سامرا عاصمة الدولة العربية في عهد العباسيين - ج ١

أحمد عبد الباقي

سامرا عاصمة الدولة العربية في عهد العباسيين - ج ١

المؤلف:

أحمد عبد الباقي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الشؤون الثقافية العامة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٣
الجزء ١ الجزء ٢

الطرفين (١). كما ايد ابن اسرائيل عبيد الله بن يحيى في صرف محمد بن عبد الله عن نصرة المستعين بالله ، والسعي لايقاف القتال بين المعتز بالله والمستعين بالله ، والسعي للصلح (٢). ثم صار الى المعتز بالله في سامرا فولاه البريد ووعده بالوزارة ان تم له النصر (٣).

ولما رأى المستعين بالله ضعف امره وخذلان ناصريه اجاب الى خلع نفسه من الخلافة وبايع للمعتز بالله. فانتهت الحرب بين سامرا وبغداد ، واستقر الأمر للمعتز بالله. فكافأ المعتز بالله ابن اسرائيل على انتصاره له وخذلانه المستعين بالله بأن استوزره وخلع عليه ووضع تاجا على رأسه (٤).

وكان القائدان التركيان وصيف وبغا اللذان التحقا بالمستعين بالله ، لما رأيا ان الخلافة انتهت الى المعتز بالله ، قررا المصير اليه في سامرا ، فوجه وصيف اخته سعاد الى المؤيد ليكلم اخاه المعتز بالله بالعفو عنه ، وكان الموفق قد كلم المعتز بالله في امر العفو عن بغا ايضا. فكتب الخليفة اليهما بالرضا عنهما. فتوجها الى سامرا. ويبدو ان المعتز بالله لم يكن راغبا في مجيئهما الى سامرا لأنه كتب الى امير بغداد محمد بن عبد الله ان يمنعهما من الخروج من بغداد (٥). ولما علم احمد بن اسرائيل بوصول القائدين المذكورين الى بغداد بكر في زيارتهما قبل ان يحضرا دار

__________________

(١٣٤) الطبري ٩ / ٣٣٦.

(١٣٥) نفس المصدر / ٣٤١ ـ ٣٤٢.

(١٣٦) نفس المصدر / ٣٤٤.

(١٣٧) نفس المصدر / ٣٤٩.

(١٣٨) نفس المصدر / ٣٥٥.

٤٠١

الخلافة (١). ولعله كان يهدف من زيارته الترحب بهما ليكسب ، تأييدهما له ، بعد ان علم انهما اعيدا الى سابق مراتبهما واعمالهما. ولما اشتد الخلاف بين الخليفة والقائد بغا ، وقف احمد بن اسرائيل الى جانب الخليفة وصحبه الى كرخ سامرا ليلا للالتجاء الى القائد بايكباك ومن معه ممن كانوا ضد بغا. وكان بغا قد غامر بالخروج على الخليفة فانتهى امره بالقتل وجىء برأسه الى المعتز بالله. فبعث الخليفة من ساعته الى احمد بن اسرائيل ، وبعض رجال دولته ، يبلغهم بذلك (٢).

وبالنظر لازدياد الجند الأتراك وازدياد نفقاتهم فقد عجز الوزير ابن اسرائيل عن تأمين الأموال اللازمة لهم ، فاستغل الاتراك تأخر ارزاقهم فهاجموه. وقد تزعم حركة تذمرهم القائد صالح بن وصيف ، فقابل الخليفة بحضور الوزير وقال له : يا امير المؤمنين ليس للاتراك عطاء ، ولا في بيت المال مال ، وقد ذهب ابن اسرائيل واصحابه باموال الدنيا. فرد عليه احمد بن اسرائيل واتهمه بالعصيان. فأمر صالح اتباعه فقبضوا على الوزير واثنين من كبار الكتاب من مؤيديه هما الحسن بن مخلد ، وهو كاتب قبيحة ام المعتز بالله ، وابو نوح عيسى بن ابراهيم ، وكان كاتب الفتح بن خاقان ، وقيدوهم واثقلوهم بالحديد. ورفض صالح طلب الخليفة وامه باطلاق سراح احمد ابن اسرائيل. ولما لم يحصل الاتراك على شىء من المال منهم ، وجه صالح في قبض ضياعهم ودورهم ، وضياع ذويهم واموالهم (٣).

__________________

(١٣٩) نفس المصدر / ٣٥٦.

(١٤٠) الطبري ٩ / ٣٧٩ ـ ٣٨٠.

(١٤١) نفس المصدر / ٣٨٧ ـ ٣٨٨.

٤٠٢

وعند ما تفاقم الخلاف بين الخليفة والاتراك خلعوه وقتلوه ، وبايعوا لمحمد بن الواثق بالله بالخلافة ولقب بالمهتدي بالله. واستمر صالح واتباعه في التشديد على الوزير والكتاب حتى يوم الخميس لثلاث بقين من رمضان سنة (٢٥٥ ه‍) فأخرج ابن اسرائيل الى باب العامة وضرب خمسمائة سوط ، ثم حمل على بغل من بغال السقائين منكس الرأس مكشوف الظهر ، وحين وصلوا به خشبة بابك مات. فقال الخليفة لما بلغه ذلك اما عقوبة الا السوط والقتل ، اما يكفي الحبس (١). وقد اختلف فيمن امر بضربه ، فان الطبري يقول ان صالح بن وصيف وكل بضربه حماد ابن محمد بن حماد بن دنقش ، ويتفق معه ابن الأثير بان صالحا هو الذي امر بضربه (٢). بينما يقول المسعودي ان المهتدي بالله لما افضت اليه الخلافة اخرج احمد بن اسرائيل الى باب العامة بسامرا فضرب خمسمائة سوط فمات ، وذلك لامور كانت قد استحق عند المهتدي فيما يجب في حكم الشريعة ان يفعل ذلك (٣).

كان احمد بن اسرائيل يعيد النظر ، مرضيا في عمله ، وقد حاز ثقة الخلفاء الذين خدمهم وتقديرهم. وقد عرف بقوة حفظه وحدة ذهنه ، وقالوا انه كان يحفظ وجوه المال جميعها دخلا وخرجا. وضاعت مرة حسبة من الديوان فأوردها من خاطره ، فلما وجدت كانت كما قال من غير زيادة او نقيصة (٤).

__________________

(١٤٢) نفس المصدر / ٣٩٨.

(١٤٣) نفس المصدر / ٣٩٧ ـ ٣٩٨ ، الكامل ٧ / ٢٠١.

(١٤٤) مروج الذهب ٤ / ١٨٧.

(١٤٥) الفخري / ٢٢٢.

٤٠٣

وذكر الصابي خبرا يؤيد ذلك ، فقد كان يلقى على الكتاب الطويل نظرة سريعة فيستوعب ما فيه ، ويأمر بما يجاب به (١).

٨ ـ سليمان بن وهب :

ابو ايوب سليمان بن وهب بن سعيد من بيت كتابة وانشاء ، حزم اجداده عددا من الخلفاء الأمويين في الشام ، وبعض الخلفاء العباسيين في بغداد. وكان ابوه وهب بن سعيد كاتبا للفضل بن سهل وزير المأمون ، ثم كتب بعده للحسن بن سهل الذي قلده بعض الولايات فابدى كفاية في الادارة (٢).

عمل سليمان في الكتابة في سن مبكرة. فقد كتب للمأمون وهو ابن اربع عشرة سنة ، وكتب لايتاخ ثم لأشناس ، وهما من كبار القواد الأتراك (٣). ويقول ابن الطقطقي انه من قرية واسط ، واصل اهله نصارى اسلموا وخدموا في الدواوين ، ويعتبر سليمان من كبار الكتاب وذوي الرأي منهم (٤). ثم كتب سليمان للخليفة المعتصم بالله ، وقد بعثه ليحصي ما في دار الأفشين عند ما حبسه (٥). ولما حبس الواثق بالله الكتاب والزمهم اموالا ، امر بحبس سليمان بن وهب ، وكان حينذاك يكتب لايتاخ ، والزمه بمائتي الف درهم ـ وقيل دينار ـ فقيد والبس مدرعة من مدارع الملاحين ، فأدى مائة الف درهم وسأل ان يؤخذ

__________________

(١٤٦) الوزراء / ٢١٣.

(١٤٧) وفيات الاعيان ٢ / ١٤٥.

(١٤٨) نفس المصدر.

(١٤٩) الفخري / ٢٢٣.

(١٥٠) الطبري ٩ / ١١٤.

٤٠٤

بالباقي في عشرين شهرا ، فاجابه الخليفة الى ذلك واخلي سبيله ورده الى كتابة ايتاخ (١). ويقال ان سليمان بن وهب بلغه ان الواثق بالله نظر الى احمد بن الخصيب الكاتب فأنشد :

من الناس انسانان ديني عليهما

مليّان لو شاءا لقد قضياني

خليلي اما ام عمرو فانها

واما عن الاخرى فلا تسلاني

فقال : انا لله ، احمد بن الخصيب ام عمرو ، واما الاخرى فانا. فنكبهما الخليفة بعد ايام (٢). ومن شعر سليمان لما سجنه الواثق بالله قوله (٣) :

نوائب الدهر ادبتني

وانما يوعظ الأريب

قد ذقت حلوا وذقت مرا

كذاك عيش الفتى ضروب

ما مر بؤس ولا نعيم

الا ولي فيها نصيب

__________________

(١٥١) نفس المصدر / ١٢٨ ، وسبق ان ذكر فى ص : ١٢٥ انه اخذ منه اربعمائة الف دينار وكذا جاء في تجارب الامم ٦ / ٥٢٧ ، وفي الكامل ٧ / ١٠.

(١٥٢) وفيات الاعيان ٢ / ١٤٧.

(١٥٣) الأغاني ٢٣ ـ ١٤٨.

٤٠٥

ولما امر المتوكل على الله اسحاق بن ابراهيم بالقبض على ايتاخ وحبسه في سنة (٢٣٥ ه‍) حبس اسحاق كاتبيه ايضا ، وكان احدهما سليمان بن وهب (١). الا ان المتوكل على الله رضي عنه بعد ذلك فولاه ديوان الخراج (٢). ثم تولى الكتابة للقائد موسى بن بغا. وعند ما عاد معه الى سامرا من الجبل في سنة (٢٥٥ ه‍) استوزره المهتدي بالله ولقب بالوزير (٣). ويلاحظ ان سليمان بن وهب لم يبد كفاية في معالجة الخلاف الذي نشب بين الخليفة والقواد الاتراك. وكان بحكم علاقته بموسى بن بغا يميل الى جانب القواد المذكورين. وقد قتل المهتدي بالله وسليمان لا يزال وزيره.

كان المعتمد على الله قد استوزر الحسن بن مخلد اثر وفاة عبيد الله بن يحيى ، وكانت علاقة الحسن بالقائد موسى بن بغا سيئة ، فلما قدم موسى الى سامرا في اوائل ذى الحجة سنة (٢٦٣ ه‍) اختفى الحسن. فاستوزر المعتمد على الله مكانه سليمان ابن وهب ، وولى ابنه عبيد الله بن سليمان كتابة ابنه جعفر المفوض (٤). الا ان الخليفة سخط عليه في السنة التالية فحبسه وقيده وانتهب داره وداري ابنيه وهب وابراهيم ، واعاد استيزار الحسن بن مخلد ، وذلك في اواخر ذى القعدة من سنة (٢٦٤ ه‍) (٥). ويقول التنوخي ان المعتمد على الله طلب من

__________________

(١٥٤) الطبري ٩ / ١٦٩ ، والكامل ٧ / ٤٦.

(١٥٥) كتاب الولاة وكتاب القضاة / ٢٠٣ و ٥٠٨.

(١٥٦) الاغاني ٢٣ / ١٤٣.

(١٥٧) الطبري ٩ / ٥٣٢ ، والكامل ٧ / ٣١٠.

(١٥٨) الطبري ٩ / ٥٤٠ ، والكامل ٧ / ٣١٦.

٤٠٦

وزيره سليمان مالا لنفقته على ان لا يعلم الجند بذلك ، فدافعه سليمان ، فقبض عليه وقال له : قد تقلدت منذ ايام المعتز الى الآن اعمالا متوالية منها الوزارة للمهتدى وما نكبت وما صودرت ، واريد منك خمسمائة الف دينار (١).

الا ان الموفق جاء الى سامرا واطلق سليمان من الحبس ، وهرب الحسن بن مخلد فكتب الموفق في قبض امواله (٢). الا انه سرعان ما أمر الموفق بحبس سليمان ثانية وحبس معه ابنه عبيد الله ، ووكل بحفظ داريهما ، وقبض ضياعهما واموالهما واموال ذويهما وضياعهم ، ثم صولحا على مبلغ قدره تسعمائة الف دينار ، فصيرا في موضع يصل اليهما فيه من أحبّا (٣). ويظهر ان سبب قبض الموفق على سليمان وابنه عبيد الله ، ان المعتمد على الله لما قبض على سليمان ذهب ابنه الى الموفق يلتمسه في انقاذ ابيه فوعده بذلك ، الا انه الح بطلبه ، فاعتذر الموفق ، فقال له سليمان : تخرج بمن معك فتنتزعه قسرا ، فقال الموفق : ان هذا يحتاج الى مال ورجال ، فقال عبيد الله : عليّ ذلك. وقال عبد الله ان الموفق اخذ يدافعني بعد ان رآني بصورة من يملك المال وطاعة الرجال في قتال خليفة ، فراوغني وبعث بصاعد بن مخلد الى المعتمد على الله يشير عليه باطلاق ابي فاطلقه. ولما عاد صاعد شرع الموفق في القبض على سليمان وابنه عبيد الله (٤).

__________________

(١٥٩) نشوار المحاضرة ٨ / ٩٦.

(١٦٠) الطبري ٩ / ٥٤١.

(١٦١) الطبري ٩ / ٥٤٣ ـ ٥٤٤ ، والكامل ٧ / ٣٢٧.

(١٦٢) نشوار المحاضرة ٨ / ٩٧.

٤٠٧

وقيل ان الموفق نكب سليمان بن وهب وابنه عبيد الله لكثرة اموالهما فقال ابن الرومي ، وكان حاضرا (١)

ألم تر أن المال يتلف ربه

اذا جم آتيه وسد طريقه

ومن جاور الماء الغزير فجمه

وسد مغيض الماء فهو غريقه

ولبث سليمان في حبس الموفق الى ان ادركته منيته ، في يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة بقيت من صفر من سنة (٢٧٢ ه‍) (٢). وقد مدحه عدد من الشعراء. فمن محاسن قول ابي تمام فيه من قصيدة قالها في مدحه (٣) :

كل شعب كنتم فيه آل وهب

فهو شعبي وشعب كل اديب

ان قلبي لكم لكالكبد الحر

ي ، وقلبي لغيركم كالقلوب

وقال البحتري في مدحه (٤).

كأن اراءه والحزم يتبعها

تريه كل خفي وهو اعلان

__________________

(١٦٣) الاغاني ٢٣ / ١٥٣.

(١٦٤) الطبري ١٠ / ٩ والكامل ٧ / ٤١٠ ، ووفيات الاعيان ٢ / ١٤٦ وفيه قيل سنة ٢٧١.

(١٦٥) وفيات الاعيان ٢ / ١٤٦.

(١٦٦) نفس المصدر.

٤٠٨

ما غاب عن عينيه فالقلب يكلؤه

وان تنم عينه فالقلب يقظان

ولما مات سليمان رثاه البحتري بقصيدة منها (١) :

هذا سليمان بن وهب بعد ما

طالت مساعيه النجوم سموكا

وتنصف الدنيا يدبر امرها

سبعين حولا قد تممن دكيكا

أغرت به الاقدار بغت ملمة

ما كان رس حديثها مأفوكا

فكأنما خضد الحمام بيومه

غصنا بمنغرق الرياح نهيكا

__________________

(١٦٧) ديوان البحتري ٣ / ١٥٧٩ ، السموك : الارتفاع ، الدكيك : التام ، رس الحديث : طرف منه ، مأفول : مكذوب منخرق الرياح : مهبها.

٤٠٩
٤١٠

الفصل الثاني

الكتّاب

يعتبر الكتاب اعوان الوزراء ، فقد كان لكل وزير كاتب او اكثر لمعاونته في عمله. كما كان لرجال الدولة وكبار القواد وولاة الأقاليم كتاب يستعينون بهم وقد تدرج بعض الكتاب الى منصب الوزارة. وكان هؤلاء الكتاب يمتازون بالثقافة العامة والاطلاع الواسع على معارف عصرهم ، بحيث انهم كانوا يمثلون صفوة المثقفين ، وهم الذين يقومون بشؤون دواوين الدولة.

ومن الواضح ان ما يجب ان يتقنه الكاتب ويلم به من المعارف ، يختلف باختلاف عمله. فان كان كاتب خراج عليه ان يلم بالحساب والمساحة والخراج والفنون والرتوق ، وان كان كاتب خراج عليه ان يلم بالحساب والمساحة والخراج ، والفتوق والرتوق ، وان كان كاتب احكام عليه ان يكون عالما بالحلال والحرام والاحتجاج والاجماع والأصول والفروع ، اي ان يكون متفقها في الدين ، اما اذا كان كاتب معونة فانه يحتاج الى ان يكون عالما بالقصاص والحدود والجراحات. وعلى كاتب الجيش ان يكون عالما بحلي الرجال وشيات الدواب ومداراة الأولياء ـ أي

٤١١

الاتراك لأن غالبية الجيش منهم ـ وعلى معرفة بالنسب والحساب. ويحتاج كاتب الرسائل ان يكون عالما بالصدور والفصول والاطالة والايجاز وان يكون بلغيا حسن الخط بالنظر لطبيعة عمله (١).

ان الكاتب بصورة عامة ومهما كان عمله ، يجب ان يكون اديبا ذا اطلاع واسع في مختلف العلوم والفنون المعروفة حينذاك. اي ان يكون موسوعيا ، بحيث يستطيع تحرير مختلف انواع الرسائل الرسمية ، مما يتطلب منه مقدرة فائقة في اللغة من نحو وصرف وبلاغة وبيان ، وملما بالامور الفقهية ، ويحفظ كثيرا من الآيات القرآنية الكريمة والاحاديث النبوية الشريفة. كما يحفظ انماطا مختلفة من الشعر والامثال. وقد شرح النويري ما كان يحتاج اليه الكاتب من المعارف نلخصه بما يأتي (٢) :

١ ـ حفظ كتاب الله تعالى ومداومة قراءته ، وملازمة درسه ، وتدبير معانيه. ذاكرا له في كل ما يرد عليه من الوقائع التي يحتاج فيها الى الاستشهاد به.

٢ ـ الاستكثار من حفظ الاحاديث النبوية ، والنظر في معانيها وفقه ما لا بد من معرفته من احكامها. ليحتج بها في مكان الحجة ، ويستدل بموضع الدليل.

٣ ـ قراءة ما يتفق له من كتب النحو التي يحصل بها المقصود من معرفته العربية ، وقراءة ما يتهيأ له من مختصرات اللغة ، وحفظ خطب البلغاء.

__________________

(١) الفرج بعد الشدة ٣ / ٣٠٩.

(٢) نهاية الأرب ٧ / ٣٠ ـ ٣٤.

٤١٢

٤ ـ النظر في ايام العرب ووقائعهم وحروبهم ، وتسمية الايام التي كانت بينهم ، وما جرى في ذلك من الاشعار ، لما في ذلك من العلم بما يستشهد به من واقعة او يوم مشهور.

٥ ـ النظر في التواريخ ومعرفة اخبار الدول ، لما في ذلك من الاطلاع على سير الملوك وسياساتهم ووقائعهم ومكائدهم وحروبهم ، وما اتفق لهم من التجارب.

٦ ـ حفظ اشعار العرب ومطالعة شروحها واستكشاف غوامضها ، والتوفر على ما اختاره العلماء منها ، كالحماسة والمفضليات والأصمعيات ، بما يساعد على الاستشهاد ووضعه في مكانه.

٧ ـ النظر في رسائل المتقدمين وفي كتب الامثال الواردة عن العرب نظما ونثرا.

٨ ـ النظر في الأحكام السلطانية.

وينسب الى عبد الحميد بن يحيى الكاتب كتابا موجها الى طائفة الكتاب (١). تضمن بيان اهميتهم في المجتمع ، والصفات التي يجب ان يتحلو بها ، وما يحتوجون اليه من انواع المعارف «فقد جاء فيه عن اهميتهم والحاجة اليهم «حفظكم الله يا اهل هذه الصناعة .. فان الله عزوجل جعل الناس بعد الأنبياء والمرسلين .. فجعلكم معشر الكتاب في اشرفها صناعة ، اهل الأدب والمروءة .. بكم ينتظم الملك ، وتستقيم للملوك امورهم ، وبتدبيركم وسياستكم

__________________

(٣) نص الكتاب في «الوزراء والكتاب / ٧٣ ـ ٧٩ ، وفى مقدمة ابن خلدون مع اختلاف كثير ١٣٥ ـ ١٣٦».

٤١٣

يصلح الله سلطانهم وتعمر بلادهم. يحتاج اليكم الملك في عظيم ملكه ، والوالي في القدر السني والدني من ولايته ، لا يستغني عنكم منهم احد ، ولا يوجد كاف الا منكم. فموقعكم منهم موقع اسماعهم التي بها يسمعون ، وابصارهم التي بها يبصرون ، والسنتهم التي بها ينطقون وايديهم التي بها يبطشون» (١).

اما عن الصفات التي يتحلى بها الكاتب فقد قال : «فان الكاتب يحتاج من نفسه ، ويحتاج منه صاحبه الذي يثق به في مهمات اموره ، الى ان يكون حليما في موضع الحلم ، مقداما فى موضع الاقدام ، ومحجما في موضع الاحجام ، لينا في موضع اللين ، شديدا في موضع الشدة. مؤثرا للعفاف والعدل والانصاف ، كتوما للاسرار ، وفيا عند الشدائد. عالما بما يأتى ويذر ويضع الامور في مواضعها. فقد نظر في كل صنف من صنوف العلم فاحكمه ، فان لم يحكمه شدا منه شدوا (٢) ، يكتفى به. يكاد يعرف بغريزة عقله وحسن ادبه وفضل تجربته ما يرد عليه قبل وروده ، وعاقبة ما يصدر عنه قبل صدوره ، فيعد لكل امر عدته ويهىء لكل امر اهبته» (٣).

واما ما يحتاج اليه الكاتب من المعارف ، فقد جاء فيه : «فنافسوا ، معشر الكتاب ، في صنوف العلم والأدب ، وتفقهوا في الدين. وابدأوا بعلم كتاب الله عزوجل ، والفرائض ، ثم العربية فانها ثقاف السنتكم ، واجيدوا الخط فانه حلية كتبكم ، وارووا

__________________

(٤) الوزراء والكتاب / ٧٤.

(٥) شدا بمعنى أخذ.

(٦) الوزراء والكتاب / ٧٤ ـ ٧٥.

٤١٤

الاشعار واعرفوا غريبها ومعانيها ، وايام العرب والعجم واحاديثها. وسيرها ، فان ذلك معين لكم على ما تسمون اليه يهممكم. ولا يضعفن نظركم في الحساب فانه قوام كتاب الخراج منكم. وارغبوا بانفسكم عن المطامع سنيها ودنيها ، ومساوىء الأمور ومحاقرها ، فانها مذلة للرقاب مفسدة للكتاب» (١).

ويرى ابن المدبر (٢) ان الكاتب المستحق اسم الكتابة هو «من اذا حاول صنعة كتاب سالت على قلمه عيون الكلام من ينابيعها ، وظهرت من معادنها ، وبدرت من مواطنها ، من غير استكراه ولا اغتصاب» (٣). ولكي يكون الكاتب بليغا فصيحا عليه ان يتصفح من رسائل المتقدمين ما يعتمد عليه ، ومن رسائل المتأخرين ما يرجع اليه ، لتلقيح ذهنه واستخراج بلاغته. بالاضافة الى الاستعانة بنوادر كلام الناس وبالاشعار والأخبار والسير (٤). وهو يرى أن على الكاتب ان يخاطب كلا على قدر ابهته وجلالته ، فيجعل طبقات كلامه على ثمانية اقسام : اربعة منها للطبقة العلوية ، واربعة دونها. والطبقة العلوية هي الخلافة التي اعلى الله شأنها عن مساواتها باحد من ابناء الدنيا في التعظيم والتوقير والمخاطبة والترسل. والطبقة الثانية الوزراء والكتاب الذين يخاطبون الخلفاء بعقولهم والسنتهم ، ويرتقون الفتوق بارائهم ، والثالثة

__________________

(٧) الوزراء والكتاب / ٧٥.

(٨) ابراهيم بن المدبر من مشاهير كتاب القرن الثالث وقد ولى رثاسة عدد من الدواوين في عهد خلفاء سامرا ، وله : «الرسالة العذراء» في ثقافة الكاتب وصفاته وزيه ، وادوات الكتابة ومعرفته بها ، وما قيل في الكتابة.

(٩) الرسالة العذراء / ٣٦.

(١٠) نفس المصدر / ٧.

٤١٥

امراء ثغورهم وقواد جيوشهم ، والرابعة القضاة فانهم وان كان لهم تواضع العلماء وحلية الفضلاء فمعهم ابهة السلطة وهيبة الامراء (١). اما الطبقات الاخرى التي هي دون الطبقات آنفة الذكر فهي : الأولى الملوك الذين اوجبت نعمهم تعظيمهم في الكتب ، والثانية الوزراء وكتابهم واتباعهم الذين بهم تقرع ابوابهم ، والثالثة العلماء الذين يجب توقيرهم في الكتب لشرف العلم وعلو درجة اهله. والرابعة لأهل القدر والجلالة والظرف والعلم والأدب ، فانهم يضطرونك بحدة اذهانهم وشدة تمييزهم وانتقادهم ، الى الاستقصاء عن نفسك في مكاتبتهم(٢).

كما يوصي ابن المدبر الكاتب بالاهتمام بصدد كتابه ، وينصحه باختيار الألفاظ والمعارف بما يناسب الموضوع الذي يكتب فيه ، ويبين له انسب الأوقات للكتابة ، فيقول : «وليكن في صدر كتابك دليل واضح على مرادك ، وافتتاح كلامك شاهد على مقصدك .. لا تطيلن صدر كلامك اطالة تخرجه من حده ، ولا تقصر به عن حقه» (٣). «واذا حاولت صنعة رسالة او انشاء كتاب فزن اللفظة قبل ان تخرجها بميزان التصريف اذا عرضت ... وادر الالفاظ في اماكنها ، واعرضها على معانيها ، وقلبها على جميع وجوهها حتى تقع موقعها» (٤). «وارتصد لكتابك فراغ قلبك وساعة نشاطك ، فتجد ما يمتنع عليك بالكد والتكلف. لأن سماحة النفس بمكنونها وجود الاذهان بمخزوناتها ،

__________________

(١١) نفس المصدر / ١٠.

(١٢) نفس المصدر / ١١.

(١٣) نفس المصدر / ٢٢.

(١٤) نفس المصدر / ٢٩.

٤١٦

انما هو مع الشهوة المفرطة في الشىء ، والمحبة الغالبة فيه ، والغضب الباعث فيه ذلك» (١).

وبالنظر لأهمية الكتاب والحاجة اليهم فقد كونوا طبقة لها زيها الخاص ، واشترطوا مواصفات معينة فيمن ينتسب اليها. فقد اشترطوا في صفات الكاتب «طول القامة ، وصفر الهامة ، وخفة اللهازم ، وكثافة اللحية ، وصدق الحس ، ولطف المذهب ، وحلاوة الشمائل ، وملاحة الزي» (٢). حتى قال احدهم لابنائه : تزيوا بزي الكتاب فان فيهم ادب الملوك وتواضع السوقة (٣). ويرى النويري ان من كمال صفات الكاتب ان يكون بهي الملبس ، نظيف المجلس ، ظاهر المروءة ، عطر الرائحة ، دقيق الذهن ، صادق الحس ، وحسن البيان ، رقيق حواشي اللسان ، حلو الاشارة ، مليح الاستعارة (٤).

__________________

(١٥) الرسالة العذراء / ٣٠.

(١٦) نفس المصدر / ٨.

(١٧) نفس المصدر / ٩ وعيون الاخبار ١ / ٤٦.

(١٨) نهاية الارب ٧ / ١٢.

٤١٧
٤١٨

الفصل الثالث

القضاء في عهد سامرا

١ ـ مقدمة :

يعتبر القضاء من المناصب الدينية الرئيسة في الاسلام ، لانه منصب الفصل بين الناس في الخصومات حسما للتداعي وقطعا للتنازع ، وذلك بموجب الشريعة المستندة الى الكتاب والسنة (١). وقد تطور هذا المنصب واستقرت اسسه في العهود التي سبقت انتقال عاصمة الدولة العربية الى سامرا من حيث الشروط التي يجب توفرها فيمن يتولاه ، والصلاحيات التي يمارسها ، والواجبات التي عليه ان يلتزم بها ، وعلاقته بالدولة. وقد اسهب الفقهاء في بيان ذلك ، ومنهم القاضي ابو الحسن الماوردي والقاضي ابو يعلي الحنبلي. فقد عقد كل منهما في كتابه «الأحكام السلطانية» بابا خاصا بالقضاء واحكامه ، وتناول كل منهما الموضوع من الناحيتين الفقهية والادارية.

__________________

(١) مقدمة ابن خلدون / ١٢٠.

٤١٩

وهناك شروط معينة يجب ان تتوفر فيمن يعين للقضاء ، واهمها : الاسلام ، والحرية ، وكمال العقل ، وسلامة الحواس ، وان يكون اهلا للاجتهاد فيما يجوز له ان يقضي بين الناس (١). واهم واجبات القاضي ان يسوى في الحكم بين القوي والضعيف ، وان يعدل في احكامه فلا يتبع هواه في تقصير المحق او ممالاة المبطل (٢). وقد اتسعت سلطات القاضي في خلال العهد العباسي الأول ، فبعد ان كان ينظر في القضايا المدنية والجنائية اصبح ينظر في قضايا اخرى تتعلق بالحقوق العامة كالنظر في شؤون الاوقاف والتصرف بمواردها ، وتنفيذ الوصايا ، والنظر في اموال المحجور عليهم من المجانين واليتامى واهل السفه ، وتزويج الأيامى عند فقد الأولياء ، واقامة الحدود الدينية على مستحقيها. وقد تضاف اليه احيانا الشرطة او المظالم او الحسبة او دار الضرب او بيت المال (٣).

ويعتبر الخليفة ابو جعفر المنصور اول من عيّن القضاة في الأمصار ، وكان تعيينهم قبل ذلك يتم محليا من قبل الولاة (٤). وكان القاضي يعين مشافهة او بالعهد كتابة. وكان عهد التعيين يتضمن تحديد منطقة عمل القاضي ، وتعيين القضايا التي ينظر فيها. وقد اورد قدامة بن جعفر نسخة من عهد تولية احد القضاة ، وهو يتضمن توجيهات الخليفة له حول عمله بما يؤمن العدل وتطبيق احكام الشريعة ، وتوجيهات اخرى (٥).

__________________

(٢) الاحكام السلطانية للماوردي / ٥٤.

(٣) نفس المصدر / ٥٩.

(٤) مقدمة ابن خلدون / ١٢١.

(٥) تاريخ اليعقوبي ٢ / ٣٨٩.

(٦) الخراج وصناعة الكتابة / ٣٩ ـ ٤٠.

٤٢٠