كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٣

تقي الدين احمد بن علي المقريزي

كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٣

المؤلف:

تقي الدين احمد بن علي المقريزي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٩

على اختلاف أصنافهم ، وكتب أمان الجماعة من خدم القصر الموسومين بخدمة الحضرة بعد ما تجمّعوا وصاروا إلى تربة للعزيز بالله وضجوا بالبكاء وكشفوا رؤوسهم ، وكتبت سجلّات عدّة بأمانات للديلم والجبل والغلمان الشرابية والغلمان الريحانية والغلمان البشارية والغلمان المفرّقة العجم وغيرهم والنقباء والروم المرتزقة ، وكتبت عدّة أمانات للزويليين والبنادين والطبّالين والبرقيين والعطوفيين وللعرافة الجوانية والجودرية (١) وللمظفرّية وللصنهاجيين ولعبيد الشراء الحسينية وللميمونية وللفرحية وأمان لمؤذني أبواب القصر وأمانات لسائر البيارزة والفهّادين والحجّالين وأمانات أخر لعدّة أقوام ، كلّ ذلك بعد سؤالهم وتضرّعهم. وقال : في جمادى الآخرة وخرج أهل الأسواق على طبقاتهم كلّ يلتمس كتب أمان يكون لهم ، فكتب فوق المائة سجل بأمان لأهل الأسواق على طبقاتهم نسخة واحدة ، وكان يقرأ جميعها في القصر أبو عليّ أحمد بن عبد السميع العباسيّ ، وتسلم أهل كل سوق ما كتب لهم ، وهذه نسخة إحداها.

بعد البسملة : هذا كتاب من عبد الله ووليه المنصور أبي عليّ ، الإمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين ، لأهل مسجد عبد الله ، أنكم من الآمنين بأمان الله ، الملك الحق المبين ، وأمان جدّنا محمد خاتم النبيين ، وأبينا عليّ خير الوصيين ، وآبائنا الذريّة النبويّة المهديين ، صلى الله على الرسول ووصيه وعليهم أجمعين ، وأمان أمير المؤمنين على النفس والحال والدم والمال ، لا خوف عليكم ، ولا تمتدّ يد بسوء إليكم إلّا في حدّ يقام بواجبه ، وحق يؤخذ بمستوجبه ، فليوثق بذلك وليعوّل عليه إن شاء الله تعالى. وكتب في جمادى الآخرة سنة خمس وتسعين وثلاثمائة والحمد لله ، وصلى الله على محمد سيد المرسلين ، وعلى خير الوصيين ، وعلى الأئمة المهديين ذرية النبوّة ، وسلم تسليما كثيرا. وقال ابن عبد الظاهر : فأمّا الحارات التي من باب الفتوح ميمنة وميسرة للخارج منه ، فالميمنة إلى الهليلجة ، والميسرة إلى بركة الأرمن برسم الريحانية ، وهي الحسينية الآن ، وكانت برسم الريحانية الغزاوية والمولدة والعجمان وعبيد الشراء ، وكانت ثمان حارات وهي : حارة حامد ، بين الحارتين ، المنشية الكبيرة ، الحارة الكبيرة ، الحارة الوسطى ، سوق الكبير ، الوزيرية (٢) وللأجناد بظاهر القاهرة حارات وهي : حارة البيازرة والحسينية جميع ذلك سكن الريحانية وسكن الجيوشية والعطوفية بالقاهرة ، وبظاهرها الهلالية والشوبك وحلب والحبانية والمأمونية وحارة الروم وحارة المصامدة والحارة الكبيرة والمنصورة الصغيرة واليانسية وحارة أبي بكر والمقس ورأس التبان والشارع. ولم يكن للأجناد في هذا الوجه غير حارة

__________________

(١) في النجوم الزاهرة ٤ / ٥٤ : الجودرية نسبة إلى جودر خادم المهدي.

(٢) في النجوم الزاهرة ٤ / ٤٩ وردت الحارات كما يلي :

حارة حامد ، المنشية الكبرى ، المنشية الصغرى ، والحارة الكبيرة ، والحارة الوسطى ، والوزيرية ، وخان السبيل ، واللؤلؤة.

٤١

عنتر للمؤمنين المترجلة ، وكانت كل حارة من هذه بلدة كبيرة بالبزازين والعطارين والجزارين وغيرهم ، والولاة لا يحكمون عليها ، ولا يحكم فيها إلّا الأزمة ونوّابهم ، وأعظم الجميع الحارة الحسينية التي هي آخر صف الميمنة إلى الهليلجة ، وهي الحسينية الآن ، لأنها كانت سكن الأرمن ، فارسهم وراجلهم ، وكان يجتمع بها قريب من سبعة آلاف نفس وأكثر من ذلك ، وبها أسواق عدّة.

وقال في موضع آخر : الحسينية منسوبة لجماعة من الأشراف الحسينيين ، وكانوا في الأيام الكاملية قدموا من الحجاز ، فنزلوا خارج باب النصر بهذه الأمكنة واستوطنوها ، وبنوا بها مدابغ صنعوا بها الأديم المشبه بالطائفي ، فسمّيت بالحسينية ، ثم سكنها الأجناد بعد ذلك وابتنوا بها هذه الأبنية العظيمة ، وهذا وهم ، فإنه تقدّم أنّ جملة الطوائف في الأيام الحاكمية الطائفة الحسينية ، وتقدّم فيما نقله ابن عبد الظاهر أيضا أنّ الحسينية كانت عدّة حارات ، والأيام الكاملية ، إنما كانت بعد الستمائة ، وقد كانت الحسينية قبل ذلك بما ينيف عن مائتي سنة فتدبره.

واعلم أنّ الحسينية شقتان ، إحداهما ما خرج عن باب الفتوح ، وطولها من خارج باب الفتوح إلى الخندق ، وهذه الشقة هي التي كانت مساكن الجند في أيام الخلفاء الفاطميين ، وبها كانت الحارات المذكورة. والشقة الأخرى ما خرج عن باب النصر وامتدّ في الطول إلى الريدانية ، وهذه الشقة لم يكن بها في أيام الخلفاء الفاطميين سوى مصلى العيد تجاه باب النصر ، وما بين المصلى إلى الريدانية فضاء لا بناء فيه ، وكانت القوافل إذا برزت تريد الحج تنزل هناك ، فلما كان بعد الخمسين وأربعمائة وقدم بدر الجمالي أمير الجيوش ، وقام بتدبير أمر الدولة الخليفة المنتصر بالله ، أنشأ بحري مصلى العيد خارج باب النصر تربة عظيمة ، وفيها قبره هو وولده الأفضل ابن أمير الجيوش ، وأبو عليّ كتيفات بن الأفضل وغيره ، وهي باقية إلى يومنا هذا. ثم تتابع الناس في إنشاء الترب هناك حتى كثرت ، ولم تزل هذه الشقة مواضع للترب ، ومقابر أهل الحسينية والقاهرة إلى بعد السبعمائة ، ولقد حدّثت عن المشيخة ممن أدرك ، بأنّ ما بين مصلى الأموات التي خارج باب النصر وبين دار كهرداش التي تعرف اليوم بدار الحاجب ؛ مكانا يعرف بالمراغة ، معدّ لتمريغ الدّواب به ، وأنّ ما في صف المصلى من بحريها الترب فقط ، ولم تعمر هذه الشقة إلا في الدولة التركية ، لا سيما لما تغلب التتر على ممالك الشرق والعراق ، وجفل الناس إلى مصر ، فنزلوا بهذه الشقة وبالشقة الأخرى ، وعمروا بها المساكن ، ونزل بها أيضا أمراء الدولة فصارت من أعظم عمائر مصر والقاهرة ، واتخذ الأمراء بها من بحريها فيما بين الريدانية إلى الخندق مناخات الجمال ، واصطبلات الخيل ، ومن ورائها الأسواق والمساكن العظيمة في الكثرة ، وصار أهلها يوصفون بالحسن ، خصوصا لما قدمت الأويراتية.

٤٢

ذكر قدوم الأويراتية

وكان من خبر هذه الطائفة : أنّ بيدو بن طرغاي بن هولاكو لما قتل في ذي الحجة ، سنة أربع وتسعين وسبعمائة ، وقام في الملك من بعده على المغل الملك غازان محمود بن خر بنده بن إيغاني ، تخوّف منه عدّة من المغل يعرفون بالأويراتية ، وفرّوا عن بلاده إلى نواحي بغداد ، فنزلوا هناك مع كبيرهم طرغاي ، وجرت لهم خطوب آلت بهم إلى اللحاق بالفرات فأقاموا بها هنالك ، وبعثوا إلى نائب حلب يستأذنوه في قطع الفرات ليعبروا إلى ممالك الشام ، فأذن لهم ، وعدّوا الفرات إلى مدينة بهنسا ، فأكرمهم نائبا وقام لهم بما ينبغي من العلوفات والضيافات ، وطولع الملك العادل زين الدين كتيفا ، وهو يومئذ سلطان مصر والشام بأمرهم ، فاستشار الأمراء فيما يعمل بهم ، فاتفق الرأي على استدعاء أكابرهم إلى الديار المصرية ، وتفريق باقيهم في البلاد الساحلية وغيرها من بلاد الشام ، وخرج إليهم الأمير علم الدين سنجر الدواداري ، والأمير شمس الدين سنقر الأعسر إلى دمشق ، فجهزا أكابر الأويراتية نحو الثلاثمائة للقدوم على السلطان ، وفرّقا من بقي منهم بالبقاع العزيزة وبلاد الساحل ، ولما قرب الجماعة من القاهرة ، وخرج الأمراء بالعسكر إلى لقائهم ، واجتمع الناس من كل مكان حتى امتلأ الفضاء للنظر إليهم ، فكان لدخولهم يوم عظيم ، وصاروا إلى قلعة الجبل ، فأنعم السلطان على طرغاي مقدّمهم بإمرة طبلخانة ، وعلى اللصوص بإمرة عشرة ، وأعطى البقية تقادما في الحلقة واقطاعات ، وأجرى عليهم الرواتب ، وأنزلوا بالحسينية ، وكانوا على غير الملة الإسلامية ، فشق ذلك على الناس ، وبلوامع ذلك منهم بأنواع من البلاء لسوء أخلاقهم ونفرة نفوسهم وشدّة جبروتهم ، وكان إذ ذاك بالقاهرة ومصر غلاء كبير وفناء عظيم ، فتضاعفت المضرّة واشتدّ الأمر على الناس ، وقال في ذلك الأديب شمس الدين محمد بن دينار :

ربنا اكشف عنا العذاب فإنّا

قد تلفنا في الدولة المغلية

جاءنا المغل والغلا فانصلقنا

وانطبخنا في الدولة المغلية

ولما دخل شهر رمضان من سنة خمس وتسعين وستمائة لم يصم أحد من الأويراتية ، وقيل للسلطان ذلك ، فأبى أن يكرههم على الإسلام ، ومنع من معارضتهم ونهى أن يشوّش عليهم أحد ، وأظهر العناية بهم ، وكان مراده أن يجعلهم عونا له يتقوّى بهم ، فبالغ في إكرامهم حتى أثر في قلوب إمراء الدولة منه احنا وخشوا إيقاعه بهم ، فإن الأويراتية كانوا أهل جنس كتيفا ، وكانوا مع ذلك صورا جميلة ، فافتتن بهم الأمراء وتنافسوا في أولادهم من الذكور والإناث ، واتخذوا منهم عدّة صيّروهم من جملة جندهم ، وتعشّقوهم ، فكان بعضهم يستنشد من صاحبه من اختص به وجعله محل شهوته ، ثم ما قنع الأمراء ما كان منهم بمصر حتى أرسلوا إلى البلاد الشامية واستدعوا منهم طائفة كبيرة ، فتكاثر نسلهم في القاهرة

٤٣

واشتدّت الرغبة من الكافة في أولادهم على اختلاف الآراء في الإناث والذكور ، فوقع التحاسد والتشاجر بين أهل الدولة إلى أن آل الأمر بسببهم وبأسباب أخر إلى خلع السلطان الملك العادل كتيفا من الملك ، في صفر سنة ست وتسعين وستمائة.

فلما قام في السلطنة من بعده الملك المنصور حسام الدين لاجين ، قبض على طرغاي مقدّم الأويراتية ، وعلى جماعة من أكابرهم ، وبعث بهم إلى الإسكندرية فسجنهم بها وقتلهم ، وفرّق جميع الأويراتية على الأمراء ، فاستخدموهم وجعلوهم من جندهم ، فصار أهل الحسينية لذلك يوصفون بالحسن والجمال البارع ، وأدركنا من ذلك طرفا جيدا ، وكان للناس في نكاح نسائهم رغبة ، ولآخرين شغف بأولادهم ، ولله در الشيخ تقيّ الدين السروجيّ إذ يقول من أبيات:

يا ساعي الشوق الذي مذ جرى

جرت دموعي فهي أعوانه

خذ لي جوابا عن كتابي الذي

إلى الحسينية عنوانه

فهي كما قد قيل وادي الحمى

وأهلها في الحسن غزلانه

أمشي قليلا وانعطف يسرة

يلقاك درب طال بنيانه

واقصد بصدر الدرب ذاك الذي

بحسنه تحسّن جيرانه

سلم وقل يخشى مسن أي مسن

اشت حديثا طال كتمانه

وسل لي الوصل فإن قال بق

فقل أوت قد طال هجرانه

وما برحوا يوصفون بالزعارة والشجاعة ، وكان يقال لهم البدورة ، فيقال البدر فلان ، والبدر فلان ، ويعانون لباس الفتوّة وحمل السلاح ، ويؤثر منهم حكايات كثيرة وأخبار جمة ، وكانت الحسينية قد أربت في عمارتها على سائر اخطاط مصر والقاهرة ، حتى لقد قال لي ثقة ممن أدركت من الشيخة : أنّه يعرف الحسينية عامرة بالأسواق والدور ، وسائر شوارعها كافة بازدحام الناس ، ومن الباعة والمارة وأرباب المعايش ، وأصحاب اللهو والملعوب ، فيما بين الريدانية ، محطة المحمل يوم خروج الحاج من القاهرة ، وإلى باب الفتوح ، لا يستطيع الإنسان أن يمرّ في هذا الشارع الطويل العريض طول هذه المسافة الكبيرة إلّا بمشقة من الزحام ، كما كنا نعرف شاعر بين القصرين فيما أدركنا. وما زال أمر الحسينية متماسكا إلى أن كانت الحوادث والمحن منذ سنة ست وثمانمائة وما بعدها ، فخربت حاراتها ، ونقضت مبانيها ، وبيع ما فيها من الأخشاب وغيرها ، وباد أهلها ، ثم حدث بها بعد سنة عشرين وثمانمائة آية من آيات الله تعالى ، وذلك أنّ في أعوام بضع وستين وسبعمائة ، بدا بناحية برج الزيات فيما بين المطرية وسر ياقوس فساد الأرضة التي من شأنها العبث في الكتب والثياب ، فأكلت لشخص نحو ألف وخمسمائة قتة دريس ، فكنّا لا نزال نتعجب من ذلك ، ثم فشت هناك وشنع عبثها في سقوف الدور ، وسرت حتى عاثت في أخشاب سقوف

٤٤

الحسينية وغلات أهلها وسائر أمتعتهم ، حتى أتلفت شيئا كثيرا ، وقويت حتى صارت تأكل الجدران ، فبادر أهل تلك الجهة إلى هدم ما قد بقي من الدور ، خوفا عليها من الأرضة شيئا بعد شيء حتى قاربوا باب الفتوح وباب النصر ، وقد بقي منها اليوم قليل من كثير يخاف إن استمرّت أحوال الإقليم على ما هي عليه من الفساد أن تدثر وتمحى آثارها ، كما دثر سواها ، ولله در القائل :

والله إن لم يداركها وقد رحلت

بلمحة أو بلطف من لديه خفي

ولم يجد بتلافيها على عجل

ما أمرها صائر إلّا إلى تلف

حارة حلب : هذه الحارة خارج باب زويلة ، تعرف اليوم بزقاق حلب ، وكانت قديما من جملة مساكن الأجناد. قال ياقوت في باب حلب : الأوّل حلب المدينة المشهورة بالشام ، وهي قصبة نواحي قنسرين والعواصم اليوم ، الثاني حلب الساجود من نواحي حلب أيضا الثالث كفر حلب من قراها أيضا ، الرابع محلة بظاهر القاهرة بالشارع من جهة الفسطاط. والله تعالى أعلم.

ذكر اخطاط القاهرة وظواهرها

قد تقدّم ذكر ما يطلق عليه حارة من الأخطاط ، ونريد أن نذكر من الخطط ما لا يطلق عليه اسم حارة ولا درب ، وهي كثيرة ، وكل قليل تتغير أسماؤها ، ولا بدّ من إيراد ما تيسر منها.

خط خان الوراقة : هذا الخط فيما بين حارة بهاء الدين وسويقة أمير الجيوش ، وفي شرقيّة سوق المرجلين ، وهو يشتمل على عدّة مساكن ، وبه طاحون ، وكان موضعه قديما اصطبل الصبيان الحجرية لموقف خيولهم كما تقدّم ، فلما زالت الدولة الفاطمية اختط مواضع للسكنى وقد شمله الخراب.

خط باب القنطرة : هذا الخط كان يعرف قديما بحارة المرتاحية وحارة الفرحية والرماحين ، وكان ما بين الرماحين الذي يعرف اليوم بباب القوس ، داخل باب القنطرة ، وبين الخليج ، فضاء لا عمارة فيه ، بطول ما بين باب الرماحين إلى باب الخوخة ، وإلى باب سعادة ، وإلى باب الفرج ، ولم يكن إذ ذاك على حافة الخليج عمائر البتة ، وإنما العمائر من جانب الكافوري (١) وهي مناظر اللؤلؤة (٢) وما جاورها من قبليها إلى باب الفرج ، وتخرج

__________________

(١) في النجوم الزاهرة ٤ / ٥١ : حارة الكافوري كانت بستانا للأستاذ الملك كافور الإخشيذي صاحب مصر. هدم في الدولة المعزيّة وبنى اصطبلات ودورا ومساكن.

(٢) في النجوم الزاهرة ٤ / ٤٩ : اللؤلؤة عند باب القنطرة بناها الظاهر لإعزاز دين الله الخليفة العبيدي كانت نزهة الخلفاء الفاطميين ، وكانت فيها قصورهم.

٤٥

العامّة عصريات كل يوم إلى شاطيء الخليج الشرقي تحت المناظر للتفرّج ، فإن بر الخليج الغربيّ كان فضاء ما بين بساتين وبرك ، كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.

قال القاضي الفاضل في متجدّدات سنة سبع وثمانين وخمسمائة : في شوّال قطع النيل الجسور واقتلع الشجر ، وغرّق النواحي وهدم المساكن ، وأتلف كثيرا من النساء والأطفال ، وكثر الرخاء بمصر ، فالقمح كل مائة أردب بثلاثين دينارا ، والخبز البايت ستة أرطال بربع درهم ، والرطب الأمهات ستة أرطال بدرهم ، والموز ستة أرطال بدرهم ، والرمان الجيد مائة حبة بدرهم ، والحمل الخيار بدرهمين ، والتين ثمانية أرطال بدرهم ، والعنب ستة أرطال بدرهم في شهر بابه بعد انقضاء موسمه المعهود بشهرين ، والياسمين خمسة أرطال بدرهم ، وآل أمر أصحاب البساتين إلى أن لا يجمعوا الزهر لنقص ثمنه عن أجرة جمعه ، وثمر الحناء عشرة أرطال بدرهم ، والبسرة عشرة أرطال بدرهم من جيده ، والمتوسط خمسة عشر رطلا بدرهم ، وما في مصر إلّا متسخط بهذه النعمة.

قال : ولقد كنت في خليج القاهرة من جهة المقس لانقطاع الطرق بالمياه ، فرأيت الماء مملوء سمكا ، والزيادة قد طبقت الدنيا ، والنخل مملوء تمرا ، والمكشوف من الأرض مملوء ريحانا وبقولا ، ثم نزلت فوصلت إلى المقس ، فوجدت من القلعة التي بالمقس إلى منية السيرج غلالا قد ملأت صبرها الأرض ، فلا يدري الماشي أين يضع رجله ، متصلا عرض ذلك إلى باب القنطرة ، وعلى الخليج عند باب القنطرة من مراكب الغلة ما قد ستر سواحله وأرضه. قال : ودخلت البلد فرأيت في السوق من الأخباز واللحوم والألبان والفواكه ما قد ملأها ، وهجمت منه العين على منظر ما رأيت قبله مثله. قال : وفي البلد من البغي ومن المعاصي ومن الجهر بها ومن الفسق بالزنا واللواط ومن شهادة الزور ومن مظالم الأمراء والفقهاء ، ومن استحلال الفطر في نهار رمضان وشرب الخمر في ليله ممن يقع عليه اسم الإسلام ، ومن عدم النكير على ذلك جميعه ما لم يسمع ولم يعهد مثله ، فلا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم ، وظفر بجماعة مجتمعين في حارة الروم يتغدّون في قاعة في نهار رمضان ، فما كلموا ، وبقوم مسلمين ونصارى اجتمعوا على شرب خمر في ليل رمضان ، فما أقيم فيهم حدّ ، وخط باب القنطرة فيما بين حارة بهاء الدين (١) وسويقة أمير الجيوش (٢) وينتهى من قبليه إلى خط بين السورين.

خط بين السورين : هذا الخط من حدّ باب الكافوري في الغرب إلى باب سعادة ، وبه الآن صفان من الأملاك ، أحدهما مشرف على الخليج ، والآخر مشرف على الشارع المسلوك

__________________

(١) في النجوم الزاهرة ٤ / ٥٢ : حارة بهاء الدين : منسوبة إلى بهاء قراقوش.

(٢) في النجوم الزاهرة ٤ / ٥٢ : قيسارية أمير الجيوش المعروفة الآن بسوق مرجوش بناها أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي.

٤٦

فيه ، من باب القنطرة إلى باب سعادة ، ويقال لهذا الشارع بين السورين ، تسمية للعّامة بها فاشتهر بذلك ، وكان في القديم بهذا الخط البستان الكافوري ، يشرف عليه بحده الغربي ثمة مناظر اللؤلؤة ، وقد بقيت منها عقود مبنية بالآجر ، يمرّ السالك في هذا الشارع من تحتها ، ثم مناظر دار الذهب ، وموضعها الآن دار تعرف بدار بهادر الأعسر ، وعلى بابها بئر يستقي منها الماء في حوض يشرب منه الدواب ، ويجاورها قبو معقود يعرف بقبو الذهب ، وهو من بقية مناظر دار الذهب ، وبحدّ دار الذهب منظرة الغزالة ، وهي بجوار قنطرة الموسكي ، وقد بني في مكانها ربع يعرف إلى اليوم بربع غزالة ، ودار ابن قرفة ، وقد صار موضعها جامع ابن المغربي ، وحمام ابن قرفة ، وبقي منها البئر التي يستقي منها إلى اليوم بحمام السلطان ، وعدّة دور كلها فيما يلي شقة القاهرة من صف باب الخوخة ، وكان ما بين المناظر والخليج براحا ، ولم يكن شيء من هذه العمائر التي بحافة الخليج اليوم البتة ، وكان الحاكم بأمر الله في سنة إحدى وأربعمائة منع من الركوب في المراكب بالخليج ، وسدّ أبواب القاهرة التي تلي الخليج ، وأبواب الدور التي هناك ، والطاقات المطلة عليه على ما حكاه المسبحيّ.

وقال ابن المأمون في حوادث سنة ست عشرة وخمسمائة ، ولما وقع الاهتمام بسكن اللؤلؤة والمقام بها مدّة النيل على الحكم الأوّل ، يعني قبل أيام أمير الجيوش بدر وابنه الأفضل ، وإزالة ما لم تكن العادة جارية عليه من مضايقة اللؤلؤة بالبناء ، وأنها صارت حارات تعرف بالفرحية والسودان وغيرهما ، أمر حسام الملك متولي بابه بإحضار عرفاء الفرحية والإنكار عليهم في تجاسرهم على ما استجدّوه وأقدموا عليه ، فاعتذروا بكثرة الرجال وضيق الأمكنة عليهم ، فبنوا لهم قبابا يسيرة ، فتقدّم يعني أمر الوزير المأمون إلى متولي الباب بالإنعام عليهم وعلى جميع من بنى في هذه الحارة بثلاثة آلاف درهم ، وأن يقسم بينهم بالسوية ، ويأمرهم بنقل قسمهم ، وأن يبنو لهم حارة قبالة بستان الوزير ، يعني ابن المغربيّ ، خارج الباب الجديد من الشارع ، خارج باب زويلة.

قال : وتحوّل الخليفة إلى اللؤلؤة بحاشيته ، وأطلقت التوسعة في كل يوم لما يخص الخاص والجهات والأستاذين من جميع الأصناف ، وانضاف إليها ما يطلق كل ليلة عينا وورقا وأطعمة للبائتين بالنوبة برسم الحرس بالنهار والسهر في طول الليل ، من باب قنطرة بهادر إلى مسجد الليمونة من البرين ، من صبيان الخاص والركاب والرهجية والسودان والحجاب ، كل طائفة بنقيبها ، والعرض من متولي الباب واقع بالعدة في طرفي كل ليلة ، ولا يمكن بعضهم بعضا من المنام والرهجية تخدم على الدوام.

خط الكافوري : هذا الخط كان بستانا من قبل بناء القاهرة وتملك الدولة الفاطمية لديار مصر ، أنشأه الأمير أبو بكر محمد بن طفج بن جف ، الملقب بالإخشيد ، وكان بجانبه ميدان فيه الخيول ، وله أبواب من حديد ، فلما قدم جوهر القائد إلى مصر ، جعل هذا

٤٧

البستان من داخل القاهرة ، وعرف ببستان كافور ، وقيل له في الدولة الفاطمية البستان الكافوري ، ثم اختط مساكن بعد ذلك.

قال ابن زولاق في كتاب سيرة الإخشيد : ولست خلون من شوّال سنة ثلاثين وثلثمائة ، سار الإخشيد إلى الشام في عساكره ، واستخلف أخاه أبا المظفر بن طفج. قال : وكان يكره سفك الدماء ، ولقد شرع في الخروج إلى الشام في آخر سفراته ، وسار العسكر ، وكان نازلا في بستانه في موضع القاهرة اليوم ، فركب للمسير ، فساعة خرج من باب البستان اعترضه شيخ يعرف بمسعود الصابوني ، يتظلّم إليه ، فنظر له ، فتطير به وقال : خذوه ابطحوه ، فبطح وضرب خمس عشرة مقرعة وهو ساكت. فقال الإخشيد : هو ذا يتشاطر. فقال له كافور : قد مات. فانزعج واستقال سفرته وعاد لبستانه ، وأحضر أهل الرجل واستحلهم وأطلق لهم ثلاثمائة دينار ، وحمل الرجل إلى منزله ميتا ، وكانت جنازته عظيمة ، وسافر الإخشيد فلم يرجع إلى مصر ، ومات بدمشق. وقال في كتاب تتمة كتاب أمراء مصر للكندي : وكان كافور الإخشيدي أمير مصر يواصل الركوب إلى الميدان وإلى بستانه في يوم الجمعة ويوم الأحد ويوم الثلاثاء ، قال : وفي غد هذا اليوم ، يعني يوم الثلاثاء ، مات الأستاذ كافور الإخشيدي ، لعشر بقين من جمادى الأولى سنة سبع وخمسين وثلثمائة ، ويوم مات الأستاذ كافور الإخشيدي ، خرج الغلمان والجند إلى المنظرة وخرّبوا بستان كافور ، ونهبوا دوابه وطلبوا مال البيعة.

وقال ابن عبد الظاهر : البستان الكافوري هو الذي كان بستانا لكافور الإخشيدي ، وكان كثيرا ما يتنزه به ، وبنيت القاهرة عنده ، ولم يزل إلى سنة إحدى وخمسين وستمائة ، فاختطت البحرية والعزيزية به اصطبلات ، وأزيلت أشجاره. قال : ولعمري إنّ خرابه كان بحق ، فإنه كان عرف بالحشيشة التي يتناولها الفقراء ، والتي تطلع به يضرب بها المثل في الحسن. قال شاعرهم نور الدين أبو الحسن علي بن عبد الله بن علي الينبعي لنفسه :

ربّ ليل قطعته ونديمي

شاهدي هو مسمعي وسميري

مجلسي مسجد وشربي من خض

راء تزهو بحسن لون نضير

قال لي صاحبي وقد فاح منها

نشرها مزريا بنشر العبير

أمن المسك؟ قلت ليست من المس

ك ولكنّها من الكافوري

وقال الحافظ جمال الدين يوسف بن أحمد بن محمود بن أحمد بن محمد الأسديّ الدمشقيّ ، المعروف باليغموري : أنشدني الإمام العالم المعروف بجموع الفضائل ، زين الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الحنفي لنفسه ، وهو أوّل من عمل فيها :

وخضراء كافورية بات فعلها

بألبابنا فعل الرحيق المعتّق

إذ نفحتنا من شذاها بنفحة

تدبّ لنا في كل عضو ومنطق

٤٨

غنيت بها عن شرب خمر معتّق

وبالدلق عن لبس الجديد المزوّق

وأنشدني الحافظ جلال الدين أبو المعز ابن أبي الحسن بن أحمد بن الصائغ المغربيّ لنفسه :

عاطني خضراء كافورية

يكتب الخمر لها من جندها

أسكرتنا فوق ما تسكرنا

وربحنا أنفسا من حدّها

وأنشدني لنفسه :

قم عاطني خضراء كافورية

قامت مقام سلافة الصهباء

يغدو الفقير إذا تناول درهما

منها له تيه على الأمراء

وتراه من أقوى الورى فإذا خلا

منها عددناه من الضعفاء

وأنشدني من لفظه لنفسه أيضا :

عاطيت من أهوى وقد زارني

كالبدر وافى ليلة البدر

والبحر قد مدّ على متنه

شعاعه جسرا من التبر

خضراء كافورية رنحت

أعطافه من شدّة السكر

يفعل منها درهم فوق ما

تفعل أرطال من الخمر

فراح نشوانا بها غافلا

لا يعرف الحلو من المرّ

قال وقد نال بها أمره

فبات مردودا إلى أمري

قتلتني قلت نعم سيدي

قتلين بالسكر وبالبحر

قال : وأمر السلطان الملك الصالح ، يعني نجم الدين أيوب ، الأمير جمال الدين أبا الفتح موسى بن يغمور ، أن يمنع من يزرع في الكافوري من الحشيشة شيئا ، فدخل ذات يوم فرأى فيه منها شيئا كثيرا ، فأمر بأن يجمع فجمع وأحرق. فأنشدني في الواقعة الشيخ الأديب الفاضل شرف الدين أبو العباس أحمد بن يوسف لنفسه ، وذلك في ربيع الأوّل سنة ثلاث وأربعين وستمائة :

صرف الزمان وحادث المقدور

تركا نكير الخطب غير نكير

ما سالما حيا ولا ميتا ولا

طودا سما بل دكدكا (١) بالطور

لهفي وهل يجدي التهلف في ذرى

طرب الغنيّ وأنس كلّ فقير

أخت المذلة لارتكاب محرّم

قطب السرور بأيسر الميسور

جمعت محاسن ما اجتمعن لغيرها

من كلّ شيء كان في المعمور

__________________

(١) الدكداك : من الرّمل ، ما التبد منه بالأرض ولم يرتفع. مختار الصحاح.

٤٩

منها طعام والشراب كلاهما

والبقل والريحان وقت حضور

هي روضة إن شئتها ورياضة

يغنى بها عن روضة وخمور

ما في المدامة كلّها منها سوى

إثم المدام وصحبة المخمور

كلا ونكهة خمرة هي شاهد

عدل على حدّ وجلد ظهور

أسفا لدهر غالها ولربما

ظلّ الكريم بذلة الماسور

جمعت له الأشهاد كرما أخضرا

كعروسة تجلى بخضر حرير

زفوا لها نارا فخلنا جنة

برزت لنا قد زوّجت بالنور

ثم اكتست منها غلالة صفرة

في خضرة مقرونة بزفير

فكأنها لهب اللظى في خضرة

منها وطرف رمادها المنثور

جارى النضار على مذاب زمرّد

تركا فتيت المسك في الكافوري

لله درك حية أو ميتة

من منظر بهج بغير نظير

أوذيت غير ذميمة فسقى الحيا

تربا تضمّن منك ذوب عبير

عندي لذكرك ما بقيت مخلدا

سح الدموع ونفثة المصدور

ذكر كافور الإخشيدي (١)

كان عبدا أسود خصيا ، مثقوب الشفة السفلى ، بطينا قبيح القدمين ، ثقيل البدن ، جلب إلى مصر وعمره عشر سنين فما فوقها ، في سنة عشر وثلثمائة ، فلما دخل إلى مصر تمنى أن يكون أميرها ، فباعه الذي جلبه لمحمد بن هاشم ، أحد المتقبلين للضياع ، فباعه لابن عباس الكاتب ، فمرّ يوما بمصر على منجّم فنظر له في نجومه وقال له : أنت تصير إلى رجل جليل القدر ، وتبلغ معه مبلغا عظيما ، فدفع إليه درهمين لم يكن معه سواهما ، فرمى بهما إليه وقال : أبشّرك بهذه البشارة وتعطيني درهمين؟ ثم قال له : وأزيدك ، أنت تملك هذه البلد وأكثر منه ، فاذكرني.

واتفق أنّ ابن عباس الكاتب أرسله بهدية يوما إلى الأمير أبي بكر محمد بن طفج الإخشيد ، وهو يومئذ أحد قوّاد تكين أمير مصر ، فأخذ كافورا وردّ الهدية ، فترقّى عنده في الخدم حتى صار من أخص خدمه.

ولما مات الإخشيد بدمشق ، ضبط كافور الأمور ودارى الناس ووعدهم إلى أن سكنت الدهماء ، بعد أن اضطرب الناس ، وجهز أستاذه وحمله إلى بيت المقدس ، وسار إلى مصر

__________________

(١) في النجوم الزاهرة ج ٤ / ٣ : الأستاذ : (لقب يطلب على الخصيان) أبو المسك كافور بن عبد الله الإخشيذي الخادم الأسود الخصي صاحب مصر والشام والثغور.

٥٠

فدخلها. وقد انعقد الأمر بعد الإخشيد لابنه أبي القاسم أونوجور (١) ، فلم يكن بأسرع من ورود الخبر من دمشق بأنّ سيف الدولة عليّ بن حمدان أخذها وسار إلى الرملة ، فخرج كافور بالعساكر وضرب الدباديب ، وهي الطبول ، على باب مضربه في وقت كل صلاة ، وسار فظفر وغنم ثم قدم إلى مصر وقد عظم أمره ، فقام بخلافة أو نوجور ، فخاطبه القوّاد بالأستاذ ، وصار القوّاد يجتمعون عنده في داره فيخلع عليهم ويحملهم ويعطيهم ، حتى أنه وقع لجانك أحد القوّاد الإخشيدية في يوم بأربعة عشر ألف دينار ، فما زال عبدا له حتى مات ، وانبسطت يده في الدولة ، فعزل وولى وأعطى وحرم ، ودعي له على المنابر كلها إلّا منبر مصر والرملة وطبرية ، ثم دعي له بها في سنة أربعين وثلثمائة ، وصار يجلس للمظالم في كل سبت ، ويحضر مجلسه القضاة والوزراء والشهود ووجوه البلد ، فوقع بينه وبين الأمير أونوجور ، وتحرّر كل منهما من الآخر ، وقويت الوحشة بينهما ، وافترق الجند ، فصار مع كل واحد طائفة ، واتفق موت أونوجور في ذي القعدة سنة تسع وأربعين وثلثمائة ، ويقال أنه سمّه. فأقام أخاه أبا الحسن عليّ بن الإخشيد من بعده ، واستبدّ بالأمر دونه ، وأطلق له في كل سنة أربعمائة ألف دينار ، واستقل بسائر أحوال مصر والشام ، ففسد ما بينه وبين الأمير أبي الحسن عليّ ، فضيّق عليه كافور ومنع أن يدخل عليه أحد ، فاعتل بعلة أخيه ومات ، وقد طالت به في محرّم سنة خمس وخمسين وثلثمائة.

فبقيت مصر بغير أمير أياما لا يدعى فيها سوى للخليفة المطيع فقط ، وكافور يدبر أمر مصر والشام في الخراج والرجال ، فلما كان لأربع بقين من المحرّم المذكور ، أخرج كافور كتابا من الخليفة المطيع بتقليده بعد عليّ بن الإخشيد ، فلم يغير لقبه بالأستاذ ، ودعى له على المنبر بعد الخليفة ، وكانت له في أيامه قصص عظام ، وقدم عسكر من المعز لدين الله أبي تميم معدّ من المغرب إلى الواحات ، فجهّز إليه جيشا أخرجوا العسكر وقتلوا منهم ، وصارت الطبول تضرب على بابه خمس مرّات في اليوم والليلة ، وعدّتها مائة طبلة من نحاس. وقدمت عليه دعاة المعز لدين الله من بلاد المغرب يدعونه إلى طاعته ، فلاطفهم ، وكان أكثر الإخشيدية والكافورية وسائر الأولياء والكتّاب قد أخذت عليهم البيعة للمعز ، وقصر مدّ النيل في أيامه. فلم يبلغ تلك السنة سوى اثني عشر ذراعا وأصابع ، فاشتدّ الغلاء وفحش الموت في الناس ، حتى عجزوا عن تكفينهم ومواراتهم ، وأرجف بمسير القرامطة إلى الشام ، وبدت غلمانه تتنكر له ، وكانوا ألفا وسبعين غلاما تركيا سوى الروم والمولدين ، فمات لعشر بقين من جمادى الأوّل سنة سبع وخمسين وثلاثمائة ، عن ستين سنة ، فوجد له من العين سبعمائة ألف دينار ، ومن الورق والحلي والجوهر والعنبر والطيب والثياب والآلات والفرش والخيام والعبيد والجواري والدواب ما قوّم بستمائة ألف ألف دينار ،

__________________

(١) في النجوم الزاهرة ج ٤ / ٣ : معنى أنوجور بالعربية محمود.

انظر أيضا النجوم الزاهرة ٣ / ٣٣٤.

٥١

وكانت مدّة تدبيره أمر مصر والشام والحرمين إحدى وعشرين سنة وشهرين وعشرين يوما ، منها منفردا بالولاية بعد أولاد أستاذه سنتان وأربعة أشهر وتسعة أيام ، ومات عن غير وصية ولا صدقة ولا مأثرة يذكر بها ، ودعي له على المنابر بالكنية التي كناه بها الخليفة ، وهي أبو المسك ، أربع عشرة جمعة ، وبعده اختلت مصر وكادت تدمر حتى قدمت جيوش المعز على يد القائد جوهر ، فصارت مصر دار خلافة ، ووجد على قبره مكتوب :

ما بال قبرك يا كافور منفردا

بصائح الموت بعد العسكر اللجب

يدوس قبرك من أدنى الرجال وقد

كانت أسود الشرى تخشاك في الكثب

ووجد أيضا مكتوب :

انظر إلى غير الأيام ما صنعت

أفنت أناسا بها كانوا وما فنيت

دنياهم أضحكت أيام دولتهم

حتى إذا فنيت ناحت لهم وبكت

خط الخرشتف : هذا الخط فيما بين حارة برجوان والكافوري ، ويتوصل إليه من بين القصرين ، فيدخل له من قبو يعرف بقبو الخرشتف ، وهو الذي كان يعرف قديما بباب التبانين ، ويسلك من الخرشتف إلى خط باب سرّ المارستان ، وإلى حارة زويلة ، وكان موضع الخرشتف في أيام الخلفاء الفاطميين ميدانا بجوار القصر الغربيّ والبستان الكافوريّ ، فلما زالت الدولة اختطّ وصار فيه عدّة مساكن ، وبه أيضا سوق ، وإنما سمّي بالخرشتف لأنّ المعز أوّل من بنى فيه الاصطبلات بالخرشتف ، وهو ما يتحجر مما يوقد به على مياه الحمامات من الأزبال وغيرها. قال ابن عبد الظاهر : الحارة المعروفة بالخرشتف كانت قديما ميدانا للخلفاء ، فلما ورد المعز بنوا به اصطبلات وكذلك القصر الغربيّ ، وقد كان النساء اللاتي أخرجن من القصر يسكنّ بالقصر النافعي ، فامتدّت الأيدي إلى طوبه وأخشابه ، وبيعت وتلاشى حاله وبني به وبالميدان اصطبلات ودويرات بالخرشتف ، فسمي بذلك ، ثم بنى به الأدر والطواحين وغيرها ، وذلك بعد الستمائة ، وأكثر أراضي الميدان حكر للأدر القطبية.

خط اصطبل القطبية (١) : هذا الخط أيضا من جملة أراضي الميدان ، ولما انتقلت القاعة التي كانت سكن أخت الحاكم بأمر الله بعد زوال الدولة الفاطمية ، صارت إلى الملك المفضل قطب الدين أحمد بن الملك العادل أبي بكر ابن أيوب ، فاستقرّ بها هو وذريته ، فصار يقال لها الدار القطبية ، واتخذ هذا المكان اصطبلا لهذه القاعة ، فعرف باصطبل القطبية ، ثم لما أخذ الملك المنصور قلاوون القاعة القطبية من مونسة خاتون ، المعروفة بدار إقبال ابنة الملك العادل أبي بكر ابن أيوب ، أخت المفضل قطب الدين أحمد المعروفة

__________________

(١) في النجوم الزاهرة ٤ / ٥٠ : القطبية نسبة إلى قطب الدين الأفضل وهو من بني أيّوب.

٥٢

بخاتون القطبية ، وعملها المارستان المنصوري ، بنى في هذا الإصطبل المساكن ، وصارت من جملة الخطط المشهورة ، ويتوصل إليه من وسط سوق الخرشتف ، ويسلك فيه من آخره إلى المدرسة الناصرية والمدرسة الظاهرية المستجدّة ، وعمل على أوّله دربا يغلق وهو خط عامر.

خط باب سر المارستان : هذا الخط يسلك إليه من الخرشتف ، ويصير السالك فيه إلى البندقانيين ، وبعض هذا الخط وهو جله ومعظمه من جملة اصطبل الجميزة الذي كان فيه خيول الدولة الفاطمية ، وقد تقدّم ذكره. وموضع باب سر المارستان المنصوري هو باب الساباط ، فلما زالت الدولة واختط الكافوري والخرشتف واصطبل القطبية ، صار هذا الخط واقعا بين هذه الأخطاط ، ونسب إلى باب سر المارستان لأنه من هنالك ، وأدركت بعض هذه الخطة وهي خراب ، ثم أنشأ فيه القاضي جمال الدين محمود القيصري محتسب القاهرة في أيام ولايته. نظر المارستان ، في سنة إحدى وثمانين وسبعمائة ، الطاحون العظيمة ذات الأحجار ، والفرن والربع ، علوه في المكان الخراب ، وجعل ذلك جاريا في جملة أوقاف المارستان المنصوري.

خط بين القصرين : هذا الخط أعمر أخطاط القاهرة وأنزهها ، وقد كان في الدولة الفاطمية فضاء كبيرا وبراحا واسعا ، يقف فيه عشرة آلاف من العسكر ما بين فارس وراجل ، ويكون به طرادهم ووقوفهم للخدمة ، كما هو الحال اليوم في الرميلة تحت قلعة الجبل ، فلما انقضت أيام الدولة الفاطمية وخلت القصور من أهاليها ، ونزل بها أمراء الدولة الأيوبية وغيروا معالمها ، صار هذا الموضع سوقا مبتذلا بعد ما كان ملاذا مبجلا ، وقعد فيه الباعة بأصناف المأكولات ، من اللحمان المتنوّعة والحلاوات المصنعة والفاكهة وغيرها ، فصار منتزها تمر فيه أعيان الناس وأماثلهم في الليل مشاة ، لرؤية ما هناك من السرج والقناديل الخارجة عن الحدّ في الكثرة ، ولرؤية ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ، مما فيه لذة للحواس الخمس ، وكانت تعقد فيه عدّة حلق لقراءة السير والأخبار وإنشاد الأشعار ، والتفنن في أنواع اللعب واللهو ، فيصير مجمعا لا يقدّر قدره ، ولا يمكن حكاية وصفه ، وسأتلو عليك من أنباء ذلك ما لا تجده مجموعا في كتاب.

قال المسبّحي في حوادث جمادى الآخرة سنة خمس وتسعين وثلثمائة : وفيه منع كل أحد ممن يركب مع المكاريين أن يدخل من باب القاهرة راكبا ، ولا المكاريين أيضا بحميرهم ، ولا يجلس أحد على باب الزهومة (١) من التجار وغيرهم ، ولا يمشي أحد

__________________

(١) في النجوم الزاهرة : ٤ / ٣٧ : من الأبواب الغربية للقصر الكبير ، سمي بذلك لأن اللحوم وحوائج الطعام التي يدخل بها إلى مطبخ القصر كان يدخل بها من هذا الباب.

٥٣

ملاصق القصر من باب الزهومة إلى أقصى باب الزمرّد (١) ، ثم عفى عن المكاريين بعد ذلك وكتب لهم أمان قرىء.

وقال ابن الطوبر : ويبيت خارج باب القصر كل ليلة خمسون فارسا ، فإذا أذّن بالعشاء الآخرة داخل القاعة ، وصلّى الإمام الراتب بها بالمقيمين فيها من الأستاذين وغيرهم ، وقف على باب القصر أمير يقال له سنان الدولة ابن الكركندي ، فإذا علم بفراغ الصلاة أمر بضرب النوبات ، من الطبل والبوق وتوابعهما من عدّة وافرة بطريق مستحسنة ساعة زمانية ، ثم يخرج بعد ذلك أستاذ برسم هذه الخدمة ، فيقول : أمير المؤمنين يردّ علي سنان الدولة السلام ، فيصقع ويغرس حربة على الباب ثم يرفعها بيده ، فإذا رفعها أغلق الباب وسار إلى حوالي القصر سبع دورات ، فإذا انتهى ذلك جعل على الباب البياتين والفرّاشين المقدّم ذكرهم ، وأفضى المؤذنون إلى خزانتهم هناك ، ورميت السلسلة عند المضيق آخر بين القصرين من جانب السيوفيين ، فينقطع المار من ذلك المكان إلى أن تضرب النوبة سحرا قريب الفجر ، فتنصرف الناس من هناك بارتفاع السلسلة. انتهى.

وأخبرني المشيخة أنه ما زال الرسم إلى قريب ، أنه لا يمرّ بشارع بين القصرين حمل تبن ولا حمل حطب ، ولا يستطيع أحد أن يسوق فرسا فيه ، فإن ساق أحد أنكر عليه وخرق به.

وقال ابن سعيد في كتاب المغرب : والمكان الذي كان يعرف في القاهرة بين القصرين هو من الترتيب السلطانيّ ، لأنّ هناك ساحة متسعة للعسكر والمتفرّجين ما بين القصرين ، ولو كانت القاهرة كلها كذلك كانت عظيمة القدر كاملة الهمة السلطانية.

وقال ياقوت : وبين القصرين كان ببغداد بباب الطاق ، يراد به قصر أسماء بنت المنصور ، وقصر عبد الله بن المهدي ، وكان يقال لهما أيضا بين القصرين. وبين القصرين بمصر والقاهرة ، وهما قصران متقابلان بينهما طريق العامّة والسوق ، عمرهما ملوك مصر المغاربة المتعلونة ، الذين ادّعوا أنهم علويّة.

وحدّثني الفاضل الرئيس تقيّ الدين عبد الوهاب ، ناظر الخواص الشريفة ، ابن الوزير الصاحب فخر الدين عبد الله بن أبي شاكر ، أنه كان يشتري في كل ليلة من بين القصرين بعد العشاء الآخرة ، برسم الوزير الصاحب فخر الدين عبد الله بن خصيب ، من الدجاج المطجن والقطا وفراخ الحمام والعصافير المقلاة بمبلغ مائتي درهم ، وخمسين درهما فضة ، يكون عنها يومئذ نحو من اثني عشر مثقالا من الذهب ، وأنّ هذا كان دأبه في كل ليلة ، ولا يكاد مثل هذا مع كثرته لرخاء الأسعار يؤثر نقصه ، فيما كان هنالك من هذا الصنف ، لعظم ما كان

__________________

(١) في النجوم الزاهرة ٤ / ٣٦ : من الأبواب الشرقية للقصر الكبير ، سمي كذلك لأنه يوصل إلى قصر الزّمرّد.

٥٤

يوضع في بين القصرين من هذا النوع وغيره ، ولقد أدركنا في كل ليلة من بعد العصر يجلس الباعة بصنف لحمان الطيور التي تقلى صفا ، من باب المدرسة الكاملية إلى باب المدرسة الناصرية ، وذلك قبل بناء المدرسة الظاهرية المستجدّة ، فيباع لحم الدجاج المطجن ، ولحم الأوز المطجن ، كلّ رطل بدرهم ، وتارة بدرهم وربع ، وتباع العصافير المقوّة كل عصفور بفلس ، حسابا عن كل أربعة وعشرين بدرهم ، والمشيخة تقول إنّا حينئذ في غلاء ، لكثرة ما تصف من سعة الأرزاق ورخاء الأسعار في الزمن الذي أدركوه قبل الفناء الكبير ، ومع ذلك فلقد وقع في سنة ست وثمانين شيء لا يكاد يصدّقه اليوم من لم يدرك ذلك الزمان ، وهو أنّه : كان لنا من جيراننا بحارة برجوان ، شخص يعاني الجندية ، ويركب الخيل ، فبلغني عن غلامه أنّه خرج في ليلة من ليالي رمضان ، وكان رمضان إذ ذاك في فصل الصيف ، ومعه رقيق له من غلمان الخيل ، وأنهما سرقا من شارع بين القصرين ، وما قرب منه ، بضعا وعشرين بطيخة خضراء ، وبضعا وثلاثين شقفة جبن ، والشقفة أبدا من نصف رطل إلى رطل ، فما منّا إلّا من تعجب من ذلك ، وكيف تهيأ لاثنين فعل هذا ، وحمل هذا القدر يحتاج إلى دابتين ، إلى أن قدّر الله تعالى لي بعد ذلك أن اجتمعت بأحد الغلامين المذكورين ، وسألته عن ذلك فاعترف لي به ، قلت : صف لي كيف عملتما ، فذكر أنهما كانا يقفان على حانوت الجبان ، أو مقعد البطيخيّ ، وكان إذ ذاك يعمل من البطيخ في بين القصرين مرصّات كثيرة جدّا ، في كل مرصّ ما شاء الله من البطيخ ، قال : فإذا وقفنا قلب أحدنا بطيخة وقلب الآخر أخرى ، فلشدّة ازدحام الناس يتناول أحدنا بطيخته بخفة يد وصناعة ويقوم ، فلا يفطن به. أو يقلب أحدنا ورفيقه قائم من ورائه ، والبياع مشغول البال لكثرة ما عليه من المشترين ، وما في ذلك الشارع من غزير الناس ، فيحذفها من تحته وهو جالس القرفصا ، فإذا أحسّ بها رفيقه تناولها ومرّ. وكذلك كان فعلهم مع الجبانين ، وكانوا كثيرا ، فانظر ـ أعزك الله ـ إلى بضاعة يسرق منها مثل هذا القدر ولا يفطن به من كثرة ما هنالك من البضائع ولعظم الخلق.

ولقد حدّثني غير واحد ممن قدم مع قاضي القضاة عماد الدين أحمد الكركيّ ، أنّه لما قدموا من الكرك في سنة اثنين وتسعين وسبعمائة ، كادوا يذهلون عند مشاهدة بين القصرين. وقال لي ابنه محب الدين محمد : أوّل ما شاهدّت بين القصرين ، حسبت أنّ زفة أو جنازة كبيرة تمرّ من هنالك ، فلما لم ينقطع المارة ، سألت ما بال الناس مجتمعين للمرور من ههنا؟ فقيل لي : هذا دأب البلد دائما ، ولقد كنا نسمع أنّ من الناس من يقوم خلف الشاب أو المرأة عند التمشي بعد العشاء بين القصرين ويجامع حتى يقضي وطره وهما ماشيان ، من غير أن يدركهما أحد لشدّة الزحام ، واشتغال كل أحد بلهوه. وما برحت أجد من الازدحام مشقة ، حتى أفادني بعض من أدركت أنّ من الرأي في المشي أن يأخذ الإنسان في مشيه نحو شماله ، فإنه لا يجد من المشقة كما يجد غيره من الزحام ، فاعتبرت ذلك آلاف مرّات في عدّة سنين ، فما أخطأ معي ، ولقد كنت أكثر من تأمّل المارة بين القصرين ، فإذا هم صفان ،

٥٥

كلّ صف يمرّ من صوب شماله كالسيل إذا اندفع ، وعلّل هذا الذي أفادني ، أنّ القلب من يسار كل أحد ، والناس تميل إلى جهة قلوبهم ، فلذلك صار مشيهم من صوب شمائلهم ، وكذا صح لي مع طول الاعتياد. ولما حدثت هذه المحن بعد سنة ست وثمانين وثمانمائة ، تلاشى أمر بين القصرين ، وذهب ما هناك ، وما أخوفني أن يكون أمر القاهرة كما قيل :

هذه بلدة قضى الله يا صا

ح عليها كما ترى بالخراب

فقف العيس وقفة وابك من كا

ن بها من شيوخها والشباب

واعتبر إن دخلت يوما إليها

فهي كانت منازل الأحباب

خط الخشيبة : هذا الخط يتوصل إليه من وسط سوق باب الزهومة ، ويسلك فيه إلى الحارة العدوية (١) حيث فندق الرخام برحبة بيبرس ، وإلى درب شمس الدولة ، وقيل له خط الخشيبة ، من أجل أنّ الخليفة الظافر لما قتله نصر بن عباس وبنى على مكانه الذي دفنه فيه المسجد الذي يعرف اليوم بمسجد الخلعيين ، ويعرف أيضا بمسجد الخلفاء ، نصبت هناك خشبة حتى لا يمرّ أحد من هذا الموضع راكبا ، فعرف بخشيبة تصغير خشبة ، وما زالت هناك حتى زالت الدولة الفاطمية ، وقام السلطان صلاح الدين بسلطنة مصر ، فأزال الخشيبة ، وعرف هذا الخط بها إلى اليوم ، ويقال له خط حمام خشيبة ، من أجل الحمام التي هناك. ولمقتل الظافر خبر يحسن ذكره هنا.

ذكر مقتل الخليفة الظافر

وكان من خبر الظافر أنه لما مات الخليفة الحافظ لدين الله أبو الميمون عبد المجيد ابن الأمير أبي القاسم محمد بن المستنصر ، في ليلة الخميس ، لخمس خلون من جمادى الآخرة ، سنة أربع وأربعين وخمسمائة ، بويع ابنه أبو المنصور إسماعيل ، ولقب بالظافر بأمر الله ، بوصية من أبيه له بالخلافة ، وقام بتدبير الوزارة الأمير نجم الدين سليمان بن محمد بن مصال ، فلم يرض الأمير المظفر عليّ بن السلار والي الإسكندرية والبحيرة يومئذ بوزارة ابن مصال ، وحشد وسار إلى القاهرة ، ففرّ ابن مصال ، واستقرّ ابن السلار في الوزارة ، وتلقّب بالعادل ، فجهز العساكر لمحاربة ابن مصال ، فحاربته وقتل ، فقوي واستوحش منه الظافر ، وخاف منه ابن السلار واحترز منه على نفسه ، وجعل له رجالا يمشون في ركابه بالزرد والخود ، وعددهم ستمائة رجل بالنوبة ، ونقل جلوس الظافر من القاعة إلى الإيوان في البراح والسعة ، حتى إذا دخل للخدمة يكون أصحاب الزرد معه ، ثم تأكدت النفرة بينهما فقبض على صبيان الخاص وقتل أكثرهم ، وفرّق باقيهم ، وكانوا خمسمائة رجل ، وما زال الأمر على ذلك إلى أن قتله ربيبه عباس بن تميم ، بيد ولده نصر ،

__________________

(١) في النجوم الزاهرة ٤ / ٥٥ : العدوية هي من أول باب الخشيبة إلى أوّل حارة زويلة.

٥٦

واستقرّ بعده في وزارة الظافر ، وكان بين ناصر الدين نصر بن عباس الوزير ، وبين الظافر ، مودّة أكيدة ومخالطة ، بحيث كان الظافر يشتغل به عن كل أحد ، ويخرج من قصره إلى دار نصر بن عباس التي هي اليوم المدرسة السيوفية ، فخاف عباس من جرأة ابنه ، وخشي أن يحمله الظافر على قتله ، فيقتله كما قتل الوزير علي بن السلار زوج جدّته أمّ عباس ، فنهاه عن ذلك وألحف في تأنيبه ، وأفرط في لومه ، لأنّ الأمراء كانوا مستوحشين من عباس وكارهين منه تقريبه أسامة بن منقد ، لما علموه من أنه هو الذي حسّن لعباس قتل ابن السلار كما هو مذكور في خبره ، وهمّوا بقتله ، وتحدّثوا مع الخليفة الظافر في ذلك ، فبلغ أسامة ما هم عليه ، وكان غريبا من الدولة ، فأخذ يغري الوزير عباس بن تميم بابنه نصر ، ويبالغ في تقبيح مخالطته للظافر إلى أن قال لي مرة : كيف تصبر على ما يقول الناس في حق ولدك ، من أنّ الخليفة يفعل به ما يفعل بالنساء ، فأثّر ذلك في قلب عباس ، واتفق أنّ الظافر أنعم بمدينة قليوب (١) على نصر بن عباس ، فلما حضر إلى أبيه وأعلمه بذلك وأسامة حاضر ، فقال له : يا ناصر الدين ، ما هي بمهرك غالية ، يعرّض له بالفحش ، فأخذ عباس من ذلك ما أخذه ، وتحدّث مع أسامة لثقته به في كيفية الخلاص من هذا ، فأشار عليه بقتل الظافر إذا جاء إلى دار نصر على عادته في الليل ، فأمره بمفاوضة ابنه نصر في ذلك ، فاغتنمها أسامة ، وما زال بنصر يشنع عليه ويحرّضه على قتل الظافر ، حتى وعده بذلك.

فلما كان ليلة الخميس آخر المحرّم ، من سنة تسع وأربعين وخمسمائة ، خرج الظافر من قصره متنكرا ومعه خادمان ، كما هي عادته ، ومشى إلى دار نصر بن عباس ، فإذا به قد أعدّ له قوما ، فعند ما صار في داخل داره وثبوا عليه وقبّلوه هو وأحد الخادمين ، وتوارى عنهم الخادم الآخر ، ولحق بعد ذلك بالقصر. ثم دفنوا الظافر والخادم تحت الأرض ، في الموضع الذي فيه الآن المسجد ، وكان سنّة يوم قتل ، إحدى وعشرين سنة وتسعة أشهر ونصف ، منها في الخلافة بعد أبيه أربع سنين وثمانية أشهر تنقص خمسة أيام ، وكان محكوما عليه في خلافته.

وفي أيامه ملك الفرنج مدينة عسقلان ، وظهر الوهن في الدولة ، وكان كثير اللهو واللعب ، وهو الذي أنشأ الجامع المعروف بجامع الفاكهيين.

وبلغ أهل القصر ما عمله نصر بن عباس من قتل الظافر ، فكاتبوا طلائع بن رزبك ، وكان على الأشمونين ، وبعثوا إليه بشعور النساء يستصرخون به على عباس وابنه ، فقدم بالجموع ، وفرّ عباس وأسامة ونصر ، ودخل طلائع وعليه ثياب سود ، وأعلامه وبنوده كلها سود ، وشعور النساء التي أرسلت إليه من القصر على الرماح ، فكان فألا عجيبا ، فإنه بعد خمس عشرة سنة ، دخلت أعلام بني العباس السود من بغداد إلى القاهرة لما مات العاضد ،

__________________

(١) قليوب : مدينة مصرية.

٥٧

واستبد صلاح الدين بملك ديار مصر ، وكان أوّل ما بدأ به طلائع أن مضى ماشيا إلى دار نصر ، وأخرج الظافر والخادم وغسلهما وكفنهما ، وحمل الظافر في تابوت مغشّى ، ومشى طلائع حافيا والناس كلهم ، حتى وصلوا إلى القصر ، فصلّى عليه ابنه الخليفة الفائز ودفن في تربة القصر.

خط سقيفة العدّاس (١) : هذا الخط قيّما بين درب شمس الدولة والبندقانيين ، كان يقال له أولا سقيفة العدّاس ، ثم عرف بالصاغة القديمة ، ثم عرف بالأساكفة ، ثم هو الآن يعرف بالحريريين الشراريين ، وبسوق الزجّاجين ، وفيه يباع الزجاج. وهو خط عامر ، وهذا العدّاس هو : علي بن عمر بن العدّاس أبو الحسن. ضمن في أيام المعز لدين الله كورة بوصير ، فخلع عليه وجمله ، وسار خليفته بالبنود والطبول ، في جمادى الأولى سنة أربع وستين وثلثمائة.

فلما كان في أوّل خلافة العزيز بالله بن المعز لدين الله ، ولّاه الوساطة ، وهي رتبة الوزارة ، بعد موت الوزير يعقوب بن كلس ، ولم يلقبه بالوزير ، فجلس في القصر لتسع عشر خلت من ذي الحجة ، سنة إحدى وثمانين وثلثمائة ، وأمر ونهى ونظر في الأموال ، ورتّب العمال ، وأمر أن لا يطلق شيء إلا بتوقيعه ، ولا ينفذ إلّا ما أمر به وقرّره ، وأمره العزيز بالله أن لا يرتفق ، أي يرتشي ، ولا يرتزق ، يعني أنّه لا يقبل هدية ، ولا يضيع دينارا ولا درهما ، فأقام سنة وصرف في أوّل المحرّم من سنة ثلاث وثمانين ، فقرّر في ديوان الاستيفاء إلى أن كان جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين وثلثمائة حسن لأبي طاهر محمود النحوي الكاتب ، وكان منقطعا إليه أن يلقى الحاكم بأمر الله ، ويبلغه ما تشكوه الناس من تظافر النصارى ، وغلبتهم على المملكة ، وتوازرهم ، وأنّ فهد بن إبراهيم هو الذي يقوّي نفوسهم ، ويفوّض أمر الأموال والدواوين إليهم ، وأنه آفة على المسلمين ، وعدّة للنصارى ، فوقف أبو طاهر للحاكم ليلا في وقت طوافه في الليل ، وبلّغه ذلك.

ثم قال : يا مولانا إن كنت تؤثر جمع الأموال وإعزاز الإسلام ، فأرني رأس فهد بن إبراهيم في طشت ، وإلّا لم يتم من هذا شيء.

فقال له الحاكم : ويحك ، ومن يقوم بهذا الأمر الذي تذكره ويضمنه.

فقال : عبدك عليّ بن عمر بن العدّاس.

__________________

(١) في النجوم الزاهرة ٤ / ٥٥ عن المقريزي : محل هذه السقيفة اليوم الجزء الغربي من شارع الحمزاوي الصغير ، بين حارة شمس الدولة وشارع الأزهر ، وهذا الخط يشمل المنطقة التي يخترقها اليوم سوق السمك القديم وسوق الصيارف الكبير وحارتا السبع قاعات البحرية والقبلية وما بين ذلك من شارع السكة الجديدة.

٥٨

فقال : ويحك ، أو يفعل هذا؟

قال : نعم يا أمير المؤمنين.

قال : قل له يلقاني ههنا في غد.

ومضى الحاكم ، فجاء أبو طاهر إلى ابن العدّاس وأعلمه بما جرى. فقال : ويحك قتلتني وقتلت نفسك. فقال : معاذ الله ، أفنصبر لهذا الكلب الكافر على ما يفعل بالإسلام والمسلمين ، ويتحكم فيهم من اللعب بالأموال ، والله إن لم تسع في قتله ليسعين في قتلك ، فلما كان في الليلة القابلة وقف عليّ بن عمر العدّاس للحاكم ووافقه على ما يحتاج إليه ، فوعدوه بانجاز ما اتفقا عليه ، وأمر بالكتمان وانصرف الحاكم. فلما أصبح ركب العداس إلى دار قائد القوّاد حسن بن جوهر القائد ، فلقي عنده فهد بن إبراهيم ، فقال له فهد : يا هذا ، كم تؤذيني وتقدح فيّ عند سلطاني.

فقال العداس : والله ما يقدح ولا يؤذيني عند سلطاني ويسعى عليّ غيرك. فقال فهد : سلط الله على من يؤذي صاحبه فينا ، ويسعى به سيف هذا الإمام الحاكم بأمر الله.

فقال العدّاس : آمين وعجّل ذلك ولا تمهله.

فقتل فهد في ثامن جمادى الآخرة وضربت عنقه ، وكان له منذ نظر في الرياسة خمس سنين وتسعة أشهر واثنى عشر يوما ، وقتل العداس بعده بتسعة وعشرين يوما ، واستجيب دعاء كل منهما في الآخر ، وذهبا جميعا ، ولا يظلم ربك أحدا.

وذلك أن الحاكم خلع على العداس في رابع عشره ، وجعله مكان فهد ، وخلع على ابنه محمد بن عليّ ، فهناه الناس ، واستمرّ إلى خامس عشري رجب منها ، فضربت رقبة أبي طاهر محمود بن النحوي ، وكان ينظر في أعمال الشام لكثرة ما رفع عليه من التجبر والعسف ، ثم قتل العدّاس في سادس شعبان سنة ثلاث وتسعين وثلثمائة وأحرق بالنار.

خط البندقانيين : هذا الخط كان قديما إصطبل الجميزة ، أحد إصطبلات الخلفاء الفاطميين ، فلما زالت الدولة اختط وصارت فيه مساكن وسوق ، من جملته عدّة دكاكين لعمل قسيّ البندق ، فعرف الخط بالبندقانيين لذلك ، ثم أنه احترق يوم الجمعة للنصف من صفر سنة إحدى وخمسين وسبعمائة والناس في صلاة الجمعة ، فما قضى الناس الصلاة إلّا وقد عظم أمره ، فركب إليه وإلى القاهرة والنيران قد ارتفع لهبها ، واجتمع الناس ، فلم يعرف من أين كان ابتداء الحريق ، واتفق هبوب رياح عاصفة فحملت شرر النار إلى آمد بعيد ، ووصلت أشعتها إلى أن رؤيت من القلعة ، فركب الوزير منجك بمماليك الأمراء ، وجمعت السقاءون لطفي النار فعجزوا عن اطفائها ، واشتدّ الأمر فركب الأمير شيخو والأمير طاز

٥٩

والأمير مغلطاي أمير أخور ، وترجلوا عن خيولهم ومنعوا النهابة من التعرّض إلى نهب البيوت التي احترقت ، وعمّ الحريق دكاكين البندقانيين ودكاكين الرسامين وحوانيت الفقاعين والفندق المجاور لها ، والربع علوّه ، وعملت إلى الجانب الذي يلي بيت بيبرس ركن الدين الملقب بالملك المظفر ، والربع المجاور لعالي زقاق الكنيسة ، فما زال الأمير شيخو واقفا بنفسه ومماليكه ومعه الأمراء إلى أن هدم ما هنالك ، والنار تأكل ما تمرّ به إلى أن وصلت إلى بئر الدلاء التي كانت تعرف قديما ببئر زويلة (١) ، ومنها كان يستقى لأصطبل الجميزة ، فأحرقت ما جاور البئر من الأماكن إلى حوانيت الفكاه والطباخ وما يجاورهما من الحوانيت. والربع المجاور لدار الجو كندار ، وكادت أن تصل إلى دار القاضي علاء الدين عليّ بن فضل الله كاتب السرّ ، المجاورة لحمام الشيخ نجم الدين ابن عبود ، ولم يبق أحد في ذلك الخط حتى حوّل متاعه خوفا من الحريق ، فكان أهل البيت بينما هم في نقل ثيابهم ، وإذا بالنار قد أحاطت بهم فيتركون ما في الدار وينجون بأنفسهم ، والأمر يعظم والهدم واقع في الدور المجاورة لأماكن الحريق ، خشية من تعلق النار بها ، فسرى إلى جميع البلد إلى أن أتى الهدم على سائر ما كان هنالك ، فأقام الأمر كذلك يومين وليلتين والأمراء وقوف ، فلما خفّ انصرف الأمراء ووقف والي القاهرة ومعه عدّة من الأمراء لطفي ما بقي ، فاستمرّوا في طفئه ثلاثة أيام أخر ، وكان المصاب بهذا الحريق عظيما ، تلف فيه للناس من المال والثياب والمصاغ وغيره بالحريق والنهب ما لا يعلم قدره إلا الله ، هذا مع ما كان فيه الأمراء من منع النّهابة وكفهم عن أموال الناس ، إلا أنّ الأمر كان قد تجاوز الحدّ ، وعطب بالنار جماعة كثيرة ، ووصل حريق النار إلى قيسارية طشتمر وربع بكتمر الساقي ، فلما كفى الله أمر هذا الحريق ، وأعان على طفئه بعد أن هدمت عدّة أماكن جليلة ، ما بين رباع وحوانيت ، وقع الحريق في أماكن من داخل القاهرة وخارج باب زويلة (٢) ، ووجد في بعض المواضع التي بها الحريق كعكات بزيت وقطران ، فعلم أن هذا من فعل النصارى ، كما وقع في الحريق الذي كان في أيام الملك الناصر ، وقد ذكر في خبر السيرة الناصرية ، فنودي في الناس أن يحترسوا على مساكنهم ، فلم يبق أحد من الناس أعلاهم وأدناهم حتى أعدّ في داره أوعية ملانة بالماء ، ما بين أحواض وأزيار ، وصاروا يتناوبون السهر في الليل ، ومع ذلك فلا يدري أهل البيت إلّا والنار قد وقعت في بيتهم ، فيتداركون طفئها لئلا تشتعل ويصعب أمرها. وترك جماعة من الناس الطبخ في الدور ، وتمادى ذلك في الناس من نصف صفر إلى عاشر ربيع الأوّل ، فأحضر الأمير سيف الدين تشتمرشاد الدواوين نشابة في وسطها نقط قد وجدها في سطح داره ، فأراها للأمراء وهي محروقة النصل ، فصدر أمر الوزير منجك للأمير علاء الدين

__________________

(١) في النجوم الزاهرة ٤ / ٥٥ : زويلة امرأة هي صاحبة البئر.

(٢) في النجوم الزاهرة ٤ / ٣٨ : ولمّا نزل جوهر القائد اختطّت كل قبيلة خطّة عرفت بها ، فزويلة بنت البابين المعروفين ببابي زويله.

٦٠