سامرا عاصمة الدولة العربية في عهد العباسيين - ج ١

أحمد عبد الباقي

سامرا عاصمة الدولة العربية في عهد العباسيين - ج ١

المؤلف:

أحمد عبد الباقي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الشؤون الثقافية العامة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٣
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

٣
٤

فهرست كتاب سامرا عاصمة الدولة العربية

في عهد العباسيين

الباب الأول : تأسيس سامرا وعمرانها :

الفصل الاول : تأسيس سامرا

الفصل الثاني : منشآت المعتصم بالله في سامرا

الفصل الثالث : سامراء في عهد المتوكل على الله

الفصل الرابع : تأسيس مدينة المتوكلية

الفصل الخامس : سامراء بعد المتوكل على الله الفصل السادس : العودة الى بغداد وهجر سامرا

الفصل السابع : دور السكن في سامرا

الفصل الثامن : زخارف سامرا

الباب الثاني : خلفاء سامرا

الفصل الاول : الخلافة والمبايعة وولاية العهد

الفصل الثاني : المعتصم بالله

٥

الفصل الثالث : الواثق بالله

الفصل الرابع : المتوكل على الله

الفصل الخامس : المنتصر بالله

الفصل السادس : المستعين بالله

الفصل السابع : المعتز بالله

الفصل الثامن : المهتدي بالله

الفصل التاسع : المعتمد على الله

الباب الثالث : مؤسسات الدولة العربية في سامرا

الفصل الأول : وزراء سامرا

الفصل الثاني : الكتّاب

الفصل الثالث : القضاة في عهد سامرا

الباب الرابع : خلفاء سامرا والأتراك الفصل الأول : الاتراك في عهد المعتصم بالله وابنه الواثق بالله

الفصل الثاني : الصراع بين المتوكل على الله والأتراك

الفصل الثالث : ايام الفتنة

الباب الخامس : العلويون وخلفاء سامرا

الفصل الاول : خلفاء سامرا والعلويون

الفصل الثاني : خروج العلويين في عهد خلفاء سامرا

٦

الباب السادس : الفتن والاضطرابات في عهد سامرا

الفصل الأول : الفتن الكبرى

الفصل الثاني : الاضطرابات الاخرى

الباب السابع : خلفاء سامرا والمحنة

الفصل الاول : المعتزلة وأهل السنة

الفصل الثاني : المعتصم بالله والمحنة

الفصل الثالث : المحنة في عهد الواثق بالله

الفصل الرابع : نهاية المحنة

الباب الثامن : علاقات الدولة العربية بمملكة الروم

الفصل الاول : الحروب بين العرب والروم

الفصل الثاني : المفاداة بين العرب والروم

الفصل الثالث : العلاقات الثقافية والتجارية بين العرب والروم

الباب التاسع : الامارات شبه المستقلة في عهد سامرا

الفصل الاول : امارة بني الاغلب

الفصل الثاني : امارة الطاهريين

الفصل الثالث : امارة بني طولون

الفصل الرابع : امارة الصفارين

٧

الباب العاشر : مجالس خلفاء سامرا

الفصل الأول : مجالس المعتصم بالله

الفصل الثاني : مجالس الواثق بالله

الفصل الثالث : مجالس المتوكل على الله

الفصل الرابع : مجالس خلفاء سامرا الآخرين

٨

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة :

هناك قسم من تاريخ الدولة العربية في عهد العباسيين يؤلف وحدة تاريخية كاملة ، امتدت من سنة ٢٢١ ه‍ حتى سنة ٢٧٩ ه‍ ، كانت فيه مدينة سامرا حاضرة الخلافة الاسلامية. وهذه المدينة التي انشئت لتكون عاصمة الخلافة في ايام المعتصم بالله ثامن الخلفاء من بني العباس ، شاء لها القدر ان تكون عاصمة لامبراطورية من اعظم الامبراطوريات التي ظهرت على مسرح التاريخ. فقد امتدت الامبراطورية العربية من سواحل المحيط الأطلسي غربا حتى تخوم الصين شرقا ورغم اختلاف اجناس رعاياها واختلاف السنتهم ، وقيام بعض الامارات شبه المستقلة على اطرافها المتباعدة ، فقد كانت ولاياتها جميعا مرتبطة برباط الدين الاسلامي والحضارة العربية وتخضع كلها لخليفة سامرا. وكما يقول المستشرق الهولندي كرامرز «انها كانت تؤلف كتلة دينية واحدة فضلا عن وحدة سياسية متينة العرى متراصة البنيان ، جمعت بينها قوة السلاح ، وجعلت سكانها يقفون في العالم كأعظم قوة مركزية عرفها البشر». [تراث الاسلام / ١٢٥]

ونستطيع ان نعتبر تأسيس مدينة سامرا اهم اعمال المعتصم بالله وابقاها اثرا. وتقوم هذه الأهمية على ما تطلبه تأسيسها من

٩

تصميم مسبق ، وجهد كبير متواصل ، ومال وفير ، وما لعبته العاصمة الجديدة من دور مهم في مسيرة الحضارة العربية خلال الشطر الاكبر من القرن الثالث. وقد تيسر للمعتصم بالله ان ينهض بذلك العمل العظيم بما وهب من حب للعمران ، وللجندية والحياة العسكرية ، وما توفر له من المال. وقد اختار المكان المناسب للمدينة من حيث حسن الجو والمناخ ، وتوفر المياه ، وحصانة الموقع. وخططها بما يسد احتياجات عسكره من الأتراك ، ومتطلبات الحياة المدنية. ووزع الاعمال الانشائية المطلوبة لتأسيس المدينة على قواده وكبار رجاله بما كفل سرعة انجازها. ولم يبخل ببذل ما احتاجه لذلك من الاموال. فاستطاع ان يقيم مدينة واسعة كاملة المرافق في خلال مدة وجيزة تعتبر قياسية ـ اذ ابتدأ ببنائها في سنة (٢٢١ ه‍) وتم انجازها في اواخر السنة التالية ـ. ومع ان الصفة العسكرية غلبت على مؤسساتها ومرافقها عند تأسيسها ، اذ كان معظم سكانها في اول أمرها من الجند الأتراك الذين كانوا اهم أسباب تأسيسها ، بحيث أطلق عليها اسم «العسكر». الا انها ما لبثت ان قصدها اصناف الناس واستوطنوها باعتبارها حاضرة الخلافة. ولم تمض مدة يسيرة على تأسيسها حتى غدت من أمهات مدن الدنيا آنذاك. وقد أقدم اليها الخليفة نفسه من كل بلد من يعمل عملا من الاعمال ، او يعالج مهنة من مهن الزرع والغرس ، وحمل من سائر البلدان من اهل كل مهنة وصناعة فانزلهم في المدينة وأقطعهم فيها لبناء منازل لهم. فاتسعت عمارة المدينة واتصلت بيوتها وقصورها واسواقها ، وانتقل اليها عدد كبير من وجوه الناس واهل النباهة من سائر المدن والأمصار لطيب جوها وحسن موقمها وعمارتها.

الا ان المدينة لم تلبث ان امتد اليها الخراب عند ما النقل الخليفة المعتضد بالله عائدا الى بغداد في سنة (٢٧٩ ه‍) بحيث لم يبق منها بعد سنين قلائل سوى اطلالها. غير ان هذه الاطلال حفظت لنا

١٠

طيلة عدة قرون اسس الابنية الفخمة التي كانت فوقها مما ساعد ، الآثاريين على استكشاف كثير من معالمها وتحديد الشوارع الرئيسة وكثير من القصور ودور السكن وثكنات الجيش ، التي كانت فيها. والتعرف على الأسس الفنية والمعمارية التي قام عليها تخطيط المدينة وعمرانها. اذ كشفت الحفريات والتنقيبات الحديثة من المعلومات عن البناء والزخرفة ما يعطي فكرة جليّة عن جمال الحضارة العربية الاسلامية التي أفاءت على العالم آنذاك ، والتي تمثلت في تلك المدينة الخالدة.

ومع أهمية سامرا عاصمة الدولة العربية في ازهى عصورها ودورها الكبير في بناء الحضارة العربية ، فانها لم تنل ما تستحقه من عناية المؤرخين واهتمامهم. فقد أقام بها عدد من الخلفاء كان لهم اثر مهم في تاريخها ، ووقعت في ايامها احداث جسام تركت آثارها العميقة على مسيرة الدولة العربية. وكان عهدها عهد القمم من اعلام الرجال ممن تفخر بهم في مختلف ميادين العلم والأدب. فقد عاصرها الامام أحمد بن حنبل الشيباني ، واماما الحديث محمد ابن اسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج القشيري ، والمؤرخ الفقيه العالم محمد بن جرير الطبري ، والمؤرخ البلداني أحمد بن أسحاق اليعقوبي. واماما اللغة والنحو المبرد محمد بن يزيد وثعلبه احمد ابن يحيى الشيباني ، وعميد ادباء عصره عمرو بن بحر الجاحظ ، والشاعران العبقريان ابو تمام والبحتري ، وفيلسوف العرب يعقوب بن اسحاق الكندي ، وابرز اطباء عصرهم يوحنا بن ماسويه ويختيشوع بن جبرائيل وحنين بن اسحاق ، وآخرون كثيرون. كما تميز عهد سامرا باحداث خطيرة ، منها ان الدولة العربية بلغت اوج قوتها حينما هدد المعتصم بالله في سنة (٢٢٣ ه‍) مدينة القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية بعد ان اجتاح قواعد الروم وحصونهم وافتتح عمورية أهم مدنهم. كما قضت الدولة العربية في هذا العهد على خطرين تعرضت لهما هما حركة بابك الخرمي وفتنة الزنج.

١١

وفي هذا العهد ايضا ظهرت نتائج تتريك الجيش العربي ، اذ طغى القواد الأتراك وتسلطوا على شؤون الدولة وبخاصة منذ ايام المتوكل على الله حتى ايام المعتمد على الله حينما استطاع اخوه الموفق المهيمن على شؤون الخلافة ان يكبح جماحهم الى حين. وكان ابرز مظاهر تسلط الاتراك استبدادهم بالخلفاء وقد قتلوا اربعة منهم وخلعوا ثلاثة من الخلافة.

ويظهر ان ما أصاب سامرا من اهمال كان سببه الرئيس سرعة خرابها بعد عودة عاصمة الدولة الى مدينة السلام التي استعادت مكانتها في التاريخ العربي الاسلامي. وعسى ان نوفق في تلافي بعض هذا الاهمال بما سنعرضه في الصفحات التالية من تاريخ الدولة العربية في عهد سامراء في مختلف جوانبه. ونرجو ان تكون المواضيع التي تناولنا بحثها وعرضها بشيء من التفصيل كافية لأن تعطي صورة واضحة عن التاريخ المذكور بما يتفق والمركز الذي شغلته مدينة سامرا ما يزيد على نصف قرن كانت فيه حاضرة الخلافة الاسلامية وعاصمة الدولة العربية.

وقد جاء هذا البحث في عشرة أبواب ، يضم كل منها عددا من الفصول يتناسب وطبيعة المواضيع التي يتضمنها الباب وسعتها. فكان الباب الأول خاصا بتأسيس سامرا وعمرانها ، وقد اشتمل على منشأت المعتصم بالله فيها ، وسامرا في عهد المتوكل على الله ، وتأسيسه المدينة المتوكلية «الجعفرية» ، وسامرا بعده ، والعودة الى بغداد وهجر سامرا ، ثم دور السكن في المدينة ، والزخارف التي اشتهرت بها. واشتمل الباب الثاني على دراسة خلفاء سامرا من حيث المبايعة وولاية العهد مع نبذة مختصرة عن سيرة كل منهم لا سيما ما يتعلق منها بالدولة والمجتمع. وخصص الباب الثالث الدراسة مؤسسات الدولة العربية في عهد سامرا فضم دراسة عن الوزارة والكتابة والقضاء. اما الباب الرابع فقد تناول علاقة

١٢

خلفاء سامرا بالاتراك وما قام بين الطرفين من صراع ومظاهر ذلك الصراع وما انتهى اليه. وخصص الباب الخامس لموقف العلويين من خلفاء سامرا. واشتمل الباب السادس على دراسة الفتن والاضطرابات التي واجهت خلفاء سامرا ، الكبرى منها كحركة الخرمية وفتنة الزنج ، والمؤامرات التي استهدفت الخلافة ، والاضطرابات الاخرى التي كانت أقل خطرا رغم تعددها. وضم الباب السابع موضوع المحنة التي آثارها المعتزلة وموقف خلفاء سامرا منها. واختص الباب الثامن بدراسة علاقات الدولة العربية بمملكة الروم فشمل الحروب والمفادات والعلاقات التجارية والثقافية بين الطرفين في خلال عهد سامرا. واشتمل الباب التاسع على الامارات شبه المستقلة في عهد سامرا من حيث ادارة شؤونها وعلاقاتها بالخلافة. وخصص الباب العاشر لمجالس خلفاء سامرا العلمية والادبية منها ومجالس الأنس والسمر.

وقد انتهجنا في دراستنا هذه اسلوبا يختلف عن الطريقة التي الفناها في كتابة التاريخ العربي. وهو اسلوب لا يهتم بالاشخاص قدر اهتمامه بالاحداث التاريخية من حيث اسبابها ونتائجها ومسرح حدوثها. اي ان الاحداث هي محور الدراسة والبحث وليس الاشخاص. وحاولنا جهد استطاعتنا ان نلم بتفاصيلها ومكوناتها لنضع امام القارىء صورة جلية لذلك العهد متمثلة بمجريات الاحداث التي وقعت خلاله ، وما أحاط بها من الظروف المختلفة التي أدت بها الى ان تسير في الاتجاه الذي صارت اليه ، مع دراسة آثارها على المجتمع آنذاك. فعرضنا ذلك بشكل وحدات «ابواب» تتناول مواضيع تكوّن بمجموعها تاريخه.

ومن الواضح ان دراسة الوقائع التاريخية بشكل وحدات تساعد

١٣

على فهمها بمختلف جوانبها ، رغم امتداد زمنها ، وما نشأ عنها من نتائج ، مما يجعلها متكاملة واضحة. ونحسب ان هذا الاسلوب سيعطي من الصور عددا اكثر ومن الشمول والوضوح مجالا اوسع ، مما توفره الطريقة التقليدية في عرض المادة التاريخية ، لا سيما ان هذا الاسلوب يتيح مجالا رحبا للتعرف على مختلف جوانب حياة الدولة العربية برمتها آنذاك. تلك الجوانب التي لا تنال الاهتمام الكافي في الطريقة التقليدية.

وقد راعينا في دراستنا بعض الاسس التي التزمنا بها في مختلف الابواب ، اهمها : ١ ـ الحرص على التأكيد على عروبة عهد سامرا والتطور الحضاري خلاله ، باعتباره امتدادا للدولة العربية التي قامت في المدينة المنورة اثر هجرة الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وسلم اليها وامتدت حتى منتصف القرن السابع الهجري. اذا لم تعد كلمة العرب بمعناها الواسع تقتصر على سكان بلاد العرب فقط ، بل انها شملت جميع الامم والشعوب التي حمل العرب اليها الدين الاسلامي ، واتخذت من العربية لغة لها ، وانضوت تحت راية الدولة العربية ، ومن ثم كانت الحضارة التي ازدهرت آنذاك وآتت اكلها في القرن التالي حضارة عربية. ٢ ـ ومما له علاقة بذلك اجتهدنا ان نكشف عن اسباب وضع بعض الأخبار بصيغة معينة ، او تحريفها بشكل او بآخر ، وبخاصة ما يتعلق بمحاولة الحط من شأن العرب وقادتهم. مما كان يدسّه اعداء الأمة العربية في ثنايا الوقائع والاخبار. ٣ ـ والتزمنا جهد الاستطاعة بلغة العصر واسلوبه السائد في عهد سامرا من حيث التعابير والمصطلحات والمحتوى دون ان نتوسع بالاستعانة بالمعارف الحديثة وذلك للحفاظ على التراث اللغوي ، وتقديم صورة صادقة عن العهد المذكور من جهة ، وللتمتع بنكهة ذلك الاسلوب من التعبير المتميز بقدر كبير من الفصاحة والبلاغة. ٤ ـ وقد أرّخنا جميع الاحداث والوقائع بالتاريخ العربي «الهجري» لأنسجام ذلك مع طبيعة الموضوع. على اننا

١٤

وضعنا في آخر الكتاب جدولا بما يقابل السنوات الهجرية الواردة فيه من السنوات الميلادية ، تسهيلا لمن يريد معرفة ذلك. ٥ ـ وعند البحث في سيرة الخلفاء اجتهدنا ان نتحرى رعايتهم للمصالح العامة في اعمالهم وتصرفاتهم ، واهتمامهم بكل ما له علاقة بالدولة والمجتمع ، لنتبين مدى ما قدموه في خلال حكمهم مما يثبت اركان الدولة وما بذلوه لصالح النفع العام ، ولرفع ما يلحق الناس من عنت وارهاق.

واننا لا نستطيع ان ندعي بأن هذه الدراسة قد حققت ما نصبو اليه من اعادة مدينة سامرا الى المركز الذي تستحقه في التاريخ العربي. الا اننا نأمل ان تكون قد القت بعض الضوء على ذلك واوضحت دور سامرا في تطور الحضارة العربية ، وذلك حسبنا ، والله تعالى من وراء القصد انه نعم المولى ونعم النصير.

المؤلف

١٥
١٦

الباب الأول

تأسيس سامرا وعمرانها

١ ـ تأسيس سامرا

٢ ـ منشآت المعتصم بالله في سامرا

٣ ـ سامرا في عهد المتوكل على الله

٤ ـ تأسيس مدينة المتوكلية (الجعفرية)

٥ ـ سامرا بعد المتوكل على الله

٦ ـ العودة الى بغداد وهجر سامرا

٧ ـ دور السكن في سامرا

٨ ـ زخارف سامرا

١٧
١٨

الباب الأول تأسيس سامرا وعمرانها

الفصل الأول

تأسيس سامرا

١ ـ اسباب الانتقال من بغداد :

لما قدم المعتصم بالله بغداد من طرسوس بعد ان بويع بالخلافة في سنة (٢١٨ ه‍) نزل دار المأمون في الجانب الشرقي من بغداد ، واقام حتى سنة (٢٢١ ه‍) ، وكان معه عدد كبير من الجند الاتراك. ويجمع قدامى المؤرخين على ان الجند الاتراك ، الذين توسع الخليفة المعتصم بالله في استخدامهم في الجيش العربي ، وقد اشدت شوكتهم ، كانوا اهم الاسباب التي دفعته الى الانتقال من العاصمة بغداد وان يتخذ له عاصمة جديدة غيرها. يقول اليعقوبي : «وكان اولئك الاتراك العجم اذا ركبوا الدواب ركضوا فيصدمون الناس يمينا وشمالا فيثب عليهم الغوغاء فيقتلون بعضا ويضربون بعضا ، وتذهب دماؤهم هدرا لا يعدون على من فعل ذلك. فثقل ذلك على المعتصم وعزم على الخروج من بغداد» (١) ، اي انه خرج بهم ليحميهم من العامة.

__________________

(١) كتاب البلدان / ٢٥٦.

١٩

ويقول الطبري : «حدثني جعفر بن محمد الفراء ان سبب خروج المعتصم الى القاطول كان ان غلمانه الاتراك كانوا لا يزالون يجدون الواحد بعد الواحد منهم قتيلا في ارباضها ، وذلك انهم كانوا عجما جفاة يركبون الدواب ، فيتراكضون في طرق بغداد وشوارعها ، فيصدمون الرجل والمرأة ويطأون الصبي ، فيأخذهم الاباء فيدكسونهم عن دوابهم ويجرحون بعضهم ، فربما هلك من الجراح بعضهم ، فشكت الأتراك ذلك الى المعتصم ، وتأذت بهم العامة. فذكر انه رأى المعتصم راكبا منصرفا من المصلّى في يوم عيد اضحى او فطر ، فلما صار في مربعة الحرشي (١) ، نظر الى شيخ قد قام اليه فقال له : يا ابا اسحاق ، قال : فابتدره الجند ليضربوه ، فاشار اليهم المعتصم فكفهم عنه ، فقال للشيخ : مالك : قال : لا جزاك الله عن الجوار خيرا ، جاورتنا وجئت بهؤلاء العلوج فاسكنتهم بين اظهرنا فايتمت بهم صبياننا ، وارملت بهم نسواننا ، وقتلت بهم رجالنا. والمعتصم يسمع ذلك كله. قال : ثم دخل داره فلم ير راكبا الى السنة القابلة في مثل ذلك اليوم. فلما كان في العام المقبل في مثل ذلك اليوم خرج فصلى بالناس العيد ، ثم لم يرجع الى منزله ببغداد ، ولكنه صرف وجه دابته الى ناحية القاطول ، وخرج من بغداد ولم يرجع اليها» (٢).

وما ذكره ابن الأثير لا يخرج عما ذكره الطبري (٣). ويقول المسعودي : «وكانت الاتراك تؤذي العوام فى مدينة السلام بجريها الخيول في الأسواق وما ينال الضعفاء والصبيان من ذلك ، فكان اهل بغداد ربما ثاروا ببعضهم فقتلوه عند صدمه لامرأة او شيخ كبير او صبي

__________________

(٢) كذا في الاصل ، والصحيح الخرسي ـ دليل خارطة بغداد المفصل / ١٢٢ ، وبغداد في عهد الخلافة العباسية / ١٩٠.

(٣) الطبري ٩ / ١٨.

(٤) الكامل ٦ / ٤٥٢.

٢٠