معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع - المقدمة

معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٥٢

١

٢

مقدمة

وصف المعجم ، وبيان قيمته العلمية ، وتاريخه

هذا معجم ما استعجم من أسماء المواضع والبلاد ، لأبى عبيد البكرىّ. وهو معجم لغوىّ جغرافىّ ، يصف جزيرة العرب ، ويتقرّى ما بها من المعالم والمشاهد ، والبلدان والمعاهد ، والآثار والمحافد ، والمناهل والموارد ؛ ويتتبّع هجرة القبائل العربية من أوطانها ، واضطرابها فى أعطانها ، وتردّدها بين مصايفها ومرابعها ، ومباديها ومحاضرها ؛ ويذكر أيامها ووقائعها ، وأنسابها وعشائرها.

وهو أثر نفيس من صميم التّراث الأدبى والعلمىّ ، ممّا خلّفه العرب إبّان نضجهم العقلىّ ، وارتقائهم العلمىّ ، ولا نكاد نجد له نظيرا فى معاجم البلدان ، التى وصلت إلى أيدينا سليمة من أحداث الزمان ، فهو يبذّها جميعا : غزارة موادّ ، وكثرة تفاصيل ، واكتمال عناصر ، ودقة مناهج ، وتمام ضبط ، وجمال أسلوب ، وتحرير عبارة.

سبق البكرىّ إلى التأليف فى جغرافية جزيرة العرب ، أبو محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب بن يوسف بن داود الهمدانىّ اليمنى ، المعروف بابن الحائك ، المتوفى بصنعاء من اليمن سنة ٣٣٤ هجرية ، وكتابه «صفة جزيرة العرب» ، الذي نشره المستشرق مولّر سنة ١٨٨٤ بمطبعة بريل بليدن ، من أنفس كتب الجغرافيا القديمة : اعتمد فيه على مشاهداته الخاصة ، وما عاينه فى أثناء رحلاته فى جزيرة العرب ، لا على النقل من الكتب ؛ لكنّه مع هذه المزية الظاهرة ، لا يبلغ مبلغ معجم البكرىّ ، لشدة إيجازه. وقلة تفاصيله ، إلا فيما يخص جغرافية بلاده ، وهى القسم الجنوبى من جزيرة العرب ، فقد حشد له كل جهوده ؛ ولأنه لم يرتّب كتابه ترتيب المعاجم ، وإنما رتبه على أبواب وفصول. على أن البكرىّ قد انتفع من كتاب الهمدانىّ هذا كثيرا ، فكان من مصادره المهمّة ، ينقل عنه ، ويستند إليه ، وخاصة إذا أظلم ليل الشّبهة وغامت سماء الشكوك. وممن ألف بعد البكرى معجما عامّا فى البلدن وذكر جزيرة العرب ، ياقوت بن عبد الله الرومى الحموى. (٥٧٢ ـ ٦٢٦ ه‍) صاحب معجم البلدان ، وهو من أجل هذه المعاجم خطرا ،

٣

وأعظمها قدرا ، ومن أحسنها ضبطا ، وأحفلها مادّة ، وأعمها فائدة ، إلا أنّه مع كل هذه المحاسن لا يوازن بمعجم البكرىّ فى ضبطه وتحرّيه ؛ فإن البكرىّ لغوىّ دقيق الحسّ ، كامل الأداة ، من النحو ، والصرف ، واللغة ؛ ريّان من علوم الرواية : الأشعار ، والأخبار ، والأنساب ؛ إلى علوم الدين : الحديث ، والتفسير ، والفقه ، وغيرها من أطراف الثقافة الإسلامية. كما أنه لا يفوقه استيعابا وإحاطة ؛ وهو أمر يبدو غريبا ، ولكنه الحقيقة سافرة : فإن معجم البكرىّ ليس من المعاجم العامّة للبلدان ، وإنما هو معجم لغوىّ. خاصّ بتحقيق أسماء المواضع التى وردت فى الشعر العربىّ ، وفى الأحاديث ، وفى كتب السّير ، والتواريخ القديمة ، وأيام العرب ، وما إلى ذلك ؛ فهو فى هذا النوع الخاصّ ، أكثر جمعا لأسماء المواضع العربيّة ، من معجم البلدان لياقوت. وكم عثرت عند البكرىّ ، بل عند الهمدانىّ ، على أسماء بلدان وأماكن ، لم أجدها عند ياقوت ، لأنّ معجم ياقوت معجم عام فى الجغرافيا : يصف البلدان المشهورة ، فى أرجاء المعمورة.

أما غير الهمدانىّ وياقوت من أصحاب كتب الجغرافيا ، فليس يعنينى أن أقف عندهم ، موازنا بين البكرىّ وبينهم ، فقد ظهر فضله على جميعهم ، بتفوّقه على زعمائهم ؛ وكفى بالهمدانىّ وياقوت عالمين ، ومؤلفين رئيسين.

أخصّ مزايا معجم البكرىّ كما قلت الضّبط : فإنّه لهذا الغرض ألّف ، وقد أبان هو عن ذلك فى مقدمته ، إذ رأى كثيرا من أسماء البلدان التى ترد فى الأحاديث والأشعار والسير والتواريخ ، قد دبّ إليها التصحيف والتحريف ، وضرب لذلك أمثلة كثيرة ؛ وكان هذا التحريف داء قديما ، لم يسلم من آفته حتى أئمة الرّواة وكبار العلماء ، كالأصمعىّ من علماء اللغة ، ويزيد بن هارون من المحدّثين ، فراعه ذلك ، وأوحى إليه بتأليف كتابه.

والبكرىّ يضبط الكلمات بالعبارة لا بالحركات ، وهذه إحدى مزاياه ، ولو لا ذلك لاختل المعجم ، وضاعت قيمته ، ولم يسلم من شوائب التحريف ، التى ذهبت بكثير من محاسن غيره.

ويعوّل المؤلف فى الضبط على الشعر العربى أولا ، فيأتى بالشعر الذي ورد فيه اسم المكان ، ويسنده إلى الراوى الذي نقله من العلماء ، ويوازن بين الروايات ، ويرجّح رواية الثقات ، ويعتمد فى ذلك على النسخ الفذّة ، التى كتبها العلماء نفسهم بأيديهم ، أو التى

٤

كتبها ورّاقوهم المعروفون ، أو تلاميذهم المبرّزون ، وقرءوها عليهم ؛ وقد اجتمع للبكرىّ من الكتب ذوات الخطوط المنسوبة ، والأصول المضبوطة ، شىء كثير ، من كتب أبى على القالى التى دخل بها الأندلس ، ومؤلفاته التى عليها خطه أو سماع تلاميذه ؛ ومن كتب غيره من العلماء ، كالأصمعىّ ، رواية ابن أخيه عبد الرحمن ، أو أبى حاتم السجستانىّ ؛ ومن كتب أبى عبيد ، وابن دريد ، ونفطويه ، وابن السّكّيت ، والسّكونىّ والهمدانىّ ، والأحول والأثرم ، وغير هؤلاء من الأعلام الذين لا يوجد فى أيدينا من كتبهم الآن إلا النّزر اليسير.

وكان يعتمد فى الحديث على روايات الكتب الصّحاح ، وخاصة الموطّأ ، والبخارىّ ، وسنن أبى داود ؛ وينقل كثيرا من الأحاديث عن ابن وهب وابن القاسم من شيوخ المالكية.

وينقل عن ابن إسحاق صاحب السّيرة ، وعن أبى جعفر الطّبرى. ويصحح ما وقع فى كتب أولئك وهؤلاء من تحريف فى أعلام البلدان ، ويخرج من المغمعة منصورا فى أكثر الأحيان.

ومعجم البكرى قليل الحشو والفضول : ذلك أنه لم يكن مما يعنيه أن يذهب مذهب ياقوت ، فى قياس طول البلد وعرضه ودرجة حرارته ، وذكر مياهه ونباته وحيوانه ومشاهده وآثاره وأسواقه ، فإن كل هذا مما يتناوله البحث الجغرافى الخالص ؛ أما البكرىّ فقد حدّد غرضه فى مقدمته بأنه لغوىّ بحت ، يقوم على الضبط وتصحيح الأسماء أولا ، لا على جمع الأخبار ، ولذلك قلّ تعرّضه لكثير مما يتعرض له الجغرافىّ المتخصّص ؛ ولم يكن كذلك مما يعنيه أن يذكر العلماء الذين خرجوا من كل بلد ، مما أطال فيه ياقوت وأسهب ، وهو إن لم يخل من فائدة إلى الحشو أقرب ، لأن لمعرفة الرجال كتبا خاصة ، وقد عابه بذلك صاحب كتاب «مراصد الاطلاع ، على أسماء الأمكنة والبقاع» ، الذي اختصر معجم البلدان ، بعد حذف فضوله وحشوه ، فى نحو ثلث صحائفه.

وليس فى معجم البكرىّ ما يعاب به عند المشارقة ، سوى ترتيبه بترتيب حروف الهجاء عند المعاربة على هذا النحو : ا ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز ط ظ ك ل م ن ص ض ع غ ف ق س ش ه وى ولكن مما يعاب به عند جميع الناس أنه جعل ترتيب الكلمات فى كل باب على ترتيب الحرفين الأول والثانى الأصليين من الكلمة ، دون نظر إلى ترتيب ما بعدهما من

٥

الحروف. وإذا كان الحرف الثانى ألفا زائدة كألف صاحب وفاضل ، أهمله ولم ينظر إليه ، واعتبر الحرف الثانى ما بعد الألف ، وفى هذا ما فيه من العسر والتكلف. ولذلك يضطر الباحث عن كلمة فى حرف من الحروف أن يقلّب صفحات المعجم فى هذا الحرف ، حتى يعثر على ضالّته بالمصادفة ، لا بأن يطلبها فى موضعها الذي ينبغى أن تستقر فيه ، بحسب نظام الفهرسة الدقيقة لألفاظ المعاجم.

ولذلك كان من عملى فى هذا المعجم أن غيّرت وضع مادته ، ورتبتها على حسب ترتيب حروف الهجاء فى المشرق ، وعلى ما يقتضيه نظام الفهرسة الصحيح ، وذلك بترتيب حروفها بحسب صورتها ، لا بحسب جوهرها ومادتها ، فليس مما يعنى الباحث أن يكون الحرف أصليا أو زائدا ، وإنما يعنيه أن يكون موضع الكلمة التى فيها حرف الألف قبل موضع الكلمة التى فيها حرف الباء ، وهذه قبل التى فيها حرف التاء ، فى أى مكان وقع الحرف من الكلمة. كما يعنيه هذا الترتيب نفسه فى الأحرف التى بعد الحرفين الأوّلين ، وبهذا تأخذ الكلمات أوضاعا طبيعية مسلسلة ، تهتدى فيها العين إلى موضع البحث من المعجم بسرعة ، وبالنظرة العجلى والخاطفة ، دون كد الذهن فى قواعد الأصالة والزيادة ، أو الاعتماد على الفهارس والملاحق وما إليها ، فإن ذلك مما يصرف النفس عن الاستفادة من الكتاب إلى غيره مما هو أسهل منه وضعا. وكم رأيت من فضلاء الباحثين من يصرفه تعقيد كتاب القاموس المحيط للفيروزابادىّ ، عن الاستفادة من جواهره ولآلئه.

وعلى الرغم من هذا تلقى العلماء المسلمون قديما وحديثا معجم البكرىّ بالقبول ووثّفوا صاحبه ، ورفعوه مكانا عليّا ، فوق اللغويين وأصحاب المعاجم ، واعتمدوا عليه فى تحقيق المشكلات ، خصوصا علماء المغاربة والأندلسيين ، من المحدّثين والأخباريّين ، ومن أشهرهم القاضى عياض (٤٧٦ ـ ٥٤٤) فى مشارق الأنوار ، والسّهيلى (٥٠٨ ـ ٥٨١ ه‍) فى الرّوض الأنف ، فقد نقلا عنه كثيرا فى كتابيهما. أما أصحاب المعاجم اللغوية ، فمعجم البكرىّ كان عندهم أعظم أصولهم ، فى تحقيق أعلام البلدان العربية وضبطها ، وأكثر من انتفع به منهم الفيروزابادىّ (٧٢٩ ـ ٨١٧ ه‍) صاحب القاموس ، والزّبيدى (١١٤٥ ـ ١٢٠٥ ه‍) صاحب تاج العروس ، وشيخه محمد بن الطّيب الفاسى (١١١٠ ـ ١١٧٠ ه‍) صاحب الحاشية على القاموس ، وكثير غير هؤلاء.

٦

ومهما ذكرت المعاجم اللغوية من أسماء المواضع ، فقد بقى فى معجم البكرىّ بعد ذلك كثير من أعلام الأمكنة ، لم تحوه معاجم اللغة ، مع أنه من صميم المادة العربية ؛ ولذلك كان الكتاب ولا يزال مرجعا مستقلّا يقدره العلماء الباحثون حق قدره.

والعلماء المستشرقون من الغربيين ليسوا أقل تقديرا لهذا المعجم من المشارقة ، فقد أبان العلّامة دوزى الهولندىّ عن منزلة معجم البكرىّ فى كتابه : مباحث فى التاريخ السياسى والأدبى لأسبانيا فى العصور الوسطى (الجزء الأول ، الطبعة الأولى بليدن سنة ١٨٤٩ ص ٣٠٤ ، ٣٠٥) إذ يقول ما ملخصه :

«إن المعجم فريد فى بابه ، فليس لدينا كتاب يمكن أن يوازن به من ناحية السّعة ، أو من ناحية دقة التفاصيل ، فهو يحتوى على عدد ضخم من أسماء الأماكن والبلاد والجبال والأنهار والمياه ، مرتبة بترتيب الحروف الهجائية عند أهل المغرب ، مما يرد ذكره فى الروايات العربية القديمة ، وفى أحاديث الرسول ، وفى الشعر على الخصوص. والمؤلف ينبه على ضبطها وتحديد أماكنها ، ويقتبس كثيرا من الأشعار التى ورد ذكرها بها. ولا شىء أجلب للعناء ولا أحوج إلى الضبط ، من أسماء المواضع والأماكن التى ترد فى الشعر القديم. والكتاب يقدّم معونة لا تقدّر فى هذه السبيل ، ولا غنى عنه لكل من يدرس التاريخ والشعر القديمين ، والجغرافيا والوثائق التاريخية أو الشبيهة بالتاريخية.

وأقول أخيرا ما قلته أولا : إن هذا الكتاب فريد فى بابه ، إذ أن كل ما بقى لنا من هذا النوع ضئيل هزيل ، غير دقيق فى معظم الأحيان ، إذا ووزن بهذا الكتاب الجليل ، الملىء بالتفاصيل الشائقة الغريبة ، والذي ألفه مؤلفه مستعينا بأصول ممتازة ، تكاد تكون اليوم مفقودة.

ومؤلّفه أديب وجغرافى ، كان جديرا كل الجدارة بالقيام بهذه المهمة الشاقّة ، فإن غيره من الجغرافيين؟؟؟ يكدّسون الأخطاء فوق الأخطاء ، ويأتون بالمتناقضات بعد المتناقضات ؛ فإذا أخذت اسم مكان ورد فى قصيدة قديمة ، وحاولت البحث عنه فى أى كتاب ـ خلا «مراصد الاطلاع ، على أسماء الأمكنة والبقاع» فإنه فى هذا الباب فوق كل نقد ـ ونفرض أنك وجدت الاسم فيه ، وذلك نادر ، ووازنت بين ما يقوله ذلك الجغرافى فى كتابه ، وما يقوله البكرىّ ، فإنك تجد فى الغالب أن المعلومات التى يأتى بها الأول خطأ كلها ، أو قل : مختلطة

٧

مهوّشة ، على حين أن المعلومات التى يأتى بها البكرىّ صحيحة مفصّلة ، وواضحة ناصعة.

ويزيد فى قيمة هذا الكتاب مقدمته التى بيّن فيها المؤلف حدود بلاد العرب ، وأقسامها الجغرافية : تهامة والحجاز ونجدا واليمن ، كما تحدّث فيها عن القبائل العربية ، التى استقرت فى هذه الأقسام ، وأرخ تنقلاتها ووقائعها وأيامها».

أما المستشرق فردنند وستنفلد (١٨٠٨ ـ ١٨٩٩) صاحب الفضل على المكتبة العربية ، بما نشر من نفائسها وذخائرها ، مثل معجم البلدان لياقوت ، والسّيرة لابن هشام ، والاشتقاق لابن دريد ، وكثير غيرها من أمهات الكتب ، فقد انتفع بتقدير العلّامة دوزى للكتاب ، وأقبل عليه يدرسه ، ويستجلى محاسنه ، وأدهشته مقدمته ، فترجمها كلها إلى الألمانية ، وأنشأ على أساسها بحثا مهما فى أماكن القبائل العربية وتنقلاتها (وقد طبع كبحث مستخرج من المجلد الرابع عشر لأعمال الجمعية الملكية للعلوم سنة ١٨٦٩).

ثم اتجهت عنايته إلى نشر المعجم ، فراح يجمع له الوثائق ، ويقابل نسخته التى كتبها بالنسخ المفرقة فى مكتبات ليدن ، وكمبردج ، ولندن ، وميلان. واستخلص بالاعتماد على هذه النسخ الأربع صورة كتبها بخطه ، وأذاعها بمطبعة الحجر.Lithographe ، فى مجلدين كبيرين من القدر المتوسط ، بلغ مجموع صفحاتهما مع المقدمة والفهرس أكثر من ٩٠٠ صفحة ، صدر المجلد الأول منهما سنة ١٨٧٦ ، والثانى سنة ١٨٧٧ بجوتنجن من ألمانيا.

وقد بذل وستنفلد قصارى جهد العالم الضّليع ، فى الضبط والتحرّى ومقابلة النسخ ، والاستيثاق من الأصول. وأضاف إلى الكتاب فهرسة شاملة للمواضع التى وردت قصدا فى أماكنها ، وعرضا فى غير أماكنها مرتبة على حروف الهجاء بطريقة أهل المشرق ، بلغت سبعا وخمسين صفحة ، ومقدمتين للجزأين فى اثنتى عشرة صفحة ، وسلخ فى كل ذلك زمنا طويلا ، بل عمرا مديدا.

لكن النسخ التى اعتمد عليها العلامة وستنفلد ، كما وصفها فى مقدمة الجزء الأول ليست مستوية فى درجة الصحة ، ولا فى استيعاب المادّة وقلما خلت من اضطراب ، كأكثر النسخ الموجودة فى العالم من هذا الكتاب.

ولذلك وقع فى مطبوعته شىء كثير من التصحيف والتحريف ، والزيادة والنقص ، يعذر الناشر فى أكثره ، لأنه مطابق لما بيده من النسخ الأربع. ولعله إنما نشره بمطبعة

٨

الحجر ، وأغفل مقابلات النسخ ، لأنه اعتبرها طبعة مؤقتة يستفيد منها العلماء فى بحوثهم فائدة سريعة ، إلى أن يحصل على أصول أخرى غير تلك ، أتم ضبطا ، وأوضح خطا ، وأكثر تفصيلا ، تعين على نشر الكتاب وإذاعته فى طبعة بمطبعة الحروف ، كما فعل فى معجم البلدان والسيرة والاشتقاق وغيرها. هذا إلى أنه أبقى المعجم على ترتيبه الذي وضعه عليه المؤلف ، وهو وضع غير مألوف عند المشارقة ، لاختلاف ترتيب الحروف الهجائية فى المغرب ، عنها فى المشرق. ولذلك كان مصدر عناء للباحثين فى طبعة جوتنجن من المشارقة ، فلم يقبل عليه إلا الأقلّون ، برغم أن الناشر قد أضاف إليه فهرسة على ترتيب أهل المشرق للحروف.

وقد حفزنى الإعجاب بمعجم البكرىّ ، أن أبحث إبّان الحرب ، عما يوجد من مخطوطاته بمصر ، فتتبعت فهارسها بجامعة فؤاد الأول ، ودار الكتب المصرية ، وخزانة الأزهر ، وغيرها ، فعثرت على ثلاث نسخ منه ، اثنتين بدار الكتب ، ونسخة بالأزهر ، وكلها يمتاز بحظ موفور من الضبط ، والوضوح ، وجمال الخط ، وإن لم تستو فى استيفاء المادة ، فأقبلت عليها بحثا ودرسا ، ومقابلة وموازنة ، إلى أن وضح لى أنها فى مجموعها أقدم زمنا وأحسن ضبطا ، وأتم تفصيلا ، من النسخ التى عثر عليها العلامة وستنفلد ، وأنه يمكن أن ينتفع بها كلها فى تصحيح الكتاب ، وإخراج صورة صحيحة منه.

ولما كانت لجنة التأليف والترجمة والنشر معنيّة بنشر نفائس المخطوطات والكتب ، عرضت أمر هذا المعجم على حضرة رئيسها صاحب العزة العالم الجليل الأستاذ أحمد أمين بك ، فوافقنى على إعادة نشره ، مطابقا للأصول المصرية المحفوظة عندنا بمصر ، وعهد إلىّ فى القيام بتحقيق الكتاب وترتيبه ، على أن تتكفّل اللجنة بنفقات طبعه فى مطبعتها.

وها نحن أولاء جميعا نقدم هذا الجزء الأول من المعجم إلى روّاد البحث عن المصادر العربية العتيقة ، يختال فى أبراده ووشيه ، وحلله ورقمه ، من الورق الأبيض الناصع ، الذي طال عهد الناس بفقده ، ومن الحروف العربية الجميلة ، فوق الذي بذلناه فيه من تحقيق وتصحيح ، لا تراهما إلا العين المجردة من الهوى ، مما اقتضى منا كثيرا من الجهد المضنى ، والعناء الذي لا يقوم به إلا الصبر الجميل.

٩

الأصول المخطوطة التى اعتمدت لطبع هذا المعجم

أما الأصول المخطوطة التى اعتمدت عليها فى إخراج الكتاب وتحقيقه فثلاثة :

الأصل الأول : النسخة المرموز لها بالحرف س ، وهى محفوظة بدار الكتب المصرية ، ورقمها ٤٠٤ جغرافيا ، مجلد واحد ، من أول الكتاب إلى آخر حرف الحاء ، وخطها أندلسى جميل ، وورقها كتّانى ثخين ، أبيض مشرب صفرة ، تخف على الهوامش ، وتشتد تحت السطور المكتوبة ، ويكاد يكون لون الورق تحت المداد بنيّا ، وقد آذنت هذه النسخة بالزوال ، لكثرة ما بها من تقطيع وترقيع ، وهى لا تحتمل تقليب الأيدى ، لشدة جفاف ورقها وتكسره ؛ وتحسن دار الكتب صنعا بأن تصورها ، وتحفظ أصلها فى حجرة المعرض ، لقدمها وجمال خطها.

عدد صفحات هذا المجلد ٢٩٤ صفحة. ويؤخذ من قدر مادّته ، ومن عبارة الصفدىّ التى على وجهه أنه كان يتبعه سفران آخران ، إلا أنه اليوم أصبح فريدا وحيدا.أما المجلدن الآخران اللذان أضيفا إليه لتكملة النسخة ، وكتب عليهما الرقم الذي على السفر الأول (٤٠٤) فليسا من هذه النسخة فى قليل ولا كثير ، وإنما هما بقية من نسخة أخرى ، سنصفها بعد هذه ، ونثبت خطأ دار الكتب فى ظنها ، بأدلة فنية ومادية لا تحتمل جدلا.

طول صحيفة هذا المجلد ٢٧ سنتيمترا ، وعرضها ٢٠ وطول مسطرتها؟؟؟ ٢ / ١ ١٩ سنتيمترا ، وعرضها ١٣ وعدد سطورها ٢٥ وعدد كلمات كل سطر فى المتوسط ١٤ كلمة ، وتتميز كلمات المعجم وأسماء الشعراء بخط كبير جهير ، بقلم الكاتب نفسه ، وبالمداد الأسود الذي كتب به المتن.

وبأعلى الصفحة الأولى من الكتاب بخط كبير هاتان الكلمتان :

وقف الخاصية

وتحته بخط أندلسى كبير :

السفر الأول من كتاب

وتحت ذلك بنفس الخط :

معجم ما استعجم تأليف أبى عبيد

وتحت ذلك بخط صغير :

عبد الله بن عبد العزيز بن محمد البكرىّ

وتحته :

رحمه الله ، وغفر له

١٠

وتحت ذلك هذه العبارة التى تتضمن تاريخ النسخ ومكانه ، وهى :

«استنسخ بمدينة سبته حرسها الله ، من كتاب الفقيه ........... للفقيه الأجل الأكرم الأفضل أبى محمد عبد الله بن الشيخ المرحوم أبى الطيب عبد المنعم ابن عبد النور ، رحمهم الله ، ونفع به مالكه.

وكان الفراغ منه يوم الخميس التاسع عشر من رجب الفرد عام عشرة وستمائة.

ونلاحظ هنا أن يدا أثيمة قد امتدت إلى اسم الفقيه مالك النسخة التى هى أصل لنسختنا هذه ، فمحته ، وصار محله خلوا بقدر سطر.

وتحت ذلك قريبا من وسط الصفحة ، كتبت هذه العبارة. بخط الرقعة الجميل الحديث:«مستخرج من دشت المؤيد ومضاف فى ١٤ ديسمبر سنة ١٨٩١ نمرة ٧١ بوصية نمرة خصوصية : ١٨٣ لغة نمرة عمومية : ٢٥٥١٥

ويلى ذلك حروف الهجاء عند المغاربة ، وهى التى رتب عليها المعجم ، ولعلها بخط الكاتب ومداده.

وفى أسفل الصفحة من جهة اليمين كتابة جانبية نصها : «هو وما بعده من كتب خليل بن أيبك الصفدىّ». والعبارة بخط بارع فى الجمال ، من خط عصر المماليك ، ويظهر لى أنها خط الصفدىّ نفسه ، وهى تشبه تعليقات كثيرة ، وطررا مكتوبة بهذا القلم البارع ، مبثوثة على هوامش الكتاب وجوانبه.

وفى اعتدال صفحة الكتاب إلى جانب عبارة الصفدىّ ، نحو خمسة أسطر بخط ديوانىّ مصرىّ متأخر ، بين النسخىّ والرّقعة ، قد محيت ، وبقيت معالمها غير واضحة ، وفيها بقية من اسم المرحوم على مبارك باشا ، أحد الوزراء السابقين فى عصر إسماعيل وتوفيق. ولعل هذه العبارة تتضمن محضرا وإشهادا بالعثور على هذه النسخة بجامع المؤيذ ، واستنقاذها من الدشت ، حينما كان على مبارك باشا وزيرا للأوقاف والأشغال ، وله إشراف على المساجد وما تحويه خزائنها من الكتب ، ولعل على مبارك باشا تملّك هذه النسخة حقبة من الزمن ، ثم أعادها إلى دار الكتب لتحفظ فيها. وقد محيت هذه العبارة ، واكتفوا بأن كتب بدلها فى وسط الصفحة بالمداد البنفسجىّ ، العبارة : مستخرج من دشت ....... التى ذكرناها آنفا.

١١

وخط الصفدىّ على نسخة هذا السفر هو الشهادة التاريخية التى لا تقبل الجرح ، بأن هذا السفر من كتاب معجم ما استعجم لأبى عبيد البكرى.

ذلك إلى أننا نجد فى الجانب الأيسر من الكتاب بجانب كلمة أبى عبيد ، اسم محمد بن شيخ السّلامية الحنبلى ، بخط مملوكى جهير جميل ، وهذا من شيوخ العلم الذين تزكّى شهادتهم شهادة الصفدى ، ولعله أحد من تملكها.

وفى الزاوية اليسرى العليا شهادة أخرى بأن هذه النسخة اعتمدت للمقابلة والتصحيح ، ونصها : قابل به ، وصحح عليه ، على بن ... [وذهبت بقية الاسم عند التجليد] عفا الله عنه ، ولطف به. غفر الله سبحانه لصاحبه.

وعلى هوامش هذه النسخة من الداخل إضافات بعضها بخط الناسخ نفسه ، تكملة لنقص فاته من نفس الأصل ، أو إثباتا لمقابلة بأصل آخر ، وهى كثيرة جدا ، وكثير منها بخط العلامة الصفدىّ ، كإضافة رسم «إصمت». وبعض هذه الإضافات استدراكات على المؤلف ، لأنه ترك شيئا كان حقه أن يذكره ، أو تصويب نسبة شعر إلى قائله ، أو نحو ذلك مما نراه مبثوثا على الهوامش.

والنسخة فى جملتها صحيحة ، وخطها واضح جميل ، إلا أنها لا تخلو من خطأ ، برغم الاستدراكات والمقابلات المثبتة عليها ؛ وكثيرا ما تتفق هذه النسخة هى ونسخة جوتنجن ج التى نشرها المستشرق وستنفلد ، فى صوابها وخطئها ، كما يستفاد من تعليقاتى المثبتة فى ذيول الصفحات ، وأظن أن الأصل الذي كتبت عنه نسخة س كان أصلا لبعض النسخ الأوربية التى اعتمدت لطبع النسخة ج.

وقد جعلنا هذه النسخة هى الأم الأولى ، التى يدور عليها محور المضاهاة والمقابلة للجزء الأول من المعجم ، ورمزنا لها بالحرف س ، إشارة إلى المدينة التى كتبت فيها ، وهى سبتة.

وليس معنى كونها أصلا أول أننى أتمسك بلفظها حتى إذا ثبت كونه خطأ ، بل أعتمد اللفظ الصحيح فى المتن من أية نسخة ، وأثبت نتيجة المقابلة فى الهوامش.

الأصل الثانى : النسخة ق. وهى مؤلفة من ثلاثة أجزاء ، كتب أولها فى مدينة القاهرة بخط نسخى جميل ، من عصر الأتراك العثمانيين ، على ورق كتانى أبيض ، ناصع مصقول ، رقيق ليّن. وهو محفوظ بدار الكتب المصرية ، ورقمة ٥٥٤ جغرافيا.

١٢

وهذا الجزء يبتدئ من أول الكتاب ، وينتهى فى رسم (خاخ) من كتاب حرف الخاء ، عند قول الشاعر :

لأبصر أحياء بخاخ تضمنت

منازلهم منها التّلاع الدوافع

وبعد ذلك فى أول الجزء الثانى : «وقال على بن أبى طالب». وهو فى قياس نسخة س طولا وعرضا وكتابة ، إلا أن مسطرته واحد وعشرون فى كل صفحة. كما أنه خلو من تاريخ النسخ ، واسم الناسخ ، وليس عليه مقابلات نسخ ، ولا تصحيحات أو استدراكات ، إلا شيئا نادرا جدا ، بخط الناسخ.

وعلى الصفحة الأولى منه بخط الشيخ أحمد الدمنهورى ، من علماء الأزهر المتأخرين ، تحت اسم الكتاب ، هذه العبارة : «وقف هذا الكتاب الأمير عبد الرحمن جاويش قصدغلى ، على طلبة العلم بالأزهر ، وجعل مقرّه خزانة كاتبه الحقير أحمد الدمنهورىّ ، عفى عنه». ويلى ذلك حروف الهجاء مرتبة على طريقة المغاربة ، كمفتاح للبحث فى المعجم.

ويظهر أن هذه النسخة قبل أن تجلد كانت كراريس (ملازم) غير مخيطة ، ولذلك التزم الشيخ الدمنهورى أن يكتب فى رأس أول صفحة من كل كراسة بخطه ، هذه العبارة : «وقف بخزانة الدمنهورى بالأزهر».

وهذا الجزء أصح كثيرا من النسخة س ويمتاز بأن الإضافات والتصحيحات التى على هامش س كلها موجودة فى صلب هذا الجزء ، بخط الناسخ. ومن أمثلة ذلك أن الإضافة التى زادها المؤلف على رسم البقيع ، وهى التى توجد على هامش النسختين س ، ز ، وتخلو منها نسخة ج ، قد تضمنها هذا الجزء فى صلبه لا فى هامشه. فيظهر أن هذا الجزء منقول عن نسخة مصححة غاية التصحيح ، مضبوطة أكمل الضبط ؛ ومع ذلك قد وقع فيه أخطاء قليلة ، ولعلها كلها من اشتباه الأصل المنقول عنه على الناسخ ، فلم يحسن قراءته.

وفى هذا الجزء من نسخة ق خرم مقداره ورقة من وجهين ، بين صفحتى ٢٧٦ ، ٢٧٩ من أول قول المؤلف فى رسم «الجعرّانة» : الحجازيون يخففون. إلى أول قول ابن مقبل : «ومرت على أكناف هبر عشية». ومقدار ذلك فى نسخة س خمسة وأربعون سطرا.

١٣

ولا بد هنا من الإشارة إلى أن معظم الخطأ الذي يقع فى نسخ هذا الكتاب ، سببه الخط المغربىّ ، الذي تشتبه قراءته كثيرا على المشارقة ، ومن أسباب شيوع الخطأ فى الخط المغربى نقط حرف الفاء بواحدة من تحت ، والقاف بواحدة من فوق ؛ وأن المغاربة لا يهمزون ما يهمزه المشارقة ، وكثيرا ما يكتبون الضاد ظاء ، والظاء ضادا ، مما يوقع القارئ فى كثير من اللبس والخطأ ، إلا من اعتاد قراءة خطوطهم.

ومن مزايا هذا الجزء أن الكلمات التى تشرح كتبت بخط أكبر من كلمات المتن ، وبمداد أحمر ، وليس كذلك أسماء الشعراء فيه.

أما الجزءان المتممان لهذا الجزء ، فمكتوبان بخط مغربىّ ، قريب من خط النسخة س وهما فى طولها وعرضها ونظامها ، ولذلك اشتبه أمرهما على لمفهرسين فى دار الكتب قديما ، فضموهما إلى النسخة س ، وجعلوهما متممين لها ، وكتبوا عليهما الرقم ٤٠٤ جغرافيا ، واعتقدت أنا ذلك حينا ، ولكن بطول التأمل فى النسختين ، ظهرت لى فروق بينهما ، وأن كلا منهما أصل غير الآخر.

١ ـ فمها لاح لى من الفروق بينهما الخط ، والخط أمر فنّى ذوقىّ ، تدركه العين ، ولا يحيط بمداه الوصف. ومع تشابه النسختين خطا إلى حد كبير ، فإنى أقرر أن اليد التى كتبت إحداهما غير اليد التى كتبت الأخرى ؛ ولست فى ذلك خابطا فى الظلام ، لأنى أكتب الخط الجيد ، وأستطيع أن أميز أقلام الكتاب ، وذوق العصور.

٢ ـ وفرق آخر أدق من هذا وأوضح ، وهو أن الكاتب لم يجر فى هذين الجزءين على عرف المغاربة ، الذي جرت عليه س فى نقط الفاء والقاف ، وإنما نقطهما كما يفعل المشارقة. وهذا فرق جوهرى لا مرية فيه.

٣ ـ وفرق ثالث من حيث الورق ، فورق النسخة س كما قلت كتانى ثخين جافّ غير مصقول ، ولونه إلى الصفرة. أما هذان الجزءان من نسخة ق فورقهما أبيض وإن كان غير ناصع البياض ، تعلوه حمرة أحيانا ، وفيه قوة وصقل أكثر من ورق س.

٤ ـ وفرق رابع من حيث التملّك ، فالنسخة س كما قلت فى وصفها كانت من كتب الشيخ الجليل خليل بن أيبك الصفدىّ ، وكان بعض مكتبته قد استقر بجامع المؤيّد بالقاهرة. أما الجزءان الثانى والثالث من نسخة ق فقد كانا فى يد الأمير عبد الرحمن

١٤

قصدغلى ، ووقفهما على طلبة العلم بالأزهر ، وجعل مقرهما خزانة العالم الأزهرىّ الشيخ أحمد الدمنهورى ، وكتب على كل كراسة فى الورقة الأولى منها : وقف على طلبة العلم بالأزهر. وهذه العبارات كلها موجودة على الأجزاء الثلاثة من النسخة ق.

٥ ـ وفرق خامس ، وهو اختلاف تاريخ النسخ ؛ فقد جاء فى آخر الجزء الثالث من نسخة ق ما نصه : كتبه الفقير إلى رحمة ربه ، المستغفر من زلله وذنبه ، على بن عبد الله بن مسعود القارى ، غفر الله له ولوالديه ، ولمن دعا لهم بالرحمة ، ولجميع المسلمين.

وكان الفراغ منه يوم الأحد سابع عشرين رجب من سنة ثنتين وستين وستمائة».

فبين كتابة الجزء الأول من النسخة س وكتابة الجزءين الأخيرين من نسخة ق أكثر من خمسين عاما.

٦ ـ وفرق سادس ، وهو أن نهاية الجزء الأول من س بآخر حرف الحاء لا تتفق مع بدء الجزء الثانى من ق فى وسط رسم (خاخ). وهذا أيضا دليل مادى لا تجحد قيمته.

٧ ـ وفرق سابع من حيث عدد الأسطر ، فمسطرة س ٢٥ سطرا ، ومسطرة هذين الجزءين ٢١ سطرا ، كمسطرة الجزء الأول.

أما من حيث الصحة والضبط ، فيظهر أن هذين الجزءين فى درجة النسخة س ؛ فعلى هوامشهما كثير من الإضافات والطّرر ومقابلات النسخ ، بأقلام مختلفة ، بعضها مغربى ، وبعضها بخط نسخى جميل أشبه بخط الشيخ خليل الصفدى وليس به.

الأصل الثالث : النسخة ز ، وهى محفوظة بخزانة الأزهر ، ورقمها ٢٢٣ تاريخ. وليست نسخة كاملة ، وكانت مقسمة إلى أربعة أجزاء ، ضاع معظمها وبقى أقلها.

بقى من الجزء الأول ٥٢ ورقة من آخره ، تبتدىء بقول المؤلف : (والريحان ، فقال عمر) وهذه العبارة فى رسم «أذرعات» أول صفحة ١٣٢ من مطبوعتنا هذه ، وينتهى بآخر هذا الجزء.

وبقى الجزء الثانى كله ، وعدد ورقاته ٧٨ تبتدىء من حرف الجيم إلى آخر حرف الزاى. وهذه النهاية تتفق مع نهاية الجزء الأول من نسخة ج ، التى هى فى مجلدين كبيرين.

وبآخر هذا الجزء العبارة الآتية بخط الناسخ : «تم السفر الثانى من المعجم للبكرى رحمه الله تعالى ، وصلى الله على محمد رسوله المصطفى وعبده».

١٥

وكتب محمد بن خلف فى شوال سنة ست وتسعين وخمسمائة».

وهذه النسخة أقدم النسخ التى بأيدينا ، ولعلها أقدم النسخ الباقية من الكتاب ، بين كتابتها ووفاة المؤلف نحو مئة سنة وعشر. وعلى هامشها ما يفيد أنها قوبلت بأصل بخط المؤلف. وهى بخط أندلسى غاية فى الجمال ، شبيه فى قاعدته بخط النسخة س ، إلا أنه أدق منه وأجمل ؛ وورقها أيضا شبيه بورق النسخة س ، فيه صفرة تشتد فى مواضع الكتابة جدا ، حتى تكون بنّيّة ، يغيب فى لونها سواد المداد ، وعليها تعليقات بخطوط مختلفة مغربية ، ومسطرتها سبعة وعشرون سطرا فى كل صفحة. وهى الغاية فى الصحة والضبط والوضوح ، ولو كانت كاملة لفاقت جميع الأصول الموجودة من هذا الكتاب فى العالم.

وقد تطرّق إليها البلى والوهن ، وصارت صحائف مفككة ، أشبه بالألواح. ويجمل أن تعنى إدارة خزانة الأزهر بتصويرها ، لتحفظ هذه البقية من عاديات الأيام.

أما نتائج مقارنات النسخ الثلاث (س ، ق ، ز) فيما بينها ، ثم مقارنتها بنسخة ج المطبوعة فى جوتنجن بألمانيا ، فقد فصلتها فى الحواشى أسفل الصفحات ، فعلى من يريد البحث فى مزايا كل نسخة أن يراجع ما أثبته من ذلك.

ولم أشأ أن أخرج النسخة ج المطبوعة فى جوتنجن بألمانيا من حسابى فى المقابلة والمضاهاة ، بل قارنت بينها وبين نسخنا المخطوطة ، لأدل الباحث على مزايا النسخ جميعا ، وفى ذلك فائدة أيضا لمن شاء من الأوربيين أن يقارن مخطوطات أوربة بمخطوطات المشرق.

بقيت مسألة واحدة تحتاج إلى التفسير ؛ فما سر اختلاف النسخ بالزيادة والنقص ، وهذا أمر يظهر أنه ليس للناسخين دخل فيه؟

والجواب عن ذلك هين ميسور ، وقد أجاب عنه العلامة وستنفلد من قبل فى مقدمته لمطبوعته. ذلك أن البكرى كتب المعجم أولا ، ثم أذاعه وتهاداه الناس والرؤساء ، كما بيناه فى موضعه ، ثم ردد النظر فى المعجم متصفّحا منقّحا ، فبداله فيه أشياء لم يفطن لها أول الأمر ، فأصلحها على هامش بعض النسخ ، أو كما يقول العلامة وستنفلد فى أوراق وجزازات ، وألحقها بمواضعها من الكتاب ، ثم جاء الناسخون بنقلون الكتاب ، فبعضهم عثر على نسخة منه قبل التنقيح ، فنقلها ناقصة ؛ وآخر عثر على نسخة منه منقحة

١٦

فنقلها كاملة ، وبعضهم نقل الجزازات كلها ، وبعضهم وجدها ناقصة ؛ فاختلفت نسخ الكتاب فى أيدى الناس. وهذا أمر عهدنا مثله فى مقدمة ابن خلدون ، وفى دواوين كثير من الشعراء.

وقد نبهت على هذا تنبيها واضحا جدا فى هذا الكتاب فى رسم البقيع ، إذ كان المؤلف قد خلط أولا بين البقيع والنقيع ، ثم بدا له ، ففصل البقيع عن النقيع ، بضميمة ضمها إلى الأصل فى البقيع ، فاقرأ ذلك فى الصفحات ٢٦٦ ، ٢٦٧ ، ٢٦٨.

وللزيادات التى على هوامش النسخ احتمال آخر : أن يكون بعضها من إضافة الذين قرءوا الكتاب من العلماء ، ولم ينبهوا على أن ذلك زيادة من عندهم ؛ فيشتبه أمرها على الناسخين ، فينقلوا هذه الزيادات فى المتن ، على أنها من تتمة كلام المؤلف. وهذا نادر الحصول فى معجم البكرىّ ، ومن أمثلته أن المؤلف حين ينسب الشعر إلى النابغة الذبيانىّ يقول : قال النابغة ، ولا يزيد على ذلك ، وهذا ملحوظ عندنا فى النسخ الثلاث المخطوطة ، أما نسخة ج فتزيد دائما كلمة «الذبيانى» بعد النابغة ، وأظنها من زيادات القارئين.

وقد رأيت مثل هذه الزيادات التى يدخلها الناسخون على المتون الأصلية ، فى نسخة شرح التبريزى لسقط الزند ، المحفوظة بدار الكتب المصرية برقم (١٤٣٤).

ولم أكتف فى تحقيق هذا الكتاب بمقابلة النسخ وإثبات صور الخلاف والاتفاق بينها ، ولكنى عرضت مادة المعجم عرضا دقيقا على المصادر التى أخذ منها المؤلف إن وجدت ، ككتب الأشعار والأحاديث والتواريخ ؛ وعلى مصادر أخرى لم يأخذ منها المؤلف ، ولكنها تشاركه فى موضوع بحثه ، كمعاجم اللغة ومعاجم البلدان ، وقد خرجت من هذا العرض الشاق بفوائد كثيرة ، استدراكا على المؤلف فى أمور أخطأ فيها ، ويستطيع الباحث أن يقرأ ما كتبناه من ذلك فى رسم البقيع مثلا ، وفى رسم البوازيح ، وفى رسم ثور ، وفى كثير غير هذه ، مما يراه مبثوثا فى ذيول الصفحات.

وسألحق بآخر الكتاب عند تمامه ، الفهارس التى أراها مكملة له ، ميسّرة للبحث عن فوائده ، مفصّلة لأغراضه ومقاصده.

١٧

التعريف بمؤلف الكتاب

أما مؤلف هذا الكتاب فهو أبو عبيد عبد الله بن أبى مصعب عبد العزيز بن أبى زيد محمد بن أيوب بن عمرو البكرىّ. من بكر بن وائل صليبة. وهو لغوى من الطّراز الأول فى الأفق الأندلسىّ ، تحدثنا مؤلفاته النادرة أنه امتاز على أهل عصره بثقافته اللغوية العالية ، كما يحدثنا أصحاب التراجم بأن أسلافه كانوا من بيت السراوة والشرف والرياسة ، وأرباب النعم ؛ استمدوا الشرف من صريح أنسابهم فى بلاد العجمة ، كما استمدوه من ماضيهم الحربى فى فتح الجزيرة ، وشغل المناصب العالية فى الدولة ، فتحدثنا كتب التراجم أن جده أيوب بن عمرو تولى خطة الرد بقرطبة زمن الدولة الأموية ، والقضاء ببلده لبلة. والقضاء كان من المناصب التى يحتكرها علية الناس وسرواتهم فى الأندلس. فلما انتثر عقد دولة الأمويين ، تغلب ملوك الطوائف على ما بأيديهم من البلاد ، واستقل البكريون بأونبة (ولبة) وشلطيش وما بينهما من البلاد فى كورة لبلة ، على ساحل البحر المحيط ، غربى إشبيلية ، وقعدوا منها مقعد أكابر الأمراء ، من الخروج عن الطاعة ، والاستبداد عن الجماعة. ودامت إمرة البكريين فى تلك الناحية نحو أربعين سنة ، انتهت تغلب المعتضد عبّاد بن محمد صاحب إشبيلية سنة ٤٤٣ على ما جاوره من البلاد والإمارات الصغيرة. وكان آخر البكريين حكما بأونبة أبو مصعب عبد العزيز ، والد أبى عبيد صاحب المعجم ، فخرج هو وآله منها ، ونزلوا قرطبة فى كنف بن جهور.

ولم تصرح كتب التراجم بالسنة التى ولد فيها أبو عبيد ، وإنما ذكرت وفاته سنة ٤٨٧ ه‍ عن سن عالية ، كما يشهد بذلك كلام الفتح بين خاقان فى القلائد.

وقد ذكروا من أساتذته أربعة من جلّة علماء الأندلس : أبا مروان بن حيّان صاحب التاريخ المشهور ، وأبا بكر المصحفى ، وأبا العباس العذرى ، وأبا عمر يوسف بن عبد البر النّمرى ، حافظ الأندلس ، ومحدثها الأكبر ؛ تذكر كتب التراجم أنه أجاز أبو عبيد ، ولعله ناوله كتبه ومرويّاته ، وهى كثيرة ، ولكن البكرى لم يأخذ عنه ، ولم يسمع منه وإن كان بعض الباحثين قد فهم من الإجازة أنه تلمذ له.

ولم تذكر التراجم غير من ذكرنا من شيوخه. أما أنا فأرى البكرىّ من ثمرات ذلك العراس الأدبى واللغوى ، الذي غرسه أبو على القالى فى إقليم الأندلس. فقد تخرج

١٨

بكتب أبى علىّ التى ألفها ، والتى حملها من الشرق ، من مخطوطات منسوبة ، مقروءة على مؤلفيها ، مضبوطة أتم الضبط ، ومصححة غاية التصحيح ، بسماع أبى علىّ ، أو بروايته عن شيخة العراق ، من أمثال ابن دريد أو أبى عبيد ، أو نفطوبه أو ابن السكيت أو الأصمعىّ أو غير هؤلاء من أئمة اللغة ، وليس من المجازفة أن أقول اعتمادا على المعجم وعلى اللآلئ : إن البكرى ورث وقرأ كثيرا من كتب القالىّ ، التى عليها خطه أو خطوط أصحابه. بلى ، قد تمرّس البكرى بتواليف القالىّ تمرّسا ، وفلاها فليا ، واستطاع بثقافته الممتازة أن يشرحها ، ويستدرك عليها ، وينقدها نقد الصيرفىّ للدراهم ؛ وتلك منزلة عالية فى الإحاطة باللغة والشعر والتاريخ والأنساب ، عرفها له أهل عصره ومترجموه ، فوصفوه بالتقدم فى فنونه ، ورواج تواليفه ، حتى كانت تتهاداها الملوك فى عصره.

وللبكرىّ مؤلفات كثيرة ، أشهرها هذا المعجم ، وكتاب اللآلى ، فى شرح أمالى القالى الذي نشره الأستاذ عبد العزيز الميمنى الراجكوتى ، نشرة علمية مصححة محققة ، بمطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر سنة ١٣٥٤ ه‍ ١٩٣٦ م.

ومنها كتاب الإحصاء لطبقات الشعراء ، وهو مثل المؤتلف والمختلف من أسماء الشعراء للآمدى ، إلا أنه أكبر منه. وكتاب اشتقاق الأسماء. وكتاب أعلام نبوّة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وكتاب التدريب والتهذيب ، فى ضروب أحوال الحروب. وكتاب التنبيه ، على أغلاط أبى على فى أماليه ، وقد طبع ملحقا بكتاب أمالى القالى. وكتاب صلة المفصول ، فى شرح أبيات الغريب المصنف. وكتاب فصل المقال ، فى شرح كتاب الأمثال. وكتاب المسالك والممالك ، وقد طبع منه البارون دى سلين قطعة باسم كتاب المغرب ، فى ذكر بلاد إفريقية والمغرب ، بالجزائر سنة ١٨٥٧ م. وكتاب النبات ، أو أعيان النبات والشجريات الأندلسية.

وهذه الكتب كلها قد ذكرها الميمنى فى مقدمة سمط اللآلى. وذكر بعضها السيوطى فى بغية الوعاة. وابن بشكوال فى الصلة ، وأكثرها لم يطبع.

وكان البكرىّ معنيا بكتبه ، يكتبها بالخط الجيد ، ويجلدها التجليد النفيس ، وكان الملوك والرؤساء يتنافسون فى اقتنائها ، ويتهادونها فى حياته.

ومما جاء فى كتاب الصلة لابن بشكوال (المتوفى سنة ٥٧٨ ه‍) فى التعريف به :

١٩

«عبد الله بن عبد العزيز بن محمد البكرى ، من أهل شلطيش ، سكن قرطبة ، يكني أبا عبيد. روى عن أبى مروان بن حيّان ، وأبى بكر المصحفى ، وأبى العباس العذرى ، سمع منه بالمريّة ؛ وأجاز له أبو عمر بن عبد البرّ الحافظ غيرهم.

وكان من أهل اللغة والآداب الواسعة ، والمعرفة بمعانى الأشعار والغريب والأنساب والأخبار ، متقنا لما قيده ، ضابطا لما كتبه ، جميل الكتب ، متهما بها ، كان يمسكها فى سبائب الشرب وغيرها ، إكراما لها وصيانة. وجمع كتابا فى أعلام نبوة نبينا عليه السلام ، أخذه الناس عنه ، إلى غير ذلك من تواليفه. وتوفى رحمه الله فى شوال سنة سبع وثمانين وأربع مئة ، ودفن بمقبرة أم سلمة».

وحلّاه الفتح ابن خاقان المتوفّى سنة ٥٣٥ ه‍ فى القلائد بقوله :

«عالم الأوان ومصنّفه ، ومقرّط البيان ومشنّفه ، بتواليف كأنها الخرائد ، وتصانيف أبهى من القلائد ، حلّى بها من الزمان عاطلا ، وأرسل بها غمام الإحسان هاطلا ، ووضعها فى فنون مختلفة وأنواع ، وأقطعها ما شاء من إتقان وإبداع. وأما الآدب فهو كان منتهاه ، ومحل سهاه ، وقطب مداره ، وفلك تمامه وإبداره. وكان كل ملك من ملوك الأندلس يتهاداه ، تهادىّ المقل للكرى ، والآذان للبشرى .... إلى آخر ما قاله».

ومن قول ابن بسّام الشّنترينى (المتوفى سنة ٥٤٢) فى الذخيرة يصف المؤلف :

ومنهم الوزير أبو عبيد البكرى ، وكان بأفقنا آخر علماء الجزيرة بالزمان ، وأولهم بالبراعة والإحسان ، أبرعهم فى العلوم طلقا ، وأنصعهم فى المنظور والمنثور أنقا ، كأنّ العرب استخلفته على لسانها ، والأيام ولّته زمام حدثانها ، ولو لا تأخر ولادته ، لأنسى ذكر كنّيه المتقدم الأوان : ذرب لسان ، وبراعة إتقان ...... إلى آخر ما قال».

كان أبو عبيد البكرى كاتبا ، ولعله قد كتب عن محمد بن معن الصمادحىّ صاحب المريّة ، الذي اصطفاه وقربه ، ورفع مرتبته ، ووسع راتبه ، ولذلك كان يلقب بالوزير جرى بذلك قلم ابن بسام فى الذخيرة ، بل لقبه الضّبىّ فى البغية بذى الوزارتين ، وقال الصفدىّ فى الوافى : إنه كان أميرا بساحل كورة ليلة ، وصاحب جزيرة شلطيش.

وفى رأيى أنه لقّب بالوزير لأنه وزر لأبيه ، أو لمصاحبته الملوك ، وإن لم يكن وزيرا على الحقيقة ، على ما جرى به العرف الأندلسى. والناس كانوا ولا يزالون يتوسعون فى

٢٠