سامرا عاصمة الدولة العربية في عهد العباسيين - ج ١

أحمد عبد الباقي

سامرا عاصمة الدولة العربية في عهد العباسيين - ج ١

المؤلف:

أحمد عبد الباقي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الشؤون الثقافية العامة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٣
الجزء ١ الجزء ٢

لبث ان وشى به بعضهم الى المتوكل على الله بان في بيته سلاحا وكتبا من شيعته ، وانه يطلب الأمر لنفسه. فوجه اليه من الجند الاتراك من داهم منزله ليلا على غفلة من اهله ، فوجده وحيدا جالسا على الأرض في غرفة مغلقة ، وعليه مدرعة من شعر وعلى رأسه ملحفة من صوف ، وهو مستقبل القبلة يرتل آيت من القرآن الكريم. فحمل الى الخليفة في جوف الليل ، فمثل بين يديه وهو في مجلس شراب. وقال من اتى به انه لم يجد في منزله شيئا مما قيل عنه. فأعظمه المتوكل على الله واجلسه الى جانبه ، وناوله الكأس التي كانت في يده ، فاعتذر بأنه لم يذقه. فطلب اليه ان ينشده مما يحفظ من الشعر ، فأعتذر بأنه قليل الرواية للشعر. فالح عليه المتوكل على الله فأنشده (١) :

باتوا على قلل الأجيال تحرسهم

غلب الرجال فما اغنتهم القلل

واستنزلوا بعد عز من معاقلهم

فاودعوا حفرا ، يا بئس ما نزلوا

ناداهم صارخ من بعد ما قبروا

أين الأسرة والتيجان والحلل

أين الوجوه التي كانت منعمة

من دونها تضرب الأستار والكلل

فأفصح القبر حين ساء لهم

تلك الوجوه عليها الدود يقتتل

__________________

(١٦) مروج الذهب ٤ / ٩٣ ـ ٩٤ ، ووفيات الاعيان ٢ / ٤٣٤ ـ ٤٣٥.

٥٤١

قد طالما اكلوا دهرا وما شربوا

فأصبحوا بعد طول الأكل قد أكلوا

وطالما عمروا دورا لتحصنهم

ففارقوا الدور والأهلين وانتقلوا

وطالما كثروا الاموال وادخروا

فخلفوها على الأعداء وارتحلوا

أضحت منازلهم قفرا معطلة

وساكنوها الى الأجداث قد رحلوا

فتأثر الخليفة وبكى حتى بلت دموعه لحيته ، وبكى الحاضرون ، فأمر برفع الشراب. ثم قال له : يا ابا الحسن أعليك دين؟ قال : نعم ، اربعة الاف دينار. فأمر بدفعها اليه ورده الى منزله مكرما.

لبث الامام علي الهادي في سامرا طيلة حكم المتوكل على الله ، وابنه المنتصر بالله ، والمستعين بالله بعده ، حتى توفى في ايام المعتز بالله لأربع بقين من جمادى الآخرة سنة ٢٥٤ ه‍ ١٧ ، ودفن بداره بسامرا.

٥٤٢

الملحق :

الامام علي الهادي :

والأمام علي الهادي هو ابن الامام محمد الجواد ويعرف بابي الحسن العسكري وانما قيل له العسكري لأنه لما كثرت السعاية به عند المتوكل على الله احضره من المدينة المنورة وأقره بسر من رأى وكانت تدعى العسكر ايضا فاقام بها عشرين سنة فنسب اليها (١). وهو عاشر الأئمة الأثنى عشر. ولد بالمدينة المنورة وبها كانت نشأته. وهناك خلاف بسيط في تاريخ مولده ، اذ يقول الخطيب البغدادي انه ولد في رجب سنة ٢١٤ ه‍ ، بينما يقول ابن الأثير انه ولد في سنة ٢١٢ ه‍ ، ويتردد ابن خلكان في ان ولادته كانت في سنة ٢١٣ ه‍ او في سنة ٢١٤ ه‍ (٢).

كان الامام الهادي من الاتقياء الصالحين ، فقيها متعبدا منصرفا الى العلم. ولما ارتاب المتوكل على الله به لكثرة الوافدين عليه من مختلف الاقطار ، استقدمه الى سامرا ليكون تحت رقابة الخلافة مباشرة. فبقى الامام في سامرا لا يبرحها ، الا انه كان يستقبل اصحابه وزائريه ويحضر مجالس الخلفاء ومجالس كبار

__________________

(١) وفيات الاعيان ٢ / ٤٣٥ ، وشذرات الذهب ٢ / ١٢٩.

(٢) تاريخ بغداد ١٢ ـ ٥٧ ، والكامل ٧ / ١٧٩ ، ووفيات الاعيان ٢ / ٤٣٥.

٥٤٣

رجال الدولة. ويروي الخطيب البغدادي خبرا يدل على سمو منزلته لدى الخليفة واطمئنانه اليه. فقد اعتل المتوكل على الله فقال لئن برئت لا تصدقن بدنانير كثيرة. فلما برىء جمع الفقهاء فسألهم عن ذلك فاختلفوا في الاجابة ، فبعث الى الامام على بن محمد يسأله ، فقال : يتصدق بثلاثة وثمانين دينارا. فعجب بعض الفقهاء من ذلك وتعصب قسم منهم عليه ، وقالوا تسأله يا امير المؤمنين من اين له هذا. فرد الرسول اليه وقال : قل لأمير المؤمنين في هذا الوفاء بالنذر لأن الله تعالى قال «لقد نصركم في مواطن كثيرة» فروى اهلنا جميعا ان المواطن في الوقائع والسرايا والغزوات كانت ثلاثة وثمانين موطنا. وان يوم حنين كانت الرابع والثمانين ، وكلما زاد امير المؤمنين في فعل الخير كان انفع له وآجر عليه في الدنيا والآخرة(١).

بقي الامام على الهادي طيلة عهد المتوكل على الله وعهد المنتصر بالله وخلفه المستعين بالله مقيما في سامرا مكرما ، لأن ما كان يمتاز به من هدوء الطبع وكرم النفس وقوة الصبر والاحتمال ، قد ساعده على الاحتفاظ بمنزلته رغم حذر الخلفاء منه وفرضهم الرقابة عليه. وقد انتقل الى جوار ربه فى سنة ٢٥٤ ه‍ في يوم الخميس لليال بقين من جمادى الآخرة وهو ابن اربعين سنة ، في ايام المعتز بالله. فبعث الخليفة باخيه ابي احمد ابن جعفر المتوكل على الله فصلى عليه في الشارع المعروف بشارع ابي احمد. ولما كثر الناس واشتد بكاؤهم وعلا ضجيجهم ، رد النعش الى دار الامام فدفن فيها (٢). ويقول الخطيب البغدادي ان

__________________

(٣) تاريخ بغداد ١٢ / ٥٦ ـ ٥٧.

(٤) الطبري ٩ / ٣٨١ ، وتاريخ اليعقوبي ٢ / ٥٠٣ ، وتاريخ بغداد ١٢ / ٥٧.

٥٤٤

هذه الدار كان الامام قد اشتراها من دليل بن يعقوب النصراني (١).

الامام الحسن العسكري :

وكان خلف الامام علي الهادي ابنه الامام الحسن العسكري وهو الامام الحادي عشر ، ابو محمد ، وغلب عليه لقب العسكري لسكناه في سامرا ، وقد اقام بها طيلة حياة ابيه وبعده حتى توفى بها. وهناك بعض الاختلاف في مكان ولادته وتاريخها ، ويستنتج من تاريخ وفاته ومقدار عمره انه ولد فى سنة ٢٣١ ه‍ وقيل ٢٣٢ ه‍ او ٢٣٣ ه‍. ويقول ابو المحاسن ان ولادته كانت فى سنة ٢٣١ ه‍ (٢). اما محل ولادته فليس هناك اشارة واضحة الى ذلك في المصادر الأولية عدا ما قاله ابو المحاسن بانه ولد بسر من رأى وامه ام ولد (٣). الا انه يظهر من تاريخ ولادته ما يرجح بانه ولد بالمدينة المنورة لأن اباه كان حينذاك لا يزال فيها ولما يشخص بعد الى سامرا.

انتقل الامام الحسن العسكري مع ابيه علي الهادي الى سامرا فنشأ بها نشأة دينية على سنن سلفه الصالح ، فكان ناسكا متعبدا. ويظهر انه عني بتعلم عدد من اللغات لاختلاف جنسيات الوافدين الى زيارته وزيارة ابيه من قبل. فكان يتكلم بالهندية مع الزوار الهنود ، وبالتركية مع الاتراك وبالفارسية مع العجم (٤). وعند ما

__________________

(٥) تاريخ بغداد ١٢ ـ ٥٧.

(٦) مروج الذهب ٤ / ١٩٩ ، ووفيات الاعيان ١ / ٣٧٢ ، والنجوم الزاهرة ٣ / ٣٢

(٧) النجوم الزاهرة ٣ / ٣٢.

(٨) عقيدة الشيعة / ٢٢٣ اعتمادا على خلاصة الاخبار للسيد محمد مهدي.

٥٤٥

توفي ابوه سجن الامام الحسن في بغداد ، الا انه ما لبث ان اطلق من السجن وسمح له بالعودة الى سامرا ، فاقام بها حتى نهاية حياته.

توفى الامام الحسن العسكري في سنة ٢٦٠ ه‍ ويقول ابن خلكان انه توفى بسر من رأى ودفن بجنب قبر ابيه (١). ولما ذاع خبر وفاته ارتجت سر من رأى ، وعطلت الأسواق ، وركب بنو هاشم والقواد والكتاب والقضاة وسائر الناس لتشييع جنازته (٢).

ولما تولى المنتصر بالله الخلافة بعد مقتل ابيه المتوكل على الله ، اتسمت سياسته تجاه العلويين بالتسامح معهم والعمل على استرضائهم ، فأمر بعدم التعرض لهم ، والا يمنع احد من زيارة قبر الحسين وقبر غيره من أئمة آل البيت. فلم يجر على احد منهم قتل او حبس او مكروه (٣). وكان اول عمل قام به لتنيفذ سياسته هذه انه أقال والي ابيه على المدينة المنورة صالح بن علي الذي كان آل ابي طالب هناك ينقمون عليه لسوء معاملته لهم. واستعمل عليها علي بن الحسن بن اسماعيل بن العباس بن محمد. وذكر عن علي هذا انه قال «دخلت على المنتصر اودعه ، فقال لى : يا علي اني اوجهك الى لحمي ودمي ومد جلد ساعده : وقال لي : الى هذا وجهتك ، فانظر كيف تكون للقوم وكيف تعاملهم ، يعني آل ابي طالب. فقلت : ارجو ان امتثل رأي امير المؤمنين ايده الله فيهم ان شاء الله. فقال : اذا تسعد بذلك عندي» (٤).

__________________

(٩) مروج الذهب ٤ / ١٩٩ ، والكامل ٧ / ٢٧٤ ، ووفيات الاعيان ١ / ٣٧٣.

(١٠) الاعلام ٢ / ٢١٥.

(١١) الطبري ٩ / ٣٨١ ، ووفيات الاعيان ٢ / ٤٣٥.

(١٢) مقاتل الطالبيين / ٦٢٦.

٥٤٦

كما اطلق المنتصر بالله ما كان محبوسا عليهم من الأوقاف ، ورد «فدك» الى اولاد الحسن والحسين (١). وكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم صالح اهل فدك على نصف الارض بتربتها ، وكان ذلك النصف خالصا له لأنه لم يوجت عليه المسلون بخيل ولا ركاب ، وكان يصرف ما يأتيه منها في ابناء السبيل. ولما قبض عليه الصلاة والسلام قالت فاطمة الزهراء لأبي بكر الصديق : ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جعل لي فدكا فاعطني اياها ، وشهد لها علي بن ابي طالب. فسألها ابو بكر شاهدا آخر. فشهدت لها ام أيمن مولاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال لها : قد علمت يا بنت رسول الله انه لا تجوز الا شهادة رجل وامرأتين ، فانصرفت. ولما تولى المأمون الخلافة امر بدفعها الى ولد فاطمة. فردت الى ورثتها وسلمت الى محمد بن يحيى بن زيد بن علي بن الحسين ومحمد بن عبد الله بن الحسن. الا ان المتوكل على الله كان قد ردها الى ما كانت عليه قبل المأمون (٢).

لقد لقيت مبادرة المنتصر بالله برده فدك الى آل البيت رضى من العلويين وشيعتهم. وقال الشاعر يزيد المهلبي في ذلك (٣) :

ولقد بررت الطالبية بعد ما

ذموا زمانا بعدها وزمانا

ورددت الفة هاشم فرأيتهم

بعد العداوة بينهم اخوانا

__________________

(١٣) الطبري ٩ / ٢٥٤.

(١٤) مروج الذهب ٤ / ١٣٥ ، والكامل ٧ / ١١٦.

(١٥) عن موضوع فدك راجع : فتوح البلدان / ٤٢ ـ ٤٣ ، وتاريخ اليعقوبي ٢ / ٤٦٩ ، والخراج وصناعة الكتابة / ٢٥٩ ـ ٢٦٠.

٥٤٧

آنست ليلهم وصبرت عليهم

حتى نسوا الأحقاد والاضغانا

لو يعلم الاسلاف كيف بررتهم

لرأوك أثقل من بها ميزانا

ولشدة بر المنتصر بالله بالعلويين قال عنه صاحب الذهب المسبوك انه كان شيعيا (١). كما مدحه البحتري بقصيدة اشاد فيها بسياسته تجاه العلويين. ولعلها القصيدة الوحيدة التي قالها في مدحه ، لأنه كان قد اتهمه بالمشاركة في اغتيال ابيه ، قال فيها يخاطب المنتصر بالله (٢) :

رددت المظالم واسترجعت

يداك الحقوق لمن قد قهر

وآل ابي طالب بعد ما

أذيع بسربهم فابذعر

ونالت ادانيهم جفوة

تكاد السماء ، لها تنفطر

وصلت شوابك ارحامهم

وقد أوشك الحبل ان ينبتر

فقربت من حظهم ما نأى

وصفيت من شربهم ما كدر

__________________

(١٦) مروج الذهب ٤ / ١٣٥ ـ ١٣٦.

(١٧) الذهب المسبوك / ٢٢٧.

٥٤٨

قرابتكم ، اشقاؤكم

واخوتكم دون هذا البشر

ومن هم وانتم يدا نصرة

وحدا حسام قديم الأثر

بقيت امام الهدى ، للهدى

تجدد من نهجه ما دثر

وكان من نتيجة محاسنة المنتصر بالله العلويين ، انهم اخلدوا الى مسالمة الخلافة العباسية على عهده.

وعند ما ضعفت الخلافة في ايام الفتنة كثرت وثبات العلويين. ولكن رغم ضعف الخلفاء كان الجيش الذي يعتمد عليه القواد الحكام من الاتراك قويا وهو تحت قيادتهم ، ولذلك كانوا يبادرون الى توجيهه لاخضاع تلك الوثبات والبطش بالقائمين بها. ويمكن القول ان جميع وثبات العلويين على خلفاء سامرا قد قضي عليها سوى فنتة الحسن بن زيد العلوي التي اندلعت في ايام المستعين بالله. فقد استمرت الى ما بعد عودة العاصمة الى مدينة السلام ثانية حتى تم القضاء عليها في سنة ٢٨٧ ه‍ على أيدي السامانيين ، كما سنرى في الفصل القادم ، بعد ان استمرت سبعا وثلاثين سنة ، بحيث ان ابن خلدون سماها الدولة العلوية.

وبلغ الخليفة المعتز بالله في سنة ٢٥٢ ه‍ ان بعض العلويين المقيمين في بغداد لهم اتصالات بالحسن بن زيد العلوي صاحب طبرستان ، وان احدهم شخص الى ناحية الكوفة مع عدد من اتباعه. فأوجس خيفة من انهم يعتزمون الخروج عليه ، فكتب الى نائبه في بغداد محمد بن عبد الله ان يحمل هؤلاء الطالبيين الى سامرا ،

٥٤٩

فحملوا جميعا ، وكان فيهم ابو هاشم داود بن القاسم الجعفري وهو من احفاد جعفر بن ابي طالب ، وعلي بن عبيد الله بن عبد الله من احفاد الحسن بن علي بن ابي طالب ، وابو احمد محمد بن جعفر من احفاد الحسن كذلك وهم من رؤوساء العلويين. وكان ابو احمد المذكور سبق ان ولاه المعتز بالله ولاية الكوفة بعد ما قضى مزاحم بن خاقان على ثورة الحسين بن محمد العلوي ، فاساء ابو احمد في ادارته واعتدى على اموال الناس وضياعهم. فارسل محمد بن عبد الله نائبا عنه الى الكوفة ، فاستطاع ان يخدع ابا احمد ويقبض عليه ويحمله مقيدا الى بغداد ، فحبسه محمد ثم ما لبث ان اطلقه بكفالة بعض العلويين ، وكان مع العلويين الذي حملوا الى سامرا من بغداد عدد من اتباعهم (١).

ويظهر ان المعتز بالله رأى ان يضع بقية العلويين تحت رقابته في حاضرة الخلافة سامرا ، فأمر بحمل العلويين الموجودين في مصر الى سامرا كذلك. فقدم عيسى الشيباني من مصر ومعه ستة وسبعون من سائر ولد ابي طالب من اولاد علي وجعفر وعقيل. وكان هؤلاء قد خرجوا الى مصر خوفا من الفتنة وبسبب الجهد النازل بالحجاز. فلما وصلوا سامرا احسن المعتز بالله معاملتهم وامر بتكفيلهم واطلاقهم (٢).

ويتضح مما يذكره ابو الفرج في كتابه مقاتل الطالبين ان ايام المعتمد على الله كانت شديدة على العلويين ، وقد مات عدد منهم في سجن سامرا في ايامه. فقد توفى محمد بن الحسين بن محمد ابن الحسن بن علي بن ابي طالب وهو محبوس بسجن سامرا.

__________________

(١٨) القصيدة في ديوان البحتري ٢ / ٨٤٨ ـ ٨٥١.

(١٩) الطبري ٩ / ٣٦٩ ـ ٣٧١ ، والكامل ٧ / ١٧٥ ـ ١٧٦.

٥٥٠

وتوفى موسى بن موسى بن محمد بن الحسن بن علي بن ابي طالب ، وكان ممن حمل من مصر في ايام المعتز بالله وسجن. كما توفى محمد بن احمد بن عيسى بن الحسين بن علي بن ابي طالب ، وكان قد حمله سعيد الحاجب مع ابنيه احمد وعلي ، فتوفى محمد وابنه احمد في الحبس ايضا (١)(٢).

__________________

(٢٠) مروج الذهب ٤ / ٧٧٧.

(*) مقاتل الطالبين / ٦٨٨ ـ ٦٨٩.

٥٥١
٥٥٢

الفصل الثاني

خروج العلويين في عهد خلفاء سامرا

١ ـ خروج محمد بن القاسم العلوي :

كان محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب (١) ، ويكنى بابي جعفر ، يسكن المدينة المنورة ملازما المسجد النبوي الشريف (٢). وقد عرف بحسن السيرة والزهد ، ولقب بالصوفي لأنه ادمن لبس الثياب من الصوف الأبيض (٣). فاتصل به احد الخراسانيين المجاورين واقنعه بحقه في الامامة وبايعه عليها ، وصار يأتيه ببعض حجاج خراسان يبايعونه (٤). ولما رأى محمد بن القاسم كثرة من بايعه من الخراسانيين سافر الى الطالقان من كور خراسان واظهر دعوته فيها

__________________

(١) هكذا ورد اسمه في تاريخ اليعقوبي ٢ / ٤٧١ ، ومروج الذهب ٤ / ٥٢ ، مقاتل الطالبين / ٥٨٧ وورد في الطبري ٩ / ٧ : محمد بن القاسم ابن عمر بن علي ... ونقله عنه ابن الاثير ـ الكامل ٦ / ٤٤٢.

(٢) الكامل ٦ / ٤٤٢.

(٣) مقاتل الطالبيين / ٥٧٨.

(٤) الكامل ٦ / ٤٤٢.

٥٥٣

في سنة ٢١٩ ه‍ ، فصار اليه كثير من الاتباع والأنصار في تلك المناطق.

ويقول المسعودي انه كان بالكوفة وقد عرف بالزهد والتقوى ، ولما خاف على نفسه هرب الى خراسان وتنقل بين كورها ، واظهر دعوته هناك (١).

وذكر ابو الفرج ان ابراهيم بن عبد الله العطار ، وهو احد دعاة محمد بن القاسم ، قال انه نزل بمرو ومعه عدد من الكوفيين من اتباعه ، فلما اجتمع امره عين يوما لخروجه على الخلافة ، فاجتمع اليه اتباعه في يوم محدد ليتلقوا امره بالخروج. ويروي ابراهيم المذكور خبرا عن احد الانتهازيين ممن بايعوا محمد بن القاسم لمجرد الانتفاع والكسب. قال ما خلاصته : بينما نحن عنده نعد للخروج سمعنا صوت استغاثة رجل ، فقال لي محمد انظر ما هذا الصراخ ، فأتيت الموضع فرأيت رجلا حائكا قد اخذ رجل ممن بايعنا لبدا والحائك متعلق به يستغيث. فاستفسرت عن الأمر ، فقال الحائك : اخذ صاحبكم هذا لبدي. فقلت للرجل اردد عليه لبده ، فقد سمع ابو جعفر صراخه. فقال لي : انما خرجنا معكم لنكتسب وننتفع ونأخذ ما نحتاج اليه. فلم ازل ارفق به حتى اخذت منه اللبد ورددته الى صاحبه. ورجعت الى محمد بن القاسم واخبرته الخبر ، فقال : يا ابراهيم أبمثل هذا ينصر الدين؟ ثم قال لنا : فرقوا الناس حتى ارى رأي (٢).

__________________

(٥) مروج الذهب ٤ / ٥٢.

(٦) مقاتل الطالبين / ٥٧٩ ـ ٥٨٠.

٥٥٤

وعند ما شعر امير خراسان عبد الله بن طاهر بخطر دعوة محمد بن القاسم قرر ان يقبض عليه. فجرت بين قواته واتباع محمد عدة وقائع بنواحي الطالقان وجبالها ، كان نتيجتها فشل محمد ، فانهزم وبعض اتباعه الى احدى القرى فقبض عليه عبد الله بن طاهر وسيره الى سامرا. ولم يجسر ابن طاهر على اشخاصه علنا لكثرة اتباعه ومؤيديه ، فكان يخرج بغالا عليها قباب ليوهم الناس انه قد اخرجه ، ثم يردها ، وقد فعل ذلك عدة مرات حتى استطاع ان يبعث به في احدى الليالي ومعه جيش لحمايته ، حتى اوصله الى الخليفة ببغداد (١). فأمر المعتصم بالله بحبسه ريثما ينظر في امره (٢).

وكان المعتصم بالله امر ببناء حبس في بستان موسى وكان القيم به مسرور مولى الرشيد ، وهو نموذج للحبوس فى ذلك العهد ، وقد وصف بانه كالبئر العميقة حفرت الى الماء ، ثم بنى فيها بناء على هيئة المنارة مجوف من باطنه ومدرج. وقد حفر في مواضع من التدريج مستراحات ، وبني في كل مستراح ما يشبه الغرفة ، يجلس فيها رجل واحد كأنها على مقداره بحيث لا يستطيع ان يمد رجليه. فلما قبض على محمد بن القاسم حبس في اسفل ذلك الحبس. فاصابه من الجهد لضيقه ، ومن البرد امر عظيم. فكاد ان يتلف من ساعته ، فقال : ان كان امير المؤمنين يريد قتلي فالساعة اموت ، والا فقد اصبحت على وشك منه.

__________________

(٧) مقاتل الطالبيين / ٥٨٤.

(٨) الطبري ٩ / ٨.

٥٥٥

فلما بلغ المعتصم بالله قوله ، قال : ما اريد قتله ، وامر باخراجه وحبسه في بيت كان قد بنى فى البستان (١).

وقد استطاع محمد بن القاسم ان يهرب من سجنه بمساعدة بعض اتباعه. وهناك عدة روايات عن كيفية هروبه. يقول الطبري : ولما كانت ليلة الفطر واشتغل الناس بالعيد والتهنئة ، احتال للخروج من الحبس بالليل. وانه دلي اليه حبل من كوة كانت في اعلى البيت الذي حبس فيه يدخل منها الضوء. فلما اصبحوا اتوه بالطعام فافتقدوه ، وجعلوا لمن دل عليه مائة الف درهم ، الا انه لم يعرف له خبر (٢). وجاء في مقاتل الطالبيين انه هو الذي صنع الحبل من لبد كان تحته في السجن وربطه في الكوة وتدلى الى الخارج وهرب (٣). اما المسعودي فيقول ان جماعة من شيعته من الطالقان أتو ذلك البستان ، فتأتوا للخدمة فيه من غرس وزراعة واتخذوا سلالم من الحبال واللبود ونقبوا الازج واخرجوه ، فذهبوا به ، ولم يعرف له خبر(٤).

ووردت عن نهاية محمد بن القاسم روايات متعددة ايضا. فان المسعودي يقول ان هناك من يقول انه قتل بالسم ، وان كثيرا من اتباعه يزعمون انه مهدي هذه الأمة. وهو يرى أن قولهم هذا

__________________

(٩) التفصيلات في الفرج بعد الشدة ٢ / ١٧٥ ـ ١٧٩ ويبين كيفية هروبه. وفي مروج الذهب ان المعتصم بالله حبسه في ازج اتخذ في بستان ـ ٤ / ٥٢.

(١٠) الطبري ٩ / ٧ ـ ٨.

(١١) مروج الذهب ٤ / ٥٥.

(١٢) مقاتل الطالبيين / ٥٨٦.

٥٥٦

في محمد بن القاسم يشبه قول الكيسانية في محمد بن الحنفية (١). وجاء في مقاتل الطالبيين انه رجع الى الطالقان ، وقيل انه انحدر الى واسط واختفى طيلة ايام المعتصم بالله والواثق بالله ، ثم اخذ في ايام المتوكل على الله فحبس ومات في حبسه (٢).

ومن المرجح ان نهاية محمد بن القاسم كانت القتل ، لأن خروجه على الخليفة العباسي بدعوة الامامة العلوية مما يهدد خلافته. اما الادعاء باختفائه فانه يلائم السلطة لتتخلص من تهمة قتله ، كما انه يلائم اتباعه الذين يرون فيه المهدي المنتظر الذي سيتمثل بمن سيخرج على الدولة من العلويين.

٢ ـ خروج محمد بن صالح :

رغم سياسة الشدة التي اتبعها المتوكل على الله مع العلويين فقد حاول بعضهم الخروج عليه. فقد خرج في الحجاز في ايامه ابو عبد الله محمد بن صالح بن عبد الله من احفاد الحسن بن علي ابن ابي طالب. وكان خروجه في موسم الحج في سنة ٢٤٢ ه‍. وكان القائد ابو الساج قد عينه المتوكل على الله فى سنة ٢٤٢ ه‍ واليا على طريق مكة واحداث الموسم (٣). فخاف موسى بن عبد الله ، وهو عم محمد بن صالح ، على نفسه واولاده واهله فضمن لأبي الساج تسليمه. واستطاع موسى ان يقنع ابن اخيه بالتسليم ، فخرج محمد الى ابي الساج فقيده وحمله الى سامرا مع جماعة من اهله. فأمر المتوكل على الله بسجنه فيها. الا ان الفتح

__________________

(١٣) نفس المصدر / ٥٢ ـ ٥٣.

(١٤) مقاتل الطالبيين / ٥٨٧.

(١٥) الطبري ٩ / ٢١٠.

٥٥٧

ابن خاقان تكفل بأمره فوافق المتوكل على الله اطلاقه على ان يجعله الفتح تحت رقابته. وان يكون مقامه بسامرا ولا يخرج الى الى الحجاز. فلم يزل بسامرا حتى مات بالجدري فى ايام المنتصر بالله. وكان يجهد في ان يؤذن له بالرجوع الى الحجاز ، فلا يجاب الى ذلك.

ويعتبر محمد بن صالح من شعراء آل ابي طالب المتقدمين. وقد عده ابو الفرج الاصبهاني من شعراء الحجاز الظرفاء ، وافرد له فصلا فى كتابه باعتبار ان له شعرا يغنى به (١). وقد قال محمد بن صالح في عبيد الله بن يحيى بن خاقان. وزير المتوكل على الله ، هجاء كثيرا ، لأنه كان لشدة انحرافه عن الطالبين يغري المتوكل على الله به ويحذره من اطلاقه. وقد هجاه في قصيدة مدح بها صديقه ابراهيم بن المدبر ، جاء فيها (٢) :

وما في آل خاقان اعتصام

اذا ما عمم الخطب الكبير

لئام الناس اثراء وفقرا

واعجزهم اذا حمي القتير

وقوم لا يزد حبهم كريم

ولا تسنى لنسوتهم مهور

وكان محمد بن صالح حلو اللسان ، ظريفا ، اديبا ، وكان في سامرا يخالط سراة الناس ووجوه البلد ، ولم يكن يفارق

__________________

(١٦) الاغاني ١٦ / ٣٦٠ ـ ٣٧٢.

(١٧) كامل القصيدة في الاغاني ١٦ / ٣٦٧ ـ ٣٦٨ ، وعن خروجه راجع مقاتل الطالبيين / ٦٠٠ ج ٦١٣.

٥٥٨

سعيد بن حميد ، وهو من كبار كتاب الدولة. بحيث لما توفى محمد رثاه سعيد بقصيدة منها(١):

لعمري لقد غال التجلد أننا

فقدناك فقد الغيث والعام جادب

فما اعرف الايام الا ذميمة

ولا الدهر الا وهو بالثأر طالب

فقدت فتى قد كان للارض زينة

كما زينت وجه السماء الكواكب

سقى جدثا امسى الكريم ابن صالح

يحل به ، وان من المزن ساكب

اذا بشر الرواد بالغيث برقه

مرته الصبا واستحلبته الحجائب

فغادر باقي الدهر تأثير صوبه

ربيعا زهت منه الربا والمذائب

٣ ـ خروج يحيى بن عمر :

خرج في سنة ٢٥٠ ه‍ على عهد المستعين بالله احد الطالبيين هو يحيى بن عمر بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب المكنى بابي الحسين ، بالكوفة وبها كان مقتله. وقد سبق ان شرنا الى محاولته الوثوب في عهد المتوكل على الله وفشله في

__________________

(١٨) الاغاني ١٦ / ٣٦٩.

٥٥٩

ذلك. فقد سافر بعد اطلاقه من السجن الى خراسان ، الا ان اميرها عبد الله بن طاهر رده الى سامرا خوفا من ان يتجمع حوله اولياؤه ومؤيدوه. فنالته ضائقة مالية شديدة وتراكمت عليه ديون ضاق بها ذرعا. فلقى عمر بن فرج الرخجي ، وكان يتولى امور الطالبيين ، وكلمه في صلته ، فاغلظ له عمر القول فقذفه يحيى في مجلسه. ولما شكاه الرخجي الى المتوكل على الله امره بضربه وحبسه ، ولم يزل محبوسا حتى كفله بعض اهله فاطلق سراحه. فشخص الى بغداد فاقام بها بحال سيئة ، فعاد الى سامرا وكلم وصيف القائد ان يخصص له رزق يجري له ، فجابهه وصيف وقال «لأي شىء يجرى على مثلك» (١) متجاهلا مكانته ، فانصرف حانقا غاضبا.

كان يحيى بن عمر دينا عفيفا كثير العطف والمعروف على عوام الناس ، بارا بحوائجهم لم تظهر له زلة (٢). وفارسا شجاعا شديد البدن مجتمع القلب (٣). ويظهر ان ما قاساه من ضيق مالى ، وما لقيه من معاملة سيئة من رجال الخليفة ، دفعه الى شق عصا الطاعة والخروج. يقول المسعودي «وكان ظهوره لذل نزل به ، وجفوة لحقته ، ومحنة نالته ، من المتوكل وغيره من الأتراك» (٤). فتوجه الى الكوفة واظهر امره ، فاجتمعت اليه الزيدية وكثير من اهل الكوفة والاعراب النازلين حولها ، فبايعوه ، فقوى امره بهم. فطرد عامل الكوفة ، وصار الى بيت مالها فاخذ ما فيه ومقداره

__________________

(١٩) الطبري ٩ / ٢٦٦.

(٢٠) مروج الذهب ٤ / ١٤٩.

(٢١) مقاتل الطالبيين / ٦٣٩.

(٢٢) مروج الذهب ٤ / ١٤٨.

٥٦٠