وسائل الشيعة - المقدمة

وسائل الشيعة - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : الحديث وعلومه
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٠٤
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

وقد اعترف ابو هريرة بذلك فقال : ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله أحد أكثر حديثاً مني ، إلّا ما كان من عبد الله بن عمرو ، فقد كان يكتب ولا أكتب (١) . ولم يكن ابن عمرو أكثر منه حديثاً ، فقد أحصيت أحاديثه في مسند أحمد فبلغت ٧٢٢ حديثاً (٢) .

لقد كان أمير المؤمنين علي عليه السلام سيء الرأي في أبي هريرة ، فقد روي عنه أنه قال : لا أحد أكذب من هذا الدوسي على رسول الله صلى الله عليه وآله (٣) .

حتى ان عمر تنبه إلى خطر أبي هريرة في ما ينسبه إلى النبي صلى الله عليه وآله ، فدعاه وزجره ونهاه عن الحديث وهدده بالنفي إلى أرض دوس (٤) .

قال ابن قتيبة :

لما أتى أبو هريرة عنه ( صلى الله عليه وآله ) ما لم يأت بمثله من صحبه من جلة الصحابة والسابقين الأولين إليه ، اتهموه وانكروا عليه وقالوا : كيف سمعت هذا وحدك ومن سمعه معك ؟ وكانت عائشة أشدهم انكاراً عليه لتطاول الأيام بها وبه (٥) .

وروى حديثاً في المشي في الخف الواحد ، فبلغ عائشة فمشت في خف واحد ، وقالت : لأخالفن أبا هريرة .

وروى أن الكلب والمرأة والحمار تقطع الصلاة ، فقالت عائشة رضي الله عنها : ربما رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يصلي وسط السرير وأنا على السرير معترضة بينه وبين القبلة .

قال : وبلغ علياً أن أبا هريرة يبتدئ بميامنه في الوضوء وفي اللباس ، فدعا

__________________

(١) البداية والنهاية ٨ : ١٠٦ ، اضواء على السنة المحمدية : ٢٠١ .

(٢) اضواء على السنة المحمدية : ٢٠٠ .

(٣) شرح ابن أبي الحديد ١ : ٣٦٠ .

(٤) البداية والنهاية ٨ : ١٠٦ ، وسير أعلام النبلاء ٢ : ٤٣٣ .

(٥) تأويل مختلف الحديث : ٤١ .

٤١

بماء فتوضأ فبدأ بمياسره وقال : لأخالفن أبا هريرة (١) .

وكان من إنكار عائشة على أبي هريرة الذي ذكره ابن قتيبة آنفاً أنها قالت له يوماً : إنك لتحدّث حديثاً ما سمعته من النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، أجابها بجواب لا أدب فيه ولا وقار ! فقال لها ـ كما روى البخاري وابن سعد وابن كثير وغيرهم ـ شغلك عنه ( صلى الله عليه وآله ) المرآة والمكحلة ، وفي رواية : ما كانت تشغلني عنه المكحلة والخضاب ، ولكني أرى ذلك شغلك .

ورواية الذهبي أن عائشة قالت له : أكثر يا أبا هريرة على رسول الله ، فكان جوابه : ما كانت تشغلني عنه المرآة ولا المكحلة ، ولا المدهن (٢) .

وكان أبو هريرة في أول إسلامه وقبله وبعده إلى أيام عمر فقيراً لا يملك قوت بطنه ، ففي حديث رواه أحمد والشيخان عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن الأعرج قال : سمعت أبا هريرة يقول : إني كنت امرءاً مسكيناً أصحب رسول الله على ملء بطني (٣) .

وقد كان عمر بن الخطاب أول من أنعم على أبي هريرة حيث ولاه على البحرين سنة ٢٠ هـ ـ كما روى الطبري ـ وبعد ذلك بلغ عمر عنه أشياء تخل بأمانة الوالي فعزله وولى مكانه عثمان بن أبي العاص الثقفي ، ولما عاد وجد معه لبيت المال أربعمائة ألف درهم فقال له : أظلمت أحداً ؟ فقال : لا . قال : فما جئت لنفسك ؟ قال : عشرين ألفاً . قال : من اين أصبتها ؟ قال : كنت اتجر . قال : اُنظر رأس مالك ورزقك فخذه ، واجعل الآخر في بيت المال ؛ ثم أمر عمر بأن يقبض منه عشرة آلاف ، وفي رواية اثنا عشر ألفاً .

وفي رواية ابن سعد في طبقاته أن عمر قال له : عدواً لله وللاسلام . ـ وفي رواية عدواً لله ولكتابه ـ سرقت مال الله . وفي رواية : أسرقت مال الله ؟

__________________

(١) تأويل مختلف الحديث : ٢٨ .

(٢) سير أعلام النبلاء ٢ : ٦٠٤ .

(٣) سير أعلام النبلاء ٢ : ٥٩٥ ، الاصابة لابن حجر ٤ : ٢٠٧ .

٤٢

وقد روى البلاذري مثل ذلك في فتوح البلدان .

وفي رواية أن عمر قال له : هل علمت من حين أني استعملتك على البحرين وأنت بلا نعلين ، ثم بلغني أنك ابتعت افراساً بألف دينار وستمائة دينار .

قال : كانت لنا أفرس تناتجت وعطايا تلاحقت .

قال : قد حسبت لك رزقك ومؤونتك ، وهذا فضل فأدّه .

قال : ليس لك ذلك .

قال له عمر : بلى والله ، وأوجع ظهرك . ثمّ قام إليه بالدرة فضربه حتى أدماه .

ثم قال له : إيت بها .

قال : احتسبتها عند الله .

قال : ذلك لو اخذتها ( من حلال ! ) واديتها طائعاً ، أجئت من أقصى حجر بالبحرين يحيى الناس لك ؟ لا لله ولا للمسلمين ، ما رجعت بك اُميمة إلّا لرعية الحمر !

وما أجود ما قاله الاُستاذ ابو رية في كتابه أضواء على السنة المحمدية :

واذا كان قد بلغ من فاقة أبي هريرة وجوعه أن يخر مغشياً عليه ، فيضع الناس أرجلهم على عنقه ! فهل تراه يدع دولة بني اُمية ذات السلطان العريض والأطعمة الناعمة ، وينقلب إلى علي الزاهد الفقير الذي كان طعامه القديد ؟ إن هذا لمما تأباه الطباع الانسانية ، ولا يتفق والغرائز النفسية ! اللّهم إلّا من عصم ربك ، وقليل ما هم .

ولقد عرف بنو اُمية صنيعه معهم ، وقدروا موالاته لهم ، فأغدقوا عليه من افضالهم ، وغمروه برفدهم وأعطيتهم ! فلم يلبث أن تحول حاله من ضيق إلى سعة ، ومن شظف العيش إلى دعة ، ومن فقر إلى ثراء ، وبعد أن كان يستر جسمه بنمرة بالية صار يلبس الخز والكتان الممشق (١) .

ونعقب على كل ما مر بأن الفقر بذاته ليس عيباً ، وانما يكون الفقر عيباً اذا

__________________

(١) اضواء على السنة المحمدية : ١٩٨ عن ثمار القلوب ٨٦ ـ ٨٧ .

٤٣

كان صاحبه يتوسل الى شبع بطنه ببيع دينه وكرامته .

وبعد هذا كله فان من الطبيعي أن يكيل أبو هريرة المدح للخلفاء ولمعاوية واشباهه ، ويناوئ أمير المؤمنين علياً عليه السلام ، وهو ولي نعمته في الدين ، واولئك اولياء نعمته في الدنيا !

وكانت طريقة أبي هريرة في حديثه أن يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ، ولم يسمعه منه ، وهذا هو التدليس ، وهو عيب يرد الحديث لأجله .

فقد قال بسر بن سعيد : اتقوا الله وتحفظوا في الحديث ، فو الله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة فيحدث عن رسول الله ( صلى الله عليه [ وآله ] وسلم ) ويحدثنا عن كعب ، ثم يقوم فأسمع بعض من كان معنا ، يجعل حديث رسول الله عن كعب ، ويجعل حديث كعب عن رسول الله (١) .

وقد كان شعبة يقول : أبو هريرة كان يدلس .

فقد حدث أبو هريرة بحديث « من أصبح جنباً فلا صيام له » ولما حوقق عليه قال : أخبرنيه مخبر ولم أسمعه من رسول الله (٢) .

وأخرج الطحاوي عن أبي هريرة : « إذا حدثتم عني حديثاً تعرفونه ولا تنكرونه فصدقوا به ، قلته أم لم أقله ، فاني أقول ما يعرف ولا ينكر ، واذا حدثتم عني حديثاً تنكرونه ولا تعرفونه فكذبوا به ، فاني لا أقول ما ينكر ولا يعرف » (٣) .

نماذج من احاديث أبي هريرة :

كان أبو هريرة متحاملاً على علي عليه السلام ويتوسل بموضوعاته في الحديث لينفّس عن هذا الحقد .

فقد روى الأعمش قال : لما قدم أبو هريرة العراق مع معاوية عام الجماعة

__________________

(١) سير اعلام النبلاء : ٢ : ١٠٦

(٢) البداية والنهاية : ٨ : ١٠٩ .

(٣) كنز العمال ١٠ : ٢٣٠ الحديث ٢٩٢١١ ، تاريخ بغداد ١١ : ٣٩١ .

٤٤

( سنة ٤١ ) ( وهو في الحقيقة عام الفرقة ) جاء الى مسجد الكوفة ، فلما رأى كثرة من استقبله من الناس جثا على ركبتيه ، ثم ضرب صلعته مراراً وقال : يا أهل العراق ! اتزعمون أني ( أكذب ) على رسول الله وأحرق نفسي بالنار ! ( والله ) ! ! لقد سمعت رسول الله يقول : إن لكل نبي حرماً ، وإن حرمي المدينة ما بين عير إلى ثور ، فمن أحدث فيهما حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، وأشهد بالله أن علياً أحدث فيها ، فلما بلغ معاوية قوله أجازه وأكرمه وولاه إمارة المدينة (١) .

ومن أحاديثه في مدح أولياء نعمته أنه نظر إلى عائشة بنت طلحة ـ وكانت مشهورة بالجمال الفائق ـ فقال : سبحان الله ! ما احسن ما غذاك أهلك ! ( والله ) ما رأيت وجهاً احسن منك إلّا وجه معاوية على منبر رسول الله (٢) .

وهكذا فشا الوضع ، وكثر الوضاعون ، ودخل فيهم كل معاد للدين زنديق لم يخرج دينه الأول ـ يهودياً أو نصرانياً ـ من قبله . وكانت نتيجة ذلك ان كثر الحديث الموضوع كثرة فاحشة .

فقد روى عن سهل بن السري الحافظ انه قال : وضع أحمد بن عبد الله الجوبياري ، ومحمد بن عكاشة الكرماني ، ومحمد بن تميم الفارابي على رسول الله أكثر من عشرة آلاف حديث .

لذا يقول البخاري : احفظ مائة ألف حديث صحيح ، ومائتي ألف حديث غير صحيح (٣) .

وكان عبد الكريم بن أبي العوجاء يدس الاحاديث في كتاب جده لاُمه حماد ابن سلمة وجيء به الى محمد بن سليمان بن علي أمير البصرة ليقتله ، فلما ايقن بالموت قال : والله لقد وضعت فيكم أربعة آلاف حديث ، اُحرم فيها الحلال ، وأحل فيها الحرام ،

__________________

(١) شرح ابن ابي الحديد ٤ : ٦٧ .

(٢) العقد الفريد ٧ : ١١٨ .

(٣) اضواء على السنة المحمدية : ١٤٤ عن تحذير الخواص للسيوطي .

٤٥

ولقد فطرتكم في يوم صومكم ، وصومتكم في يوم فطركم .

وكان حماد بن زيد يقول : وضعت الزنادقة على رسول الله صلى الله عليه وآله أربعة عشر ألف حديث .

واشهر وضاعي الزنادقة عبد الكريم بن أبي العوجاء قتله محمد بن سليمان إبن علي أمير البصرة ، وبيان بن سمعان المهدي ، قتله خالد بن عبد الله القسري ، ومحمد بن سعيد المطلوب ، قتله أبو جعفر المنصور (١) .

وقد كان وضعهم الحديث لأسباب كثيرة ، منها كتاب معاوية الذي نقلناه قبل هذا ، ومنها التقرب للملوك ، ومنها بسبب العصبية المذهبية ، ومنها العداء القلبي للاسلام وأهله ، ومنها لأسباب تافهة .

قال ابن الصلاح : واشد هذه الاصناف ضرراً أهل الزهد ، لأنهم للثقة بهم وتوسم الخير فيهم يقبل موضوعاتهم كثيراً ممن هم على نمطهم في الجهل ورقة في الدين .

قال الحافظ ابن حجر : ويلحق بالزهاد في ذلك المتفقهة الذين استجازوا نسبة ما دل عليه القياس الى النبي صلى الله عليه وآله (٢) .

لنستعرض نماذج مما وضعوه .

أخرج أبو يعلى عن أبي هريرة ، قال رسول الله : عرج بي الى السماء فما مررت بسماء إلّا وجدت فيها اسمي ( محمد رسول الله وأبو بكر الصديق خلفي ) .

وأخرج أبو يعلى كذلك عن ابن عمر أن النبي قال : ان الملائكة لتستحي من عثمان كما تستحي من الله ورسوله (٣) .

وفي حديث أن رسول الله قال : فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على

__________________

(١) مباحث في تدوين السنة المطهرة : ٣١ ـ ٣٢ .

(٢) مقدمة ابن الصلاح : ٢١٢ بتصرف .

(٣) اضواء على السنة المحمدية : ١٢٧ .

٤٦

سائر الطعام (١) . . . وفي حديث أن صورتها قد جاءت النبي في سرقة من حرير مع جبريل وقال له : « هذه زوجتك في الدنيا والآخرة » (٢) ! !

وفي حديث آخر : خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء (٣) .

وفي رواية « خذوا شطر دينكم . . . » الى آخره (٤) .

ومن الاحاديث التي أملتها العصبية الحديث التالي :

« يكون في اُمتي رجل يقال له محمد بن ادريس أضر على اُمتي من ابليس ، ويكون في اُمتي رجل يقال له أبو حنيفة هو سراج اُمتي » ، قالوا : وفي اسناده وضاعان أحدهما مأمون بن أحمد السلمي والآخر أحمد بن عبد الله الخونباري . وقد رواه الخطيب عن أبي هريرة مرفوعاً ، واقتصر على ما ذكره في أبي حنيفة ، وقال ، مرفوع وضعه محمد بن سعيد المروزي البورقي ، ثم قال : هكذا حدث به في بلاد خراسان ثم حدث به في العراق وزاد فيه « وسيكون في اُمتي رجل يقال له محمد بن ادريس فتنته أضر على اُمتي من فتنة ابليس » (٥) .

وقد وضعت الشافعية مقابل هذا حديثاً في امامهم .

وأما الاحاديث التي املاها البعض للتقرب الى الملوك فكثيرة جداً نذكر منها المثال التالي : جيء الى المهدي بعشرة محدثين ، فيهم غياث بن ابراهيم ، وكان المهدي يحب الحمام ، فقيل لغياث : حدث أمير المؤمنين . فحدثه بحديث أبي هريرة ان النبي صلى الله عليه وآله قال : ( لا سبق الا في نصل او خف او حافر ) : « أو جناح » . فأمر له المهدي بعشرة آلاف درهم ، فلما قام ، قال المهدي : اشهد أن قفاك قفا كذاب على رسول الله

__________________

(١) صحيح البخاري ٥ : ٣٦ ، سنن الترمذي ٥ : ٧٠٦ / ٣٨٨٧ .

(٢) سنن الترمذي ٥ : ٧٠٤ / ٣٨٨٠ .

(٣) اضواء على السنة المحمدية : ١٢٧ .

(٤) النهاية لابن الاثير ١ : ٤٣٨ .

(٥) تاريخ بغداد ٥ : ٣٠٩ .

٤٧

( صلى الله عليه وآله ) وإنما استجلبت ذلك انا . وامر بالحمام فذبحت (١) .

وقد بلغ من أمرهم انهم يضعون الحديث لأسباب تافهة ، ومن أمثلة ذلك ما اسنده الحاكم عن سيف بن عمر التميمي قال : كنت عند سعد بن طريف فجاء ابنه من الكتاب يبكي ! فقال له مالك ؟ قال : ضربني المعلم . قال : لاخزينهم اليوم ! حدثنا عكرمة ، عن ابن عباس مرفوعاً : « معلموا صبيانكم شراركم ، اقلهم رحمة لليتيم واغلظهم على المساكين » (٢) .

والاخبار في ذلك أكثر من أن تحصى .

ولعل أحسن ما يتبين فيه موقف الملوك والخلفاء والامراء المتأخرين هو قول الدكتور السباعي في كتابه السنة ومكانتها في التشريع : ما كان لتساهل الخلفاء والامراء مع الوضاعين من أثر سيء جر على الدين كثيراً من البلاء ، ولو وقفوا منهم موقف الجد وقضوا على رؤسائهم ، كما هو حكم الله في مثل هذه الحالة ، لما انتشرت هذا الانتشار ، بل راينا مع الأسف ان خليفة كالمهدي مع اعترافه بكذب غياث بن ابراهيم وزيادته في الحديث تقرباً الى هواه كافأه بعشرة آلاف درهم .

وما تقوله الرواية من أنه أمر بذبح الحمام لأنه كان سبباً في هذه الكذبة ، فهو مدعاة للعجب إذا كان خيراً للمهدي أن يؤدب هذا الكاذب الفاجر ويترك الحمام من غير ذبح بدلاً من أن يذبح الحمام ويترك من يستحق الموت حراً طليقاً ينعم بمال المسلمين .

بل نحن نرى للمهدي تساهلاً آخر مع كذاب آخر هو مقاتل بن سليمان البلخي ، فقد قال له مقاتل : إن شئت وضعت لك أحاديث في العباس وبنيه فقال له المهدي ؟ لا حاجة لي فيها ثم لم يفعل معه شيئاً (٣) .

__________________

(١) الموضوعات لابن الجوزي ٣ : ٧٨ ، مباحث في تدوين السنة المطهرة : ٣٩ .

(٢) اضواء على السنة المحمدية : ١٣٩ .

(٣) السنة ومكانتها في التشريع : ١٠٤ ، عن مباحث في تدوين السنة : ٥٩ .

٤٨

عود على بدء :

انتهى القرن الأول والحديث يتناقل ـ في الأعم الأغلب ـ رواية ، وكانت الأحاديث ممزوجة بفتاوى الصحابة وقضاياهم .

ولما ولي عمر بن عبد العزيز ( ٩٩ ـ ١٠١ ه ) ، وكان المحذور الذي يخشاه الخلفاء قد زال ، فأمر بجمع الحديث وتدوينه رسمياً ، واصدر أمره بذلك لابن حزم الأنصاري أن يجمع حديث النبي صلى الله عليه وآله ، وكان محمد بن شهاب الزهري متولي عملية الجمع والتدوين .

فقد حدّث معمر عن الزهري قال : كنا نكره كتاب العلم حتى اكرهنا عليه هؤلاء الاُمراء فرأينا ألّا نمنعه أحداً من المسلمين (١) وقال ايضاً : استكتبني الملوك فاكتبتهم فاستحييت الله اذ كتبها الملوك ألا اكتبها لغيرهم .

ولكن لم يصلنا من هذا التدوين السلطاني أثر مكتوب ، غير ان الباب فتح على مصراعيه لمن شاء ، ان يكتب الحديث ـ غير اؤلئك الذين سبق ذكرهم وأنهم دونوا الحديث في أوج شدة المنع ـ فألف كثيرون وجمعوا من الحديث الشريف مجاميع ، ولكنها لا زالت تشمل الى جانب الحديث النبوي فتاوى الصحابة وقضاياهم .

وعلى هذا ، فان تكوين الحديث وجمعه لم يتطور تطوراً جدياً ، ولم يحقق تقدماً ملموساً إلّا بعد فتح باب التدوين ورفع المنع .

وقد وصلتنا اسماء جماعة ممن دوّن الحديث في القرن الثاني نذكر جملة منهم .

١ ـ أبو محمد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج توفى سنة ١٥٠ هـ بمكة .

٢ ـ محمد بن اسحاق توفى سنة ١٥١ هـ بالمدينة .

٣ ـ معمر بن راشد توفى سنة ١٥٣ هـ باليمن .

٤ ـ سعيد بن أبي عروة توفى سنة ١٥٦ هـ بالمدينة .

__________________

(١) تقييد العلم : ١٠٧ .

٤٩

٥ ـ أبو عمرو عبد الرحمن بن عمر الاوزاعي توفى سنة ١٥٦ هـ في بيروت من بلاد الشام .

٦ ـ محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب توفى سنة ١٥٨ هـ بالمدينة .

٧ ـ الربيع بن صبيح توفى سنة ١٦٠ هـ بالمدينة .

٨ ـ شعبة بن الحجاج توفى سنة ١٦٠ هـ بالبصرة .

٩ ـ ابو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري توفى سنة ١٦١ هـ بالكوفة .

١٠ ـ الليث بن سعد توفى سنة ١٧٢ هـ بمصر .

١١ ـ ابو سلمة حماد بن سلمة بن دينار توفى سنة ١٧٦ هـ بالبصرة .

١٢ ـ الامام مالك بن أنس توفى سنة ١٧٩ هـ بالمدينة .

١٣ ـ عبد الله بن المبارك توفى سنة ١٨١ هـ بخراسان .

١٤ ـ هشيم بن بشير توفى ١٨٨ هـ بواسط .

١٥ ـ جرير بن عبد الحميد الضبي توفى سنة ١٨٨ هـ بالري .

١٦ ـ سفيان بن عيينة توفى سنة ١٩٨ هـ بمكة (١) .

وهؤلاء كلهم من رجال القرن الثاني ، ولم يصلنا من كتب هؤلاء إلّا القليل ، وأشهر ما وصلنا من هذه الفترة موطأ مالك ، ولذلك ذكر بعضهم انه اول كتاب دوّن في الحديث .

موطأ مالك

لأبي عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن ابي عامر بن عمرو بن الحارث الأصبحي اليماني (٢) .

ولد سنة ٩٣ هـ على أصح الأقوال (٣) وتوفى سنة ١٧٩ هـ ونشأ في رفاهية

__________________

(١) مباحث في تدوين السنة : ١٤٧ .

(٢) سير اعلام النبلاء ٨ : ٤٨ .

(٣) الموطأ : طي .

٥٠

وتجمل (١) .

ويذكر المؤرخون ان الامام جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام كان من شيوخ مالك .

واذا صح ما رواه صاحب الديباج من ان لمالك عدة كتب في الفلك والرياضيات ، فلعله أخذ ذلك عن جعفر الصادق عليه السلام (٢) .

وقد جمع أبو بكر الخطيب البغدادي كتاباً كبيراً في الرواة عن مالك وشيء من روايتهم عنه (٣) .

والمعروف عن مالك انه كان يفضل عثمان على علي عليه السلام (٤) .

واما موطأه فهو من اقدم المؤلفات عند الجمهور والذي صنفه بأمر أبي جعفر المنصور .

قال الحافظ ابن عبد البر في كتاب الانتفاء : إن محمد بن سعد قال : سمعت مالك بن أنس يقول : لما حج أبو جعفر المنصور دعاني فدخلت عليه ، فحادثته وسألني فأجبته فقال : اني عزمت أن آمر بكتبك هذه التي وضعت ( يعني الموطأ ) فتنسخ نسخاً ، ثم أبعث الى كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة ، وامرهم أن يعملوا بما فيها ولا يتعدوها الى غيرها ! فاني رأيت أصل العلم رواية أهل المدينة وعلمهم .

قال : فقلت : يا أمير المؤمنين لا تفعل هذا ، فان الناس قد سبقت اليهم أقاويل ، وسمعوا أحاديث ، ورووا روايات ، وأخذ كل قوم بما سبق اليهم وعملوا به ودانوا من أختلاف اصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وغيرهم ، وان ردهم عما اعتقدوه شديد فدع الناس وماهم عليه ، ومااختار أهل كل بلد لأنفسهم ، فقال لعمري ، لو طاوعتني علي ذلك لأمرت به .

__________________

(١) سير اعلام النبلاء ٨ : ٤٩ .

(٢) الموطأ : بك .

(٣) سير اعلام النبلاء ٨ : ٨٢ .

(٤) الموطأ : جك .

٥١

وفي رواية اخرى ان المنصور طلب منه ان يضع للناس كتاباً يتجنب فيه تشديدات ابن عمر ، ورخص ابن عباس ، وشواذ ابن مسعود (١) .

قال ابن معين : ان مالكاً لم يكن صاحب حديث ، بل كان صاحب رأي .

وقال الليث بن سعد : أحصيت على مالك سبعين مسألة وكلها مخالفة لسنة الرسول ، وقد اعترف مالك بذلك .

وقد ألف الدارقطني جزءاً فيما خولف فيه مالك من الأحاديث في الموطأ وغيره ، وفيه أكثر من عشرين حديثاً .

ومما يؤخذ على مالك أيضاً انه روى عن شيخه الصادق عليه السلام خمس روايات مسندة ، وأربعة منقطعة ، والروايات المسندة مرجعها الى حديث واحد مسند وهو حديث جابر ، والاربعة منقطعة .

ويمكننا هنا أن نقول : ان مالك لم يكن وفياً لاستاذه الصادق عليه السلام ، الذي أغنى بحديثه أربعة الآف رجل جمع اسماءهم الحافظ ابن عقدة في كتاب خاص ، والذي ألف من حديثه عن آبائه عن جده المصطفى صلوات الله عليهم أربعمائة كتاب .

وباحصائية بسيطة تبين لنا كثرة رواية مالك عن نافع مولى ابن عمر ، وعن الزهري ، وهما لا يصلان في العلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وآله عشر معشار علم الصادق عليه السلام به .

ويؤاخذ مالك أيضاً بعدم روايته عن أمير المؤمنين علي عليه السلام بينما يروي عن نافع وامثاله ؟ !

أليس هذا وذاك يدلان على حسيكة في نفس مالك لأهل البيت عليهم السلام ؟ !

*       *      *

__________________

(١) الانتقاء لابن عبد البر : ٤١ .

٥٢

واتخذت طريقة تدوين الحديث بعد القرن الثاني صورة اخرى تعتبر متطورة عما سبقتها ، وذلك بافرادها الحديث النبوي خاصة بدون أن يلابسه شيء من فتاوى الصحابه او غيرها .

فصنف جماعة في ذلك ، ومن كتبهم :

١ ـ جامع عبد الله بن وهب ( ت ١٩٧ ه ) .

٢ ـ مسند الطيالسي ( ت ٢٠٤ ه ) .

٣ ـ مسند عبيد الله بن موسى العبسي الكوفي ( ت ٢١٣ ه ) .

٤ ـ مسند عبد الله بن الزبير الحميدي ( ت ٢١٩ ه ) .

٥ ـ مسند مسدد بن مسرهد ( ت ٢٢٨ ه ) .

٦ ـ مصنف بن أبي شيبة ( ت ٢٣٥ ه ) .

٧ ـ مسند إسحاق بن راهويه ( ت ٢٣٨ ه ) .

٨ ـ مسند أحمد بن حنبل ( ت ٢٤١ ه ) .

٩ ـ مسند عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ( ت ٢٥٥ ه ) .

ولئن كانت هذه المسانيد والمصنفات قد افردت للحديث النبوي فقط ، ولم تخلط به أقوال الصحابة ، ولكنها كانت تجمع بين الصحيح والضعيف والموضوع من الحديث .

واستمر التأليف على هذا النمط الى ان ظهرت طبقة البخاري ، فدخل التدوين حينئذ مرحلة جديدة ، وخطى خطوة نحو الأمام ، ويمكن أن نسمي هذا الدور دور التنقيح والاختيار .

وفي هذه الفترة الفت عند الجمهور الكتب الستة المعروفة باسم الصحاح الستة ، وهي :

أ ـ صحيح البخاري ، تاليف محمد بن إسماعيل ( ت ٢٥٦ ه ) .

ب ـ صحيح مسلم تأليف مسلم بن الحجاج النيسابوري ( ت ٢٦١ ه ) .

ج ـ سنن ابن ماجة ، تأليف محمد بن يزيد القزويني ( ت ٢٧٣ ه ) .

٥٣

د ـ سنن أبي داود ، تأليف سليمان بن الاشعث السجستاني ( ت ٢٧٥ ه ) .

هـ ـ سنن الترمذي ، تأليف محمد بن عيسى الترمذي ( ت ٢٧٩ ه ) .

و ـ سنن النسائي ، تأليف أحمد بن شعيب النسائي ( ت ٣٠٣ ه ) .

وبعضهم يستبدل الأخير بـ ( سنن الدارمي ) تأليف عبد الله بن عبد الرحمن ( ت ٢٥٥ ه ) من الصحاح الستة .

صحيح البخاري :

لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن المغيرة بن بروز به ، ولد في ١٣ شوال سنة ١٩٤ هـ ببخارى ، وتوفي في ليلة عيد الفطر سنة ٢٥٦ هـ .

وقد خصّه الجمهور بمنزلة عالية لا يمكن لكتاب آخر أن يرقى اليها .

فقد قال عنه الحافظ الذهبي : وإما جامع البخاري الصحيح فأجل كتب الاسلام وأفضلها بعد كتاب الله تعالى ، فلو رحل الرجل لسماعه من الف فرسخ لما ضاعت رحلته .

وقال ابن الصلاح في جزء له : ما اتفق البخاري ومسلم على اخراجه فهو مقطوع بصدق مخبره ثابت يقيناً ، لتلقي الامة ذلك بالقبول (١) .

ولكن مما يضعف هذه المنزلة في نفوسنا طريقة البخاري في كتابة الحديث .

فقد روى الخطيب البغدادي عنه انه قال رب حديث سمعته بالبصرة كتبته بالشام ، ورب حديث سمعته بالشام كتبته بمصر ! فقيل له : يا ابا عبد الله ، بكماله ؟ فسكت (٢) .

وقال أحيد بن أبي جعفر والي بخارى : قال لي محمد بن إسماعيل يوماً : رب حديث سمعته بالبصرة كتبته بالشام ، ورب حديث سمعته بالشام كتبته بمصر ! فقلت

__________________

(١) مقدمة ابي الصلاح : ١٠٠ .

(٢) تاريخ بغداد ٢ : ١١ .

٥٤

له : يا ابا عبد الله بتمامه ؟ فسكت (١) .

ومما يؤكد ذلك أيضاً ان البخاري مات قبل ان يتم تبييض كتابه . فقد ذكر ابن حجر في مقدمة الفتح ، ان ابا إسحاق إبراهيم بن أحمد المستملي قال : انتسخت كتاب البخاري من أصله الذي كان عند صاحبه محمد بن يوسف الفربري ، فرأيت فيه أشياء لم تتم ، وأشياء مبيضة ، منها تراجم لم يثبت بعدها شيئاً ، ومنها أحاديث لم يترجم لها ، فأضفنا بعض ذلك إلى بعض (٢) .

وأيضاً فان علماء الرجال قد تكلموا في ٨٠ رجلاً من رجالاته ، واتهموهم بالضعف (٣) ، وانتقدوا من أحاديثه نحو ٨٠ حديثاً (٤) .

ولم يرو البخاري في صحيحه عن الامام الصادق عليه السلام ، وقد أجاد العلامة الكبير السيد عبد الحسين شرف الدين في نقد هذه المسألة حيث قال :

وأنكى من هذا كله عدم احتجاج البخاري في صحيحه بأئمة أهل البيت النبوي ، اذ لم يرو شيئاً عن الصادق والكاظم والرضا والجواد والهادي والزكي العسكري وكان معاصراً له ، ولا روى عن الحسن بن الحسن ، ولا عن زيد بن علي ابن الحسين ، ولا عن يحيى بن زيد ، ولا عن النفس الزكية محمد بن عبد الله الكامل بن الحسن الرضا بن الحسن السبط ، ولا عن أخيه إبراهيم بن عبد الله ، ولا عن الحسين الفخي بن علي بن الحسن بن الحسن ، ولا عن يحيى بن عبد الله بن الحسن ، ولا عن اخيه ادريس بن عبد الله ، ولا عن محمد بن جعفر الصادق ، ولا عن محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن المعروف بابن طباطبا ، ولا عن اخيه القاسم الشرسي ، ولا عن محمد بن زيد بن علي ، ولا عن محمد بن القاسم بن علي بن عمر الاشرف بن زين العابدين صاحب الطالقان المعاصر للبخاري ـ ولا

__________________

(١) هدى الساري : ٤٨٧ .

(٢) مقدمة فتح الباري : ٨ .

(٣) اضواء على السنة المحمدية : ٣٠٢ .

(٤) اضواء على السنة المحمدية : ٣٠٢ .

٥٥

عن غيرهم من أعلام العترة الطاهرة وأغصان الشجرة الزاهرة ، كعبد الله بن الحسن وعلي بن جعفر العريضي وغيرهما . ولم يرو شيئاً من حديث سبطه الأكبر وريحانته من الدنيا أبي محمد الحسن المجتبى سيد شباب أهل الجنة مع احتجاجه بداعية الخوارج وأشدهم عداوة لأهل البيت ( عمران بن حطان ) القائل في ابن ملجم وضربته لامير المؤمنين عليه السلام :

ياضربة من تقي ما اراد بها

الا ليبلغ من ذي العشر رضوانا

اني لأذكره يوماً فاحسبه

اوفى البرية عند الله ميزانا (١)

هذا ، وقد روى عن اناس متهمين بالكذب ، كاسماعيل بن عبد الله بن اويس ابن مالك المتوفى عام ٢٢٦ وزياد بن عبد الله العامري المتوفى ٢٨٢ هجرية ، لكنه لم يرو عن الامام الصادق الذي أجمع الكلّ على صدق حديثه ودرايته بكلّ شيء ، والأخذ باقواله وآرائه ، حيث كان في الكوفة وحدها ألف شيخ محدث ، كلّ يقول : حدثني جعفر ابن محمّد .

وروى عن الضعفاء ، ويعدونهم بـ ( ثمانين ) منهم الحسن بن ذكوان البصري ، وأحمد بن أبي الطيب البغدادي ، وسلمة بن رجاء التميمي ، وبسر بن آدم الضرير ، وعبد الله بن أبي لبيد ، وعبد الله بن أبي نجيح المكي ، وكهمس بن منهال السدوسي ، وهارون بن موسى الازدي ، وسفيان بن سليمان ، وعبد الوارث بن سعيد ، وغيرهم .

كما وروى عن اناس مشهورين بعدائهم ونصبهم لأهل بيت العصمة والطهارة ، كالسائب بن فروخ ، واسحاق بن سويد العدوي ، ويهز بن أسد ، وحريز بن عثمان ، وحصين بن نمير الواسطي ، وخالد بن سلمة بن عاص بن هشام المعروف بالفأفاء ، وعبد الله بن سالم الاشعري أبي يوسف الحمصي ، وقيس بن أبي حازم (٢) .

*       *      *

__________________

(١) الفصول المهمة : ٣٣٩ ـ ٣٤٠ .

(٢) تدريب الراوي ـ للسيوطي ـ : ٢٢٩ .

٥٦

صحيح مسلم :

لأبي الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري ، أحد الحفاظ ، ولد بنيسابور سنة ٢٠٤ هـ ، وتوفي عشية يوم الأحد لخمس ـ وقيل : لست ـ من شهر رجب سنة ٢٦١ هـ بنيسابور ، وعمره خمس وخمسون سنة .

ولما وضع كتابه الصحيح عرضه على أبي زرعة الرازي ، فأنكر عليه وتغيظ وقال : سميتَهُ الصحيح ! فجعلت سلماً لأهل البدع وغيرهم فاذا روى لهم المخالف حديثاً يقولون : هذا ليس في صحيح مسلم .

وقد جرد مسلم الصحاح ولم يتعرض للاستنباط ونحوه ، وفاق البخاري في جمع الطرق وحسن الترتيب .

وفي رجال مسلم ١٦٠ رجلاً تكلم فيها علماء الرجال بالضعف .

وانتقد عليه نحو ١٣٠ حديثاً .

كما ويروي عن رجال تركهم البخاري لشبهة في نفسه .

وهنا كلام لا بد أن يذكر ، فابو زرعة ـ وهو العلم المشهور في الجرح والتعديل يراه سلماً لأهل البدع ، فليس من المعقول في كتاب كهذا ان ننسب كل ما فيه الى رسول الله صلى الله عليه وآله ونحكم عليه بالصحة المطلقة ، فلو خيّرنا بين ما يشين مقام الرسول الكريم صلى الله عليه وآله ، أو تضعيف راوٍ او حديث او كتاب فلا نتردد في ان نختار الثاني .

ولا بد أن الذين جعلوا كتاب مسلم في هذه المرتبة العاليه غافلون عن هذه المحاذير التي هي ملازمة للكتاب ملازمة الظل لاصله .

ستن الترمذي :

لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي الضرير ولد سنة ٢٠٩ هـ

٥٧

بترمذ وتوفي سنة ٢٧٩ هـ تتلمذ وتخرج على يد البخاري ، ومنه أخذ علم الحديث وتفقه فيه وتمرن بين يديه .

يقول ابن الاثير : في سنن الترمذي ما ليس في غيرها من ذكر المذاهب ووجوه الاستدلال ، وتبيين أنواع الحديث من الصحيح والحسن والغريب .

وعلى كل حال فقد اتخذت سنن الترمذي مكانتها بين الصحاح الستة ، وقد سماه بعضهم بـ ( صحيح الترمذي ) .

سنن النسائي :

لأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي بن بحر بن سنان بن دينار النسائي ، ولد سنة ٢١٥ هـ بنساء من بلاد خراسان .

وامتحن في دمشق محنة كانت فيها وفاته .

فقد خرج النسائي من مصر سنة اثنتين وثلاثمائة الى دمشق فسأله اصحاب معاوية من اهل الشام تفضيله على علي عليه السلام فقال : الا يرضى معاوية راساً براس حتى يفضل ؟

سألوه ايضا عما يرويه لمعاوية من فضائل ، فقال : ما اعرف له فضيلة الا « لا اشبع الله بطنه » .

فما زال به اهل الشام يضربونه في خصييه بارجلهم حتى اخرجوه من المسجد ، ثم حمل الى الرملة فتوفى بها (١) .

وقد قال الحافظ ابو الحسن الدارقطني : لما امتحن الامام النسائي بدمشق طلب ان يحمل الى مكة فحمل اليها وتوفى بها (٢) .

وقد كانت وفاته سنة ٣٠٣ وهكذا مضى النسائي الى ربه يشكو النواصب

__________________

(١) شذرات الذهب ٢ : ٢٤٠ .

(٢) اضواء على السنة المحمدية : ٣١٩ .

٥٨

من أعداء اهل بيت نبيه صلوات الله عليهم اجمعين .

ولم يرع النواصب حرمة شيخ نيف على الثمانين ، وهو من رجالهم الذين يعدونهم من الثقات ، وكان إماماً من ائمتهم في الحديث ، ولا يزال كتابه احد الصحاح الستة التي عليها المدار عند الجمهور في الاعتماد والوثاقة .

فقد نقل التاج السبكي عن والده وعن شيخه الذهبي ان النسائي احفظ من مسلم صاحب الصحيح ، وان سننه اقل السنن حديثا ضعيفا بعد الصحيحين .

سنن أبي داود :

لابي داود سليمان بن الاشعث الازدي السجستاني ، ولد سنة ٢٠٢ هـ ، وتوفى سنة ٢٧٥ هـ .

وقال الخطابي : لم يصنف في علم الحديث مثل سنن ابي داود وهو احسن وضعاً واكثر فقهاً من الصحيحين ، حدث عنه الترمذي والنسائي ، وقال ابن كثير في مختصر علوم الحديث : ان الروايات لسنن أبي داود كثيرة ، في بعضها ما ليس في الاخرى .

ومن اشهر رواة السنن عنه ابو سعيد ابن الاعرابي ، وابو علي اللؤلؤي وابو بكر ابن داسة .

سنن ابن ماجة :

لأبي عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة القزويني ، ولد سنة ٢٠٩ هـ ، وتوفي في رمضان سنة ٢٧٣ (١) .

أما كتابه ( السنن ) فهو مؤلف من ٣٢ كتاباً ، ضمّها ١٥٠٠ باب ، تشتمل على أربعة آلاف حديث كما ذكره الذهبي (٢) .

ولكن مجموع أحاديث كتاب السنن الذي حققه محمد فؤاد عبد الباقي بلغ

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ١٣ / ٢٧٧ .

(٢) تذكرة الحفاظ ٢ / ٦٣٦ .

٥٩

٤٣٤١ حديثاً .

وقد أفرد زوائد السنن أحمد بن زين الدين البوصيري في كتاب وخرّجها ، وتكلم على اسانيدها بما يليق بها من صحة وحسن وضعف .

قال ابن حجر : إن في كتابه ـ يعني السنن ـ أحاديث ضعيفة جداً ، حتى بلغني أن السري كان يقول : مهما انفرد بخبر فهو ضعيف غالباً (٣) . بينما قدمه بعضهم على موطأ مالك .

*       *      *

الشيعة والتدوين :

وهكذا بعد أن تتبعنا تاريخ التدوين عند العامة ، من منعه إلى إباحته ، بعد نحو مائة سنة ، وبعد أن عرجنا على كتبهم الحديثية ، وانتهينا إلى الصحاح الستة المعتمدة عندهم ، ننتقل بعد هذا الى تدوين الحديث عند الشيعة فنقول :

إن الشيعة لم يكونوا بحاجة فعلية إلى التدوين كما احتاج الجمهور إليه ، لان فترة منع او اباحة التدوين عندهم كانت تمثل عندنا استمراراً لعصر النص فلم ينقطع بموت الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله ، وانما استمر الى عصر غيبة الامام الثاني عشر عجل الله فرجه وكنا طول هذه الفترة نستقي العلم من معينه ـ من المعصوم ـ الذي لا ينضب .

ويعتبر الامام علي امير المؤمنين عليه السلام اول من دون الحديث في مدرسة اهل البيت عليهم السلام بأمر من رسول الله صلى الله عليه وآله حيث كتب الصحيفة التي علقت بقراب سيف رسول الله صلى الله عليه وآله ثم ورثها منه علي عليه السلام ، كما تقدم .

وكتب أمير المؤمنين ـ أيضاً ـ صحيفة كبيرة تسمى عند أهل البيت عليهم

__________________

(١) تهذيب التهذيب : ٤٦٨ ترجمة محمد بن يزيد بن ماجة .

٦٠