سامرا عاصمة الدولة العربية في عهد العباسيين - ج ٢

أحمد عبد الباقي

سامرا عاصمة الدولة العربية في عهد العباسيين - ج ٢

المؤلف:

أحمد عبد الباقي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٦١
الجزء ١ الجزء ٢

امانة صدر واضطلاع كفاية

وصحة عزم واتساع ذراع

وعند ما ترك المستعين بالله حاضرة الخلافة الى بغداد استصحب معه محمد بن الواثق بالله وغفل عن أن يأخذ معه المعتز والمؤيد ولدي المتوكل على الله. فلما نزل ببغداد علي محمد بن عبد الله بن طاهر خليفته فيها ، قال له محمد : يا أمير المؤمنين اين المعتز والمؤيد؟

قال : بسر من رأى. قال محمد : فجرى على لساني ان قلت شعر زهير :

أضاعت فلم تغفر لها غفلاتها

فلاقت بيانا عند آخر معهد

دما حول شلو تحجل الطير حوله

وبضع لحام واهاب مقدد

ومعنى البيتين : اضاعت البقرة ولدها اذ غفلت عنه بالرعي ، فلم تغفر لها السباع غفلتها وافترست ولدها ، فشهدت دماءه عند آخر موضع فارقته فيه ، ورأت بقية جسده وجلده والطيور تحوم حولها (١).

كما تنبأ عن مصير المستعين بالله عند شخوصه الى بغداد ، أبو علي أحمد بن الحارث اليمامي ، فقال (٢) :

ما زال الا لزوال ملكه

وحتفه من بعده وهلكه

ومن الشعراء الذين امتدحوا المستعين بالله محمد بن عبد الله بن داود الهاشمي المعروف باترجة ، فقد قال (٣) :

__________________

(٢٢) الهفوات النادرة / ١٩ ـ ٢٠.

(٢٣) الطبري ٩ / ٢٨٢.

(٢٤) تاريخ بغداد ٥ / ٨٥.

٤٠١

غدوت بسعد غرة لك باكرة

فلا زالت الدنيا بملكك عامره

ونال مواليك الغنى بك ما بقوا

وعزوا وعزت دولة لك ناصره

بعثت علينا غيث جود ورحمة

فنلنا بدنيا منك فضلا وآخره

فلا خائف الا بسطت امانه

ولا معدم الا سددت مفاقره

تبين بفضل المستعين ـ بفضله

على غيره ـ نعماء في الناس ظاهره

ويقول الشاعر عند ما انشدته الشعر دفع الي خريطة كانت في يده مملوءة دنانير ، ودعا بغالية وجعل يغلفني بيده.

وكان أهل بغداد قد احبوه ومالوا اليه. وعند ما علموا بامر خلعه وثبت العامة بمحمد بن عبد الله بن طاهر وتذمرت عليه (١).

وقال أحد الشعراء البغداديين في خلعه شعرا يعكس شعور أهل بغداد نحوه ، اذ يقول(٢) :

اني أراك من الفراق جزوعا

أمسى الأمام مسيرا مخلوعا

وغدا الخليفة أحمد بن محمد

بعد الخلافة والبهاء خليعا

كانت به الأيام تضحك زهرة

وهو الربيع لمن أراد ربيعا

__________________

(٢٥) الطبري ٩ / ٣٣٨.

(٢٦) الطبري ٩ / ٣٥٠ ـ ٣٥١ ، ومروج الذهب ٤ / ١٦٧.

٤٠٢

فازاله المقدور من رتب العلا

فثوى بواسط لا يحس رجوعا

وقد اكثر الشعراء القول عند ما خلع المستعين بالله نفسه وبايع للمعتز بالله ، وكلها تؤكد ضعفه واستسلامه لتسلط الأتراك ، وتظهر الارتياح لخلافة المعتز بالله. فقد قال البحتري يمتدح الخليفة المعتز بالله ويهجو المستعين بالله عند نفيه الى واسط بعد ما اضطر على التنازل عن الخلافة ، منها قوله (١) :

ألا هل اتاها أن مظلمة الدجى

تجلت وأن العيش سهل جانبه

وأنا رددنا المستعار مذمّا

على أهله ، واستأنف الحق صاحبه

عجبت لهذا الدهر أعيت صروفه

وما الدهر الا صرفه وعجائبه

متى أمل الدياك ان تصطفى له

عرى التاج أو تثنى عليه عصائبه

فكيف أدعى حق الخلافة غاصب

حوى دونه ارث النبي أقاربه

بكى المنبر الشرقي اذ خار فوقه

على الناس ثور قد تدلت غباغبه

الى أن يقول :

ولم يكن المعتز بالله اذ سرى

ليعجز و (المعتز بالله) طالبه

__________________

(٢٧) ديوان البحتري ١ / ٢١٣ ـ ٢١٨.

٤٠٣

٣ ـ المعتز بالله والشعر والغناء :

بعد ان بويع المعتز بالله بالخلافة دخل في حرب مع المستعين بالله استمرت ما يقرب من السنة. وما أن انتهت الحرب حتى بدأ النزاع بينه وبين القواد الاتراك. وكانت الحرب قد استنزفت مالية الدولة واضعفت اقتصادها ، فلم تعد ايرادات بيت المال تفي بنفقات الجند الأتراك ، مما اثارهم عليه فاشتد صراعهم معه. على ان هذه الظروف العسيرة لم تمنع المعتز بالله من ان يغتنم الفرصة ليجلس الى ندمائه ويستمع الى شيء من الغناء ، والى اشعار بعض الشعراء.

كان للمعتز بالله بعض المعرفة بصنعة الغناء ، وقد ذكر ابو الفرج في الفصل الذي عقده عن اغاني الخلفاء واولادهم ان المعتز بالله لحن الشعر التالي وغناه (١).

لعمري لقد اصحرت خيلنا

باكناف دجلة للمصعب

فمن بك منا يبت آمنا

ومن يك من غيرنا يهرب

وانه كان ينظم شعرا ويلحنه ، أو يتركه لمغنين آخرين. فقد انشد لنفسه يوما بعض الأبيات ، منها قوله (٢) :

اني قمرتك يا سؤلي ويا أملي

أمرا مطاعا بلا مطل ولا علل

__________________

(٢٨) الاغاني ٩ / ٣٠٥ ، والشعر لعدي بن الرقاع قاله في الوقعة التي كانت بين الخليفة عبد الملك بن مروان ومصعب بن الزبير بطسوج مسكن بالعراق ، وقتل فيها مصعب.

(٢٩) الاغاني ٩ / ٣١٨.

٤٠٤

حتى متى يا حبيب النفس تمطلني

وقد قمرتك مرات فلم تف لي

وطلب الى عريب المغنية ان تغنيه ، فلحنته وغنته :

وشرب المعتز بالله في مجلس عقده ببستان مملوء من زهر النمام وبينه شقائق النعمان. فدخل اليه يونس بن بغا ، صديقه وألفه ، وعليه قباء أخضر ، فقال (١) :

شبهت حمرة خده في ثوبه

بشقائق النعمان في النمام

وقال لجلسائه ومغنيه : اجيزوا. فانبرى بنان المغني فقال :

والقد منه اذا بدا في قرطق

كالغصن في لين وحسن قوام

فأمره المعتز بالله ان يغني فيه. فصنع فيه لحنا وغناه.

واستدعى المعتز بالله يوما عبيد الله بن عبد الله ، وطلب اليه المقام عنده بسامرا ، وقال عبيد الله ان المعتز بالله أرسل الى شارية المغنية ان تخرج فتعاللت عليه ، فقال : عندي من يحب ان يسمعك ، واحب لك وله ذلك ، ولا بد من حضورك. فخرجت فجلست خلف الستارة ، ثم قالت : لو لا الزائر ما جئنا ، ثم غنت الصوت الآتي (٢) :

غشيت المنازل بالأنعم

كمنعرج الوشم في الأعصم

ثم غنت بعده :

لقد راعني للبين صوت حمامة

على غصن بان جاوبتها حمائم

__________________

(٣٠) الاغاني ٩ / ٣١٨ ـ ٣١٩.

(٣١) الديارات / ١١٠ ـ ١١١.

٤٠٥

فقال لي الخليفة : كيف تسمع؟ قلت : اسمع شيئا حظ العجب منه أكثر من حد الطرب. فاستحسن هذا الكلام مني. ثم اسمعني زمر زنام الزامر وقد ضعف وارعش وازمنه النقرس. واراني الآلة التي عملها أحمد بن موسى المهندس من صفر يرسل فيها الماء فيسمع له زمر السرناي ، ثم ادخلني الى شباك وأمر أن يجمع بين الفيل والسبع فرأيتهما كيف يتواثبان ، ثم قال لي : أذكر اني اريتك اليوم أربعة أشياء طريفة فايهما أظرف عندك؟ قلت : غناء شارية. فقال : صدقت.

واصطبح المعتز بالله في أحد الايام واقترح على عريب صوتا فغنته ، فاستحسن غناءها وسر به ، فأمر له بثلاثين ألف درهم ، وفرق على الجلساء كلهم الجوائز والخلع والطيب ، وكان الشعر الذي غنته لعلي بن الجهم ، وهو (١) :

العين بعدك لم تنظر الى حسن

والنفس بعدك لم تسكن الى سكن

كأن نفسي اذا ما غبت غائبة

حتى اذا عدت لي عادت الي بدني

وجلس يوما مجلس غناء والجلساء والمغنون حوله ، وقد أعد الخلع والجوائز ، وكان يونس بن بغا بين يديه يسقيه. فدخل بغا واستأذن لأبنه لأن والدته على فراش الموت ، فأذن له فخرج. ففتر المعتز بالله عن السماع ونعس فنام. وقام الجلساء وتفرق المغنون. فلما عاد يونس مساء ورآه المعتز بالله عاد الى الشرب وعاد الندماء والمغنون ، فقال المعتز بالله :

تغيب فلا أفرح

فليتك لا تبرح

__________________

(٣٢) الاغاني ١٠ / ٢٢٦ ـ ٢٢٧.

٤٠٦

وان كنت عذبتني

بانك لا تسمح

فاصبحت ما بين ذي

ن لي كبد تجرح

على ذاك يا سيدي

دنوك لي أصلح

ثم قال للمغنين غنوة. فجعلوا يفكرون ، فقال السليمان بن القصار الطنبوري : ويلك ألحان الطنبور أصلح وأخف فغن فيه أنت ، فغناه فيه لحنا. فدفع اليه دنانير الخريطة ـ وهي مائة دينار مكية ، ومئتان ، مكتوب على كل دينار منها «ضرب هذا الدينار بالجوسق لخريطة أمير المؤمنين المعتز بالله (١).

وخرج المعتز بالله يوما الى دير مرمار تلبية لدعوة راهب الدير الذي قام بما يحتاجه موكب الخليفة ومجلسه. وجاء بأولاد النصارى فخدموا المجلس أحسن خدمة. فسر المعتز بالله سرورا عظيما ، ووصل الراهب صلة سنية. ثم اعتاد الخروج الى هذا الدير بين حين وآخر(٢).

كان المعتز بالله يقول الشعر احيانا ، لا سيما في مجالسه الغنائية كما أشرنا آنفا. وعند ما تمت له البيعة قال (٣) :

توحدني الرحمن بالعز والعلا

فأصبحت فوق العالمين أميرا

ويقول أبو الفرج ان بنانا المغني أضاف الى هذا البيت بيتا آخر ، وجعل المخاطبة عن نفسه للمعتز بالله ولحنه وغناه اياه :

__________________

(٣٣) الاغاني ٩ / ٣١٩ ـ ٣٢٠ ، والديارات / ١٦٧ ـ ١٦٨.

(٣٤) الاغاني ٩ / ٣٢١ ـ ٣٢٢ ، والديارات / ١٦٥.

(٣٥) الاغاني ٩ / ٣٢٢.

٤٠٧

توحدك الرحمن بالعز والعلا

فانت على كل الأنام أمير

تقاتل عنك الترك والخزر كلها

كأنهم أسد لهن زئير

ونسب الى المعتز بالله قوله (١) :

يموت الفتى من عثرة بلسانه

وليس يموت المرء من عثرة الرجل

وروى له ابنه عبد الله بن المعتز قوله (٢) :

ألا حي الحبيب فدته نفسي

بكأس من مدامة خانقينا

فاني قد بقيت مع الليالي

اقاسي الهم في يده سنينا

ودخل الزبير بن بكار على المعتز بالله ، وهو محموم ، فقال له : اني قلت في ليلتي هذه أبياتا وقد اعيا علي اجازة بعضها ، وانشد (٣) :

اني عرفت علاج الجسم من وجعي

وما عرفت علاج الحب والجزع

جزعت للحب والحمى صبرت لها

اني لأعجب من صبري ومن جزعي

__________________

(٣٦) تاريخ بغداد ٢ / ١٢٥.

(٣٧) الاغاني ٩ / ٣٢٢.

(٣٨) بدائع البدائة / ١٢٩ ، وجاء بصيغة اخرى في الديارات / ١٦٦. والزبير بن بكار راوية وعالم بأنساب العرب واخبارها توفى سنة ٢٥٦ وكان يؤدب الموفق في صغره.

٤٠٨

من كان يشغله عن حبه وجع

فليس يشغلني عن حبكم وجعي

فقال ابن بكار :

وما أمل الحبيب ، ليتني أبدا

مع الحبيب ، ويا ليت الحبيب معي

فأمر له على هذا البيت بألف دينار.

وكان جماعة من الشعراء قالوا في المعتز بالله ، حين استقامت له الخلافة ، أقوالا كثيرة. فمن ذلك ما قاله محمد بن مروان بن أبي الجنوب من قصيدة (١) :

قد عادت الدنيا الى حالها

وسرنا الله باقبالها

دنيا بك الله كفى أهلها

ما كان من شدة أهوالها

وكان قد ملكها جاهل

لا تصلح الدنيا لجها لها

قد كانت الدنيا به قفلت

فكنت مفتاحا لأقفالها

ان التي فزت بها دونه

عادت الى أحسن أحوالها

خلافة كنت حقيقا بها

فضلك الله بسر بالها

__________________

(٣٩) الطبري ٩ / ٣٥١ ـ ٣٥٢.

٤٠٩

وقال الشاعر أبو علي البصير (١) :

آب أمر الاسلام خير مآبه

وغدا الملك ثابتا في نصابه

مستقرا قراره مطمئنا

آهلا بعد نأيه واغترابه

وقد امتدح البحتري الخليفة المعتز بالله كما مدح أباه من قبل ، بعديد من القصائد قالها في مناسبات مختلفة. فقد مدحه عند انتصاره على المستعين بالله بقصيدة منها قوله (٢) :

لقد أعطي المعتز بالله نعمة

من الله جلت أن تحد وتقدرا

تلافى به الورى من عظيمة

أناخت على الاسلام حولا وأشهرا

ومن فتنة شعواء غطى ظلامها

على الافق حتى عاد أقتم أكدرا

الى ان يقول :

أغر من الأملاك اما رأيته

رأيت ابا اسحاق والقرم جعفرا

تقدم في حق الخلافة سهمه

اذا رد عنها غيره فتأخرا

عمرت أمير المؤمنين مسلما

فعمر الندى والجود ان تعمرا

__________________

(٤٠) مروج الذهب ٤ / ١٦٩.

(٤١) ديوان البحتري ٢ / ٩٣١ ـ ٩٣٤.

٤١٠

وعند ما قتل القائد التركي بغا الصغير ، وكان عزم على الوثوب بالخليفة ، قال البحتري قصيدة يشير الى ذلك ، ويهنيء المعتزل بالله بفشل بغا ومؤيديه ، منها (١) :

للدهر عندي منة مشكورة

شفت الذي في الصدر من أوغام

والله ما اسدى مباديء نعمة

الا تغمد أهلها بتمام

طلب العمامة والقضيب وأين لم

تبلغ حماقة ذلك الحجام

أتراه وهم انه أهل لها

سفها تعدى هذه الاوهام

قد رام تفريق الموالي بعد ما

جمعوا على ملك أغر همام

متعزز بالله ، أصبح نعمة

لله سابغة على الاسلام

الى أن يقول :

فاليوم عاودت الخلافة عزها

واضاء وجه الملك بعد ظلام

أضحى بغاء وأقربوه وحزبهم

وكأنهم حلم من الأحلام

طاحوا فما بكت العيون عليهم

بدموعها ، ومضوا بغير سلام

__________________

(٤٢) ديوان البحتري ٣ / ٢٠١٩ ـ ٢٠٢٢.

٤١١

وحدث البحتري انه اتفق مع أبي معشر المنجم على زيارة المعتز بالله لما حبسه المستعين بالله ، والتودد اليه أملا في أن يحسن اليهما اذا ما آل الأمر اليه. فتوصلا حتى لقياه في حبسه ، فانشده البحتري أبياتا من الشعر كان قالها في القائد العربي محمد بن يوسف الثغري لما حبس. فاخذ المعتز بالله الرقعة التي بها الابيات ، وطلب الى خادم له ان يحفظها لديه ويذكره بها ان فرج الله عنه ليقضي حق الشاعر. وأخذ أبو معشر طالع المعتز وقت عقد له بالعهد ، ووقت مبايعة المستعين بالله ، ونظر في ذلك ، وحكم له بالخلافة بمقتضى الطالع بعد فتنة وحروب ، وان المستعين بالله سيقتل. ولما بويع للمعتز بالله دخل اليه البحتري وابو معشر ، فانشده البحتري قصيدة مدحه بها وهنأه بالخلافة وهجا المستعين بالله ، منها :

يجانبنا في الحب من لا نجانبه

ويبعد عنا في الهوى من نقاربه

وكيف رأيت الحق قر قراره

وكيف رأيت الظلم آلت عواقبه

وهي قصيدة طويلة ذكرنا بعضا آخر من أبياتها في فصل سابق. وقد استعاده المعتز بالله أبياتها مرارا فاعادها. ثم دعا بالخادم الذي كان معه في الحبس وطلب الرقعة التي فيها الشعر الذي انشده البحتري في الحبس ، وقال للبحتري انه قد أمر له بألف دينار لكل بيت منها ، ونصحه بأن يشتري بهذا المال ضيعة ينتفع بغلتها وتبقى لولده من بعده. وأمر لأبي معشر بألف دينار ، وجعله رئيس المنجمين في دار الخلافة ، وأجرى له في كل شهر مائة دينار رزقا وثلاثين دينارا نزلا (١).

__________________

(٤٣) مفصل القصة في : الفرج بعد الشدة ١ / ٩٣ ـ ٩٥.

٤١٢

وعند ما خلع المعتز بالله من الخلافة وقتل رثاه بعض الشعراء. وقد ذكر المسعودي مقاطع من بعض القصائد التي قيلت في ذلك ، منها قول أحدهم (١) :

أصبحت مقلتي تسح الدموعا

اذ رأت سيد الانام خلوعا

لهف نفسي عليه ما كان اعلا

وأسراه تابعا متبوعا

الزموه ذنبا عن غير جرم

فثوى فيهم قتيلا صريعا

وبنو عمه وعم أبيه

أظهروا ذلة ، وابدوا خضوعا

ما بهذا يصح ملك ، ولا يغزى

عدو ولا يكون جميعا

٤ ـ المهتدي بالله :

كان المهتدي بالله حين ولى الخلافة قد اطرح الملاهي وحرم الغناء والشراب. وأمر باخراج المغنين والقيان المغنيات والراقصات من سامرا (٢). ولم يعقد من المجالس سوى جلوسه لرد المظالم ، وقد أشرنا الى ذلك في سيرته. وجلس المهتدي يوما للمظالم فاستعداه رجل على ابن له. فأمر باحضاره ، فاحضر واقامه الى جنب الرجل. فسأله عما ادعاه عليه فأقر به ، فامره بالخروج له من حقه ، وكتب له بذلك كتابا. فلما فرغ قال الرجل : والله يا أمير المؤمنين ما أنت الا كما قال الشاعر :

__________________

(٤٤) مروج الذهب ٤ / ١٧٩.

(٤٥) الكامل ٧ / ٢٣٤ ، وتاريخ بغداد ٣ / ٣٥٠ ، والفخري / ٢٢٣.

٤١٣

حكمتموه فقضى بينكم

أبلج مثل القمر الزاهر

لا يقبل الرشوة في حكمه

ولا يبالي غبن الخاسر

فقال له المهتدي بالله : أما أنت أيها الرجل فأحسن الله مقالتك ، وأما أنا فما جلست هذا المجلس حتى قرأت في المصحف «ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وان كان مثقال جبة من خردل اتينا بها وكفى بنا حاسبين» (١) الا انه لم تطل مدته اذ اشتد الصراع بينه وبين القواد الأتراك ، فانتهى به الامر الى القتل. وكان البحتري قد امتدحه في خلافته بعدة قصائد ، منها تلك التي يشيد فيها بدرعه وتقواه ، وقوة عزيمته في مجابهة المشاكل التي كانت تواجهه ، وسعيه ليسود العدل والأمن في الدولة العربية. منها قوله(٢) :

بارك الله للخليفة في الملك

الذي حازه له المقدار

رتبة من خلافة الله قد طا

لت بها رقبة له وانتظار

طلبته فقرا اليه ، وما كان

ن به ساعة اليها افتقار

أخذ الأولياء اذ بايعوه

بيدي مخبت عليه الوقار

وتجلى للناظرين أبي

فيه عن جانب القبيح ازورار

__________________

(٤٦) تاريخ بغداد ٣ / ٣٤٩ ، والاية في سورة الانبياء : ٤٧.

(٤٧) ديوان البحتري ٢ / ٨٥٢ ـ ٨٥٦.

٤١٤

وأرتنا السجاد سيما طويل

الليل في وجهه لها آثار

ولديه تحت السكينة والأخبات

سطو على العدى واقتدار

زاد في بهجة الخلافة نورا

فهو شمس للناس وهي نهار

وأجار الدنيا من الخوف والح

يف ، فهل يشكر المجير المجار

٥ ـ المعتمد على الله والشعر والغناء :

بدأ المعتمد على الله خلافته بالانصراف الى اللهو والملذات. وقد اشرنا عند الكلام عن سيرته الى ركونه الى أخيه الموفق في ادارة شؤون الدولة ، فقام بذلك خير قيام ، فاوقف اسراف المعتمد على الله ومنع عنه المال لحاجة الدولة آنذاك الى الانفاق على تدبير أمور الحرب الداخلية وبخاصة مع الزنج. ومع هذا فقد كان للمعتمد على الله ندماؤه وجلساؤه ، وكانت له بعض مجالس اللهو والغناء. وقد اعتبره أبو الفرج ممن له صنعة في الغناء من الخلفاء ، ويروى عن القاسم بن زرزور ان المعتمد على الله القى عليه لحنا صنعه في هذا الشعر للفرزدق (١) :

ليس الشفيع الذي يأتيك مؤتزرا

مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا

وللمعتمد على الله شعر غنت فيه شارية جارية ابراهيم بن المهدي ، هو (٢) :

__________________

(٤٨) الاغاني ٩ / ٣٢٣.

(٤٩) الديارات / ١٠٠.

٤١٥

تأنيت بالحب دهرا طويلا

فلم ار في الحب يوما سرورا

وروي عن جحظة النديم انه قال : كنت عند المعتمد على الله فغنت شارية بشعر مولاها ابراهيم بن المهدي ولحنه :

يا طول علة قلبي المعتاد

الف الكرام وصحبة الامجاد

ما زلت آلف كل قدم ماجد

متقدم الآباء والأجداد

فاستحسن غناءها. فقالت : هذا غنائي وانا عارية فكيف لو كنت كاسية. فأمر لها المعتمد على الله بألف ثوب من جميع أصناف الثياب الخاصة ، فحمل لها ذلك. وذلك ما لم يعمله خليفة من قبل (١).

وعرضت على المعتمد على الله جارية حسنة الغناء سريعة الخاطر ، فامتحنها في الغناء والكتابة فرضي بما ظهر له من أمرها. ثم قال لأحد ندمائه ان يقارضها الشعر ، فقال لها النديم : وهبت نفسي للهوى.

فقالت بداهة : فجار لما أن ملك.

فقال : فصرت عبدا خاضعا.

فقالت : يسلك بي حيث سلك.

فأمر المعتمد على الله بشرائها ، فابتيعت بثلاثين ألف درهم (٢). ولا شك في ان صلته من الثياب الخاصة ، وشراء هذه الجارية ، كان في أول عهده ، قبل ان تكف يده عن بيت المال.

__________________

(٥٠) الاغاني ١٦ / ١٤ ـ ١٥.

(٥١) نساء الخلفاء / ١٠٢.

٤١٦

قالت بدعة جارية عريب ، وكانت مثلها أديبة مغنية ، ان المعتمد على الله كان يوجه ما ينظم من الشعر الى عريب لتصوغ له الالحان المناسبة ، فكانت تقول : ويلي كم أغنى في حروف ألف ، با ، تا (١)؟

ويبدو ان المعتمد على الله كان معجبا بغناء عريب وألحانها ، رغم تقدمها في العمر ، فأمر أحد ندمائه ان يجمع غناءها. فأخذ هذا منها دفاترها وصحفها ، وكانت قد جمعت فيها غناءها ، وهو في ألف صوت (٢).

ومن المغنين الذين غنوا للمعتمد على الله أبو حشيشة ، فقد غنى يوما بين يديه :

حرمت بذل نوالك

واسوءتا من فعالك

لما ملكت وصالي

أيستني من وصالك

فوهبه مائتي دينار. وقال أبو حشيشة : كان المعتمد على الله يشتهى على أن أغنيه هذا الصوت (٣) :

قلبي يحبك يا منى

قلبي ويبغض من يحبك

لأكون فردا في هوا

ك فليت شعري كيف قلبك

__________________

(٥٢) الديارات / ١٠٠.

(٥٣) الاغاني ٢١ / ٥٥.

(٥٤) نهاية الارب ٥ / ٣٦ ـ ٣٧.

٤١٧

وكان المغني أحمد بن يحيى المكي يحضر مجلس المعتمد على الله مع المغنين ويغني مرتجلا. فيوقع بقضيب على دواة ، أي انه يضبط وزن غنائه بضرب قضيب على دواة ، وكلاهما من معدن (١).

ويقال ان المعتمد على الله اصطبح يوما واقترح ان يغنى بشعر أبي نواس :

يا كثير النوح في الدمن

لا عليها بل على السكن

سنة العشاق واحدة

فاذا احببت فاستكن

فلم يزل يغني به يومه ، ثم اشتكى جوفه ومات في ليلته (٢)

وقد نادم المعتمد على الله عدد من الندماء منهم ابن خرداذبة أبو القاسم عبيد الله بن احمد ، وكان قد تولى البريد في اقليم الجبال ، فنادم الخليفة واختص به (٣). وهو صاحب كتاب المسالك والممالك. وكنا ذكرنا شيئا عن سيرته في موضوع الجغرافية واشرنا الى ان تصنيفة كتابه المذكور كان استجابة لسؤال المعتمد على الله عن مسالك الأرض وممالكها وصفاتها ، وبعدها وغامرها (٤).

ونادم المعتمد على الله أيضا أبو الحسن احمد بن جعفر الملقب ب «جحظة» وهو شاعر مطبوع واديب بارع ، حاذق في صنعة الغناء على الطنبور. ألف كتابا عن المعتمد على الله ، اشبه بالمذكرات ، سماه «كتاب ما شاهده من أمر المعتمد» (٥). وكان جحظة ينظم الشعر ويلحنه ويغنيه. وكان عظيم الجثة فاذا قام الخليفة ورجع ،

__________________

(٥٥) الديارات هامش ص / ١٥٤.

(٥٦) الهفوات النادرة / ٥٠.

(٥٧) الفهرست / ٢١٨.

(٥٨) المسالك والممالك / ٣.

(٥٩) الفهرست / ٢١٤.

٤١٨

قام الندماء ، ونام هو ، وقال هذا عوض القيام ، لأنه لا يقدر عليه (١). ومع قبح منظره وجحوظ عينيه كان أطيب الناس غناء ، واحسنهم مجالسة ، وفيه قال ابن الرومي (٢) :

نبئت جحظة يستعير جحوظه

من فيل شطرنج ومن سرطان

يا زحمتي لمنادميه تحملوا

ألم العيون للذة الآذان

وكان للمعتمد على الله شعر جيد ، وشعر غير موزون. وربما قال الأبيات فيصح بعضها ويفسد باقيها. وذكر له الشابشتي بعضا من اشعاره (٣). ويبدو ان المعتمد على الله كان يعتز بهذه الابيات القليلة التي يقولها من الشعر ، اذ اتخذ له وراقا يكتب شعره بماء الذهب (٤). وقد وجدت في عهد المكتفي بالله الذي تولى الخلافة في سنة ٢٨٩ ه‍ رقاع ملفوفة فيها اشعار للمعتمد على الله مكتوبة بالذهب (٥). ومما ذكره له الشابشتي قوله (٦) :

أصبحت لا أملك دفعا لما

اسام من خسف ومن ذلة

تمضى أمور الناس دوني ولا

يشعر بي في ذكرها قلة

اذا اشتهيت الشيء ولو به

عني ، وقالوا : ها هنا علة

__________________

(٦٠) الديارات / ٢٦.

(٦١) الملح والنوادر / ١٩٨.

(٦٢) الديارات / ٩٨ ـ ١٠٦.

(٦٣) تاريخ الخلفاء / ٣٦٨.

(٦٤) الديارات / ١٠٠.

(٦٥) الديارات / ١٠١ ، ويقول الحصري ان المعتمد على الله قال هذا الشعر او قيل على لسانه ـ جمع الجواهر / ١٥٧.

٤١٩

وقوله لما ضيق عليه ومنع من بيت المال (١) :

أليس من العجائب ان مثلي

يرى ما قل ممتنعا عليه

وتؤخذ باسمه الدنيا جميعا

وما من ذاك شيء في يديه

اليه تحمل الأموال طرا

ويمنع بعض ما يجبى اليه

وقوله في دير العلث (٢) :

يا طول ليلي بفم الصلح

أتبعت خسراني بالربح

لهفي على دهر لنا قد مضى

بالقصر والقاطول والشلح

بالدير بالعلث ورهبانه

بين الشعانين الى الدنح

ومما وجد من شعره المكتوب بالذهب قوله (٣) :

طال والله عذابي

واهتمامي واكتئابي

بغزال من بني الأصفر

لا يعنيه ما بي

أنا مغرى بهواه

وهو مغرى باجتنابي

__________________

(٦٦) الديارات / ١٠١ ، ويقول الحصري ان المعتمد على الله قال هذا الشعر او قيل على لسانه ـ جمع الجواهر / ١٥٧.

(٦٧) الديارات / ٩٨.

(٦٨) الديارات / ١٠٠.

٤٢٠