّة حتّى ينسب إليه التحقّق أو عدم التحقّق. بل الصحيح أن يقال ـ كما أشرنا إليه ـ : لو فرض عدم الوجود المعلول عند وجود علّته التامّة لزم أن لا يكون المؤثّر فيه مؤثّرا ، وهو من اجتماع النقيضين ، وهو محال.

١٤

برهان آخر : لازم توقّف وجود المعلول على وجود العلّة امتناع وجود المعلول مع عدم العلّة ، وبتعبير آخر : كون عدم العلّة علّة موجبة لعدم المعلول (١). وتوقّف هذا المعلول ـ الّذي هو عدم المعلول ـ على علّته ـ الّتي هي عدم العلّة ـ لازمه امتناعه بانعدامها ، أي وجوب وجود المعلول عند وجود علّته. فافهم ذلك (٢).

فإن قلت : الّذي تستدعيه حاجة الممكن إلى المرجّح وتوقّف وجوده على وجود علّة تامّة استلزام وجود العلّة التامّة في أيّ وعاء كانت (٣) وجود المعلول في أيّ وعاء كان. وأمّا كون المعلول والعلّة معا (٤) في الوجود من غير انفكاك في الوعاء فلا. فلم لا يجوز أن توجد العلّة مستلزمة لوجود المعلول ولا معلول بعد ثمّ تنعدم العلّة ثمّ يوجد المعلول بعد برهة ولا علّة في الوجود؟ أو تكون العلّة التامّة موجودة ولا وجود للمعلول بعد ثمّ يسنح لها أن توجد المعلول فتوجده؟ وهذا فيما كانت العلّة التامّة فاعلة بالاختيار بمكان من الوضوح.

قلت : لا معنى لتخلّل العدم بين وجود العلّة التامّة ووجود معلولها بأيّ نحو فرض (٥)

__________________

(١) ويرد عليه ما يرد على سابقه.

(٢) ولعلّه إشارة إلى ما يرد عليهما ـ كما مرّ ـ ، فلا يكونان برهانين على المطلوب.

(٣) وفي النسخ : «كانت هو» وما أثبتناه هو الصحيح.

(٤) وفي النسخ : «معين» ، وما أثبتناه هو الصحيح ، فإنّ كلمة «مع» اسم قد يستعمل مضافا فيكون ظرفا ، وقد يستعمل غير مضاف فينوّن ويكون حالا. وهو بلفظ واحد للجماعة كما للاثنين.

(٥) وإلّا يلزم منه أن لا تكون العلّة التامّة علّة تامّة ، ولا يكون المعلول معلولا ، فإنّ المعلول ـ كما مرّ ـ وجود يتوقّف على الشيء المؤثّر ، والعلّة التامّة ما يتوقّف عليه الوجود ؛ فلو فرض تخلّل العدم بين وجوديهما ـ في أيّ وعاء ـ يلزم أن لا يكون الشيء ممّا يتوقّف عليه الوجود المعلول ، ولا يكون ذلك الوجود متوقّفا على ذلك الشيء ، فلا تكون العلّة في ذلك الوعاء علّة تامّة بالقياس إلى ذلك الوجود ، ولا ذلك الوجود في ذلك الوعاء معلولا بالقياس إلى ذلك الشيء.

والأمر على ما ذكرنا في تعريف العلّة والمعلول أسهل ، فنقول : لا معنى لتخلّل العدم بين الوجود العلّة التامّة مادام علّة تامّة ووجود معلولها مادام معلولا لها ، بأيّ نحو فرض ، وإلّا يلزم أن لا يكون المؤثّر بالفعل ـ وهو العلّة التامّة ـ مؤثّرا بالفعل ، ولا يكون المتأثّر بالفعل ـ وهو الوجود المعلول ـ متأثّرا بالفعل. ـ

١٥

فقد تقدّم (١) أنّ توقّف وجود المعلول على وجود العلّة إنّما يتمّ برابطة وجوديّة عينيّة يكون وجود المعلول معها وجودا رابطا قائم الذات بوجود العلّة التامّة المستقلّ. ففرض وجود المعلول في وعاء وعلّته التامّة معدومة فيه فرض تحقّق الوجود الرابط ولا مستقلّ معه يقوّمه ، وذلك خلف ظاهر. وفرض وجود العلّة التامّة ولا وجود لمعلولها بعد فرض وجود مستقلّ مقوّم بالفعل ولا رابط له يقوّمه بعد ، وذلك خلف ظاهر.

وأمّا حديث الاختيار فقد زعم قوم (٢) أنّ الفاعل المختار كالإنسان ـ مثلا ـ بالنسبة إلى أفعاله الاختياريّة علّة تستوي نسبتها إلى الفعل والترك ، فله أن يرجّح ما شاء منهما من غير إيجاب ، لتساوي النسبة.

وهو خطأ ، فليس الإنسان الفاعل باختياره علّة تامّة للفعل ، بل هو علّة ناقصة ، وله علل ناقصة أخرى ، كالمادّة ، وحضورها ، واتّحاد زمان حضورها مع زمان الفعل ، واستقامة الجوارح الفعّالة ، ومطاوعتها ، والداعي إلى الفعل ، والإرادة ، وامور

__________________

ـ نعم ، يمكن فرض تخلّل العدم بين الوجود المعلول ووجود ما له أن يؤثّر فيه الّذي لم يؤثّر فيه بالفعل ولم يتّصف بالعلّيّة له فعلا ، فيقال : لم لا يجوز أن يكون ما له أن يؤثّر في الوجود موجودا بالفعل ولا وجود للمعلول بعد ثمّ يريد أن يؤثّر فيه فتوجده فصار علّة له وهو معلوله؟ ضرورة أنّه لا رابطة وجوديّة عينيّة بين ما له أن يؤثّر في الوجود المعلول وبين الوجود المعلول ، فإنّ المفروض أنّه لم يؤثّر فيه ، فلا وجود للمعلول بالفعل حتّى يكون وجوده وجودا رابطا قائما بوجود العلّة التامّة ، بل الرابطة الوجوديّة العينيّة بينهما إنّما هي بعد تعلّق إرادة ما له أن يؤثّر فيه بالتأثير فيه ، فإذا أثّر في الشيء يوجده ، وكان قوام وجوده باستمرار التأثير ودوام الفيض ، بحيث اذا انقطع التأثير والفيض يعدم. ونعم ما قيل :

به اندك التفاتى زنده دارد آفرينش را

اگر نازى كند از هم فرو ريزد قالبها

وقيل أيضا :

اى وجود تو سرمايه همه كس

اى ظلّ وجود تو وجود همه كس

گر فيض تو يك لحظه به عالم نرسد

معلوم شود بود ونبود همه كس

(١) في الفصل الأوّل من هذه المرحلة.

(٢) وهم المتكلّمون ، فراجع شرح الإشارات ٣ : ١٣١.

١٦

اخرى كثيرة ، إذا اجتمعت صارت علّة تامّة يجب معها الفعل (١). وأمّا الإنسان نفسه فجزء من أجزاء العلّة التامّة (٢) نسبة الفعل إليه بالإمكان دون الوجوب ، والكلام في إيجاب العلّة التامّة (٣) لا مطلق العلّة (٤).

على أنّ تجويز استواء نسبة الفاعل المختار إلى الفعل وعدمه إنكار لرابطة العلّيّة (٥) ولازمه تجويز علّيّة كلّ شيء لكلّ شيء ومعلوليّة كلّ شيء لكلّ شيء.

فإن قلت : هب أنّ الإنسان الفاعل المختار ليس بعلّة تامّة ، لكنّ الواجب

__________________

(١) بل الإنسان واستقامة الجوارح الفعّالة والداعي إلى الفعل والإرادة وغيرها إنّما هي معدّات يقرّب المادّة إلى إفاضة الفاعل الحقيقي ، وهو الواجب تعالى ، فما يجب معه الفعل هو إفاضة الواجب تعالى ، وهو العلّة التامّة.

فالإنسان المختار الّذي له أن يرجّح ما شاء من الفعل أو الترك ليس علّة تامّة للفعل حتّى يجب وجود المعلول عند وجوده واختياره. كيف واختيار الإنسان أيضا ممّا أفاضه الواجب تعالى ، أي تعلّقت مشيئته إلى كونه مختارا بحيث يتمكّن من الفعل والترك ، وهذا معنى الأمر بين الأمرين ، كما سيأتي.

(٢) بل هو من المعدّات الّتي تهيّئ المادّة للخروج من العدم إلى الوجود بعد إفاضة الفاعل الحقيقيّ ، غاية الأمر أنّه مختار ، فله أن يفعل وله أن لا يفعل ، وهذا ما تعلّقت به مشيئة الواجب تعالى.

(٣) لا يخفى أنّ الكلام ليس في إيجاب العلّة التامّة الّذي يرجع إلى الوجوب بالغير ، بل الكلام في الوجوب بالقياس إلى الغير ، أي وجوب الوجود المعلول عند وجود العلّة التامّة ووجوب وجود العلّة التامّة عند وجود المعلول.

(٤) أي : حتّى العلّة الناقصة. ولكن قد مرّ أنّها ليست علّة حقيقيّة.

(٥) لا يخفى أنّ تجويز استواء نسبة الفاعل المختار إلى الفعل وعدمه من حيث إنّه فاعل بالفعل إنكار لرابطة العلّيّة ، فإنّ الاستواء يستلزم أن لا يكون الفاعل فاعلا ، فيصير كغيره من الأشياء أجنبيّا عن المعلول ، وحينئذ يلزم منه إمّا تجويز عدم فاعليّة الفاعل وهذا تناقض ، وإمّا تجويز علّيّة كلّ شيء لكلّ شيء ومعلوليّة كلّ شيء لكلّ شيء وهذا باطل بالضرورة. وأمّا تجويز استواء نسبة الفاعل المختار إليهما من حيث إنّه مختار ـ قبل أن يؤثّر في الشيء ـ فليس إنكارا لرابطة العلّيّة ، لأنّ المفروض أنّه لم يؤثّر في الشيء ، فلا علّيّة بينه وبين الشيء حتّى تنكر ، بل إنّما هو المختار بمعنى أنّ له أن يرجّح الفعل فيصير فاعلا وعلّة له أو يرجّح الترك فلا يصير فاعلا وعلّة له.

١٧

(عزّ اسمه) فاعل مختار ، وهو علّة تامّة لما سواه ، وكون العالم واجبا بالنسبة إليه ينافي حدوثه الزمانيّ (١). ولذلك اختار قوم (٢) أنّ فعل المختار لا يحتاج إلى مرجّح. واختار بعضهم (٣) أنّ الإرادة مرجّحة بذاتها ، لا حاجة معها إلى مرجّح آخر. واختار جمع (٤) أنّ الواجب تعالى عالم بجميع المعلومات ، فما علم منه أنّه ممكن سيقع يفعله ، وما علم منه أنّه محال لا يقع لا يفعله. واختار آخرون (٥) أنّ

__________________

(١) أقول : إنّ الواجب تعالى قبل التأثير مختار من دون أن يكون فاعلا ومؤثّرا ، أي له أن يفعل كما له أن لا يفعل ، وله أن يؤثّر في الوجود ويفيض كما له أن لا يؤثّر فيه ولا يفيض. وأمّا بعد التأثير ـ أي اذا تعلّقت مشيئته بالفعل ـ يؤثّر فيصير فاعلا مختارا وعلّة تامّة لما سواه. فإذا تعلّقت مشيئته بالفعل ـ لما فيه من المصلحة ـ خرج الفعل عن حالة الاستواء فوجب ووجد ، وإذا تعلّقت مشيئته بعدم الفعل ـ لما فيه من المفسدة ـ خرج الفعل عن حالة الاستواء فامتنع ولم يوجد.

(٢) وهم الأشاعرة من المتكلّمين ، كما قال الحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة : ٨٥ : «والأشعريّ الناف للمرجّح». وراجع شرح الإشارات ٣ : ١٣١.

(٣) أي بعض الأشاعرة ، وهو جمهور المتكلّمين من أصحاب أبي الحسن الأشعريّ. راجع شرح المقاصد ١ : ٢٣٦ ، وشرح المواقف : ٢٩٠ ، وشرح العقائد النسفيّة ٢ : ١٠٠ ، والملل والنحل ١ : ٩٤. ونسب إليهم أيضا في حوار بين الفلاسفة والمتكلّمين : ١١٧ ـ ١١٨ ، والأسفار ٦ : ٣٢٠ ـ ٣٢١. وذهب إليه أيضا المتأخّرون من المعتزلة على ما نقل عنهم في تعليقة السبزواريّ على الأسفار ٦ : ٣٢٥.

(٤) هذا القول هو الظاهر ممّا نسب إلى جمهور أهل السنّة والجماعة من أنّ إرادته تعالى نافذة في جميع مراداته على حسب علمه بها ، فما علم كونه أراد كونه في الوقت الّذي علم أنّه يكون فيه ، وما علم أنّه لا يكون أراد أن لا يكون. راجع الفرق بين الفرق : ٢٥٩.

وقريب منه ما ينسب إلى الحسين بن محمّد النجّار الّذي كان يقول : «إنّ الله لم يزل مريدا أن يكون في وقته ما علم أنّه يكون وقته ، مريدا أن لا يكون ما علم أنّه لا يكون». راجع مقالات الإسلاميّين ١ : ٣١٥.

وتعرّض لهذا القول الفخر الرازيّ في المباحث المشرقيّة ١ : ٤٧٩ من دون إشارة إلى قائله.

(٥) وهم جمهور قدماء المعتزلة ، كما قال الحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة : ٨٥ : «وقيل ـ القائل هو المعتزليّ ـ : إنّ المرجّح علم ربّنا تعالى وتقدّس بالأصلح». ونسب إليهم أيضا في شرح الإشارات ٣ : ١٣١ ، والأسفار ٦ : ٣٢٥ ، وكشف الفوائد : ٤٧.

١٨

أفعاله تعالى تابعة للمصالح وإن كنّا غير عالمين بها ، فما كان منها ذا مصلحة في وقت تفوت لو لم يفعله في ذلك الوقت فعله في ذلك الوقت دون غيره (١).

قلت : معنى كونه تعالى فاعلا مختارا أنّه ليس وراءه تعالى شيء يجبره على فعل أو ترك فيوجبه عليه ، فإنّ الشيء المفروض إمّا معلول له وإمّا غير معلول ، والثاني محال ، لأنّه [إمّا] واجب آخر ، أو فعل لواجب آخر ، وأدلّة التوحيد تبطله ، والأوّل أيضا محال ، لاستلزامه تأثير المعلول بوجوده القائم بالعلّة المتأخّر عنها في وجود علّته الّتي يستفيض عنها الوجود. فكون الواجب تعالى مختارا في فعله لا ينافي إيجابه الفعل الصادر عن نفسه ولا ايجابه الفعل ينافي كونه مختارا فيه.

وأمّا حدوث العالم ـ بمعنى ما سوى الواجب ـ حدوثا زمانيّا فمعنى حدوث العالم حدوثا زمانيّا كونه مسبوقا بقطعة من الزمان خالية من العالم ليس معها إلّا الواجب تعالى ، ولا خبر عن العالم بعد ، والحال أنّ طبيعة الزمان طبيعة كمّية ممكنة موجودة معلولة للواجب تعالى ومن فعله ، فهو من العالم. ولا معنى لكون العالم ـ وفيه الزمان ـ حادثا زمانيّا مسبوقا بعدم زمانيّ ولا قبل زمانيّا خارجا من الزمان.

وقد استشعر بعضهم (٢) بالإشكال ، فدفعه بدعوى أنّ الزمان أمر اعتباريّ وهميّ غير موجود.

وهو مردود بأنّ دعوى كونه اعتباريّا وهميّا اعتراف بعدم الحدوث الزمانيّ حقيقة.

__________________

(١) وفي المقام قول آخر منسوب إلى أبي القاسم البلخيّ المعروف بالكعبيّ ، وهو القول بأنّ مخصّص الحدوث ذات الوقت على سبيل الوجوب. راجع شرح الإشارات ٣ : ١٣١ ، وشرح المنظومة : ٨٥ ، والأسفار ٦ : ٣٢٥.

(٢) أي بعض المتكلّمين. وهم القائلون بالزمان المتوهّم الّذي لا فرد يحاذيه ولا منشأ لانتزاعه. وتعرّض لهذا القول الحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة وتعليقته عليه : ٨٢ ، وتعليقته على الأسفار ٣ : ١٤٢.

١٩

ودفع الإشكال بعضهم (١) بأنّ الزمان حقيقة منتزعة من ذات الواجب تعالى من حيث بقائه.

وردّ (٢) بأنّ لازمه التغيّر في ذات الواجب تعالى وتقدّس ، فإنّ المنتزع عين المنتزع منه ، وكون الزمان متغيّرا بالذات ضروريّ.

واجيب عنه (٣) بأنّ من الجائز أن يخالف المنتزع المنتزع منه بعدم المطابقة.

وهو مردود بأنّ تجويز المغايرة بين المنتزع والمنتزع منه من السفسطة ، ويبطل معه العلم من رأس. على أنّ فيه اعترافا ببطلان أصل الدعوى (٤).

وأمّا قول القائل (٥) بجواز أن يختار الفاعل المختار أحد الأمرين المتساويين دون الآخر لا لمرجّح يرجّحه ، وقد مثّلوا له (٦) بالهارب من السبع إذا عنّ له (٧) طريقان متساويان فإنّه يختار أحدهما لا لمرجّح (٨).

__________________

(١) أي بعض آخر من المتكلّمين. وهم القائلون بالزمان الموهوم الّذي لا فرد يحاذيه ، وإن كان منشأ لانتزاعه ، ويكون منشأ انتزاعه هو بقاء الواجب بالذات. وهذا القول تعرّض له الحكيم السبزواريّ في تعليقته على شرح المنظومة : ٨٢ ، وتعليقته على الأسفار ٣ : ١٤٢ ، ونسبه إلى الأشاعرة في حاشية شرح المنظومة : ١٤٨. وتعرّض له أيضا آقا عليّ المدرّس فيما علّق على قول اللاهيجيّ في شوارق الإلهام : «فالحدوث الزمانيّ» ، راجع شوارق الإلهام : ١٠٤ ، ط مكتبة الفارابيّ في طهران سنة ١٤٠١ من الهجرة.

(٢) كما ردّه الحكيم السبزواريّ في تعليقته على شرح المنظومة : ٨٢ ، وتعليقته على الأسفار ج ٣ : ١٤٢. وتبعه الآمليّ في درر الفوائد ١ : ٢٦١.

(٣) والمجيب هو المتكلّمون القائلون بالزمان الموهوم. راجع تعليقة المصنّف رحمه‌الله على الأسفار ٧ : ٢٩٨.

(٤) وذلك لأنّه لو كان الزمان أمرا انتزاعيّا فلا حقيقة له لكي يكون العالم مسبوقا بالعدم الزمانيّ حقيقة ، فلا يكون العالم حادثا زمانيّا ، والحدوث الزمانيّ أصل دعواهم.

(٥) والقائل بعض الأشاعرة كما مرّ.

(٦) راجع شرح المواقف : ٢٩٠ ، ومثّلوا له أيضا بقدحي العطشان ورغيفي الجائع.

(٧) أي : ظهر أمامه.

(٨) والحاصل : أنّ الترجيح بلا مرجّح جائز ، وإن كان الترجّح بلا مرجّح محال.

٢٠