سامرا عاصمة الدولة العربية في عهد العباسيين - ج ٢

أحمد عبد الباقي

سامرا عاصمة الدولة العربية في عهد العباسيين - ج ٢

المؤلف:

أحمد عبد الباقي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٦١
الجزء ١ الجزء ٢

مما رواه ابنه عبيد الله انه لم يكن يحب ان يشيع عنه شيء من ألحانه ، أو ان ينسب اليه ، لأنه كان يترفع عن الغناء ، وانه ماجس وترا بيده قط (١). ويقول الذهبي انه تاب قبل موته وكسر آلات الملاهي (٢).

وقد مدح عبد الله بن طاهر عددا من الشعراء على رأسهم أبو تمام الطائي الذي قصده الى خراسان. فلما وصل الى قومس ، وكان قد طالت به الشقة وعظمت عليه المشقة ، فقال (٣) :

يقول في قومس صحبي وقد اخذت

منا السرى وخطا المهرية القود

أمطلع الشمس تنوي أن تؤم بنا

فقلت : كلا ولكن مطلع الجود

وعند ما دخل عليه انشده قصيدته التي مدحه فيها ، ومطلعها (٤) :

هن عوادي يوسف وصواحبه

فعزما فقدما ادرك السؤل طالبه

ويقول فيها :

وركب كأطراف الأسنة عرسوا

على مثلها والليل تسطو غياهبه

لأمر عليهم أن تتم صدوره

وليس عليهم أن تتم عواقبه

__________________

(٢٥) نفس المصدر ١٢ / ١١١.

(٢٦) العبر ١ / ٤٠٦.

(٢٧) ديوان ابي تمام ٢ / ١٣٢.

(٢٨) كامل القصيدة في ديوان ابي تمام ١ / ٢١٦ ـ ٢٣٣.

٢٠١

فقد بث عبد الله خوف انتقامه

على الليل ما تدب عقاربه

يقولون ان الليث ليث خفية

نواجذه مطرورة ومخالبه

ويختمها بقوله :

بحسبك من نيل المناقب أن ترى

عليما بأن ليست تنال مناقبه

اذا ما امرؤ القى بربعك رحلة

فقد طالبته بالنجاح مطالبه

فاعجب الحاضرون في مجلس عبد الله بن طاهر بشعره ، واستحسنوا قوله في الأمير. حتى ان أحد الشعراء من الحاضرين تنازل لأبي تمام عن جائزة قد أمر له بها الأمير ، فقال له عبد الله : بل نضعفها لك ، ونقوم بالواجب له جزاء عن قوله.

وقد استمر عبد الله في أيام الخليفة الواثق بالله ، أميرا على خراسان وأقاليم الري وجرجان وطبرستان وكرمان ، وظل يحكمها محتفظا باستقلاله الداخلي. الا ان علاقته بالخليفة كانت ودية.

وتوفى عبد الله بنيسابور في ربيع الأول من سنة ٢٣٠ ه‍ وعمره ثمان وأربعون سنة (١).

وعند ما توفى عبد الله استعمل الواثق بالله ابنه طاهر بن عبد الله على أعمال أبيه كلها ، وذلك عملا بمشورة قاضي القضاة أحمد بن أبي دواد. اذ عند ما ورد الخبر بموت عبد الله أشار الوزير محمد بن عبد الملك الزيات على الخليفة أن يخرج اسحاق بن ابراهيم ،

__________________

(٢٩) الطبري ٩ / ١٣١ ، وتاريخ اليعقوبي ٢ / ٤٨ وفيه انه مات وهو ابن سبع واربعين سنة ، والكامل ٧ / ١٣ ، ووفيات الاعيان ٢ / ٢٧٥ وفيه انه مات في مرو.

٢٠٢

نائب الخليفة ببغداد ورئيس شرطته ، وهو من آل طاهر أيضا ، الى خراسان واليا ، ويظهر ان ابن الزيات كان يهدف بذلك الى اضعاف نفوذ الطاهريين ، وضمان ولاء الوالي الجديد ، وقد اقترح ان يضم اليه خمسة آلاف من الجند ويطلق ارزاقهم ، وان يمنحه الخليفة خمسة آلاف درهم معونة. ولما استطلع الواثق بالله رأي ابن أبي دواد بما اقترحه الوزير ابن الزيات قال ابن ابي دواد : ان اسحاق رهينة القوم ـ يقصد الطاهريين ـ عندك يا أمير المؤمنين ، فان اخرجته لم يكن في يدك أحد منهم ، وأما الجند فانت محتاج الى الزيادة منهم فكيف تفرقهم ولا سيما مع ما ينفق عليهم ، واخراج هذه الاموال لا وجه له ، وهناك ما هو خير من ذلك. قال الواثق بالله : ما هو؟ قال : طومار ورق بدرهمين تكتب فيه الى طاهر بن عبد الله بالتعزية عن أبيه ، وبتجديد الولاية له ، وتربح ما عزمت على انقاذه ، وتكون قد اتممت الصنيعة عند عبد الله وولده ، واحسنت الخلافة فيه. فاستصوب الواثق بالله رأيه ، وأمر ابن الزيات ان يكتب بموجبه (١).

وقد اقام طاهر بن عبد الله واليا على خراسان طيلة خلافة الواثق بالله ، واستمر بعده حتى توفى بنيسابور في رجب سنة ٢٤٨ ه‍ وله من العمر أربع وأربعون سنة (٢). فعين الخليفة المستعين بالله ابنه محمدا واليا مكانه. وقد جابه محمد بن طاهر كثيرا من المتاعب في خلال فترة ولايته. وفي أيامه انتهت امارة بني طاهر في خراسان.

٣ ـ نهاية الامارة :

كانت نهاية امارة بني طاهر على يد يعقوب بن الليث الصفار الذي اطمعه ما لمسه من ضعف محمد بن طاهر أمير خراسان. وقد

__________________

(٣٠) الديارات / ١٤٠ ـ ١٤١.

(٣١) تاريخ اليعقوبي ٢ / ٤٩٤.

٢٠٣

بدا ضعف محمد واضحا عند ما عجز عن مقاومة الحسن بن زيد العلوي الذي استفحل أمره في طبرستان واستولى على الري وجرجان ، وكلها أقاليم تابعة لولاية خراسان. وكذلك فشله في القضاء على عبث الشراة الذين خرجوا في امارته ولم يستطع دفعهم. فانتهز يعقوب الصفار الذي خرج في سجستان واستولى على كرمان وبلخ وهرات وولاية فارس ، فرصة هروب عبد الله السجزي الذي نازعه على ولاية سجستان ، والتجائه الى محمد بن عبد الله بن طاهر الذي رفض تسليمه الى يعقوب. فسار ابن الليث نحوه الى نيسابور. ولما شعر محمد بخطر ابن الليث حاول ان يترضاه ، فلم يرض ، بل دخل المدينة وقبض عليه وعلى أهل بيته. وأرسل ابن الليث كتابا الى الخليفة يبرر فيه استيلاؤه على خراسان ودخوله نيسابور وانهاء امارة الطاهريين ، بتفريط محمد في عمله ، وان أهل خراسان هم الذين سألوه المسير اليهم(١).

ويقال ان بعض أصحاب محمد بن عبد الله وبعض أفراد عائلته لما رؤا اديار أمره مالوا الى ابن الليث فكاتبوه وشجعوه على الاستيلاء على خراسان. وبنفس الوقت هونوا على محمد أمر ابن الليث وانه لا خوف عليه منه ، فثبطوه من الاحتراز منه والاستعداد لحربه (٢). واذا صح هذا فهو دليل على ضعف محمد وقصر نظره.

ولما دخل يعقوب ابن الليث نيسابور في شوال ٢٥٩ ه‍ وقبض على محمد وجميع أهل بيته استولى على أموالهم وما تحويه منازلهم ، وحملهم في الأصفاد الى قلعة بم بكرمان (٣). فانتهت ولاية محمد بن عبد الله بن طاهر التي دامت احدى عشرة سنة وشهرين ، وبذلك انتهت ما عرفت بامارة الطاهريين.

__________________

(٣٢) الكامل ٧ / ٢٦٢.

(٣٣) نفس المصدر.

(٣٤) كتاب البلدان / ٣٠٨.

٢٠٤

الفصل الثالث

امارة بني طولون

١ ـ ولاية مصر :

كانت علاقة مصر بالدولة العربية خلال عهد خلفاء سامرا قد مرت بدورين ، أولهما الدور الذي مر منذ أن اتخذت سامرا حاضرة للدولة في سنة ٢٢٢ ه‍ في عهد المعتصم بالله ، حتى أواخر عهد المعتز بالله سنة ٢٥٤ ه‍. وكانت مصر خلال هذا الدور احدى ولايات الدولة العربية خاضعة للخلفاء العباسيين الذين كانوا يعينون عليها الولاة والقضاة وعمال الخراج ويتولون شؤون امنها الداخلي والدفاع عنها ، ويجبى خراجها لبيت المال في سامرا. ويبدأ الدور الثاني منذ ان تولى القائد التركي أحمد بن طولون ولايتها في سنة ٢٥٤ ه‍ وتأسيسه امارة شبه مستقلة فيها استمرت حتى سنة ٢٨٢ ه‍ عند ما عادت مصر ولاية من ولايات الدولة العربية كما كانت. وسنستعرض فيما يأتي احداث كل من هذين الدورين.

وكانت أحوال مصر السياسية والادارية قد اضطربت في عهد الخليفة المأمون ، فقد انتقض أسفل البلاد ـ الوجه البحري ـ كله ، عربه وأقباطه «وأخرجوا العمال وخلعوا الطاعة بسبب سوء سيرة

٢٠٥

العمال فيهم» (١). مما اضطر المأمون الى ان يقدم الى مصر بنفسه في مطلع سنة ٢١٧ ه‍ فسخط على عيسى بن منصور وعزله عن الولاية ، ونسب ما وقع في البلاد الى سوء ادارته ، اذ قال له «لم يكن هذا الحدث العظيم الا عن فعلك وفعل عمالك ، حملتم الناس ما لا يطيقون وكتمتموني الخبر حتى تفاقم الأمر واضطربت البلاد» (٢). وعين بدلا عنه الأمير التركي أبا مالك كيدر الصغدى ، واسمه نصر بن عبد الله. كما عين هارون بن عبد الله الزهري على قضاء مصر. فقدم اليها هارون في أواخر رمضان من تلك السنة ، و «كان محمود السيرة عفيفا محبوبا من أهل البلد» (٣) وقد اعتنى بشؤون الاوقاف ، فثبت غلاتها وأوجه انفاقها ، كما رعى شؤون الأيتام وعاقب من يتهاون بأمورهم من الأوصياء عليهم. وقد رفض أن يحضر ممثل صاحب البريد مجلس قضائه ما لم يكن ذلك بأمر الخليفة.

ولما كتب أبو اسحاق ، وكان المأمون قد عينه على ولاية مصر ، الى خليفته كيدر بأمر المحنة ، استجاب القاضي هارون ووافقه على ذلك عامة الشهود وأكثر الفقهاء (٤).

وعند ما تولى أبو اسحاق المعتصم بالله الخلافة ورد كتابه الى كيدر يقره على امارته ، ويخبره ببيعته ، ويأمره باسقاط من في الديوان من العرب وقطع اعطياتهم. ويبدو انه اتخذ هذا الاجراء تأديبا للقواد والجند العرب الذين ايدوا المناداة بالعباس خليفة غداة موت أبيه المأمون ، وتنفيذا لسياسته في تتريك جيش الدولة ، ففعل كيدر ذلك. وكان من نتائج قطع الاعطيات عن العرب خروج

__________________

(١) كتاب الولاة وكتاب القضاة / ١٩٠ ، والخطط المقريزية ١ / ٣١١.

(٢) كتاب الولاة وكتاب القضاة / ١٩٢.

(٣) فتوح مصر / ٢٤٦ ـ ٢٤٧.

(٤) كتاب الولاة وكتاب القضاة / ٤٤٥.

٢٠٦

يحى بن الوزير الجروي في جمع من لخم وجذام (١). وقد استنكروا قطع أعطياتهم واعتبروا ذلك انتزاعا لحقوقهم.

ولما ورد كتاب المعتصم بالله بالتشدد بالمحنة استعفى القاضي هارون من ذمك. فكلف قاضي القضاة أحمد بن أبي داود محمدا بن ابي الليث ، وكان من رؤوس القائلين بخلق القرآن ، ان يتولى القضاء. فقال هارون اللهم لك الحمد على معافاتي مما بلوت به غيري (٢). فرفع ذلك الى ابن أبي دواد فأمر هارون بالتوقف عن الحكم ، ثم ما لبث ان عزله وعين ابن أبي الليث قاضيا على مصر بدلا عنه. كان ابن أبي الليث وراقا يقيم بمصر ، وهو فقيه على مذهب الكوفيين. فوضع يده على جميع الاموال المحبوسة. وحاول أن يسيء الى سلفه هارون الزهري ، فحاسبه على بعض أحكامه ، فكان يحضره الى مجلس القضاء ويوقفه مع الخصوم ويحاول ان يهينه وكاد أن يحبسه. وقد بقي ابن ابي الليث على قضاء مصر طيلة أيام الخليفة المعتصم بالله.

مات كيدر قبل أن يتمكن من القضاء على تمرد الجروي ، فتولى ابنه المظفر ولاية مصر باستخلاف أبيه واقرار الخليفة. وقد استطاع ان يقضي على الجروي واتباعه بعد قتالهم في وقائع عديدة. وكان المعتصم بالله أنعم على القائد التركي اشناس بولاية مصر ، فصرف أشناس بن كيدر عن ولايتها وعين موسى بن ابي العباس واليا على الصلاة (٣). فوصل في مستهل رمضان سنة ٢١٩ ه‍ ونزل بالعسكر. وكان موضع العسكر يعرف في صدر الاسلام بالحمراء القصوى ، وهو خطة نزل بها بعض القبائل العربية عند فتح مصر ،

__________________

(٥) نفس المصدر / ١٩٤ ، والخطط المقريزية ١ / ٣١١.

(٦) كتاب الولاة وكتاب القضاة / ٤٤٨.

(٧) كتاب الولاة وكتاب القضاة / ١٩٥ والنجوم الزاهرة ٢ / ٢٣٢ ، وجاء فيه : وجمع له الخراج في بعض الاحيان.

٢٠٧

ثم دثر حتى صار صحراء. ونزلت عساكر العباسيين التي تعقبت مروان بن محمد آخر الخلفاء الامويين ، في هذا الموضع عند جبل يشكر واخذوا يبنون فيه. ولما ولى مصر موسى بن عيسى الهاشمي ـ وقد تولاها ثلاث مرات في عهد الخليفة هارون الرشيد آخرها في سنة ١٧٩ ه‍ ـ ابتنى فيه دارا انزل فيها أهله وعبيده ، ثم اذن للناس فابتنوا فيه ، واتصل بناؤه ببناء الفسطاط. ثم بنيت فيه دار للامارة ، ومسجد جامع عرف بجامع العسكر ، فسمى ذلك الموضع منذ ذلك الوقت بالعسكر ، وصار أمراء مصر ينزلون به (١).

وقد طالت أيام موسى بن أبي العباس ، وكانت أياما حسنة ، اذ استطاع القضاء على الفتن الداخلية ، وامتحن فقهاء مصر وعلماءها فاجاب أكثرهم (٢). الا انه عزل وعين مالك بن كيدر بدلا عنه ، فقدم الى مصر في أواخر ربيع الآخر سنة ٢٢٤ ه‍ وسكن العسكر. وكانت له ولاية الصلاة فقط. أما الولاية على الخراج فكانت للخليفة يولي عليها من يشاء (٣). وكان مالك اداريا حازما الا انه صرف عن عمله بعد سنتين. ووليها القائد علي بن يحيى الارمني وقد ولاه أشناس على الصلاة فقط. فقدم اليها في أوائل ربيع الآخر سنة ٢٢٦ ه‍ ، واستمر في ولايته حتى وفاة المعتصم بالله. فأقره الواثق بالله على ولايته. وكان أبو الحسن قد سكن العسكر على عادة الولاة الذين سبقوه ، وجدّ في اصلاح أحوال البلاد وقمع الفتن والفساد. واقام واليا عليها حتى ورد الأمر عليه بعزله عن غير سخط عليه ، في أوائل ذي الحجة سنة ٢٢٨ (٤). فتوجه الى العراق وقدم على الواثق بالله بسامرا فاكرمه (٥).

__________________

(٨) الخطط المقريزية ١ / ٣٠٤.

(٩) النجوم الزاهرة ٢ / ٢٣٢.

(١٠) نفس المصدر ٢ / ٢٣٩.

(١١) كتاب الولاة وكتاب القضاة / ١٩٥ ـ ١٩٦ ، والنجوم الزاهرة ٢ / ٢٤٥.

(١٢) النجوم الزاهرة ٢ / ٢٤٥ ، وكتاب الولاة وكتاب القضاة / ١٩٦ ، ويقول الكندي ان عيسى بن منصور سجن علي بن يحيى وضيق عليه ، ثم اطلقه.

٢٠٨

وولى بعده عيسى بن منصور للمرة الثانية. وكان القائد أشناس قد توفى فعهد الخليفة بولاية مصر الى القائد ايتاخ ، فأقر ايتاخ عيسى بن منصور على امارته ، فاستمر فيها حتى وفاة الواثق بالله ، فصرف عنها في أول خلافة المتوكل على الله. وقد استطاع عيسى في خلال ولايته الثانية ان يمهد الامور ويقضي على الفتن. ولما ورد أمر الواثق بالله في سنة ٢٣١ ه‍ بامتحان العلماء والفقهاء والناس بخلق القرآن والتشدد في ذلك ، وقف الوالي الى جانب القاضي المتزمت محمد بن أبي الليث في ارهاق الناس في أمر المحنة. وقد استمرت سياسة ارغام الناس في مصر على القول بخلق القرآن الى ان استخلف المتوكل على الله وابطل المحنة.

لقد اكتسب عيسى بن منصور خيرة في الادارة والسياسة بحيث كانت أيام ولايته الثانية في مصر هادئة ، عدا ما تعرض له الناس من أمر المحنة. وقد استمر في ولايته هذه أربع سنوات وثلاثة أشهر. ولم تطل أيامه بعد عزله غير فترة يسيرة اذ مرض ولزم الفراش حتى مات في منتصف ربيع الآخر سنة ٢٣٣ (١).

وعند ما صرف عيسى عين ايتاخ هرثمة بن النضر الجبلي ، من أهل الجبل ، واليا على الصلاة فقط ، وفي عهده ورد كتاب المتوكل على الله بترك الجدل في القرآن والرجوع الى اراء أهل السنة في الامور الشرعية (٢). ولما توفى هرثمة في أواخر رجب سنة ٢٣٤ ه‍ أعاد ايتاخ علي بن يحيى الى الولاية على مصر ، الا انه ما لبث ان صرفه بعد بضعة أشهر ، واستصفيت أمواله (٣). ولما قتل ايتاخ جعل المتوكل على الله ولاية مصر لأبنه محمد المنتصر ، فولى هذا اسحاق بن

__________________

(١٣) النجوم الزاهرة ٢ / ٢٥٠.

(١٤) الخطط المقريزية ١ / ٣١٢ ، وكتاب الولاة وكتاب القضاة / ١٩٧ ، والنجوم الزاهرة ٢ / ٢٧٤ ، وجاء لقبه فيه : الجيلي.

(١٥) الخطط المقريزية ١ / ٣١٢ ، وكتاب الولاة وكتاب القضاة / ١٩٧.

٢٠٩

يحيى بن معاذ على الصلاة والخراج (١). فورد اليه كتاب الخليفة باخراج الطالبين من مصر الى العراق ، ففرض لهم الأموال ليستعينوا بها على السفر ، فاعطى الرجل منهم ثلاثين دينارا والمرأة خمسة عشر دينارا ، وفرق فيهم الثياب. فخرجوا من الفسطاط الى العراق ، ومنها أمروا بالخروج الى المدينة والاقامة بها (٢). ويقال ان اسحاق عزم على أن يثور بمصر الا انه عزل ، ولم يلبث يسيرا حتى مات (٣). وكان اسحاق من خبرة الولاة ، عادلا واداريا قديرا ، وشجاعا ممدوحا قصده بعض الشعراء ومدحوه ، وقد رفق بالناس أيام ولايته (٤).

وعين المنتصر في سنة ٢٣٨ ه‍ عنبسة بن اسحاق الضبي على ولاية الصلاة وجعله شريكا لأحمد بن خالد صاحب الخراج. فحاسب عنبسة العمال وأقامهم للناس وانتصف منهم ، واظهر من العدل ما ارتاح الناس اليه (٥). وفي أول ولايته نزل الروم في دمياط في يوم عرفة ، فلم يتمكن أهلها من مقاومتهم ، فدخلوا المدينة وقتلوا كثيرا من رجالها وسبوا النساء والاطفال. فخرج اليهم عنبسة يوم النحر في جيشه وكثير من المتطوعين فلم يدركهم ، اذ هربوا الى تنيس. وكان عنبسة قد أمر الجند من حامية دمياط ان يحضروا الى مصر فساروا اليها. فلما نزلها الروم لم يكن فيها من يدافع عنها ، فنهبوا وسبوا واحرقوا جامع المدينة ، وأوقروا سفنهم بما اخذوه من سلاح ومتاع ، ثم ساروا الى تنيس شرقي دمياط وكان عليها سور له بابان حديديان بنى في أيام المعتصم بالله ، فنهبوا ما فيها واخذوا البابين ورجعوا (٦).

__________________

(١٦) كتاب الولاة وكتاب القضاة / ١٩٨ ، والنجوم الزاهرة ٢ / ٢٨٣.

(١٧) كتاب الولاة وكتاب القضاة / ١٩٨.

(١٨) نفس المصدر / ١٩٩.

(١٩) النجوم الزاهرة ٢ / ٢٨٣.

(٢٠) كتاب الولاة وكتاب القضاة / ٢٠٠.

(٢١) الطبري ٩ / ١٩٣ ـ ١٩٥ ، والكامل ٧ / ٦٨ ـ ٦٩.

٢١٠

وعند ما بلغ الخبر الخليفة المتوكل على الله أمر ببناء حصن دمياط فابتديء في بنائه في أوائل رمضان سنة ٢٣٩ ه‍ (١) ، كما أمر عنبسة ان يبنى حصن تنيس أيضا ، وحصنا لمدينة الفرما (٢). وصرف عنبسة عن ولاية مصر في رجب سنة ٢٤٢ ه‍ ، وكانت ولايته أربع سنوات ونصف سنة تقريبا.

وخلف عنبسة على ولاية مصر أبو خالد يزيد بن عبد الله بن دينار وقد ولاه المنتصر فقدم الى البلاد في أواخر رجب من السنة المذكورة. وقام ببعض الاصلاحات الاجتماعية ، فأمر باخراج المؤنثين من مصر بعد أن ضربوا وطيف بهم ، ومنع من النداء والصراخ خلف الجنائز ، وعين المختارين في الكور ليمثلوا فيها السلطة ، والغي سباق الخيل وباع الخيل التي كانت للوالي لغرض السباق (٣).

ومن الاعمال المهمة التي انجزت في أيامه بناء المقياس الهاشمي لنهر النيل بجزيرة الروضة ، في سنة ٢٤٧ ه‍ بأمر من الخليفة المتوكل على الله ، وهو المقياس الكبير المعروف بالمقياس الجديد. وقد بناه المهندس محمد بن كثير الفرغاني الذي بعث به الخليفة من سامرا ، وبطل بعمارته كل مقياس آخر كان بنى قبله في الوجه البحري أو الوجه القبلي (٤). وولي أبا الرداد الفقيه عبد الله ابن عبد السلام الاشراف على المقياس ويقال انه من أهل البصرة قدم الى مصر وحدث بها ، وبقي مقياس النيل بأيدي أولاده وأحفاده مدة طويلة (٥).

__________________

(٢٢) كتاب الولاة وكتاب القضاة / ٢٤٢ ، والخطط المقريزية ١ / ٢١٤.

(٢٣) الخطط المقريزية ١ / ٢١١.

(٢٤) كتاب الولاة وكتاب القضاة / ٢٠٣ ، والنجوم الزاهرة ٢ / ٣٠٨.

(٢٥) النجوم الزاهرة ٢ / ٣١٠ ـ ٣١١.

(٢٦) نفس المصدر ٢ / ٣١١ ، ووفيات الاعيان ٢ / ٢٩٦.

٢١١

بقي يزيد واليا على مصر طيلة أيام المنتصر بالله والمستعين بالله ، وكذلك أقره المعتز بالله لما بويع له بالخلافة. الا ان ثورة قامت في الاسكندرية وامتدت الى الجيزة والفيوم ، في ربيع الاخر سنة ٢٥٢ ه‍ في خلال فترة اضطراب الخلافة ، وقد تزعمها جابر بن الوليد المدلجي وانضم اليه كثير من الناس وخاصة الانتهازيون منهم. ويظهر ان يزيد عجز عن القضاء على ثورة جابر وعبث اتباعه ، فاستنجد بالخليفة المعتز بالله فبعث اليه القائد مزاحم بن خاقان معينا له ، فقدم مزاحم الى مصر بجيش كبير. الا ان الاضطراب استمر في البلاد مما دل على عجز يزيد ، فصرفه المعتز بالله عن الولاية وعين القائد المذكور بدلا عنه ، بعد ان دامت ولايته عشر سنوات ونصف السنة.

فصرف مزاجم جهوده في اخماد الثورة واعادة الأمن والاستقرار الى البلاد ، وقد استطاع بعد معارك عديدة أن يقضي على اتباع جابر ، واضطره الى طلب الأمان ، فأمنه مزاحم مع نفر من أصحابه ، وبعث بهم الى حاضرة الخلافة (١).

وكان مزاحم بن خاقان قد عين على شرطة مصر ارخوز بن طرخان التركي ، فحاول هذا ان يحتذي بيزيد بن عبد الله ، فمنع النساء من الخروج الى الحمامات والمقابر ، ومنع الحصر والمساند التي كانت تتخذ للمجالس في الجوامع ، ونهى عن أن يشق ثوب على ميت أو يسود وجه أو يحلق شعر أو تصيح امرأة ، وسجن النوائح ، واشتد في هذه الامور (٢).

__________________

(٢٧) كتاب الولاة وكتاب القضاة / ٢٠٥ ـ ٢١٠.

(٢٨) النجوم الزاهرة ٢ / ٣٣٧ ، وكتاب الولاة وكتاب القضاة / ٢٠٨ ويسميه ازجور والخطط المقريزية ١ / ٣١٣ وجاء اسمه فيه ارجوز ، وفضلنا ما جاء في النجوم الزاهرة لانه يتفق مع ما جاء في الطبري ٩ / ٥٤٤.

٢١٢

وبقي مزاحم على ولاية مصر حتى توفي في أوائل المحرم سنة ٢٥٤ ه‍ فوليها ابنه أحمد باستخلاف ابيه ، الا انه لم يلبث سوى شهرين فتوفي ، فخلفه في الولاية ارخوز صاحب الشرطة لبضعة أشهر ، ثم صرف عنها بتعيين القائد التركي أحمد بن طولون الذي وصل مصر في شهر رمضان سنة ٢٥٤ فبدأ بوصوله عهد جديد فيها.

٢ ـ أحمد بن طولون وتأسيس الامارة :

ولد احمد بن طولون في سنة ٢٢٠ ه‍ وأمه جارية تدعى قاسم ابو هاشم (١). وكان أبوه طولون مملوكا تركيا أهداه نوح بن أسد عامل بخارى الى الخليفة المأمون سنة ٢٠٠ ه‍ في جملة ما كان موظفا عليه من المال والرقيق وغير ذلك (٢). وقد تقدمت الحال به فصار من قواد الجيش العربي ، وتولى رئاسة حرس المأمون. وقيل ان أحمد لم يكن ابنه وانما تبناه ، وهو ابن شخص آخر يدعى يلبخ ، ويروي أبو المحاسن قصة لطولون مع أحمد وهو صبي صغير فحظي عنده وتبناه (٣). الا ان من يقول انه ابن طولون انما يستدل على ذلك بأن الموفق لما اختلف معه وأمر بلعنه على المنابر نسبه الى طولون (٤).

نشأ أحمد بن طولون بسامرا نشأ جميلا ، وربى تربية دينية فحفظ القرآن وسمع الحديث ، وكان حسن الترتيل ، وعرف بالصلاح ، ووصف بعلو المهما. وقد تميز على أبناء جلدته من الأتراك ، وصار ممن يوثق به ويؤتمن على الأموال والاسرار. ولما توفى طولون في سنة ٢٤٠ ه‍ فوض الخليفة المتوكل على الله الى أحمد

__________________

(٢٩) الخطط المقريزية ١ / ٣١٣ ، والنجوم الزاهرة ٣ / ١.

(٣٠) وفيات الاعيان ١ / ١٥٦ ، والخطط المقريزية ١ / ٣١٣.

(٣١) وفيات الاعيان ١ / ١٥٦ ، والنجوم الزاهرة ٣ / ٢.

(٣٢) النجوم الزاهرة ٣ / ٣.

٢١٣

ما كان لأبيه من الأعمال (١). وتزوج أحمد ابنة أماجور أحد كبار القواد الاتراك ، وولدت له ابنه العباس (٢).

كان أحمد يستاء من تصرفات الجند الاتراك ، فطلب الى الوزير عبيد الله بن يحيى أن يكتب رزقه في الثغور ، فكتب له بذلك وخرج الى طرسوس وأقام بهامدة ، ثم ما لبث ان عاد الى سامرا بناء على الحاح أمه بأن يكون الى جانبها (٣). وقد استفاد أحمد من اقامته بطرسوس اذ التقى بها بعدد من المحدثين ، وجالس بعض العلماء فيها ، فاكتسب من علمهم وتأثر بهم. وعند عودته من طرسوس مع القافلة المتوجهة الى العراق انقذ القافلة من قطاع الطريق الذين تعرضوا لها ، وكان في القافلة خادم للخليفة المستعين بالله ومعه ثياب وأمتعة ثمينة جلبها من بلاد الروم وكانت قد صنعت للخليفة ، فلما وصل الخادم الى الخليفة بالثياب والامتعة أعجب بها ، فاخبره الخادم بانه لو لا شجاعة ابن طولون وشهامته لما سلمت القافلة من قطاع الطريق الذين اعترضوها ، فاستحسن الخليفة فعل ابن طولون وبعث له مع الخادم ألف دينار ، وواصل هباته اليه ، فوهبه جارية اسمها مياس فولدت له ابنه خمارويه في سنة ٢٥٠ (٤).

ولما تنكر القواد الاتراك للمستعين بالله واحذروه الى واسط اختار أحمد بن طولون لأن يكون بصحبته ، فأحسن أحمد معاملته وعشرته ، ولما طلبوا اليه ان يقتله رفض وقال : لا رآني الله قتلت خليفة بايعت له. أبدا (٥).

__________________

(٣٣) نفس المصدر ٣ / ٤.

(٣٤) الخطط المقريزية ١ / ٣١٤ ، والنجوم الزاهرة ٣ / ٤ وفيه انه تزوج بابنة عمه.

(٣٥) النجوم الزاهرة ٣ / ٥ ، والخطط المقريزية ١ / ٣١٤.

(٣٦) نفس المصدرين السابقين.

(٣٧) الخطط المقريزية ١ / ٣١٤ ، والنجوم الزاهرة ٣ / ٦ وفيه ان المستعين بالله هو الذي اختار ابن طولون ليصحبه.

٢١٤

ولما آلت ولاية مصر في سنة ٢٥٤ ه‍ في عهد المعتز بالله الى القائد بايكيال عهد هذا الى أحمد بن طولون بولاية مصر خليفة عنه. فدخلها في أواخر شهر رمضان من السنة المذكورة (١). وعند ما قتل بايكيال في أيام المهتدى بالله انتقل ما كان اليه من الأعمال الى القائد أماجور ، وهو حمو ابن طولون ، فكتب اليه بقره على ولاية مصر ويزيده ولاية الاسكندرية (٢). وعهد الخليفة المهتدى بالله في سنة ٢٥٥ ه‍ الى أحمد بن طولون اخضاع عيسى بن شيخ عامل فلسطين المتمرد (٣). فاغتنم ابن طولون هذه الفرصة لانشاء جيش مستقل آخذه بنظام صارم رغبة منه في شد عناصره المتباينة (٤). ويقول القلقشندي ان ابن طولون أول من جلب المماليك الترك الى الديار المصرية واستخدمهم في عساكرها (٥).

آقر المعتمد على الله عند توليه الخلافة أحمد بن طولون على امارة مصر وكتب اليه يستحثه على حمل الأموال. فأجاب انه لا يطيق ذلك والخراج بيد غيره ، فانفذ المعتمد على الله نفيسا الخادم الى ابن طولون بتقليده خراج مصر والولاية على الثغور الشامية (٦) وبذلك تسنى للأمير أحمد بن طولون أن يقيم في مصر امارة مستقلة بشؤنها استقلالا يكاد يكون تاما عن الخلافة. وقد تولى امارتها بعده أبناؤه وأحفاده ، الا ان مدتهم لم تدم طويلا كما سنرى.

__________________

(٣٨) الطبري ٩ / ٣٨١ ، والكامل ٧ / ١٨٧.

(٣٩) الخطط المقريزية ١ / ٣١٤ ـ ٣١٥ ، وتاريخ اليعقوبي ٢ / ٥٠٦ وفيه ان المعتمد على الله صير اعمال مصر بعد يايكيان الى يارجوخ وكتب هذا الى ابن طولون باقراره على ولايته.

(٤٠) تاريخ اليعقوبي ٢ / ٥٠٥ ، والخطط المقريزية ١ / ٣١٥ وفيه ان المعتمد على الله كتب الى ابن طولون ان يتأهب لحرب ابن شيخ.

(٤١) تاريخ الشعوب الاسلامية ٢ / ٦٣.

(٤٢) صبح الاعشى ٣ / ٤٢٤.

(٤٣) كتاب الولاة وكتاب القضاة / ٢١٧ ، والخطط المقريزية ١ / ١٠٣ ـ ١٠٤.

٢١٥

القضاء على الاضطرابات والفتن الداخلية :

صرف ابن طولون جهودا بالغة في اخضاع الفتن والعمل على تهدئة الأوضاع الداخلية وتوفير الأمن والاستقرار في ربوع البلاد. واستطاع ان يقضي بحزم على ما قام منها في بداية امارته. وكان أهمها فتنتان اثارهما العلويون الذين كانوا ينقمون على الولاة الاتراك لما يلقونه على أيديهم من التعسف والقسوة. وقد تزعم الاولى أحمد بن محمد بن عبد الله بن طبا طبا العلوي المعروف ببغا الأصغر ، وقد خرج غربي مصر في سنة ٢٥٥ ه‍ في منطقة الكنائس بين الاسكندرية وبرقة ، ثم سار الى صعيد مصر. فوجه ابن طولون حملة عسكرية لمحاربته وقد استطاعت تشتيت اتباعه ، وقتل العلوي ، وجيء برأس العلوي الى الفسطاط ، فقضى على فتنته (١). أما الفتنة الثانية فقد تزعمها ابن الصوفي العلوي وهو ابراهيم بن يحيى بن عبد الله ، وقد خرج في الصعيد أيضا ودخل مدينة أسنا في سنة ٢٥٦ ه‍ فنهبها وقتل كثيرا من أهلها. واستطاع أن يهزم الحملة التي وجهها اليه ابن طولون ، وظفر بقائدها فصلبه بعد أن قطع يديه ورجليه. الا ان الحملة الثانية التي وجهت اليه تمكنت منه فاضطر على الهرب الى الواحات. ثم ضعف أمره عند ما اصطدم في سنة ٢٥٩ ه‍ بخارج اخر على السلطة هو أبو عبد الله العمري وهزم أمامه. ولما وجه ابن طولون اليه جيشا آخر لم يصمد أمامه ففر هاربا ، فعبر البحر الاحمر الى مكة فأقام بها. فعلم به واليها فقبض عليه وحمله الى ابن طولون فسجنه مدة ، ثم اطلقه فخرج الى المدينة فمات فيها (٢).

وأعلن أهل برقة التمرد في سنة ٢٦١ ه‍ وطردوا عامل ابن طولون فبعث اليهم غلامه لؤلؤا فقضى على تمردهم. وقبض لؤلؤ

__________________

(٤٤) كتاب الولاة وكتاب القضاة / ٢١٢ ، والخطط المقريزية ٢ / ٣٣٩.

(٤٥) كتاب الولاة وكتاب القضاة / ٢١٣ ـ ٢١٤ ، والكامل ٧ / ٢٣٨ ـ ٢٣٩.

٢١٦

على جماعة من رؤسائهم وضربهم بالسياط ، واستصحب بعضهم معه الى مصر ، فطيف بهم في المدينة. فخلع ابن طولون على لؤلؤ خلعة وطوقه بطوقين (١).

كما قامت فتنة أخرى في أعلى الصعيد وقد تزعمها أبو عبد الله العمري وهو عبد الله بن عبد الحميد بن عبد الله من نسل عمر بن الخطاب (٢) وكان العمري قد خرج غضبا لله وللمسلمين ، اذ آلمه ما ارتكبه أبناء قبيلة البجة الذين كانوا يهاجمون صعيد مصر ويقتلون وينهبون ثم يعودون سالمين. فكمن لهم مع عدد من اصحابه فلما عادوا خرج اليهم وقتل قائدهم فولوا منهزمين فتبعهم الى بلادهم فنهبها وقتل منهم كثيرا ، ولم يسلموا منه حتى أدوا له الجزية. واشتدت شوكة العمري وكثر اتباعه ، فسير اليه ابن طولون جيشا فحاول العمري أن يقنع قائد الحملة بأنه ليس خارجا على السلطة وانما خرج للجهاد ضد البجة وان الامير ابن طولون اذا عرف ذلك فسوف يتركه وشأنه. الا ان القائد لم يجبه الى ذلك فقاتله فانهزم جيش ابن طولون. فلما اخبروه بحال العمري لامهم لأنهم لم يعلموه بأمره وانه نصر عليهم لبغيهم عليه. الا ان اثنين من غلمان العمري وثبا به وقتلاه وحملا رأسه الى أحمد بن طولون تقربا اليه. الا انه اسف على مقتله وقتلهما به. وأمر برأس العمري فغسل وكفن ودفن (٣).

وكان خروج العباس بن أحمد بن طولون في سنة ٢٦٤ ه‍ اخطر ما واجه أحمد. اذ كان قد خرج في السنة المذكورة الى بلاد الشام واستخلف ابنه العباس ، وهو أكبر أبنائه ، على مصر ، وابقى معه كاتبه أحمد بن محمد الواسطي ليعاونه في ادارة شؤون الامارة.

__________________

(٤٦) الكامل ٧ / ٢٨٣.

(٤٧) كتاب الولاة وكتاب القضاة / ٢١٤ ، والكامل ٧ / ٢٦٤ وفيه : هو ابو عبد الرحمن العمري واسمه عبد الحميد بن عبد العزيز بن عبد الله.

(٤٨) الكامل ٧ / ٢٦٤ ـ ٢٦٥.

٢١٧

فزين للعباس بعض قواده التغلب على مصر والقبض على الواسطي. وقد بلغ الواسطي ما عزم عليه العباس وأتباعه فكتب الى الأمير أحمد يخبره بالأمر ويستعجله العودة الى مصر ، فزاد ذلك في وحشة العباس من أبيه وخوفه منه. فاشار عليه أصحابه ان يبتعد عن أبيه فيخرج من مصر. فقبض على الواسطي وقيده ، وخرج الى الاسكندرية على رأس جيش كبير فيه ثمانمائة فارس وعشرة آلاف راجل من سودان أبيه. وحمل معه مالا كثيرا. ثم توجه منها الى برقة ، وقد راودته فكرة تأسيس دولة في أفريقية لكي يستطيع مهاجمة أبيه. فكاتب بعض زعماء القبائل فيها فاجابه قسم منهم ، فأقدم على مغامرة عسكرية. اذ كتب الى أمير بني الأغلب ابراهيم الثاني بان الخليفة قد قلده أمر أفريقية وأعمالها وانه متوجه اليها. وقيل حمل معه من بيت مال مصر (٨٠٠) حمل من الدنانير الذهبية ، ومبلغها ألف ألف دينار ومائتا ألف دينار (١). فلما دخل بجيشه مدينة لبدة اساء الى أهلها ، واضطر عاملها على الالتجاء الى اطرابلس التي استنجد أهلها بأبي منصور الاباضي المتغلب على مدينة تفوسة ، فزحف هذا لنجدتهم. وكان الأمير ابراهيم قد بعث جيشا الى اطرابلس لحرب ابن طولون ، وقد اشرنا الى ذلك عند الكلام عن الامير الأغلبي ابراهيم الثاني. وقد هزم العباس أقبح هزيمة وكاد ان يقع في الأسر ، مما اضطره على العودة فقبض عليه أبوه وسجنه وقتل عددا من اتباعه ممن زينوا له الخروج على أبيه (٢).

ان قضاء أحمد بن طولون على الاضطرابات والفتن المذكورة ، وعلى تمرد ابنه ساعد على استتباب الأمن الداخلي مما اتاح له فرصة للبناء والتعمير والعمل على تحسين أحوال البلاد. فاهتم بشؤون الري والزراعة مما أدى الى زيادة الانتاج الزراعي في مصر فبلغ خراجها أربعة آلاف ألف وثلاثمائة ألف دينار ، بعد أن كان قبله ثمانمائة ألف دينار (٣). وقد ساعده زيادة خراج البلاد على

__________________

(٤٩) البيان المغرب ١ / ١١٨.

(٥٠) الطبري ٩ / ٥٤٥ ، والكامل ٧ / ٣٢٤ ـ ٣٢٥ والبيان المغرب ١ / ١١٨ ـ ١١٩ ، والخطط المقريزية ١ / ٣٢٠.

(٥١) الخطط المقريزية ١ / ٩٩.

٢١٨

ان يستغني عن بعض الرسوم التي كانت مفروضة على بعض المرافق. فقد كان احمد بن المدبر لما ولي خراج مصر ، وكان من دهاة الكتاب ، ابتدع بدعا صارت سنة من بعده. فاحاط بالنطرون وحجر عليه بعد ما كان مباحا لجميع الناس ، وقرر على الكلأ الذي ترعاه الماشية رسما سماه «المراعي» وقرر مثله على ما يصاد من البحر وسماه «المصايد» وعرفت هذه الرسوم ب «المرافق والمعاون» فقرر أحمد بن طولون الغاءها وكانت عائداتها السنوية تبلغ مائة ألف دينار (١).

الخلافة بين الموفق وابن طولون :

نشأ خلاف حاد بين الموفق المهيمن على شؤون الخلافة في سامرا وامير مصر أحمد بن طولون. وسبب الخلاف الرئيس كما يقول المقريزي ان الحرب الطويلة مع صاحب الزنج دعت الموفق ان يكتب الى أحمد من حمل ما يستطيع من المال الى حاضرة الخلافة للاستعانة به في الحرب المذكورة. فبعث اليه ابن طولون ألف ألف ومائتي ألف دينار (٢) ، الا ان الموفق استقل المبلغ ، وغضب على ابن طولون وكتب اليه بذلك. فاجاب ابن طولون جوابا فيه كثير من التحدي مما لم يرتح له الأمير الموفق ، فعزم على ان يبعث واليا الى مصر بدلا من أحمد بن طولون ، فالتمس شخصا ذا كفاية ودراية يبعث به ، فلم يرشح له أحد لأن هدايا ابن طولون لقواد الدولة وارباب

__________________

(٥٢) الخطط المقريزية ١ / ١٠٣ ـ ١٠٤.

(٥٣) الخطط المقريزية ٢ / ١٧٩ ، وتاريخ اليعقوبي ٢ / ٥٠٨ وفيه ان حمل الى الخليفة ألفي ألف درهم.

٢١٩

المناصب العليا في سامرا كانت متصلة (١). فطلب الموفق الى كبير القواد موسى بن بغا ان يصرف ابن طولون عن ولاية مصر ويقلدها اماجور والي دمشق. الا ان اماجور احجم عن مقاتلة ابن طولون للقربى التي بينهما ولقوة جيش ابن طولون. ولذلك اضطر موسى ان يخرج بنفسه على رأس جيش كثيف. فنزل الرقة واقام بها عدة أشهر لم تتوفر له خلالها الأموال اللازمة للجيش ليسير الى حرب بن طولون. فاضطرب عليه اصحابه وملوا الاقامة وطالبوا بأرزاقهم. على ان موسى مرض واشتدت عليه علته فمات (٢).

ولما علم ابن طولون بمسير موسى بن بغا بجيش يريد حربه واقصاءه عن ولاية مصر استعد لملاقاته. فأخذ على الجند وسائر الناس البيعة لنفسه على أن يعادوا من عاداه ويوالوا من والاه ويحاربوا من حاربه من الناس جميعا (٣). وهذا ما معناه انهم بايعوه على ان يحاربوا الى جانبه ولو كان يحاربه جيش الخليفة. ويمكن الاستنتاج من هذا ان ابن طولون كانت تساوره فكرة الانفصال التام عن الدولة العربية. فشرع بتحصين المدينة ، فبنى حصنا في الجزيرة ، وهي جزيرة الروضة بين الفسطاط والجيزة ، ليكون معقلا لماله وحرمه وذخائره ، واجتهد في بناء المراكب الحربية واحاطتها بالجزيرة زيادة في تحصينها (٤).

وحينما بلغ ابن طولون نبأ موت أما جور في دمشق ، وكان قد استخلف ابنه في الولاية بعده ، اغتنم الفرصة لضم بلاد الشام اليه. فخرج بجيش كبير واستطاع ان يستولى دون حرب على الرملة ودمشق وحمص ، ثم اضطر على محاصرة انطاكية ، لأن واليها سيما

__________________

(٥٤) الخطط المقريزية ٢ / ١٧٩ ، والكامل ٧ / ٣٠٥.

(٥٥) كتاب الولاة وكتاب القضاة / ٢١٨ ، والكامل ٧ / ٣٠٥ وفيه ان موسى اضطر الى العودة الى سامرا.

(٥٦) تاريخ اليعقوبي ٢ / ٥١٠.

(٥٧) كتاب الولاة وكتاب القضاة / ٢١٨ ، والخطط المقريزية ٢ / ١٨٠ وجاء فيه انه احاطها بمائة مركب.

٢٢٠