سامرا عاصمة الدولة العربية في عهد العباسيين - ج ٢

أحمد عبد الباقي

سامرا عاصمة الدولة العربية في عهد العباسيين - ج ٢

المؤلف:

أحمد عبد الباقي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٦١
الجزء ١ الجزء ٢

تركش وهو أحد ملوك الصغد ، ورجلان من اهل الصغد. وكان المناظر له قاضي القضاة احمد بن أبي دواد. أما التهم التي وجهت اليه فهي :

١ ـ انه ضرب كلا من امام ومؤذن المسجد الذي بنى في الصغد ألف سوط كل واحد منهما.

٢ ـ احتفاظه في بيته بكتاب محلى بالذهب والجوهر فيه كفر بالله تعالى.

٣ ـ شهادة الموبذ بأكله لحم المخنوقة ، اذ قال : ان هذا كان يأكل المخنوقة ويحملني على أكلها ، ويزعم انها ارطب لحما.

٤ ـ كتابة أهل بلده اليه بالاشر وسنية ما معناه الى اله الآلهة من عبده فلان ابن فلان.

٥ ـ عدم اختتانه.

٦ ـ مكاتبته مازيار واغراؤه بالخروج على أمير خراسان.

أجاب الافشين عن التهمة الاولى بأن بينه وبين ملك الصغد عهد بات يترك كل قوم على دينهم ، وان هذين الرجلين وثبا على بيت فيه أصنام لأهل أشروسنة ، فاخرجا الاصنام وصيراه مسجدا ، فضربهما على ذلك لتعديهما.

وعن احتفاظه بالكتاب المحلى بالذهب والجوهر ، قال انه ورثه عن أبيه وفيه آداب العجم وكفرهم ، وانه كان يأخذ الآداب ويترك الكفر. أما الحلية التي فيه فانه غير محتاج الى انتزاعها منه ، فتركها على ما هي عليه.

أما عن أكله لحم المخنوقة ، وكان قد شهد عليه بذلك الموبذ وهو مجوسي ، فقد طعن الافشين بشهادته لانه لا يجوز قبولها بموجب أحكام الشريعة الاسلامية ، وان الموبذ شخص غير ثقة.

٤١

وأجاب عن أسلوب مكاتبة أهل بلده معه بأن تلك هي عادتهم في مكاتبة أبيه وجده ، وقد كره ان يضع نفسه دونهما فتفسد عليه طاعتهم.

وعن عدم اختتانه قال انه خاف ان يقطع ذلك العضو من جسمه فيموت. ولما قيل له انه يقاتل بالسيف والرمح ، ويخوض الحرب ، ويجزع من قطع قلفة. أجاب ان تلك ضرورة تصيبه ، والاختتان شيء يستجلبه لنفسه.

أما التهمة الاخيرة التي كانت وحدها ذات الطبيعية السياسية والتي كانت سبب غضب الخليفة عليه وحبسه فلم تثبت عليه بشكل قاطع. اذ ان شهادة مازيار ، كما سبق أن أشرنا ، ترددت بين الاعتراف والانكار. وكان الافشين قد انكر التهمة منذ البداية. وعند ما قيل له ان أخاه كاتب اخا مازيار بذلك ، انكر ان تكون المكاتبة قد جرت بعلمه ، وانه غير مسؤول عما كتبه أخوه. ثم استفسر عما اذا كان هناك ما يمنع من أن يحاول استمالة مازيار ليثق به ثم يسلمه الى الخليفة ، فيكون بذلك قد نصر الخليفة ونال الحظوة لديه. وهو استفسار أقرب الى أن يدينه من أن يبرىء ساحته من هذه التهمة ، لأنه ينطوي على اعترافه الضمني بمكاتبته مازيار.

قال أحمد بن ابي دواد في نهاية المناظرة انه قد وضح أمر الافشين ، أي انه ثبتت عليه المخالفات التي اتهم بها. وأمر بغا الكبير ان يعيده الى السجن ، رغم اعتراض الافشين على ذلك. وكان الحبس الذي سجن فيه في الجوسق شبيها بالمنارة ، وقد جعل في وسطها دكة لجلوسه (١).

لقد حاول الافشين ان يقنع الخليفة ببراءته مما نسب اليه من التهم. فطلب اليه ان يبعث له بمن يثق به لكي يؤدي اليه ما

__________________

(١١٨) الطبري ٩ / ١٠٧ ، وتجارب الامم ٦ / ٥١٩.

٤٢

سيقوله له. فانفذ المعتصم بالله نديمه حمدون بن اسماعيل. فأخذ الافشين ينفى كل ما قيل فيه من التهم ، وعزا ذلك الى انه حسد على ما ناله من حظوة ومنزلة عالية لدى الخليفة ، وانه لا يزال على ولائه له لانه ربي في كنفه وتقدم برعايته. ثم التمس من الخليفة ان يراعى حقه عليه وخدمته له. فلما انصرف حمدون من الافشين وابلغ رسالته الى الخليفة ، أمر بقطع الطعام والشراب عنه الا القليل حتى مات (١). ويذكر حمدون انه رأى بين يدي الافشين طبق فاكهة أرسله اليه المعتصم بالله مع ابنه هارون ، وانه لما خرج منه لم يلبث قليلا حتى قيل ان الافشين يموت أو قدمات (٢). اشارة الى ان الفاكهة كانت مسمومة.

ولما مات الافشين حمل الى دار ايتاخ ، ثم اخرج وصلب على باب العامة بسامرا عريانا ساعة من نهار ليراه الناس. ثم طرح واحرق مع خشبته والقي الرماد في نهر دجلة (٣).

وكان الخليفة حين أمر بحبس الافشين وجه الكاتب سليمان بن وهب ليحصى ما في داره في المطيرة. فوجد بيتا فيه تمثال انسان من خشب عليه حلية كثيرة وجوهر ، وفي اذنيه حجران أبيضان مشتبكان ، عليهما ذهب. كما اخرج من منزله اصناما مع الاطراف الخشب التي اعدها لهروبه. ووجد له كتابا من كتب المجوس ، وكتبا دينية أخرى (٤).

ومدح أبو تمام الطائي الخليفة المعتصم بالله بهذه المناسبة مشيرا الى صلب الافشين وحرقه ، بقصيدة طويلة جاء فيها (٥) :

الحق أبلج والسيوف عوار

فحذار من اسد العرين حذار

__________________

(١١٩) الطبري ٩ / ١١٤.

(١٢٠) الطبري ٩ / ١١٣ ، وتجارب الامم ٦ / ٥٢٥ ، والكامل ٦ / ٥١٨.

(١٢١) الطبري ٩ / ١١٤ ، وتجارب الامم ٦ / ٥٢٥ ، والكامل ٦ / ٥١٨.

(١٢٢) الطبري ٩ / ١١٤ ، وتجارب الامم ٦ / ٥٢٥.

(١٢٣) كامل القصيدة في ديوان ابي تمام ٢ / ١٩٨ ـ ٢٠٩.

٤٣

ملك غدا جار الخلافة منكم

والله قد اوصى بحفظ الجار

يا رب فتنة أمة قد بزها

جبارها في طاعة الجبار

جالت بخيذر جولة المقدار

فأحله الطغيان دار بوار

كم نعمة لله كانت عنده

فكأنها في غربة وأسار

ثم يقول :

مكرا بنى ركنيه الا انه

وطد الاساس على شفيرهار

حتى اذا ما الله شق ضميره

عن مستكن الكفر والاصرار

ويقول :

ما زال سر الكفر بين ضلوعه

حتى اصطلى سر الزناد الوارى

نارا يساور جسمه من حرها

لهب كما عصفرت شق ازار

طارت لها شعل يهدم لفحها

أركانه هدما بغير غبار

مشبوبة رفعت لاعظم مشرك

ما كان يدفع ضوءها للسارى

فصلن منه كل مجمع مفصل

وفعلن فاقرة بكل فقار

صلى لها حيا وكان وقودها

ميتا ويدخلها في الفجار

وكذلك اهل النار في الدنيا هم

يوم القيامة جل أهل النار

خاتمة :

مما يلفت النظر في محاكمة الافشين عدم سماع شهادة واجن الاشر وسني الذي يعتبر الشاهد الاصلي على محاولة الافشين الخروج على الخليفة والفتك بكبار القواد ، والتي بموجبها أمر المعتصم بالله بحبسه. كما أن ما ادلى به هذا الشاهد لم يسأل عنه الافشين ، ولم يسأل كذلك عن مواطأته بابك ، ومساعدته منكجور. ولا ندري

٤٤

ما اذا كان مجلس التحقيق اغفلها مكتفيا بالتهم الدينية لوضوحها ، أم ان المؤرخين الذين سردوا تفاصيل المحاكمة اهملوا الاشارة اليها ، أم ان التهم الدينية وحدها كانت سبب غضب الخليفة على كبير قواده. ونرجح ان ما ذهبنا اليه آنفا من ان اهمال الجوانب السياسية والتأكيد على المخالفات الدينية مما اتهم به الافشين كان مقصودا المسبب الذي أشرنا اليه.

على اننا يجب ان لا نغفل ما صار اليه الافشين من مركز مرموق ، وما له من دالة على الخليفة المعتصم بالله ، بسبب الانتصارات المتتالية التي احرزها في حروبه. بحيث اخذ كبار رجال الدولة يرهبون جانبه ويخشون سطوته. وقد تسرب الحسد الى نفوسهم ، فعملوا على التخلص منه ، مستغلين بعض ما ظهرت منه من تصرفات يؤاخذ عليها ، فكان لهم ما اردوا. ولعل مما زاد في حقدهم عليه اعتداده بنفسه وتعاليه عليهم. وقد اورد الخطيب الاسكافي ما يؤيد هذا حيث يقول ما خلاصته ان الافشين بعد عودته مع أمير المؤمنين من حرب عمورية تقدمت حاله لديه لبلائه الحسن في حرب بابك وحرب الروم. فاخذ يستخف برجال الدولة ، لا سيما بالوزير محمد بن عبد الملك الزيات والقاضي أحمد بن ابي دواد ، فاعملا الفكر في كيفية التخلص منه. ولم يريا أبلغ من ايحاشه من الخليفة. فاستخدما لذلك محمد بن ابراهيم ، وكان صديقا حميما للافثين ووعداه بولاية فارس والاهواز اذا استطاع ان يوحش الافثين من المعتصم بالله. فادخل محمد في روع الافشين بما لفقه من الاخبار ان امير المؤمنين قد تغير عليه وانه يعمل على التخلص منه ، مما زرع بذور الشك وسوء الظن في نفس الافشين. وعند ما دخل الافشين بعد ذلك على المعتصم بالله وكان في حينه ضجرا ببعض أموره ، رآه متغير البشر عابس الوجه ، فصدق عنده ما اخبره به محمد بن ابراهيم ، فحاذر على نفسه وتحرز في بيته. ولما بلغ المعتصم بالله فعله انكره ، وكان ابن الزيات وابن ابي دواد لم يألوا

٤٥

جهدا في ايحاشه منه. واغتنم ابن ابي دواد الفرصة فحذر المعتصم بالله من دخول الاعاجم عليه وهم مسلحون بالسيوف والخناجر وهو أعزل. فنفر قلب المعتصم بالله من الافشين. ولم تزل الوحشة تتفاقم بينهما حتى أمر المعتصم بالله بحبس الافشين وقتله (١).

رغم ان الافشين من أصل تركي من قبائل ما وراء النهر التي كان أغلبها وثنيا ، فقد كان يعتنق المجوسية. وقد اتضح من محاكمته انه لم يكن اسلم عن يقين وايمان. ولهذا فهو يلتقي مع الفرس في مجوسيته وفي كراهيته الشديدة للعرب. فقد كان يقول : اذا ظفرت بالعرب شدخت رؤوس عظمائهم بالدبوس (٢). ووصفهم في كتابة الى مازيار بقوله : والعربي بمنزلة الكلب اطرح له كسرة ثم اضرب رأسه بالدبوس (٣). وقد اتخذ الدين الاسلامي الذي اعتنقه عند ما جاء الى بغداد ، والتقرب الى العرب الحكام وسيلة لتحقيق مطامحه التي تكشفت في عمله على الانفصال عن الدولة العربية واعادة المجوسية. وذلك نفس ما كان يعمل بابك الخرمي على تحقيقه. وقد كانت تصرفات الافشين في حرب بابك تنم عن أهدافه المذكورة التي حاول اخفاءها بولائه الظاهري للخليفة. الا انه لم يستطع الاستمرار على ذلك بحكم ما يعمل له ويستهدف تحقيقه ، فظهرت دلائله في القضايا التي اثيرت ضده وحوكم عليها.

ويمكننا الان على ضوء هذه الحقائق ان نفسر أسباب ارساله ما يتوفر له من الاموال الى اشروسنة ، ونفسر كذلك تلكؤه وتباطؤه في حرب بابك ، وسعيه لاقناعه بالاستسلام ليضمن حياته ويقلل خسائره ، بحيث يصدق عليه قول ابن الجوزي : فتخاذل عن قتاله

__________________

(١٢٤) لطف التدبير / ٩١ ـ ٩٣ ، وجاء مثل ذلك في آثار الاول مع تغيير طفيف / ١٠٧ ـ ١٠٨.

(١٢٥) البيان والتبيين ٣ / ٥٨.

(١٢٦) الطبري ٩ / ١٠٩.

٤٦

واضمر موافقته في ضلاله. وقول ابن دحية : فانه تارة كان معه وتارة كان عليه. الا ان حذره من رقابة عبد الله بن طاهر أمير خراسان ، ويقظة الخليفة واتصاله المستمر به ، ولهفة الجند والقواد وبخاصة العرب منهم على القضاء على بابك والحرمة الخرمية ، جعله لا يستطيع الا ان يستجيب لحرب بابك والقضاء عليه. ولذلك نراه بعد الانتهاء من هذه الحرب والعودة من غزو بلاد الروم ، يخطط لحركته التي باءت بالفشل وانتهت بمصرعه. ولعل مما يؤيد تخطيطه للوثوب بالخلافة انه حاول القضاء على القواد الموالين للمعتصم بالله. فقد حاول قتل القائد العربي أبا حلف القاسم بن عيسى ، فخف القاضي أحمد بن أبي دواد لانقاذه ، وكان مما قاله للافشين : كم تراك قدرت تقتل أولياء أمير المؤمنين واحدا بعد واحد ، وتخالف أمره في قائد بعد قائد (١).

٤ ـ حركة الزنج :

بداية الحركة :

من الحركات الخطيرة التي جابهت الدولة العربية في عهد سامرا ، وكانت عميقة التأثير في أمن البلاد وأحوالها الاقتصادية والاجتماعية ، الحركة التي حمل لواءها الدعي علي بن محمد وعرفت بحركة الزنج.

ان ما اصاب الدولة العربية من وهن شديد من جراء استبداد القواد الاتراك بالسلطة ومنازعتهم الخلفاء ، شجع ذوي المطامح على الخروج على سلطانها. وقد استطاع أحد المغامرين وهو علي بن محمد العبقسي (٢) ان يقوم بدعوة في جنوبي العراق مستغلا

__________________

(١٢٧) الاغاني ٨ / ٢٥٠ ـ ٢٥١.

(١٢٨) نسبة الى عبد القيس ـ العبر ٢ / ٤٢.

٤٧

اوضاع العبيد من الزنوج الذين استطاع ان يثير حفيظتهم على مالكيهم من أصحاب الاراضي الزراعية ، فهربوا منهم والتحقوا به. كما التف حوله كل صاحب فتنة (١).

ان دعوة علي بن محمد لم تقم على قواعد سياسية واجتماعية معينة تستهوي الناس اليه ، وانما اكتفى بادعائه بتحسين أحوال العبيد «وانه يريد ان يرفع اقدارهم ، ويملكهم العبيد والاموال والمنازل ، ويبلغ بهم اعلى الامور (٢) ومناداته بعدم التمييز بين العناصر والاجناس ، وهي من دعاوى الخوارج ، مما بدا ان ذلك كافيا عند اولئك الذين انضموا اليه من الزنوج. وبصرف النظر عن العوامل الاخرى فان مجرد وعد الزنوج بتحريرهم وتمليكهم الاموال كان كافيا لان يسارعوا الى اجابة دعوته. كما انه ادعى الانتساب لآل البيت ليضفى على دعوته سمة روحية ويكسبها الشرعية المطلوبة ... وقد اطلق على نفسه لقب أمير المؤمنين ، وضرب ذلك على نقوده الذهبية والفضية (٣).

ولم يلبث على بن محمد مدة وجيزة حتى التف حوله الوف من الزنوج ينشدون الخلاص من العبودية وشظف العيش. فكون منهم جيشا استطاع ان يتحدى به سلطات الدولة مدة من الزمن. فاستولى على ضواحي البصرة واخذ يهدد المدينة نفسها. ويظهر انه اختار منطقة البصرة لعدة اسباب منها ان طبيعة المنطقة الجغرافية ساعدت الزنج على حرب كمائن وعصابات متنقلة ، مما أدى الى اطالة أمد الاضطرابات وتعسر قمعها على الجيش النظامي. وكثرة العبيد العاملين في ازالة السباخ عن الاراضي الزراعية فيها ، فقد كانت «كسوح الزنوج معروفة بالبصرة كالجبال ، وكان في

__________________

(١٢٩) العبر ٢ / ٨.

(١٣٠) الطبري ٩ / ٤١٥.

(١٣١) ثورة الزنج / ١٧٢.

٤٨

انهار البصرة منهم عشرات الالوف يعذبون بهذه الخدمة» (١). يضاف الى ذلك ان البصرة كانت مركزا لطبقة كبيرة من الاغنياء الذين كونوا ثرواتهم من استثمار العبيد في الزراعة ، وان هذه الطبقة وقفت ضد حركة الزنج منذ البداية (٢).

وقد اتخذ صاحب الزنج منطقة القنوات والمستنقعات جنوبي البصرة للاسباب التي ذكرناها قاعدة له ، واستطاع ان يصمد امام الجيوش التي سيرت اليه.

استتفحال الحركة :

صرف صاحب الزنج جهوده أول أمره لاحتواء البصرة فحاصرها حتى أضر بأهلها ، فاستولى في سنة ٢٥٦ ه‍ على الأبلّة وقتل بها نحو ثلاثين ألف (٣). ثم هاجم في منتصف شوال من السنة التالية مدينة البصرة. وكان القائد المكلف بحمايتها قد تهاون في اتخاذ العدة لصد هجوم الزنج (٤). فدخلوها واحرقوا المسجد الجامع وقسما من المدينة ، ونهبوا ممتلكاتها ، وقتلوا عددا هائلا من أهلها ، وهرب الباقون بأسوأ حال. ويقول المسعودي انهم قتلوا ثلثمائة ألف نفس من أهل المدينة (٥). فكانت هذه اول مذبحة يقوم بها الزنج.

ومما ساعد الزنج على التوسع شرقا وشمالا انشغال الجيش بمحاربة يعقوب بن الليث الذي بات يهدد العاصمة سامرا ، فدخلوا

__________________

(١٣٢) نفس المصدر / ٢٨.

(١٣٣) نفس المصدر / ١١٢.

(١٣٤) العبر ٢ / ١٣.

(١٣٥) الطبري ٩ / ٤٨٤.

(١٣٦) مروج الذهب ٤ / ٢٠٧.

٤٩

الاحواز في رجب سنة ٢٥٩ ه‍ (١). ودخلوا مدينة واسط في سنة ٢٦٤ (٢) ، ثم صاروا الى جبل والنعمانية وجرجرايا فهرب كثير من أهل السواد الى بغداد (٣). الا ان بعد هزيمة ابن الليث تفرغ الجيش للقضاء على الحركة في جنوبي البلاد.

الموفق يتفرغ لحرب الزنج :

بعد أن أمن الموفق ، أخو الخليفة المعتمد على الله ، جانب ابن الليث ، أخذ يستعد لحرب الزنج الذين استفحل أمرهم وصاروا خطرا كبيرا يهدد الخلافة بعد الانتصارات التي حققوها على الجيوش التي أرسلت لقتالهم. وبعد أن أكمل استعداده أرسل ابنه أبا العباس أحمد في سنة ٢٦٦ ه‍ الى واسط لحربهم ، فقاتلهم أبو العباس في عدد من المعارك وتغلب فيها عليهم واسترد منهم كثيرا من المواقع والاموال وانقذ اعدادا كبيرة من الاسرى والسبايا(٤). وبهذا بدأ مد الزنج بالانحسار.

أخذ صاحب الزنج بعد أن وصلته انباء الخسائر التي حلت بجيشه ، يجمع جموعا جديدة يسيرها الى حرب ابي العباس. فسار الموفق بنفسه الى حربه في صفر سنة ٢٦٧ ه‍ ونزل قريبا من واسط ، وجعل جيش ابنه مقدمة لجيشه في زحفه على قاعدة صاحب الزنج. وكان أول نصر كبير حققه جيش الموفق انه هزم قائد الزنج سليمان بن موسى الشعراني ودخل مدينة المنيعة واستنقذ زهاء خمسة آلاف امرأة سوى الزنجيات ، وحملن الى واسط ليدفعن الى أوليائهن ، واستولى على كل ما في المدينة من امتعة الزنج

__________________

(١٣٧) الطبري ٩ / ٥٠٣.

(١٣٨) نفس المصدر / ٥٣٩.

(١٣٩) نفس المصدر / ٥٤٢ و ٥٤٤.

(١٤٠) نفس المصدر / ٥٦٤.

٥٠

وميرتهم ، وهدم أسوارها وطم خندقها (١). ثم استولى على مدينة المنصورة ، وهي معقل آخر من معاقل الزنج ، واصيب قائدهم أحمد بن مهدي الجبائي بسهم مات على أثره. واستنقذ زهاء عشرة آلاف من نساء أهل واسط وصبيانهم ، فاعيدوا الى ذويهم ، واحتوى الجيش على ما في المدينة من الذخائر والاموال والاطعمة والمواشي (٢).

بعد هذه الانتصارات استعد الموفق للهجوم على المختارة قاعدة صاحب الزنج على نهر أبي الخصيب. وقبل أن يشن عليه الهجوم كتب اليه يدعوه الى التوبة والاتابة الى الله تعالى مما ركب من سفك الدماء وانتهاك المحارم وتخريب البلدان ، ويعلمه ان الأمان مبسوط له ان هو نزع عما هو عليه من الامور التي يسخطها الله ، الا ان صاحب الزنج ازداد عنادا ولم يجب على الكتاب (٣). ويقال انه قتل الرسول (٤).

حاصرت جيوش الموفق مدينة المختارة في أواخر رجب سنة ٢٦٧ ه‍. وكان صاحب الزنج قد جمع قواده كافة من جميع الجهات بجيوشهم ليدافعوا عن عاصمته. فقاتلوا دونها قتالا شديدا. مما حمل الموفق على أن يقيم عسكره مقابل المختارة في موقع سماه الموفقية ، وما لبث هذا العسكر ان صار مدينة عامرة بالاسواق وأنواع التجارات ، وبنى بها أبو أحمد مسجدا جامعا ، واتخذ بها دارا لضرب الدنانير والدراهم (٥). وقد نشط الموفق في تشديد الحصار على قاعدة صاحب الزنج الذي أخذ يطاول في الحرب. ولما أصيب الموفق بسهم في صدره في جمادي الاولى لم يترك

__________________

(١٤١) الطبري ٩ / ٥٦٦ ـ ٥٦٨.

(١٤٢) نفس المصدر / ٥٧٣.

(١٤٣) نفس المصدر / ٥٨١.

(١٤٤) العبر ٢ / ٤٣.

(١٤٥) الطبري ٩ / ٥٨٥ ـ ٥٨٦.

٥١

مدينته الموفقية ، فعولج من جرحه حتى شفي منه. فاستأنف تشديد الخناق على صاحب الزنج في عقر داره.

المعركة الفاصلة :

كان صاحب الزنج قد قطع القناطر والجسور التي كانت على نهر ابي الخصيب واحدث سكرا في النهر من جانبه وجعل في وسط السكر بابا ضيقا ليحتد فيه جري الماء فلا تستطيع السفن دخوله. لذا رأى الموفق ضرورة قلع هذا السكر فارسل عليه الجند والفعلة فالحوا عليه حتى قلعوه ، وفتح النهر أمام سفن الجيش. وكان للزنج مزارع في ناحية النهر الغربي ولهم قنطرتان على هذا النهر ، فوجه الموفق ابنه العباس بجمع من شجعان جيشه ، فنصب لهم الكمائن وأقام من فوهة النهر المذكور. وعند ما هم الزنج بالعبور اعترضتهم سفن أبي العباس ، فقتل منهم في النهر وعلى ضفتيه خلق كثير ، وأسر منهم اعدادا كبيرة.

وقد وصل الى الموفق مدد كبير ، اذ وصله وزيره وقائده صاعد بن مخلد من سامرا ومعه جيش قدر بعشرة آلاف مقاتل. كما وصل لؤلؤ قائد ابن طولون بعد ان خرج على سيده ومعه جيش عظيم (١). فوزع الموفق قواده وجيوشهم حسب الخطة التي أعدها للهجوم الاخير على صاحب الزنج ومن بقي يحارب الى جانبه. فتحركت القوات من جهات مختلفة على مواقع الزنج التي ضاقت بهم فولوا منهزمين ، بعد ان احتوى أصحاب الموفق مدينتهم باسرها ، واطلقوا من كان فيها من الاسرى.

وكان صاحب الزنج وابنه وعدد من قواده قد اوغلوا في نهر أبي الخصيب ، هاربين الى موضع كان صاحبهم قد وطأه ملجأ اذا

__________________

(١٤٦) الطبري ٩ / ٦٤٩ ـ ٦٥٠.

٥٢

غلب على مدينته (١). فأمر الموفق بملاحقتهم ، فزحفت اليهم جموع متتالية من الجيش واوقعت بهم. فاسر سليمان بن جامع قائد قواد الزنج ، مع قواد آخرين مما فت في عضد علي بن محمد. ولم يكف الجيش عن مطاردته حتى وافى البشير بقتله ، وجاءوا الى الموفق برأسه ، فخر الموفق ساجدا لله على ما أولاه وأبلاه ، وسجد أبو العباس ، وقواد الموفق شكرا لله. وأمر الموفق برفع الرأس على قناة ونصبه بين يديه ليراه الناس (٢).

وبذل الموفق الامان لمن يستسلم ممن بقي من الزنج المحاربين ، فوافى معظمهم مستسلمين. وأمر أن يكتب الى سائر الامصار بالنداء في أهل البصرة والابلة وكور دجلة ، والاحواز ، وأهل واسط وما حولها ، بقتل صاحب الزنج ، وان يؤمروا بالعودة الى أوطانهم.

وقدم أبو العباس أحمد الى مدينة السلام ، اذ كان الخليفة المعتمد على الله آنذاك فيها ، ومعه رأس علي بن محمد صاحب الزنج ، فدخلها لأثنتي عشرة بقيت من جمادي الأولى سنة ٢٧٠ ه‍ ، فاستبشر الناس بالقضاء عليه وعلى حركته التي أجج أوارها ، ودامت أربع عشرة سنة وأربعة أشهر وستة أيام (٣).

أسباب فشل تمرد الزنج وحركتهم :

هناك أسباب عديدة تظافرت على فشل الحركة التي قادها الدعي علي بن محمد. فعلى الرغم من تكاثر اتباعه سواء ممن طمع باسترداد حريته ، أو بالمغانم من الاموال والسبايا ، فان عدم دربتهم على فنون القتال ، وضعف قيادتهم ، اضطره على أن يتبع ما

__________________

(١٤٧) المنتظم ٥ / ٥٩.

(١٤٨) الطبري ٩ / ٦٥٩ ـ ٦٦٠.

(١٤٩) الطبري ٩ / ٦٦٣.

٥٣

يعرف بحرب العصابات. وقد حققت له هذه الخطة قدرا كبيرا من النجاح ، ولكنه تجاح موضعي موقت. فاذا ما استولى على موضع ما سرعان ما كان ينسحب أو يهرب منه. على انه بمرور الرمن أصبح من الاخطار التي تهدد كيان الدولة العربية. ولما توجه الامير الموفق لمحاربة الزنج اتبع خطة أضطرهم بموجبها على المواجهة وخوض المعارك الكبيرة. فقد شدد الحصار على جماعات الزنج المتفرقين في المناطق الجنوبية من العراق ولا سيما في البطائح والاهوار وأطرافها مما اضطرهم على التجمع بفوات كبيرة لكي تستطيع خرق الحصار المفروض عليها ، ورد الجيوش التي أخذت توالى هجومها عليها. وعلى الرغم من كثرة الخسائر التي حلت بهذه الجيوش فانها اضطرت صاحب الزنج على خوض معارك كبيرة كانت نتائجها في معظم الحالات وبالا عليه.

ومن العوامل الاخرى المهمة التي ساعدت على فشل الحركة ما رافقها من عنف الزنج وقسوتهم وتشبعهم بروح الحقد والانتقام ، مما جعل الناس ينقمون عليها ويتطوعون لمحاربتها. فضعضع ذلك قوات علي بن محمد مما أدى به الى الفشل ، وقد انتهى بقتله كل نشاط للزنوج في جنوبي العراق.

٥٤

الفصل الثاني

الاضطرابات الأخرى

واجه خلفاء سامرا اضافة الى الفتن والمؤامرات التي ذكرناها آنفا ، حركات أخرى أقل شأنا وأضعف خطرا. وهي أقرب الى أن تكون حركات تمرد وعصيان تقوم بين آن وآخر في ولايات وأقاليم مختلفة من أنحاء الدولة العربية المترامية الأطراف. الا انها مع ذلك استنفدت كثيرا من الجهود للقضاء عليها ، مع ما سببته من خسائر في الارواح والاموال.

ومن المؤسف ان مصادرنا التأريخية التي عاصر أصحابها تلك الاحداث أو جاءوا بعدها بقليل ، عند ما تذكر تمردا ما أو حركة عصيان ، لا تهتم بأسبابها ولا تتحوى العوامل التي أدت اليها والظروف التي كانت تحيط بها بقدر ما تركز من اهتمام بتوجيه العساكر اليها واخضاعها ووصف ما يرافق ذلك من قسوة وبطش. ويرجح ان ذلك ناشىء من الاعتقاد بأن الخروج على الخلافة غير جائز شرعا. ولذا فلا داعي لمعرفة أسبابه. أما الاهتمام بالقضاء على تمرد ما وما يتبع ذلك من تقتيل وحرق ونهب ، فيظهر انه تهديد للاخرين وتحذيرهم من سوء المصير اذا ما أقدموا على أمر مماثل.

٥٥

سوف نتناول في هذا الفصل حركات التمرد والعصيان التي قامت ضد خلفاء سامرا بحسب تسلسلها التأريخي لكي تعطينا صورة عن جانب من الاوضاع الداخلية للدولة العربية حينذاك. كما سنفرد بحثا خاصا بكل حركة من حركات الخوارج لاختلاف طبيعة خروجهم على الخلافة ، والفتن التي قامت في أرمينية واذربيجان لتعددها على فترات متقاربة.

١ ـ تمرد الزط :

تسلل الى منطقة البطائح في جنوبي العراق قبل الفتح العربي بعض القبائل الهندية عرفت بالزط. وقد هاجروا من مواطنهم في الهند لغلاء وقع هناك فتنقلوا في بلاد كرمان والاهواز الى أن صاروا الى هذه المواضع (١). ويعتبرهم ابن خلدون انهم أخلاط من الناس (٢). والواقع انهم أصبحوا كذلك بعد أن التجأ اليهم عدد من اللصوص وقطاع الطرق والعبيد الفارين. وهناك قول بأن الحجاج الثقفي عند ما كان واليا على العراق أتى بخلق من زط السند واصناف ممن بها من الامم ومعهم أهلوهم وأولادهم وجواميسهم ، واسكنهم باسافل كسكر فغلبوا على البطيحة وتناسلوا بها (٣). وان محمد بن القاسم هو الذي حملهم من السند الى العراق (٤).

عاش الزط في منطقة البطائح بعزلة عن بقية السكان ، واحتفظوا بعاداتهم وتقاليدهم الغريبة وبطراز معيشتهم ولباسهم. وعلى الرغم من حسن معاملة العرب لهم ، وخاصة بعد الفتح العربي ، لم يلبثوا ان اصبحوا عنصر فتنة وفساد ، فالتجأ اليهم اباق العبيد والهاربين من وجه السلطة ، واخذوا ينتهبون الغلات الزراعية من

__________________

(١) التنبيه والاشراف / ٣٠٧.

(٢) تاريخ ابن خلدون ٣ / ٥٤٦.

(٣) فتوح البلدان / ٣٦٨.

(٤) نفس المصدر / ١٦٦.

٥٦

البيادر. وعند ما نشبت الحرب الاهلية بين الخليفة الامين وأخيه المأمون ، اغتنموا فرصة ضعف السلطة فخرجوا عليها. واخذوا يقطعون طريق البصرة بالسلب والاعتداء ، فتحامى الناس عن الاجتياز بهم. وانقطع عن بغداد ما كان يحمل اليها من البصرة بالسفن ، فاشتد امرهم على الناس. فلما استقر المأمون ببغداد حاول تأديبهم ، فارسل في سنة ٢٠٥ ه‍ عيسى بن يزيد الجلودي لمحاربتهم (١). ثم بعث في السنة التالية حملة أخرى بقيادة داود بن ماسجور (٢). الا انه فشل في التغلب عليهم لصعوبة تعقيبهم في أهوار البطائح.

ولما استخلف المعتصم بانّه قرر ان يقضي على عبثهم بصرامة. فوجه اليهم أحمد بن سعيد الباهلي فهزموه (٣). فبعث اليهم في منتصف سنة ٢١٩ ه‍ جيشا بقيادة عجيف بن عنبسة الذي اتبع في محاربتهم خطة تقوم على سد منافذ الطرق النهرية ومحاصرتهم. فضيق عليهم الخناق قرابة ستة شهور حتى اضطرهم على الاستسلام. وكان الخليفة هو الذي أمره باتباع هذه الخطة في حربهم (٤). ومما يدل على اهتمام المعتصم بالله بامر الزط انه أمر عجيفا بترتيب الخيل في كل سكة من سكك البريد لتركض بالاخبار ، فكان الخبر يخرج من عند عجيف فيصل الى المعتصم بالله في يومه (٥).

وكان برأس الزط محمد بن عثمان وقد اسقط في يده بعد أن حاصرهم عجيف ، فطلب الامان على دمائهم وأموالهم ، فامنهم عجيف ، وحملهم في السفن وجاء بهم الى بغداد. وكان عددهم

__________________

(٥) الطبري ٨ / ٥٨٠. والكامل ٦ / ٣٦٢.

(٦) الطبري ٨ / ٥٨١. والكامل ٦ / ٣٧٩.

(٧) تاريخ اليعقوبي ٢ / ٤٧٢.

(٨) فتوح البلدان / ٣٦٩.

(٩) نفس المصدر ، والطبري ٩ / ٨ ، والكامل ٦ / ٤٤٣.

٥٧

حوالي سبعة وعشرين ألفا بين رجل وامرأة وصبي ، وعدد المقاتلة منهم اثنا عشر ألفا (١). ويصف لنا الطبري كيفية عرضهم على الخليفة الذي رغب في مشاهدتهم بازيائهم. اذ عبأهم عجيف في زواريقهم على هيئتهم في الحرب ، معهم البوقات ، ودخل بهم بغداد يوم عاشوراء من سنة ٢٢٠ ه‍ والمعتصم بالله عند الشماسية في سفينة كبيرة من نوع الزو ، فمر به الزط على تعبئتهم ينفخون بالبوقات. فكان أولهم بالقفص وآخرهم بحذاء الشماسية ، واقاموا في سفنهم ثلاثة أيام ، ثم عبر بهم الى الجانب الشرقي فدفعوا الى بشر بن السميذع فذهب بهم الى خانقين ، ثم نقلوا الى عين زربة (٢). وهي احدى الثغور الشامية ، ويظهر ان نقلهم اليها كان تقوية لحاميتها. ويقول البلاذري ان عجيفا أخذهم جميعا وقدم بهم بغداد في الزواريق ، فجعل بعضهم بخانقين وفرق سائرهم في عين زربة والثغور (٣). ويؤيد هذا ما ذكره المسعودي بأنه انزلهم بلاد خانقين وجلولاء من طريق خراسان ، وبلاد عين زربة من الثغر الشامي (٤). وقد قضت الهجمات البيزنطية على الثغور العربية على القسم الاكبر منهم.

٢ ـ تمرد جعفر الكردي :

عصى في الموصل أحد زعماء الاكراد اسمه جعفر بن مهرجش (٥) في سنة ٢٢٦ ه‍ وتبعه عدد كبير من الاكراد وغيرهم ممن كانوا يتذمرون من تعسف الولاة. فولى المعتصم بالله عبد الله بن السيد بن انس الأزدي على الموصل وأمره بالقضاء على تمرد جعفر واتباعه. وكان جعفر قد استولى على مدينة الموصل والجبال

__________________

(١٠) الطبري ٩ / ١٠.

(١١) نفس المصدر.

(١٢) فتوح البلدان / ١١٨.

(١٣) التنبيه والاشراف / ٢٠٧.

(١٤) الطبري ٩ / ١١٨ ، والكامل ٦ / ٥٠٧ وفيه اسمه جعفر بن فهرجس ، ومثل هذا جاء اسمه في تاريخ ابن خلدون ـ ٣ / ٥٧٦.

٥٨

القريبة منها ، فقاتله عبد الله وأخرجه من الموصل. فلجأ جعفر مع أتباعه الى أحد الجبال المنيعة. ولما تبعه جيش عبد الله استظهر عليه جعفر لمعرفته بتلك المواضع الجبلية ، واعتياد اتباعه على القتال فيها. فهزم عبد الله وقتل كثير من أفراد جيشه ، وكاد أن يقضى عليه ، الا ان أحد قواده استطاع ان يشاغل اتباع جعفر عن أصحابه من جيش عبد الله مما سهل لهم الانسحاب والنجاة.

ولما علم الخليفة بفشل حملة عبد الله بن انس وتمزق جيشه ، وجه في المحرم من سنة ٢٢٧ ه‍ القائد ايتاخ على رأس حملة لقتال ابن مهرجش. فالتقى ايتاخ بالتمردين ، واستطاع بعد عدة معارك أن يتغلب عليهم ويمزق شملهم. فتفرق من بقي من اتباع جعفر عنه ، ووثب به أحد أصحابه فقتله (١). فاوقع ايتاخ باتباعه ولاحقهم وأكثر فيهم القتل والسبى. ثم حشد الاسرى والنساء والاموال وحمل ذلك الى تكريت (٢).

٣ ـ خروج المبرقع اليماني :

من الحوادث المهمة التي حدثت في السنة الاخيرة من عهد المعتصم بالله ، وكانت من نتائج تعاظم سلطة الجند الاتراك ، وعدم مراعاتهم حقوق الناس وتعديهم على حرياتهم ، ظهور ثائر في جبال الأردن هو أبو حرب تميم اللخمي ، وقد عرف بالمبرقع اليماني. وهو رجل من أهل فلسطين اشتهر بالشجاعة وشدة البأس. وقد ثار على السلطة عند ما حاول أحد الجنود الاتراك النزول في داره وهو غائب ، فمانعته امرأة كانت في البيت فضربها واغلظ لها الكلام.

__________________

(١٥) الطبري ٩ / ١١٨ ، والكامل ٦ / ٥٠٧ ، وفيه : قيل ان جعفرا شرب سما كان معه فمات.

(١٦) الطبري ٩ / ١١٨.

٥٩

فلما عاد أبو حرب شكت اليه الأمرأة سوء معاملة الجندي التركي ، لأن العرب لم يألفوا نزول الجند قسرا في بيوتهم. فاخذ سيفه وبحث عن الجندي ، فوجده وقتله. ثم هرب من ملاحقة السلطة وقصد أحد جبال الاردن وأقام مختفيا. وقد جعل على وجهه برقعا لئلا يعرف (١). وكان يظهر في النهار متبرقعا ، فاذا جاءه أحد أمره بالمعروف ونهاه عن المنكر ، فاذا استجاب له ذكر الخليفة وما يأتيه من الاعمال القبيحة ويعيبه عليها (٢). فاستجاب له جماعة من فلاحي تلك الناحية والقرى القريبة منها ، رغبة في التخلص من أوضاعهم الاقتصادية والمعيشية السيئة.

وزعم المبرقع انه أموي ، ولعل ذلك كان سبب تخوف السلطة من توسع دعوته ، لا سيما اصحابه زعموا انه السفياني (٣). وكان ممن استجاب الى دعوته جماعة من رؤساء اليمانية انتصارا له وعصبية لانه من اليمانيين ، منهم زعيم يقال له بيهس وكان مطاعا فيهم ، ورجلان آخران من أهل دمشق (٤). مما جعل الخليفة المعتصم بالله يهتم بأمره ، فسير اليه القائد رجاء الحضارى في زهاء الف من الجند. فلما اتاه رجاء وجد جماعته يزيدون على مائة ألف ، فتحاشى الاصطدام بهم. ولقلة خبرة المبرقع العسكرية فانه لم يبادر الى مهاجمة الجيش الذي قدم لتأديبه. وقد عسكر رجاء بعيدا عنه واخذ يشاغله ويطاوله حتى آن وقت الزرع فانصرف من كان مع المبرقع من الفلاحين الى أراضيهم ، ولم يبق معه الا قرابة الالفين. ونظرا لقلة معرفتهم بشؤون الحرب فقد استطاع رجاء الحضاري ان يفل جمعهم بسهولة. ويقول مسكويه : فتأمل رجاء عسكر المبرقع فلم يجد فيه من له فروسية غيره ، فقال لاصحابه لا

__________________

(١٧) نفس المصدر / ١١٦ ، وتجارب الامم ٦ / ٥٢٧ ، والعيون والحدائق ٣ / ٤٠٨.

(١٨) الطبري ٩ / ١١٦ ، وتجارب الامم ٦ / ٥٢٧ ، والكامل ٦ / ٥٢٢.

(١٩) نفس المصادر.

(٢٠) الكامل ٦ / ٥٢٢ ، والطبري ٩ / ١١٦.

٦٠