سامرا عاصمة الدولة العربية في عهد العباسيين - ج ٢

أحمد عبد الباقي

سامرا عاصمة الدولة العربية في عهد العباسيين - ج ٢

المؤلف:

أحمد عبد الباقي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٦١
الجزء ١ الجزء ٢

استغلوا ضعف السلطة ببغداد أيام الحرب بين الأمين والمأمون فعاثوا في البلد فسادا. واستطاع ابن نصر واتباعه حينذاك ان يعيدوا الأمن الى نفوس الناس ويطمئنوهم على أموالهم. ولذلك تيسر له ان يقود حملة ضد الدعوة الدينية الجديدة التي يدعو اليها الخليفة وقاضي قضاته.

وقد بدأت دعوة ابن نصر هذه مثل غيرها ، تنتشر بصورة سرية في أول الأمر وقد ساعدته ظروف معينة على كسب مزيد من الاتباع. ولعل أهم تلك الظروف هي شخصيته نفسه ، فان نسبة يتصل بكعب بن عمرو الذي ورد ذكره في الحديث الشريف «نزل القرآن على لغة الكعبين ، كعب بن لؤي وهو ابو قريش ، وكعب بن عمرو وهو ابو خزاعة» (١) وكان جده مالك الخزاعي أحد نقباء الدعوة العباسية ، مما جعل له منزلة مميزة في مجتمع بغداد. يضاف الى ذلك انه من أهل العلم والحديث ، أمار بالمعروف قوال بالحق وداع اليه. فكان يشنع على القائلين بالدعوة الجديدة. فقد روى عنه انه قال (٢) : رأيت مصابا قد وقع فقرأت في اذنه فكلمتني الجنية من جوفه فقالت : يا أبا عبد الله بالله دعني أخنقه فانه يقول القرآن مخلوق. كما كان يطلق لسانه في الطعن بالخليفة وحاشيته ، ويقول : ما دخل عليه أحد يصدقه.

وجاء في تاريخ اليعقوبي ان احمد بن نصر كان قد قصد قاضي القضاة أحمد بن أبي دواد في بعض أموره فرده ، فانصرف غاضبا عليه ذاما له ، وجعل يبسط عليه لسانه ويتهمه بالكفر والمروق عن الدين ، فمال اليه قوم لا يشكون بان ذلك غضب للدين ، فاشر أبت قلوبهم للمعصية انتصارا للقرآن (٣). فاعاد ابن نصر تنظيمه

__________________

(١١) تأريخ بغداد ٥ / ١٧٤.

(١٢) نفس المصدر / ١٧٥.

(١٣) نفس المصدر / ١٧٦.

(١٤) تأريخ اليعقوبي ٢ / ٤٨٢.

١٠١

السابق القائم على مبايعته على الامر بالمعروف ومعارضة القول بخلق القرآن. وقد بايعه عدد من العامة ، كما اشرنا انتصارا للدين. فاتسعت دعوته وقويت حتى طمع بعض اتباعه بالثورة على الخلافة.

ان المصادر المتوفرة عن الموضوع لا توضح ما اذا كان احمد بن نصر قد استهدف من تنظيمه الجديد الخروج على الخلافة لانها لم تعد شرعية في نظر ونظر اتباعه. ولكن يبدو انه قد استغلته جماعات أخرى واتخذته واجهة لتحقيق مطامعها. اذ يذكر الخطيب البغدادي ان اثنين من الموسرين بذلا مالا وعزما على الوثوب في بغداد في شعبان سنة ٢٣١ ه‍ (١). وذكر الطبري ما يشبه هذا وخلاصته ان شخصين من أهل بغداد أحدهما يعرف بابي هارون السراج ، والآخر يقال له طالب ، ومعهما شخص ثالث من أهل خراسان من أصحاب اسحاق بن ابراهيم المصعبي صاحب الشرطة ، وهم ممن كانوا يظهرون تأييد ابن نصر ، ويحركون اتباعه من اصحاب الحديث ، وممن ينكر القول بخلق القرآن من أهل بغداد ، ليحملوه على اظهار حركته ، وانهم قصدوه دون غيره لمنزلته التي أشرنا اليها. وكان طالب واتباعه يعملون في الجانب الغربي من بغداد ، ويعمل أبو هارون واتباعه في الجانب الشرقي منها ، وان هذين الشخصين فرقا أموالا في سبيل الوثوب بالخلافة ، وقد عينوا موعدا لذلك (٢).

على ان اخبار المؤامرة بلغت صاحب الشرطة ، فبادر بالقبض على بعض اتباع أحمد بن نصر ثم تتبع الآخرين ، وأصابت الشرطة في منزل أحدهم اعلاما. ثم أخذ ابن نصر وأولاده وجماعة كانوا عنده فحملوا مقيدين الى سامرا. فعقد الخليفة مجلسا حضره قاضي

__________________

(١٥) تاريخ بغداد ٥ / ١٧٦.

(١٦) الطبري ٩ / ١٣٥ ـ ١٣٦.

١٠٢

القضاة أحمد بن أبي دواد ، واسحاق بن ابراهيم ، وعبد الرحمن بن اسحاق ، وكان قاضيا على الجانب الغربي من بغداد ، وهو صديق لأحمد بن نصر. ولم يناظره الخليفة في الشغب ، ولا في ارادته الخروج عليه ، وقال له : دع ما اخذت له (١). وانما امتحنه في القول بخلق القرآن ، فأبى ان يعترف بأنه مخلوق. ولما سأله عن رؤية الرب عزوجل في الآخرة ، أجاب بالايجاب مستشهدا بالحديث النبوي القائل «ترون ربكم يوم القيامة لا تضامون في رؤيته» وبالحديث «ان قلب ابن آدم بين اصبعين من أصابع الرحمن» فقال الواثق بالله : ويحك ، يرى كما يرى المحدود والمتجسم ، يحويه مكان ويحصره الناظر؟ أنا أكفر برب هذه صفته(٢).

ولما استطلع الخليفة ممن حضر المجلس رأيهم في أقوال أحمد بن نصر ، أحل القاضي عبد الرحمن بن اسحاق دمه ، وطلب آخر ان يشرب من دمه. أما ابن أبي دواد فقال انه شيخ مختل العقل أو انه كافر يستتاب. الا ان الواثق بالله ضرب عنقه. وصلب وفي رجليه قيود ، في الحظيرة التي صلب فيها بابك الخرمي وحمل رأسه الى بغداد فنصب في الجانب الشرقي أياما ، ثم حول الى الجانب الغربي. ومنع الناس من التقرب منه ، واقيم عليه الحرس. وعلقت في أذنه رقعة فيها : هذا رأس الكافر المشرك الضال أحمد بن نصر قتله الله على يدي هارون الامام الواثق أمير المؤمنين بعد ان اقام الحجة عليه في خلق القرآن ونفى التشبيه ، وعرض التوبة عليه فابى الا المعاندة ، فعجل الله به الى ناره وأليم عذابه (٣).

وأمر الواثق بالله بحبس كل من عرف بصحبه أحمد بن نصر ممن ذكر انه كان مشايعا له. ووضع نيف وعشرون رجلا منهم في

__________________

(١٧) تأريخ بغداد ٥ / ١٧٧.

(١٨) نفس المصدر.

(١٩) تجارب الامم ٦ / ٥٣٢ ، وورد هذا النص بشيء من التغيير في الطبري ٩ / ١٣٩ وفي تاريخ بغداد ٥ / ١٧٨.

١٠٣

حبوس الظلمة ، ومنعوا من أخذ الصدقة التي يعطاها المسجونون ، كما منعوا من الزوار وثقلوا بالحديد (١).

ويقول الذهبي ان الواثق بالله قتل ابن نصر بيده لامتناعه من القول بخلق القرآن ، ولكونه اغلظ له في الخطاب ، وقال له : يا صبي. ويقول ان أحمد بن نصر كان رأسا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فقام ومعه خلق من المطوعة واستفحل امرهم ، فخافته الدولة من فثق يتم بذلك (٢).

ويلاحظ على محاكمة أحمد بن نصر ان الخليفة تغاضى عن جريمته السياسية وما قام به من الشغب والتآمر على الدولة والاستعداد للوثوب بالخلافة ، رغم وضوح الأدلة على ذلك وثبوتها. وانما استهدف من المحاكمة اثبات كفره ومروقه من الدين مما يحلل قتله. ويظهر ان ذلك ناشيء عن اعتبار الخلافة منصبا دينيا وان الخروج عليها والكفر بالدين سواء. وقد يكون اغفال الجانب السياسي مقصودا لصرف اذهان الناس عن فكرة التآمر على الخلافة أو الخروج عليها (٣).

ويذكرنا هذا بمحاكمة الأفشين حيدر بن كاوس عند ما تهيأ للانتقاض على الخليفة المعتصم بالله ، فقد اغفلت جريمته السياسية كذلك ، وحوكم على مخالفاته الدينية فقط. لأن السياسة والدين سواء في نظر العباسيين.

__________________

(٢٠) تجارب الامم ٦ / ٥٣٢ ، والطبري ٩ / ١٣٩.

(٢١) العبر ١ / ٤٠٨.

(٢٢) راجع عن تفصيلات حركة احمد بن نصر ومحاكمته وقتله : الطبري ٩ / ١٣٥ ـ ١٣٩ ، وتجارب الامم ٦ / ٥٢٩ ـ ٥٣٢ ، تاريخ بغداد ٥ / ١٧٥ ـ ١٧٨ ، والكامل ٧ / ٢٠ ـ ٢٣.

١٠٤

٣ ـ رجوع الواثق بالله عن القول بخلق القرآن :

تدل حركة احمد بن نصر بشكل واضح على قوة مناهضي الاعتزال من الفقهاء رغم تشدد ثلاثة من الخلفاء في قرضه. ويقال ان الخليفة الواثق بالله رجع عن القول بخلق القرآن قبل موته (١). ويروي المسعودي سبب رجوعه كما رواه ابنه محمد المهتدى بالله الذي قال ما خلاصته انه أقدم على الواثق بالله بشيخ من أهل الفقه والحديث من أهل أذنة من الثغر الشامي مقيد ... فقال له : يا شيخ أجب أبا عبد الله أحمد بن ابي دواد فيما يسألك عنه. فقال : يا أمير المؤمنين ، أحمد يقل عن المناظرة .. أتأذن لي في كلامه؟ فأذن له ، فأقبل الشيخ على ابن ابي دواد وقال له : مقالتك هذه التي دعوت الناس اليها من القول بخلق القرآن ، داخلة في الدين بحيث لا يكون تاما الا بالقول بها؟ قال : نعم. قال الشيخ : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [دع الناس اليها أو تركهم؟ قال : تركهم. فقال : فعلمها أو لم يعلمها؟ قال : علمها. قال : فلم دعوت الناس الى ما لم يدعهم اليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتركهم منه؟ فأمسك أحمد ... فصرف الرجل وجهه الى الواثق بالله وقال : يا أمير المؤمنين ، اذا لم يتسع لنا ما اتسع لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولاصحابه فلا وسع الله علينا. فقال الواثق بالله : نعم لا وسع الله علينا ان لم يتسع لنا ما اتسع لرسول الله] صلى‌الله‌عليه‌وسلم .. ثم قال الواثق بالله : اقطعوا قيده .. وأمر له بجائزة .. واحسب ان الواثق بالله رجع عنها منذ ذلك الوقت (٢).

__________________

(٢٣) تأريخ الخلفاء / ٣٤١.

(٢٤) في تأريخ بغداد ١٠ / ٧٥ ، وتأريخ الخلفاء / ٣٤٢ هو ابو عبد الرحمن عبد الله بن محمد الاذرمي شيخ أبي داود والنسائي. مفصل الخبر في مروج الذهب ٤ / ١٩٠ ـ ١٩٢ ، والنجوم الزاهرة ٢ / ٢٦١ ـ ٢٦٩ ، وجاء الخبر فيه بثلاث روايات ـ وتاريخ بغداد ٤ / ١٥١ ـ ١٥٢.

١٠٥

ويظهر ان محاولة الانتقاض على خلافة الواثق بالله لم تقتصر على أحمد بن نصر الخزاعي واتباعه. فقد كان هناك عدد غير قليل من رجال الدين ، ممن رفضوا القول بخلق القرآن ، قد راودتهم فكرة الخروج على الخليفة الا ان الامام أحمد بن حنبل الذي كان رأس المعارضين لم تؤيد ذلك حرصا على وحدة الامة وسلامتها ولم ير في دعوة الخليفة الى القول بخلق القرآن ما يخرجه عن الخلافة. ويقول ابو يعلى الحنبلي : اجتمع فقهاء بغداد الى ابي عبد الله أحمد بن حنبل ، وقالوا : هذا أمر قد تفاقم وفشا ـ يعنون القول بخلق القرآن ـ نشاورك في انا لسنا نرضى بأمرته ولا سلطانه. فقال : عليكم بالنكرة بقلوبكم ، ولا تخلعوا يدا من طاعة ، ولا تشقوا عصا المسلمين (١).

__________________

(٢٥) الاحكام السلطانية لأبي يعلى الحنبلي / ٥.

١٠٦

الفصل الرابع

نهاية المحنة

١ ـ المتوكل على الله ينهي المحنة :

سبقت الاشارة الى ان الواثق بالله كان قد تراجع في أواخر أيامه عن الامعان في فرض اراء المعتزلة على الفقهاء والمحدثين. ويقال انه تاب ورجع عن القول بخلق القرآن. الا ان المنية ادركته قبل ان يشيع ذلك (١). فلما تولى المتوكل على الله الخلافة خالف ما كان عليه المأمون والمعتصم بالله والواثق بالله من الاعتقاد بمذهب المعتزلة ، فنهي عن الجدل والمناظرة وعاقب عليه. وأظهر السنة وتكلم بها في مجلسه ، وكتب الى الولايات برفع المحنة واظهار مذهب السنة (٢).

ويظهر مما ذكره أبو المحاسن عن المحنة ان مبادرة المتوكل على الله بانهاء القول بخلق القرآن كانت في سنة ٢٣٤ ه‍ ويؤيده في ذلك السيوطي (٣). ويبدو ان الخليفة الجديد كان متحمسا لالغاء المحنة واعادة الطمأنينة الى النفوس باظهار السنة. فقد استقدم المحدثين والفقهاء الى سامرا واجزل لهم العطاء واكرمهم وطلب اليهم ان

__________________

(٢٦) النجوم الزاهرة ٢ / ٢٦٦.

(٢٧) الطبري ٩ / ١٩٠ ، ومروج الذهب ٤ / ٨٦.

(٢٨) النجوم الزاهرة ٢ / ٢٧٥ ، وتاريخ الخلفاء / ٣٤٦.

١٠٧

يحدثوا بأحاديث الصفات والرؤية (١). تلك الامور التي منع المعتزلة القول بها. ومن جملة من استقدمهم المتوكل على الله من بغداد وغيرها ، عبد الله وعثمان ابنا محمدين ابي شيبة الكوفيين وكانا من حفاظ الناس ، وقاضي البصرة ابراهيم بن محمد اليتمي ، ومحمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب. وقسم فيهم الجوائز والاعطيات ، واجرى عليهم الارزاق ، وأمرهم بان يجلسوا للناس ويحدثوا بالاحاديث التي فيها رد على المعتزلة (٢).

وقد لقيت مبادرة المتوكل على الله بالغاء المحنة واظهار السنة قبولا حسنا من عامة الناس ، فتركوا تلك المقالة ، وانكرها من كان يقول بها ، وارتفع الجدل والمناظرة (٣). واستحق عليها ثناء الناس وتقديرهم. حتى قال القاضي اليتمي : الخلفاء ثلاثة : أبو بكر الصديق قاتل أهل الردة حتى استجابوا ، وعمر بن عبد العزيز رد مظالم بني أمية ، والمتوكل على الله محا البدع وأظهر السنة (٤). وقال محمد بن عبد الملك بن ابي الشوارب : اني جعلت دعائي في المشاهد كلها للمتوكل ، وذلك ان عمر بن عبد العزيز جاء الله به لرد المظالم ، وجاء بالمتوكل لرد الدين (٥).

وقال الشاعر البحتري يمتدح سياسة المتوكل الدينية باحياء السنة ، ويعرض بالقاضي أحمد بن ابي دواد ، منها قوله (٦) :

أمير المؤمنين لقد سكنا

الى أيامك الغر الحسان

رددت الدين فذا بعد ما قد

اراه فرقتين تخاصمان

__________________

(٢٩) نفس المصدرين السابقين.

(٣٠) تاريخ بغداد ١٠ / ٢٧ و ٢ / ٣٤٤.

(٣١) مشاكلة الناس لزمانهم / ٣٢.

(٣٢) فوات الوفيات ١ / ٢٥٢.

(٣٣) نفس المصدر ٢ / ٩٠.

(٣٤) تاريخ بغداد ٧ / ١٦٩ ـ ١٧٠.

١٠٨

قصمت الظالمين بكل أرض

فاضحى الظلم مجهول المكان

في سنة رمت متجبريهم

على قدر بداهية عوان

فما ابقت من ابن أبي دواد

سوى جسد يخاطب بالمعاني

تحير فيه سابور بن سهل

فطاوله ومناه الاماني

اذا اصحابه اصطحبوا بليل

أطالوا الخوض في خلق القرآن

يديرون الكؤوس وهم نشاوى

يحدثنا فلان عن فلان

ثم خطا المتوكل على الله في سنة ٢٣٧ ه‍ خطوة أخرى في تصفية آثار المحنة ، فاطلق من كان في السجون من أهل البلدان ممن امتنع عن القول بخلق القرآن في أيام أبيه ، أو أخذ في خلافة الواثق بالله ، فخلاهم جميعا وكساهم (١). وكان ممن اطلق سراحه القاضي بشر بن الوليد الكندي أحد اصحاب ابي يوسف وقد اخذ عنه الفقه ، وكان المأمون ولاه القضاء على مدينة المنصور ، وقد ابتلي بالمحنة في عهد المعتصم بالله ، فاعفاه من القضاء وأمر أن يحبس في منزله ووكل ببابه الشرط ، ونهى ان يفتى احدا بشيء. فأمر المتوكل على الله باطلاقه وان يفتى للناس ويحدثهم (٢).

وقد هم المتوكل على الله بانزال جثة احمد بن نصر الخزاعي المصلوبة منذ أيام الواثق بالله. فاجتمع الغوغاء حولها وكثروا وتكلموا في أمر ابن نصر. فبلغ ذلك الخليفة فأمر بضرب قسم منهم وحبسهم. ثم أمر بعد ذلك بانزال الجثة ودفعها الى أوليائه فغسلت ودفنت. وكتب صاحب البريد ببغداد الى الخليفة بخبر العامة الذين احتشدوا حول الجنازة باعداد لا تحصى وتمسحوا بها. فأمر المتوكل على الله خليفته ببغداد ان يمنع اجتماع العامة في مثل هذا الأمر وشبهه (٣).

__________________

(٣٥) تاريخ اليعقوبي ٢ / ٤٨٤ ـ ٤٨٥ ، والنجوم الزاهرة ٢ / ٢٩٠.

(٣٦) تاريخ بغداد ٧ / ٨٣.

(٣٧) الطبري ٩ / ١٩٠.

١٠٩

لقد كانت هناك بعض العوامل التي دفعت المتوكل على الله الى انتهاج هذه السياسة ، لعل أهمها انه كان يتعصب للسنة ويمقت المعتزلة. يضاف الى ذلك رغبته في التقرب الى عامة الناس التي كان تأثير الفقهاء ورجال الدين عليها كبيرا. فقد لمس فشل اسلافه الثلاثة في استمالة الناس الى اعتناق مذهب المعتزلة ، وحاول كسب رضاهم وولاءهم بالغاء المحنة واحياء السنة. قال يزيد المهلبي (١) : قال لي المتوكل يوما يا مهلبي ان الخلفاء كانت تغضب على الرعية لتطيعها ، وأنا ألين لهم ليحبوني ويطيعوني (٢).

٢ ـ من ضحايا المحنة :

كان الى جانب من ذكرنا من الفقهاء ورجال الدين ممن تعرضوا لغضب السلطة لعدم قولهم بان القرآن مخلوق ، فقهاء ومحدثون آخرون أوذوا في سبيل تمسكهم بالسنة وعدم اقرارهم بخلق القرآن. وكان اشهرهم :

عفان بن مسلم الصفار :

أبو عثمان عفان بن مسلم الصفار البصري ، نشأ في البصرة وانتقل الى بغداد وصار من رجال الفقه والحديث المرموقين فيها. روى عنه الامام أحمد بن حنبل ، ومحمد بن سعد الزهري ، والبخاري في صحيحه. يقول الخطيب البغدادي ان عفان بن مسلم أول من امتحن من الناس بمحنة القول بخلق القرآن ، وروى عنه انه قال : دعاني اسحاق بن ابراهيم ، فلما دخلت عليه قرأ على الكتاب الذي بعث به المأمون من الرقة ، فاذا فيه امتحن عفان

__________________

(٣٨) تاريخ بغداد ٧ / ١٦٦ ، وفوات الوفيات ١ / ٢٠٣.

(٣٩) يزيد بن المهلب من بني المهلب بن ابي صفرة ، شاعر محسن ، من الندماء الرواة ، اتصل بالمتوكل على الله ونادمه ومدحه ، ورثاه بعد موته. وهو بصري الاصل نشأ ببغداد وبها اشتهر ، توفى سنة ٢٥٩.

١١٠

وادعه الى أن يقول القرآن كذا وكذا ، فان قال ذلك فاقره على عمله ، وان لم يجبك بما كتبت به اليك فاقطع عنه الذي يجرى عليه ـ وكان المأمون يجري على عفان خمسمائة درهم كل شهر ـ فلما قرأ اسحاق الكتاب ، قال لي : ما ذا تقول؟ فقرأت عليه : «قل هو الله أحد ، الله الصمد ..» حتى ختمتها ، فقلت : مخلوق هذا؟ فقال اسحاق يا شيخ ان امير المؤمنين يقول انك ان لم تجبه الى الذي يدعوك اليه يقطع عنك ما يجرى عليك ، وان قطع عنك أمير المؤمنين قطعنا نحن عنك ايضا. فقلت له : يقول الله تعالى (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ)(١). فسكت اسحاق فانصرفت (٢).

ويلاحظ ان الطبري الذي أورد تفصيلات دعوة المأمون الى القول بخلق القرآن والمراحل التي مرت بها تلك الدعوة ، لم يشر الى ما ذكره الخطيب البغدادي. فقد ذكر الطبري ان المأمون طلب الى اسحاق بن ابراهيم ان ينفذ اليه سبعة نفر عددهم (٣) ، ليس فيهم عفان بن مسلم. وطلب اليه في كتابه الثاني ان يمتحن القضاة والفقهاء ، فاحضر اسحاق ستة وعشرين عالما وفقيها (٤) ، ولم يكن عفان بن مسلم بينهم. ولما اشخص اسحاق الى المأمون اثنين من الفقهاء مقيدين بالحديد (٥) ، لم يكن عفان أحدهما. وعند ما اشخص اسحاق عددا اخر من الممتنعين عن الاجابة بالقول بخلق القرآن الى طرسوس ليقيموا فيها حتى خروج المأمون من بلاد الروم (٦) ، فان عفان بن مسلم لم يكن بينهم كذلك.

وما جاء في الكامل عن هذا الموضوع يكاد يطابق ما اورده الطبري (٧). وهو خال أيضا من الاشارة الى امتحان عفان بن

__________________

(٤٠) سورة والذاريات ، الاية : ٢٢.

(٤١) تاريخ بغداد ١٢ / ٢٧١.

(٤٢) الطبري ٨ / ٦٣٤.

(٤٣) الطبري ٨ / ٦٣٧.

(٤٤) نفس المصدر / ٦٤٤.

(٤٥) نفس المصدر / ٦٤٥.

(٤٦) الكامل ٦ / ٤٢٣ ـ ٤٢٤ و ٤٢٧.

١١١

مسلم. وكذلك ما جاء في كتاب العيون والحدائق ، وكتاب تجارب الأمم عن أمر المأمون بامتحان القضاة والفقهاء (١) ، خلا من الاشارة الى عفان بن مسلم. الا ان عدم ذكر اسم عفان بن مسلم الصفار في المصادر التي أشرنا اليها لا يعني عدم صحة ما اورده الخطيب البغدادي ، فقد يكون امتحانه قد جرى فرديا. وقبل ورود كتاب الخليفة الى اسحاق بن ابراهيم بامتحان القضاة والفقهاء.

توفى عفان ببغداد في صفر سنة ٢١٩ ه‍ وعمره خمس وثمانون سنة (٢).

محمد بن نوح :

الفقيه الزاهد محمد بن نوح بن ميمون بن عبد الحميد العجلي ، ويعرف أبوه بالمضروب (٣). عرف بشدة التمسك بالسنة والدين ، وحدث شيئا يسيرا. وكان ممن ابتلي بالمحنة بالقول بخلق القرآن في أواخر عهد المأمون. ويعتبر من الرعيل الأول من ضحايا تلك المحنة. اذ كان هو والامام احمد بن حنبل ممن امتنع عن الاجابة بالقول بخلق القرآن عند ما امتحن اسحاق بن ابراهيم القضاة والفقهاء والمحدثين ببغداد بأمر من المأمون. ولما كتب اسحاق الى الخليفة ، وكان حينذاك غازيا في بلاد الروم غزوته الأخيرة ، باسماء من رفض الاجابة ، كتب اليه يرد على الممتنعين عن القول بخلق القرآن ، وقد اتهم محمد بن نوح بالتعامل بالربا ، اذ قال عنه : واما محمد بن حاتم ، وابن نوح ، والمعروف بابن معمر ، فاعلمهم انهم مشاغيل بأكل الربا عن الوقوف على التوحيد ، وان امير

__________________

(٤٧) العيون والحدائق ٣ / ٣٧٦ ـ ٣٧٧ ، وتجارب الامم ٦ / ٤٦٥ ـ ٤٦٦.

(٤٨) تاريخ بغداد ١٢ / ٢٧٧ ، والكامل ٦ / ٤٥٤.

(٤٩) تاريخ بغداد ١٣ / ٣٢٣.

١١٢

المؤمنين لو لم يستحل محاربتهم في الله ومجاهدتهم الا لأربائهم وما نزل به كتاب الله في امثالهم ، لاستحل ذلك ، فكيف وقد جمعوا مع الأرباء شركا وصاروا للنصارى شبها (١). ثم أمره بعد ذلك ان يشخص اليه المخالفين. فقيد اسحاق الامام احمد بن حنبل ومحمد بن نوح بالحديد ووجه بهما الى طرسوس ليقيما فيها حتى يصلها المأمون عند عودته من بلاد الروم. وقد حملا متلازمين على بعير واحد ، فلما وصلا الرقة جاء النبأ بوفاة المأمون ، فاعادهما والي الرقة الى مدينة السلام.

وكان محمد بن نوح قد مرض في الطريق ، فمات في عانة. فصلى عليه الامام احمد ، ودفنه هناك ، وكانت وفاته في سنة ٢١٨ ه‍ (٢). قال عنه الامام احمد : ما رأيت أحدا أقوم بأمر الله من محمد بن نوح رغم حداثة سنه ، وقلة علمه ، فقد قال لي ذات يوم يا ابا عبد الله انت رجل يقتدى بك ... فاتق الله واثبت لأمره ، أو بما معناه ، يشجعني على الثبات بمعارضة القول بخلق القرآن (٣).

نعيم بن حماد :

نعيم بن حماد بن معاوية بن الحارث بن همام ، أبو عبد الله الخزاعي الفارضي. كان من الرحالة في طلب الحديث. نشأ في مرو من اسرة عربية ورحل الى العراق والحجاز ، ثم سكن مصر ولم يزل مقيما فيها الى ان أشخص الى سامرا في أيام المعتصم بالله ، سمع الحديث على بعض محدثي عصره ، واختص بالمحدث عبد الله بن

__________________

(٥٠) الطبري ٨ / ٦٤٢.

(٥١) العبر ١ / ٣٧٧ ، والنجوم الزاهرة ٢ / ٢٢٩.

(٥٢) تاريخ بغداد ٣ / ٣٢٣.

١١٣

المبارك ، وسمي الفارضي لأنه كان من أعلم الناس بالفرائض (١). ويقال انه أول من جمع المسند في الحديث وصنفه (٢).

وقد اختلفت فيه آراء رجال الحديث ، فمنهم من وثق بروايته واعتبره ثقة صدوقا فروى عنه ، ومنهم من اتهمه بوضع الحديث والحكايات المزورة ، ووصفه بالوهم فيما يرويه ، وقال بعضهم انه ليس من الحديث في شيء (٣).

عند ما استخلف المعتصم بالله أمر قاضي مصر بحمل الفقهاء على القول بخلق القرآن. وقد تولى محمد بن ابي الليث تنفيذ أمر الخليفة ، بعد ان استعفى القاضي هارون العوفى من هذه المهمة ، فحمل نعيم بن حماد وآخرين ممن لم يجيبوا الى القول بخلق القرآن ، الى دار الخلافة. وهناك قيد وسجن ، وكان ذلك في سنة ٢٢٤ ه‍. ولنعيم عدة كتب في الرد على الجهمية ، وهو الخبير بآرائهم وأقوالهم ، وقد قال : أنا كنت جهميا ، فلذلك عرفت كلامهم ، فلما طلبت الحديث عرفت انهم يدعون الى التعطيل (٤). ومن هنا انبرى للرد عليهم. وجاء في هدية العارفين ان له ثلاثة عشر كتابا في الرد على الجهمية ، وكتبا في الرد على أبي حنيفة ، وناقض محمد بن الحسن الشيباني ، وان من تصانيفه أيضا كتاب الملاحم والفتن ، ومسند في الحديث (٥).

ظل نعيم محبوسا حتى مات في السجن. فكان ضحية من ضحايا المحنة. وكان أوصى ان يدفن في قيوده ، وقال : اني مخاصم (٦).

__________________

(٥٣) تاريخ بغداد ٣ / ٣٠٧ ، والنجوم الزاهرة ٢ / ٢٥٤.

(٥٤) تاريخ بغداد ٣ / ٣٠٦.

(٥٥) شذرات الذهب ٢ / ٦٧ ، وتاريخ بغداد ٣ / ٣١٢.

(٥٦) تاريخ بغداد ٣ / ٣١٢.

(٥٧) هدية العارفين ٢ / ٤٩٧.

(٥٨) تاريخ بغداد ٣ / ٣١٣.

١١٤

وقد مات في جمادي الاولى من سنة ٢٢٨ ه‍ (١). فجر في قيوده والقي في حفرة دون ان يكفن او يصلي عليه أحد (٢). لأن دعوة المعتزلة كانت في عنفوان قوتها.

محمد بن اسماعيل البخاري :

يظهر ان الخلاف في القول في القرآن اتخذ وسيلة للطعن على بعض الفقهاء ورجال الحديث. فقد كان أبو عبد الله محمد بن اسماعيل البخاري يقول : ان أفعال العباد مخلوقة ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «ان الله يصنع كل صانع وصنعته» وعلى هذا فان حركاتهم وأصواتهم واكتسابهم مخلوقة. أما القرآن المتلو المبين ، المثبت في المصاحف ، المسطور في الكتب ، المدعى في القلوب فهو كلام الله ليس بخلق. قال الله تعالى (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ)(٣). فاتخذ منافسو البخاري قوله هذا حجة لا تهامه في عقيدته. فقد قال محمد بن يحيى المحدث : من زعم ان القرآن مخلوق فقد كفر وخرج عن الايمان ... ومن قال لا أقول مخلوق أو غير مخلوق فقد ضاهى الكفر ، ومن زعم ان لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق فقد ضاهى الكفر ، ومن زعم ان لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع لا يجالس ولا يكلم. ومن ذهب بعد مجلسنا هذا الى محمد بن اسماعيل البخاري فاتهموه ، فانه لا يحضر مجلسه الا من كان على مذهبه (٤).

وقد رد البخاري على ذلك بقوله «من زعم اني قلت لفظي بالقرآن مخلوق فهو كاذب فاني لم أقله ... الا اني قلت ان افعال العباد مخلوقة (٥).

__________________

(٥٩) نفس المصدر ، والنجوم الزاهرة ، ٢ / ٢٥٤. ويقال انه توفى سنة ٢٢٩ ـ تاريخ بغداد ٣ / ٣١٤ ، والنجوم الزاهرة ٢ / ٢٥٧.

(٦٠) تاريخ بغداد ٣ / ٣١٤.

(٦١) سورة العنكبوت ، الاية : ٤٩.

(٦٢) تاريخ بغداد ٢ / ٣١ ـ ٣٢.

(٦٣) نفس المصدر / ٣٣.

١١٥
١١٦

الباب الثامن

علاقات الدولة العربية بمملكة الروم

١ ـ الحروب بين العرب والروم.

٢ ـ المفاداة بين العرب والروم.

٣ ـ العلاقات الثقافية والتجارية بين العرب والروم.

١١٧
١١٨

الباب الثامن

علاقات الدولة العربية بمملكة الروم

الفصل الأول

الحروب بين العرب والروم

١ ـ مقدمة :

اضطر الخليفة المأمون الى أن يخرج غازيا الى بلاد الروم في كل سنة من السنوات الأربع الأخيرة من سني حكمه. فقد خرج في سنة ٢١٥ ه‍ وفتح بعض الحصون الرومية. ولما هجم الروم في السنة التالية ٢١٦ ه‍ على طرسوس والمصيصة خرج على رأس حملة لردهم وتأديبهم ، ففتح هرقلة وعددا من الحصون. كما خرج في سنة ٢١٧ ه‍ وحاصر مدينة لؤلؤة فهادنه أهلها. وقد توفي في السنة التالية وهو في بلاد الروم. وكان قد قرر انشاء حصن قوي فأمر ببناء مدينة طوانة من أرض الروم وحشد لها الصناع ، وولي أبنه العباس أمر بنائها (١).

__________________

(١) تجارب الامم ٦ / ٤٦٤ ، والعبر ١ / ٣٧٢.

١١٩

ان هذه اللمحة القصيرة عن أواخر أيام المأمون تعطينا صورة واضحة عن طبيعة العلاقة العدائية المستمرة بين الدولة العربية ومملكة الروم.

لقد كان أبو اسحاق محمد بمعية أخيه المأمون في حملته الاخيرة ، وكان المأمون أوصى له بالخلافة من بعده. ونظرا لما واجهه أبو اسحاق من معارضة بعض القواد الذين طالبوا بمبايعة العباس بن المأمون بدلا عنه ، فقد قبل مهادنة الروم ، واسرع في العودة الى عاصمة الخلافة. وأمر بهدم ما كان المأمون أمر ببنائه في طوانة وحمل ما كان بها من السلاح والآلة الحربية وغيرها مما قدر عليه ، واحرق ما لم يقدر على حمله ، وأمر بصرف من كان المأمون قد أسكنهم هناك ، الى بلادهم (١). وقد يكون اسراع المعتصم بالله بالعودة الى العاصمة تنفيذا لما جاء في وصية المأمون له «وعجل الرحلة عني والقدوم الى دار ملك بالعراق» (٢). الا ان قيامه بتخريب الحصن الذي أمر أخوه ببنائه ليقف في وجه هجمات البيزنطيين لم يعرف سببه ، الا ان يكون يخالف أخاه في أهمية موقع هذا الحصن من الناحية العسكرية ، أو انه أراد أن يغيض العباس ، وقد كلفه أبوه بالقيام على بناء الحصن المذكور.

لقد شغل المعتصم بالله في خلال السنوات الخمس الاولى من خلافته بالقضاء على ما واجهه من المشاكل والاضطرابات الداخلية مما لم يستطع معه مهاجمة بلاد الروم أو توجيه بعض الحملات الى مدنهم الحدودية. ويظهر ان الروم من جانبهم قد ملوا استمرار القتال مع الجيوش العربية ، واغتنموها فرصة للراحة والاستعداد على ان انشغال الجيش العربي في القضاء على الاضطرابات ، وبخاصة حركة بابك الخرمي ، أصابه شيء من الانهاك. مما اثار في نفوس

__________________

(٢) الطبري ٨ / ٦٦٧ ، وتجارب الامم ٦ / ٤٧٠.

(٣) الطبري ٨ / ٦٤٩.

١٢٠