تأسيس الغرب الإسلامي

المؤلف:

هشام جعيط


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الطليعة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦٢

جديدا كبير الأهمية في تاريخ الفتح. على خلاف بلدان المشرق ، وجد هنا تدخّل عسكري للأهالي قوي ، ولكنه في أغلب الأحيان بالتعاون مع «السيّد» البيزنطي.

لتوضيح مشكل المقاومة البربرية ، لا بدّ من ملاحظة أنّ العرب ما داموا ينحصرون في غزوهم على النهب وعلى إخماد الفتن بمنطقة طرابلس وإفريقية بحصر المعنى ، لم تكن توجد تقريبا قلاقل من الجانب البربري.

فقبائل الجنوب كلواتة وهوّارة ونفوسة ، لم تحرّك ساكنا بالرغم من نهب بلاد الجريد ، ورغم فرض جباية ثقيلة على لواتة ، وذلك لأنّ هذه القبيلة اللّيبيّة كان قد وقع استنفاذها تحت الهيمنة السابقة ؛ وأن بلاد مزاق كانت منطقة فلاحيّة متحضرة ، ومن ثم بعيدة عن عالم البربر القبلي.

باختصار ، لم تبرز المقاومة البربرية عند ما كانت الغارات العربية مكتفية بالمجال البيزنطي تحديدا (منطقة طرابلس وبلاد مزاق) ، ولكن لا بدّ أن ننتظر ردّة فعل في الوقت الذي دخل خلاله العرب في عمل عسكري من الجانب الغربي ، يعني في المناطق الخاصة بالقبائل أو المجاورة لها مثل نوميديا. إنها إذن إفريقية البربرية ، إفريقية الحدود الصحراوية والمرتفعات الجبليّة مثل جبال الأوراس وما يجاورها التي ستعبّر عن سخطها. أمّا إفريقية المنتظمة أي إفريقية المتحضّرين والمزارعين والتي تتطابق تقريبا مع البلاد التونسية الحالية ، فتبقى مسالمة.

ولتفسير قوّة المقاومة البربرية وخاصيتها المخالفة للمألوف تقريبا عن سياق أحداث الفتح العربي للعالم ، يجب أن نلحظ ازدياد الظاهرة القبليّة منذ العهد القندالي ، والاضطرابات المستمرّة لشعوب الموريطانيّين تحت الهيمنة البيزنطية ، والتي تجسّدت في الغارات ضدّ إفريقية المنظّمة. ومن هنا ينضاف إلى النظام الدفاعي البيزنطي تشجيعات قادة القبائل.

لقد كانت الأمور في الحقيقة أكثر تعقيدا فيما يتعلّق بالتفاصيل. فنوميديا كانت المنطقة التي مثّلت قلب المقاومة وروحها ، وهي في النهاية ولاية بيزنطية شديدة التحضّر. ولتفسير مثل هذه الظاهرة ، نحن نعرف أن

٢١

غوتيي Gautier افترض حصول انهيار الحضارة الفلاحية والحضرية التي كانت مزدهرة نسبيا في عهد روما ، غير أن تفحّص المصادر العربية التي وقع اكتشافها حديثا ، وخاصّة تاريخ ابن الرّقيق ، أظهر بوضوح استمرار مثل هذه الحضارة. ومع ذلك ، من المؤكّد من ناحية أخرى أن نوميديا ظهرت لنا كبلاد «للقبائل البربرية الكبرى المتجمّعة حول أمراء أقوياء». من دون شكّ تجانب نمطا الانتظام مع نوع من التفوّق للتجمّعات القبليّة ، ويمكن حتّى أن نتصوّر وجود تداخل عميق بين تركيبتين اقتصاديتين وسياسيتين واجتماعيتين تأكّدتا خاصة بعدد من أشكال الحماية التي منحتها القبائل للمدن. كل هذا يتفق مع خاصية التجمّع بين البربر والبيزنطيّين التي مثلتها مقاومة جبال الأوراس في بداياتها. مع التأييد القائم للقوى البيزنطية فيما بعد ، والتفوّق الصريح في آن واحد للعنصر البربري طيلة المقاومة. وبأكثر دقّة كذلك ، وفي وسط هذا العنصر الأخير ، لاحظنا انبثاق حركتين دون انقطاع : حركة في غرب جبال الأوراس أوجدها البرانس وهم قبائل مستقرّة ومتمسّحة ، وحركة في شرق الأوراس طوّرها البتر ، وهم عبارة عن تشكلات قبليّة من الرحّل وأشباه الرحّل. تنطلق المقاومة بالفعل ، ودائما من نواة مركزية مهيمنة ـ أوربة وجراوة ـ لتدمج بعد ذلك في محورها عددا كبيرا من القبائل البربرية ؛ فكان هنا الوجه القادر على تدريب الناس وشحن العزائم وتجميع العناصر المتباينة.

كان هذا النّوع الأوّل من المقاومة الذي تعرّض له عقبة بن نافع عند جولته التي قادته سنة ٦٣ ه‍ ، إلى قلب المغرب الأوسط وربّما إلى حدود سواحل المحيط الأطلسي. انتهت هذه المرحلة المشهورة ذات الأسلوب اللاهث والمتوقّد باستشهاده ، ومع ذلك ، بقيت مقاربتها صعبة بالنسبة للمؤرّخ خاصة وأنّها كانت موضوع إضافات أسطورية.

وجهت أعمال عقبة الأولى عند عودته ضدّ سلفه أبي المهاجر ، إذ عاد المقاتلة العرب إلى القيروان المدينة القديمة المهجورة ، ووضع أبو

٢٢

المهاجر نفسه في الحديد ؛ ثم بعد أن جعل زهير بن قيس البلوي مكانه على القيروان ، اتّجه نحو الغرب على رأس ٠٠٠ ، ٥ رجل.

وقد قيل لنا إنه كان مصحوبا بأبي المهاجر المقيّد دائما. وكذلك بقائد أوربة كسيلة بن لمزم ، الذي كان يخشى منه أن يقوم ضدّه بعمل موحّد.

وبوصوله إلى منطقة جبال الأوراس ، أقام حصارا على باغاي ، ثم على لمبازييس Lambese ولكن دون جدوى ، لأن الجيش البيزنطي كان في كل مرة يبدأ المعركة أمام المدينة ، وعند انهزامه يتراجع ، ولكن ليس دون أن يلحق خسائر فادحة بصفوف العرب. وتزايدت المصاعب التي اعترضت عقبة في بلاد الزاب ، وهي بلاد بربرية دون منازع ، أحكمت أوربة قبضتها عليها ، ونلاحظ هنا تواطؤا بين البيزنطيّين والبربر الذي لا يمكن إلّا أن يدعمه انتماؤهم المشترك إلى المسيحية. ويمكن أن يكون قد قام بمعارك عنيفة أمام أذنة المدينة البربرية الموجودة في الزاب ، دون أن ينجح في اقتحامها ، فقام فيها بعدّة مجازر وجمّع غنيمة عظيمة من الخيول ، غير أن عناصر موريطانية كانت قد فرّت إلى الجبال وهدّدت بأن تتجمّع ثانية بطريقة خطيرة. وبدفعه إلى الأمام أكثر في اتّجاه المغرب الأوسط لقي ، في مستوى تاهرت ، مقاومة مماثلة جمعت بين البربر والبيزنطيّين. يبدو خطّ السّير الذي نسب إليه بعد ذلك من قبيل الأسطورة ، إذ إنه عسكر أمام طنجة والتقى ببطريقها يوليان ، ثم من هنا نزل في اتجاه السّوس الأدنى ، ثم اتجه في مرحلة أخيرة إلى السوس الأقصى وهو بلد قبائل معهودة التي أسر منها عددا كبيرا من النساء. وفي هذا المستوى يختلط العجيب بالملحمي وبالرّمزي.

إنه المحيط الأطلسي وحده الذي كبح جماحه الذي لا يعيى فاخترق مدّ المحيط مواجها شساعة البحر وداعيا الرب أن يشهد على أنه لا يستطيع أن يذهب أبعد.

٢٣

إن عودته إلى إفريقية من هذه الجولة الخاطفة ، التي وإن كانت انتصارا بسيكولوجيا ، قد كانت أيضا نصف هزيمة عسكرية ، تطرح مشاكل للمؤرخ. ما يمكن الاحتفاظ به كشيء مؤكّد ، هو أنه لسبب مجهول ، ترك أغلبية جيوشه تتقدّمه انطلاقا من طبنة ، وأن بربر أوربة وبحكم إخبار البيزنطيين ومساندتهم لهم ، انتهزوا فرصة قلة عدد حاميته لمهاجمته في تهودا ، وهي واحة قريبة من بسكرة الواقعة على سفح جبال الأوراس (نهاية ٦٣ / أغسطس ٦٨٣). وخضع عقبة أمام كثرة الأعداء ، واستشهد مع أصحابه الذين كان من بينهم ـ على ما يبدو ـ أبو المهاجر.

لقد نسجت تفاصيل العملية ، دون شك ، بعد حين ، غير أن هذا النّسج لا يمكن أن يكون دون أساس حقيقي. فعلى طريق العودة ، لا بدّ أن يكون القائد العربي قد أهان قائد أوربة كسيلة بطرق متعددة وذلك بالرغم من نصائح أبي المهاجر الحكيمة والحصيفة.

لقد اغتاظ كسيلة وجرح في الأعماق ، وعند ما وجد نفسه على أرض قبيلته ، قام بالاتصالات الضرورية مع قومه ومع البيزنطيين ، وبما أنه أصبح غير قادر على تحمّل هذا التحالف الذي تحوّل إلى تبعيّة مذلّة ، فقد فرّ وجمع قومه ونصبوا كمينا لعقبة.

لقد كانت هزيمة تهودا ضربة قاصمة لخطوة الغازي العربي ، إذ ضربته وأوقفت اندفاعه. كما كشفت أيضا عن التواطؤ بين البيزنطيين والبربر ونجاعة هذا التعاون. وأكثر من ذلك ، كانت ضربة تهودا أوّل عمل مهمّ في مغامرة المقاومة البربرية وهذا ما سيشجّعها وينشّطها ويغذّيها. سيلعب مع ذلك استشهاد عقبة دورا رئيسيا في أسلمة إفريقية لأن صياغة أسطورة سيدي عقبة ساعد على استخراج صورة معيّنة عن الإسلام الملحمي.

عقبة بن نافع

لقد كبر الرجل قطعا مع الزمن. وأكثر من رجل تقيّ ، تصفه لنا المصادر كوليّ يحبّه الله. لقد انكشف التدخّل الإلهي بالفعل في كل

٢٤

الأعمال والخطب والمواعظ المنسوبة إليه والموسومة بتقوى عميقة وقاسية تحيل إلى الشهيد.

إنّ عقبة ـ الأسطورة هو مبشّر بالعقيدة الإسلامية في أرض إفريقية والمغرب ، وهو أحسن مجسّد للجهاد الإسلامي ، الذي يجمع بين العزيمة والاستقامة ، وأخيرا هو بطل اخترقت أفعاله المعجزة فازدرى الواقع بإرادته وحماسه للتعبّد. هذا بناء ميثولوجي بالتأكيد ، لكنّ هذا العمل الذي وقع إعداده في مصر لم يكن ليتكرّس إلّا على خلفيّة مغربية سابقة الوجود ، فالوجه الحقيقي لعقبة إذن يظلّ بالنسبة إلينا لغزا ، ومع ذلك نستطيع ببعض التخيّل إدراك بعض الخطوط ورسم صورة عامة لما يمكن أن يكون كان عليه الرجل الحقيقي.

بدأ عقبة قبل كل شيء ، باعتباره جنديا وغازيا. لقد كانت له مكانة متميّزة في كوكبة القادة الأمويين الذين جعلوا من أنفسهم صانعي التوسع المتواصل للإمبراطورية العربية ، وهكذا كان ثمن مجهودهم المتميّز تماثلا لانتصار الإسلام مع انتصار العرب. متسلحا بنبل طموحه الذي تجاوز شخصه ، فلقد استعان على تحقيقه بشجاعة جسدية ومعنوية كبيرة تزاوجت مع جموح وعنف كبيرين. فالمصادر تبرزه لنا هكذا حتى وإن كان ذلك بالتأكيد بصفة مزخرفة ، عنيفا ومستخفا بمن حوله ، وبدائيا ومتلهّفا على القيادة وحاقدا وقاسيا على أعدائه. فإذا كانت تنقصه مرونة السياسي وحلم أشراف قريش ، فقد كان له مع ذلك فضائل القائد التقي في أعلى مستوياتها ، فهو مقدام ولذلك كان محل تقدير من قبل رجاله ، ومما لا شك فيه فإننا أمام صورة كبيرة لمؤسّس وغازي.

III ـ نهاية الفتح (٦٩ ـ ٨٦ ه‍ / ٦٨٨ ـ ٧٠٥ م)

طبع الموت المأسوي لعقبة دخول القوى البربرية إلى لعبة الفتح. هذه القوى ظلّت إلى حدّ هنا تسويفية أو ببساطة غير منظمة.

إنّ عالم البربر حليف ما بقي من النظام البيزنطي وسيأخذ بالفعل

٢٥

بين يديه قيادة المقاومة ليهدّد بجدية التدخل العربي ، ولكن لم يستطع لا كسيلة ولا الكاهنة الشهيرة أن يجسّدا أي شيء ، ولم يعرفا بالرّغم من انتصاراتهما الساحقة كيف يتجنّبان الكارثة النهائية. للبحث عن أسباب هذه الهزيمة ، وعن نجاح العرب ، تمسّكنا عبر هذه الدراسة بالتحرّكات العسكرية.

الاستراحة البربرية وتصدّع قوّة البرانس (٦٣ ـ ٧٨ ه‍)

إنّ أوّل ما نتج عن كارثة تهودا هو طرد العرب من القيروان. من المؤكّد أنّ المصادر العربية وهي تحدّثنا عن نزاع قاتل بين حنش الصنعاني وزهير بن قيس ـ أحدهما مناصر للانسحاب والآخر لمقاومة الثورة ـ تريد أن تنبئنا في نفس الوقت أن اضطراب الفاتحين يعود إلى وجود توجّه إلى الحرب المفرطة والمحافظة على العمل العربي مهما كان الأمر. لكن سنة ٦٣ ه‍ كانت سنة قيام الزبيريين ممّا سيقسّم الإمبراطورية إلى قسمين وهو ما سيجعل التوسع يتراجع. أخذ العرب ينسحبون نحو المشرق ، ولكن ليس دون ترك عديد العناصر الإسلامية في القيروان ، بعض العرب ربما ، وخاصة ومن دون شك ، معتنقين جدد للدّين الإسلامي من البربر.

استفاد كسيلة من هذا الانصراف السريع ، وتوجّه إلى القيروان حيث أعطى ـ كما قيل ـ الأمان للمسلمين الموجودين فيها آملا في استمالتهم إلى قضيّته أو على الأقلّ تحييدهم. فهل كان يطمح إلى تأسيس دولة بربرية وهل يمكن الاعتماد في ذلك على هذه الجملة الواردة في البيان : «استقرّ في القيروان كأمير على كل إفريقية والمغرب»؟

من المحتمل أن يكون انتصار كسيلة على عقبة ، قد ساوى بالنسبة إليه التعاطف إن لم تقل الفرح الفعّال من جماهير البربر. ولقد نجح ، من دون شك ، أيضا في تجميع الأهالي ذوي الانتماءات المختلفة في كنفدرالية قبليّة واسعة مع التركيز في الجوهر على قبيلته الأصليّة ـ أوربة ـ ولكن ظلّ تحرّك كسيلة في الجملة مبهما ، فهو قائد بربري سانده البيزنطيّون وربّما حموه ، وما يظهر ذلك هو استقراره في القيروان

٢٦

ومراعاته لمن بقي من العرب. ولا يجوز مع ذلك تضخيم دوره فوق هذا الحدّ لأن كسيلة كان ، قبل كل شيء ، قائد قبيلة وسيظل كذلك ، لأن مستوى التطوّر الذي بلغه البربر في ذلك الوقت ، لا يسمح له بتأسيس دولة ، ولا بتجميع مختلف القبائل في جهاز دولة. على مستوى المجال ، لم يسيطر ، من دون شك إلّا على منطقة من إفريقية وهي بالتحديد التي أخضعها العرب ، لأنه بعيدا عن كل اعتبار لعدم استقرار التجمّعات البربرية ، وإمكانية انقسامها إلى شق معارض للعرب وشق مساند لهم ، يوجد ما يجب حسبانه مع البيزنطيين.

منذ سنة ٥٥ ه‍ (٦٧٤ م) ، قام هؤلاء بترتيب عام واضح ، يجب أن نضعه في علاقة مع ارتخاء حصار العرب للقسطنطينية ، وكذلك مع انطلاق الإصلاح الديني لقسطنطين بوقوناConstantin Pogonat الذي ، بحدّه من التوتّرات الداخلية ، أمكنه أن يجعل المقاومة للهجومات العربية أحسن. إن «الميثاق» البربري البيزنطي الذي خلق لعقبة الكثير من المشاكل ، لعب أيضا دوره ، خلال بضع السنوات اللاحقة في دحر العرب ، الذين لم يروا فقط إقامة نوع من شكل «السيادة» البيزنطية على «إمبراطورية» كسيلة ، وإنما أيضا احتمال إعادة استقرار البيزنطيّين على بلاد مزاق ونوميديا.

لكنّ العرب قد نجحوا من جانبهم في أن يتجاوزوا إلى حدّ ما أزمتهم الداخلية الخطيرة التي زعزعت الدولة. فبسرعة وقع إعادة مصر إلى سيطرة الأمويين بعد انهزام الانشقاق الزبيري في معركة بصاق.

وأظهر المروانيون القادمون الجدد إلى السلطة ، أنهم في مستوى مسؤولياتهم ، فمنذ ٦٥ ه‍ آلت الخلافة إلى عبد الملك ، في حين نصّب أخوه عبد العزيز على رأس ولاية مصر. فعلى الصعيد العسكري ، أمكن للعرب إذن التفكير في عمل جديد بإفريقية. الآن وقد انضم إلى القضية المروانية بعد أن حاربها ، سيتكفّل زهير بن قيس قائد عقبة القديم بهذا العمل. من هنا ستخرج حملته الخاطفة التي يحيط بها الكثير من

٢٧

الغموض ، مما جعل بعض المؤرخين يشكّكون بكل بساطة في حقيقتها. ويجب مع ذلك أن يكون كسيلة في وقت أو في آخر ، قد وضع خارج المعركة إذ لم يذكر اسمه إلّا فيما بعد ، كأنّ المشكل كان قد تبدّد وحركته وقع تصفيتها.

توجّه زهير إذن سنة ٦٩ ه‍ إلى القيروان ، ولكن أمام تقدّمه تحوّل كسيلة نحو الغرب ليتحصّن في موضع ممّس (الماما البيزنطية؟) ، التي تقع على بعد ٥٠ كلم من القيروان و ٣٠ كلم من سبيطلة ، خشية من انتفاض البربر الموالين للشق العربي ، الذين كان عددهم كثيرا في القيروان. ومهما يكن الأمر ، فإن كسيلة اختار الارتفاع عن الموضع المنبسط والمفتوح للمدينة العربية ، الذي كان واضحا أنه غير ملائم للدفاع ، خاصة وأنه كان يترقّب إمكانية الهزيمة ، ففكّر أنه يمكنه حينئذ الانسحاب إلى المرتفعات والغابات في الغرب.

لقد عسكر العرب ثلاثة أيام أمام القيروان دون أن يدخلوها ، ثم تحولوا إلى ممّس ، وتقدّموا إلى المعركة ، فكان نجاحهم مطلقا ، إذ قتل كسيلة. وفرت البرانس من المذبحة وخاصة قبيلة أوربة التي تقهقرت إلى جبال الأوراس وما وراءها في اتجاه الغرب. وبنفس الضربة ، انهارت كليا الكنفيدرالية القوية التي تجمّعت حول القائد البربري.

إن العناصر التي تدخل في اللعبة لتفسير هذه الهزيمة العسكرية والسياسية هي نفسها التي استوفيناها سابقا لتفسير هشاشة تنظيم كسيلة.

لم تتأخر حركة كسيلة التي كانت قوية نوعا ما في بدايتها عن تلقي الضربات المعاكسة من الانقسامات البربرية ، فلم يتحرّك بتر جبال الأوراس لمساندة كسيلة ، بينما اعتنق بتر الجنوب دين العرب. فضلا عن ذلك ، من المؤكّد أن رجوع العرب إلى الهجوم كان قد ضاعف من النّقائص في صلب جيشه ؛ إذ كيف نفسّر بوجه آخر ، هزيمة ممّس النّكراء ، والحال أنه قبل ذلك بستّ سنوات كان على الجيش العربي أن يبحث على النجاة في شكل هروب مضطرب أمام الحشود البربرية.

٢٨

ويطرح مشكل آخر أيضا ، يتعلّق بالموقف البيزنطي إزاء كسيلة في الوقت الذي كان فيه مهدّدا. يبدو بوضوح أنّ هذا الموقف كان غامضا ، فالبيزنطيّون لم يجلبوا له إلّا مساعدة متحفّظة ، وعلى كل فهي غير كافية لتجنّبه الكارثة. وهذا ما يفسّر أن الأخبار تجمع بين الروم والبربر وتضعهم جنبا إلى جنب في هزيمة ممّس ؛ ولكن نفس هذه الهزيمة التي دمّرت نظام البرانس كليّا لم تؤثّر تقريبا مطلقا في المواقع البيزنطية. بل على العكس من ذلك ، ستشهد السنوات التي تلت تنحّي كسيلة ، تجديد النشاط البيزنطي. ففي سنة ٧١ ه‍ أبحر أسطول إغريقي في برقة ، وحمل المسلمين الموجودين فيها على الاسترقاق ، وعند ما قدم زهير لنجدتهم بعد أن غادر إفريقية ، حاول المقاومة فقتل. وبعد أن انتقم العرب لموت عقبة ، لم يبقوا فعلا في إفريقية. وقد حاولت المصادر عبثا أن تقدّم لنا أنّ زهيرا «أخذه زهد ديني مفاجئ عن أمور الدنيا» ، وحسب عبارة شارل ديل Ch.Diehl ، لا يسعنا مسايرة هذا التفسير الساذج.

أيتوجّب إذن أن نعزو إلى قوّة التهديد البيزنطي ، الانسحاب غير المنتظر لزهير بعد انتصاره على البرانس؟ لا يبدو ذلك لأن البيزنطيين ليست لهم الإمكانيات لجعل العرب يتراجعون ، وبالفعل لم يبادروا إلّا بعد انصرافهم.

من جديد ، يجب أن نقدّم تفسيرا داخليا ، فحوالى ٧١ ه‍ ، استعدّ الخليفة عبد الملك بن مروان لمواجهة عسكرية مع مصعب بن الزبير ، غير أنه تردّد في اختيار الوقت ، فقد وضع مخطّط الانطلاق في اتجاه العراق ، ثم أقلع عن ذلك لأنه كان غير واثق في قوّاته ؛ فهو بوضوح لا يستطيع أن يجيز ترك جيش عدّته عدّة آلاف من الرجال في وقت شديد الحرج. فوقع استدعاء زهير إذن إلى برقة مع فيلقه في حدود ٧٠ أو ٧١ ه‍ ، وكان معظم الجند قد سبقه إلى مصر ومن هناك إلى سوريا. هكذا وبعد أن تجرّدت مدينة برقة من جند المسلمين ، فوجئت باليونانيين الذين شنّوا غارة سنة ٧١ ه‍ ، التي استشهد خلالها زهير.

٢٩

حسّان والكاهنة وخضوع إفريقية (٧٦ ـ ٨٤ ه‍)

بقيت غارة زهير إذن دون غد ، ولم يستفد منها سوى البيزنطيين ، هذا خارج كل اعتبار سبّبته للفتح في المدى الطويل. ولكن ، وبعد سنة ٧٣ ه‍ ، تاريخ القضاء على الحركة الزبيرية ، توحّد الإسلام ثانية تحت لواء المروانيّين فأصبح قادرا على تحمّل استئناف التوسع. وعزم عبد الملك بن مروان في حدود ٧٥ ه‍ ، على حلّ مشكل إفريقية نهائيا ، وعلى تقديم ما يلزم عسكريا لهذا الشأن ، ولهذا كلّف حسّان بن النّعمان وهو من أشراف السوريين من أصل غسّاني ، الذي استفاد من الخزينة المصرية ، فعبّأ معه ٠٠٠ ، ٤٠ رجل مكوّنا بذلك أعظم جيش دخل إلى إفريقية إلى حدّ ذلك الوقت (٧٦ / ٦٩٥) ، وكان هاجسه الأول مهاجمة القوة البيزنطية التي تشكّلت جزئيا من جديد ، والتي يمكن أن تكون الأكثر خطرا. ولم يكن لهذا التجديد مثيل في تاريخ الفتح باستثناء محاولة أبي المهاجر المشكوك فيها وغير المثمرة سنة ٥٩ ه‍. هاجم حسّان مباشرة قرطاج ، عاصمة ولاية إفريقية الرومانية التي حاصرها سنة ٧٦ / ٦٩٥ ، وبعد أن ألحق الهزيمة بالحامية المعادية ، دخل على الأرجح المدينة بمقتضى اتفاق صلح.

لقد فرّ الموظّفون البيزنطيّون ، وأعضاء الإدارة العليا والأرستقراطية إلى صقلية وإسبانيا ، وتفرّق الذين بقوا في الأرياف المجاورة ، غير أنهم وبمجرّد انصراف حسّان عادوا إلى المدينة وحصّنوها ، فعاد القائد العربي على عقبيه ، وبعد أن حاصرها حصارا عنيفا ، دخل العاصمة بقوّة وحرّق وقتل ، وقوّض علاوة على ذلك أسوارها وحصونها. هذا ما ترويه لنا المصادر فيما يتعلّق بالاستيلاء الأوّل على قرطاج ؛ ومن غير المفيد التأكيد على احترازاتنا على التفاصيل التي تتوفر عليها كتب الأخبار.

لقد واصلت ، مع ذلك ، بقايا الجيش البيزنطي المدعوم بالبربر المعركة في منطقة سطفورة (سهل ماطر) وحول بنزرت. وتحوّل حسان للقائهم وفرّقهم ؛ فتراجع البيزنطيون إلى فاقا (باجة) ، بينما فرّ حلفاؤهم

٣٠

البربر إلى عنّابة حيث تحصّنوا. لقد وقع الإحساس بهذا العمل البطولي على أساس أنه ضربة قاسية ضد الحضور البيزنطي ، وإضرار خطير بالاستقلالية البربرية في نفس الوقت. من جديد ، كان البربر في حالة غليان ، فحاولوا تجميع قواتهم وقاموا بانتفاضة كبيرة لمواجهة التهديد العربي.

لقد تجسّدت آمال البربر في امرأة هي الكاهنة ، التي وإن كانت مقطوعة عن المساعدة البيزنطية غير المهمّة من الآن فصاعدا ، فإنها ستفرض نفسها كقائد أعلى لحركة المقاومة الثانية والأخيرة. إنّ الكاهنة واسمها الحقيقي دهيا بنت طابيتا بن تيفان ، كانت إذا ما صدّقنا علماء النّسب البربر ، أرملة «ملك» جراوة قبيلة «البتر» من جبال الأوراس الشرقية. واضطلعت الكاهنة بالوصاية على ابنيها أو أبنائها الثلاثة الذين كانوا صغار السن لتحمّل أعباء الحكم ، ففرضت نفسها عبر خصالها التنبئيّة وكفاءتها في القيادة. وحسب مخطط خاص بالمجتمع البربري ، تأخذ قبيلة كبيرة ومهيمنة زمام المبادرة ـ مثال جراوة هنا ـ فتنجح في تجميع تكتّلات أخرى حولها ، غير أنها تنذر دائما بالتفكّك. ويمكن أن توجد ، من دون شك ، في محيط الكاهنة بقايا لجيش كسيلة ، ولكن توجد هيمنة إثنية بتريّة لا يمكن أن تحجب عنّا مع ذلك التمركز النوميدي الأوراسي لكل حركات المقاومة هذه أي حركة كسيلة وحركة الكاهنة معا.

بمقارنة الحركة الأولى بالثانية ، يبدو أن الأخيرة كانت أكثر شدّة وأهمية ، إذا ما وقع مراعاة فخامة القوات العربية التي كان عليها أن تحاربها. فكسيلة لم ينتصر إلّا عن طريق هجوم مفاجئ أسعفه فيه الحظّ.

وسحقت الكاهنة الجيش العربي في أرض مكشوفة ، ولم يكن قائد البرانس ـ المرتبط بالبيزنطيّين والعرب في نفس الوقت ـ دون اتصالات مع عالمين منظّمين سياسيا ولكنهما خارجين عن البربر. أما كاهنة جراوة فقد مثّلت نقاء حركة بربرية في الجوهر ، وما كان ينقصها هو إدراك معنى الدولة.

٣١

كانت انتصارات الكاهنة الأولى صاعقة على العرب. وزحف حسّان على الأوراس مرورا بتيفاست (تبسّة). فعسكر على وادي نينّي قرب مسكيانة (وهي برج مسكيانة الحالي على بعد ٣٠ كلم من باغاي) ؛ ومن جانبها نزلت الكاهنة من الأوراس ، وسيطرت على باغاي فنهبتها وخرّبتها ثم زحفت على الجيش العربي. فكانت المعركة عبارة عن كارثة بالنسبة إلى العرب وحسّان الذين انسحبوا نحو الشّرق دون انتظار ؛ فطاردتهم الكاهنة «إلى حدود أبواب قابس» (٧٦ ـ ٧٧ ه‍). وقيل أنها أسرت عددا كبيرا منهم ، ثمانون من قادة العرب و «أعيانهم» ، ويضاف أنها أحسنت معاملتهم وأنها تبنّت أحدهم وهو خالد بن يزيد القيسي.

من جهته تراجع حسّان إلى برقة ، بعد هزيمته ، وهناك شيّد قصورا وحصونا ، خلّدت اسمه وبقيت مشهورة تحت اسم قصور حسّان. وبقي فيها من عامين إلى ثلاثة أعوام (٧٧ ـ ٨٠ / ٦٩٦ ـ ٦٩٩) كانت قد انفلتت خلالها كل إفريقية منه.

أمام سقوط قرطاج ، لم تبق بيزنطة جامدة ساكنة ، إذ جنّد من جديد قيصر بيزنطة «ليون» أسطولا حربيا قاده البطريق جان ، وفي سنة ٦٩٧ استرجع اليونانيون قرطاج ، فحصّنوها من جديد واستردّوا كذلك قلاع البروقنصلية الأخرى.

أمّا عمل الكاهنة خلال هذه الفترة فقد ظلّ شديد التّعتيم ، فاستراتيجية سياسة الفراغ أمام الغازي العربي الذي كانت تشكّ في عودته ، فرضت سيطرتها على بلاد مزاق ، فخرّبت المدن والزراعات مستهدفة الأشجار المثمرة خاصة ، مدمّرة بذلك المنطقة لمدّة طويلة. «إنّ هذه المنطقة التي كانت على حد تعبير ابن خلدون ، تمتدّ من طرابلس إلى طنجة مكوّنة غابة شاسعة ظلّها كثيف وقراها متّصلة ، أصبحت خرابا». إنّ هذا التأكيد مبالغ فيه من كافة النواحي ، لأنه يجعل السّلب يمتد على كامل بلاد المغرب في حين أنه لا يمكن أن يتجاوز بلاد مزاق ، وأنّ الخراب النسبي في هذه المنطقة ، لا يمكن إسناده إلى عمل الكاهنة وحده. فبلاد

٣٢

مزاق كانت بالفعل المسرح الرئيسي لعمليّات العرب. ومن الطبيعي إذن أن تعاني من غزو بطيء ومضن ، ومع ذلك نرجّح أنّ أشباه الرّحل الذين اتبعوا الكاهنة قد استفادوا من انتصارهم على العرب ومن غياب أية سلطة في سهول الوسط والجنوب لينهمكوا في النّهب كما شاءوا ، وهو ما أقلق سكان المدن والأرياف المستقرّين وأثارهم ، فأثّر ذلك بخطورة على موقف الكاهنة السياسي ـ البسيكولوجي.

عرف حسّان ذلك ، فاختار الوقت المناسب ليعود إلى إفريقية باعتباره منقذ النظام العامّ (٨٠ ه‍ / ٦٩٩ م). لقد دخل إلى قابس وقفصة وقسطيليّة دون معارك ، ثم صعد في اتجاه الشمال ليحاصر قرطاج (٦٩٩ م) ، في حين حاصر أسطول عربي المدينة وضرب الأسطول البيزنطي ، فسقطت قرطاج في أيدي العرب لثاني وآخر مرّة. فكان ذلك حدثا جوهريا ، لأنه يرمز ويحيّن تحوّل إفريقية نحو مصير شرقي إسلامي جديد ، وانهيار الحضارة الرومانية المسيحية ، الذي ازدهر قديما على ضفافها. لقد أبحرت عناصر الأرستقراطية البيزنطية نحو جزر البحر المتوسط الغربي وإسبانيا ، والتجأت بقايا الجيش إلى قلاع البروقنصلية التي أخذها حسّان واحدة بعد الأخرى.

وهكذا انتهت الهيمنة البيزنطية على إفريقية ، وبقي القضاء على حركة الكاهنة ، التي كانت تمثل لعبة بسيطة بالنسبة إلى حسان ، فالملكة البربرية رأت وضعيتها تتدهور بعداء السكان المستقرّين لها وبردّات الفعل المتعدّدة التي أثرت في صفوفها ؛ فقد وصلت إلى حد انعدام الثقة في نفسها ، وحضّرت فضلا عن ذلك موتها في التصالح المستقبلي بين المنتصرين والمنهزمين. وخلط الإخباريون في هذه المرحلة بين أحلام التنبّؤ والاستراتيجية السياسية ، غير أن الصورة لم تنقصها العظمة ، فالكاهنة دفعت ثورتها بثمن حياتها ووقع التغلب عليها مع بعض الأنصار في حدود ٨١ ه‍ / ٧٠٠ م. وأسرع أغلب الجيش لطلب الأمان من حسّان ، فأعطاه لهم شرط أن توفّر له قبائل البربر عددا معيّنا من الرهائن ليؤلّف بهم

٣٣

جيشين صاعدين يعدّ كل منهما ٦٠٠٠ رجل أعطى قيادتهما لابني الكاهنة. وهكذا احتمى من عنف البربر باستخدامه.

ومن هنا ، وقع فضلا على ذلك استعادة عادة قديمة تتمثل في جعل الفرسان النّوميديّين مساعدين قيّمين للحكام الذين تتالوا على إفريقية : قرطاجنيّين ورومان والآن العرب. بمرورهم بعنف من الثورة إلى التحالف ، اتّضح أن البربر النّوميديّين كانوا عسكريا الأكثر ديناميكية في إثنيّتهم ليساهموا في التوسع في باقي بلاد المغرب وإسبانيا ويفتحوا لأنفسهم في حماية عدوّ الأمس ، مكانا تحت الشمس على أنقاض وطنهم المدمّر.

خاتمة

خضعت إذن إفريقية البروقنصلية وبلاد مزاق ونوميديا لسيطرة العرب بعد أكثر من نصف قرن من المقاومة الشرسة. وتسلّلت ، بالتأكيد ، بعد خروج حسّان (٨٤ / ٧٠٣) ، بعض حركات المقاومة في البر وقنصلية ، ولكن طاقة موسى بن نصير العنيفة وهو الذي سمّي واليا في هذا التاريخ قضت عليها بسرعة. فأخذ موسى بالتعاقب زغوان ، ثم أخضع سكّان سجوم الذين عاقبهم عقابا قاسيا إجلالا لذكرى عقبة ، فكانت هذه آخر انتفاضات إفريقية القديمة ، وفي الوقت الذي كان فيه موسى يجمّع رجاله لهجوم سريع ومربح في الموريطانيات ، كانت الفتن قد أخمدت في كامل إفريقية.

لقد كان الفتح العربي لإفريقية إذن عمل حسّان بن النعمان خاصة ، بالرّغم من إخفاقاته الأولى ، وكانت قيادة مشروعه الأكثر جديّة والأكثر قطعيّة. ولكن هذا المشروع لم يكن سوى عمل مدمج في مشروع عسكري وبشري ومالي طويل وعنيد. يعني أن البلاد شعرت وكأنّ الفتح محنة تركتها تنزف لأنها لم تنج لا من الرعب ولا من التدمير المادّي والنّهب. لقد دفعت إفريقية غاليا ثمن مقاومتها بعد أن استسلمت لغالبها. وسيعود حسّان إلى المشرق بكميّات من الذّهب والأحجار الكريمة

٣٤

والخيول والعبيد وهو ما سيثير بعده طمع ابن نصير وجشع المروانيّين الذين سيفرغون أكثر إفريقية من ثرواتها. ومع ذلك فما لحق إفريقية هو أقل ممّا لحق بقيّة بلاد المغرب التي ستفرض عليها شروط غاية في القسوة. على أن عالما ما لا يموت دون ألم ولا قبل أن يعطي الحياة لتنظيم آخر للحياة البشرية يتضمّن إيديولوجية قوية. ولا يمكننا ـ مع ذلك ـ المرور بصمت على عظمة المقاومة البربرية التي واجهت بمفردها تقريبا وبوسائل بدائية ومحدودة جيشا يمتلك موارد إمبراطورية شاسعة. لقد اهتم التاريخ الغربي إلى حد الآن ، بالموت المفاجئ للحضارة الرومانية البيزنطية خاصة ليرثيها بصفة عامّة. في الحقيقة ما يبدو لنا جديرا أكثر بالاهتمام هو هذه المقاومة البربرية ، الفوضوية والبطولية وهي دفاع بسيط عن الحياة والحرية ، وهذا أهم ما يتشبّث به الإنسان لمواجهة شناعة منطق حرب التوسع. ولكن سيمّحي سريعا طابع النفي والمأساوية لنفس هذا التوسع أمام وعوده وإنجازاته التي كان من أهمّها قطعا ولادة بلاد المغرب في التاريخ والحضارة عن طريق الإسلام.

٣٥
٣٦

II

تنظيم المغرب في القرن الثاني هجري

ـ المؤسّسات الإسلامية ـ

٣٧
٣٨

ما زالت الدراسة التاريخية لإفريقية خلال الفتح العربي في حاجة للكتابة بأكملها. فرغم النقص الفادح في التوثيق وطابعه المتأخر والمشكوك فيه فإننا نعتقد أن هذه المهمّة ممكنة.

إن المسعى الذي فرض نفسه عند الشروع في دراسة تحليلية للمؤسسات هو الأخذ بالجانب المتعلّق بالإرث القديم لبيزنطة أساسا ، ثم متابعة الإضافات العربية مع محاولة توضيح مدى سيطرة هذا العامل على الآخر مع إبراز التداخل بينهما عند الاقتضاء.

هناك اتجاهات أخرى يمكن أن تتوفر في مثل هذا البحث : الوضع القانوني لمقاطعة إفريقية وجغرافيتها التاريخية وعلاقتها بالإدارة المركزية أي بالخلافة. وأخيرا ، فإن دراسة هيكلية لسير المؤسسات تمثّل في حدّ ذاتها أهمية كبيرة ، وذلك بعيدا عن كل اهتمام بالتبعية وعن البحث عن حجم الماضي وثقله ، وما تلاه من أحداث فرضها الفعل الإسلامي.

الوضع القانوني ـ الإداري

منذ متى صارت إفريقية أرض جهاد تطالب بها قوّة خارجية؟ وانطلاقا من أي تاريخ تخلّصت من وصاية ولاية مصر لتصبح مقاطعة تتمتع بكامل الحقوق؟ هنا تكمن إشكالية الوضعية القانونية والإدارية لإفريقية. فيكون من الأيسر لو استطعنا الكشف عن العلاقة الوثيقة بين النهاية الفعلية للفتح وقيام ولاية إفريقية ، وكذلك ما إذا كانت هذه الولاية" عادية" تابعة للسلطة المركزية بدمشق؟ غير أن الوضع لم يكن كذلك. بلغة أخرى ليس من الأكيد أن العرب كانوا قبل نهاية الفتح يعتبرون إفريقية قانونيا ولايةde jure عربية ، على الأقل من وجهة نظرهم وخاصة في أوقات توهّم فيها العرب أن حصولهم عليها كان نهائيا. وبالتالي يبدو

٣٩

عسيرا موافقة النويري (١) ومن بعده حسين مؤنس (٢) عند ما يقبلان بأن معاوية بن حديج كان واليا على مقاطعة ممأسسة حتى ولو كانت تابعة لمقاطعة أخرى وهي مصر.

واضح أنه لم يكن من الممكن في سنة ٤٥ هجري وبعد ١٨ سنة من عودة حملة ابن سعد أن يؤسّس العرب ولاية بالمعنى الإداري للكلمة في إفريقية ، وذلك مهما كان نجاح عملية بن حديج خاصة أنها كانت محدودة بالفعل.

كذلك هل من المعقول القبول بأن إفريقية كانت في ٤٥ هجري أرضا للغزو ومجالا ضبابيا للجهاد على غرار ما يراه ابن عبد الحكم حيث يقول" ثم إن معاوية بن حديج بعد عبد الله بن سعد خرج إلى المغرب" بمعنى خرج للغزو ، ويضيف ابن عبد الحكم في ذات السياق «غزا معاوية بن حديج إفريقية ثلاث غزوات» (٣). فلا بدّ في هذا الصدد من إيلاء أهمية للدور الذي لعبه مسلمة بن مخلد ، والي مصر في قيام ولاية إفريقية ، وكذلك تأكيد صلات تبعيّتها لمصر وهما شأنان لا يتناقضان بالضرورة.

فمثلما تؤكده المصادر (٤) بالإجماع ، لقد جمع معاوية بن أبي سفيان لمسلمة مصر والمغرب سنة ٤٧ / ٦٦٧ ، ويعني ذلك أن هذا الأخير تحصّل على هذه الوضعية القانونية للولاية فكان أوّل من نالت معه المقاطعة هذا اللّقب. لكن في هذا السياق أيضا تبقى المسألة غير ثابتة ومضطربة ، فحتى لو نعتنا العرب باللّاواقعية فسيكون من العسير القبول

__________________

(١) النويري ، نهاية الإرب ، من خلال ترجمة سلان De Slane ، تاريخ البربر ، الطبعة الثانية ، باريس ١٩٢٥ ، ج ١ ، ص ٣٢٤.

(٢) حسين مؤنس ، فتح العرب للمغرب ، القاهرة ١٩٤٧ ، ص ١١١.

(٣) ابن عبد الحكم ، فتوح مصر والمغرب ، طبعة عامر ، القاهرة ١٩٦١ ، ص ٢٦٠ ـ ٢٦١.

(٤) الكندي ، كتاب ولاة مصر ، بيروت ١٩٥٩ ، ج ١ ، ص ٦١ ، يصرّح بأنه : «اجتمعت لمعاوية الصلاة والخراج في المغرب» ؛ ابن عبد الحكم ، فتوح ... ص ٢٦٥ : «كان مسلمة أول من اجتمع له مصر والمغرب».

٤٠