كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٢

تقي الدين احمد بن علي المقريزي

كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٢

المؤلف:

تقي الدين احمد بن علي المقريزي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ذكر تاريخ الخليقة

اعلم : أنه لما كانت الحوادث لا بدّ من ضبطها ، وكان لا يضبط ما بين العصور ، وبين أزمنة الحوادث إلّا بالتاريخ المستعمل العام الذي لا ينكره الجماعة أو أكثرها ، وذلك أنّ التاريخ المجمع عليه ، لا يكون إلّا من حادث عظيم يملأ ذكره الأسماع ، وكانت زيادة ماء النيل ، ونقصانه ، إنما يعتبرهما أهل مصر ، ويحسبون أيامهما بأشهر القبط ، وكذلك خراج أراضي مصر إنما يحسبون أوقاته بذلك ، وهكذا زراعات الأراضي ، إنما يعتمدون في أوقاتها أيام الأشهر القبطية عادة ، وسلكوا فيها سبيل أسلافهم ، واقتفوا مناهج قدمائهم ، وما برح الناس من قديم الدهر أسراء العوائد.

احتيج في هذا الكتاب إلى إيراد جملة من تاريخ الخليقة لتعيين موقع تاريخ القبط منها ، فإنّ بذكر ذلك يتمّ الغرض. فأقول : التاريخ عبارة عن يوم ، ينسب إليه ما يأتي بعده ، ويقال أيضا : التاريخ عبارة عن مدّة معلومة تعدّ من أوّل زمن مفروض لتعرف بها الأوقات المحدودة ، ولا غنى عن التاريخ في جميع الأحوال الدنيوية ، والأمور الدينية ، ولكل أمّة من أمم البشر تاريخ تحتاج إليه في معاملاتها ، وفي معرفة أزمنتها تنفرد به دون غيرها من بقية الأمم.

وأوّل الأوائل القديمة وأشهرها هو ، كون مبدأ البشر ، ولأهل الكتاب من اليهود والنصارى والمجوس في كيفيته ، وسياقة التاريخ منه خلاف لا يجوز مثله في التواريخ ، وكلّ ما تتعلق معرفته ببدء الخلق ، وأحوال القرون السالفة ، فإنه مختلط بتزويرات وأساطير لبعد العهد ، وعجز المعتني به عن حفظه ، وقد قال الله سبحانه وتعالى : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) [إبراهيم / ٩]. فالأولى أن لا يقبل من ذلك إلا ما يشهد به كتاب أنزل من عند الله يعتمد على صحته لم يرد فيه نسخ ، ولا طرقه تبديل ، أو خبر ينقله الثقات ، وإذا نظرنا في التاريخ وجدنا فيه بين الأمم خلافا كثيرا ، وسأتلو عليك من ذلك ما لا أظنك تجده مجموعا في كتاب ، وأقدّم بين يدي هذا القول ما قيل في مدّة بقاء الدنيا.

٣

ذكر ما قيل في مدّة أيام الدنيا ماضيها وباقيها

اعلم : أنّ الناس قد اختلفوا قديما وحديثا في هذه المسألة ، فقال قوم من القدماء الأول : بالأكوار والأدوار وهم الدهرية ، وهؤلاء هم القائلون بعود العوالم كلها على ما كانت عليه بعد ألوف من السنين معدودة ، وهم في ذلك غالطون من جهة طول أدوار النجوم ، وذلك أنهم وجدوا قوما من الهند والفرس قد عملوا أدوارا للنجوم ليصححوا بها في كل وقت مواضع الكواكب فظنوا أنّ العدد المشترك لجميعها هو عدد سني العالم أو أيام العالم ، وإنه كلما مضى ذلك العدد عادت الأشياء إلى حالها الأوّل.

وقد وقع في هذا الظنّ ناس كثير مثل ، أبي معشر وغيره ، وتبع هؤلاء خلق وأنت تقف على فساد هذا الظن إن كنت تخبر من العدد شيئا ما ، وذلك أنك إذا طلبت عددا مشتركا بعده أعداد معلومة ، فإنك تقدر أن تضع لكل زيج أياما معلومة كالذي وضعه الهند والفرس ، فهؤلاء حيث جهلوا صورة الحال في هذه الأدوار ، ظنوا أنها عدد أيام العالم ، فتفطن ترشد.

وعند هؤلاء أنّ الدور هو أخذ الكواكب من نقطة وهي سائر حتى تعود إلى تلك النقطة ، وأن الكور هو استئناف الكواكب في أدوارها سيرا آخر إلى أن تعود إلى مواضعها مرّة بعد أخرى.

وزعم أهل هذه المقالة ، أنّ الأدوار منحصرة في أنواع خمسة :

الأوّل : أدوار الكواكب السيارة في أفلاك تداويرها.

الثاني : أدوار مراكز أفلاك التدوير في أفلاكها الحاملة.

الثالث : أدوار أفلاكها الحالة في فلك البروج.

الرابع : أدوار الكواكب الثابتة في فلك البروج.

الخامس : أدوار الفلك المحيط بالكل حول الأركان الأربعة ، وهذه الأدوار المذكورة ، منها ما يكون في كل زمان طويل مرّة واحدة ، ومنها ما يكون في كل زمان قصير مرّة واحدة ، فأقصر هذه الأدوار ، أدوار الفلك المحيط بالكل حول الأركان الأربعة فإنه يدور في كل أربع وعشرين ساعة ، دورة واحدة ، وباقي الأدوار يكون في أزمنة أخر أطول من هذه لا حاجة بنا في هذه المسألة إلى ذكرها.

قالوا : وأدوار الكواكب الثابتة في فلك البروج تكون في كلّ ستّة وثلاثين ألف سنة شمسية مرّة واحدة ، وحينئذ تنتقل أوجات الكواكب ، وجوز هراتها إلى مواضع حضيضها ، ونوبهراتها وبالعكس ، فيوجب ذلك عندهم ، عود العوالم كلها إلى ما كانت عليه من الأحوال في الزمان والمكان والأشخاص والأوضاع ، بحيث لا يتخالف ذرة واحدة ، وهم مع ذلك

٤

مختلفون في كمية ما مضى من أيام العالم ، وما بقي.

فقال البراهمة من الهند في ذلك قولا غريبا ، وهو ما حكاه عنهم الأستاذ أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني في كتاب القانون المسعوديّ : إنهم يسمون الطبيعة باسم ملك يقال له : إبراهيم ، ويزعمون أنه محدث محصور الموت بين مبدأ وانتهاء عمره كعمرها مائة سنة برهموية ، كل سنة منها ثلثمائة وستون يوما زمان النهار ، منها بقدر مدّة دوران الأفلاك ، والكواكب لإثارة الكون والفساد ، وهذه المدّة بقدر ما بين كل اجتماعين للكواكب السبعة في أوّل برج الحمل بأوجاتها ، وجوز هراتها ، ومقدارها : أربعة آلاف ألف سنة ، وثلثمائة ألف ألف سنة وعشرون ألف ألف سنة شمسية ، وهو زمان اثني عشر ألف دورة للكواكب الثابتة على أنّ زمان الدورة الواحدة ، ثلثمائة ألف سنة وستون ألف سنة شمسية ، واسم هذا النهار بلغتهم الكلية ، وزمان الليل عندهم كزمان النهار ، وفي الليل تسكن المتحرّكات ، وتستريح الطبيعة من إثارة الكون والفساد ، ثم يثور في مبدأ اليوم الثاني بالحركة والتكوّن ، فيكون زمان اليوم بليلته من سني الناس ، ثمانية آلاف ألف سنة وستمائة ألف ألف سنة وأربعين ألف ألف سنة ، فإذا ضربنا ذلك في ثلثمائة وستين تبلغ سنو أيام السنة البرهموية ، ثلاثة آلاف ألف ألف ألف سنة ، وعشرة آلاف ألف ألف سنة ، وأربعمائة ألف ألف سنة شمسية ، فإذا ضربناها في مائة يبلغ عمر الملك الطبيعيّ البرهمويّ من سني الناس ، ثلثمائة ألف ألف ألف ألف سنة ، وأحد عشر ألف ألف ألف سنة وأربعين ألف ألف سنة شمسية ، فإذا تمت هذه السنون بطل العالم عن الحركة ، والتكوين ما شاء الله ، ثم يستأنف من جديد على الوضع المذكور.

وقسموا زمان النهار المذكور إلى تسع وعشرين قطعة ، سموا كل أربع عشرة قطعة منها نوبا ، وسموا الخمس عشرة قطعة الباقية فصولا ، وجعلوا كل نوبة محصورة بين فصلين ، وكل فصل محصورا بين نوبتين ، وقدّموا زمان الفصل على النوبة إلى تمام المدّة ، وزمان الفصل هو خمسا الدور والدور جزء من ألف جزء من المدّة ، فإذا قسمنا المدّة على ألف تحصل زمان الدور ، أربعة آلاف ألف سنة ، وثمانية وعشرون ألف سنة ، وزمان النوبة عندهم أحد وسبعون دورا مقدارها من السنين ثلثمائة ألف ألف سنة ، وستة آلاف ألف سنة وسبعمائة ألف سنة وعشرون ألف سنة.

وقد قسّموا الدور أيضا بأربع قطع ، أوّلها أعظمها ، وهي مدّة الفصل المذكور وثانيها ثلاثة أرباع الفصل ، ومدّتها ألف ألف سنة ، ومائتا ألف سنة وستة وتسعون ألف سنة ، وثالثها نصف الفصل ، ومدّته ثمانمائة ألف سنة وأربعة وستون ألف سنة ، ورابعها ربع الفصل ، وهو عشر الدور المذكور ، ومدّته أربعمائة ألف سنة واثنان وثلاثون ألف سنة.

ولكل واحد من هذه القطع الأربع اسم يعرف به ، فاسم القطعة الرابعة عندهم ، كلكال

٥

لأنهم يزعمون أنهم في زمانها ، وإنّ الذي مضى من عمر الملك الطبيعيّ على زعم حكيمهم الأعظم المسمى عندهم : برهمكوت ثمان سنين وخمسة أشهر وأربعة أيام.

ونحن الآن في نهار اليوم الخامس من الشهر السادس من السنة التاسعة ، ومضى من النهار الخامس ست نوب ، وسبعة فصول وسبعة وعشرون دورا من النوبة السابعة ، وثلاث قطع من الدور المذكور أعني تسعة أعشاره ، ومضى من القطعة الرابعة أعني من أوّل كلكال إلى هلاك ، شككال عظيم ملوكهم الواقع في آخر سنة ثمان وثمانينة وثلثمائة للإسكندر ثلاثة آلاف سنة ومائة سنة وتسع وسبعون سنة ، وقال : إنما عرفنا هذا الزمان من علم إلهيّ ، وقع إلينا من عظماء أنبيائنا المتألهين برواياتهم جيلا بعد جيل على ممرّ الدهور والأزمان ، وزعموا أن في مبدأ كل دور أو فصل أو قطعة أو نوبة ، تتجدّد أزمنة العوالم ، وتنتقل من حال إلى حال ، وأن الماضي من أوّل كلكال إلى شككال ثلاثة آلاف ، ومائة وتسع وسبعون سنة ، والماضي من النهار المذكور إلى آخر سنة ثمان وثمانين وثلثمائة للإسكندر ألف ألف ألف سنة ، وتسعمائة ألف ألف سنة ، واثنان وسبعون ألف ألف سنة ، وتسعمائة ألف سنة وسبعة وأربعون ألف سنة ، ومائة سنة وسبع وسبعون سنة.

فيكون الماضي من عمر الملك الطبيعيّ إلى آخر هذه السنة ستة ، وعشرين ألف ألف ألف ألف سنة ، وثلثمائة ألف ألف ألف سنة وخمسة عشر ألف ألف ألف سنة ، وسبعمائة ألف ألف سنة ، واثنين وثلاثين ألف ألف سنة ، وتسعمائة ألف سنة ، وسبعة وأربعين ألف سنة ومائة سنة وتسعا وسبعين سنة ، فإذا زدنا عليها الباقي من تاريخ الإسكندر بعد نقصان السنين المذكورة منه تحصل الماضي من عمر الملك بالوقت المفروض ، والله أعلم بحقيقة ذلك.

وقال الخطا والايعز في ذلك قولا أعجب من قول الهند ، وأغرب على ما نقلته من زيج أدوار الأنوار ، وقد لخص هذا القول من كتب أهل الصين ، وذلك أنهم جعلوا مبادي سنيهم مبنية على ثلاثة أدوار : الأوّل : يعرف بالعشريّ مدّته عشر سنين لكل سنة منها اسم يعرف به ، والثاني : يعرف بالدور الاثني عشريّ ، وهو أشهرها خصوصا في بلاد الترك يسمون سنيه بأسماء حيوانات بلغتي الخطا والايعز ، والثالث : مركب من الدورين جميعا ومدّته ستون سنة ، وبه يؤرخون سني العالم وأيامه ويقوم عندهم مقام أيام الأسبوع عند العرب وغيرها ، واسم كل سنة منها مركب من اسميها في الدورين جميعا ، وكذلك كل يوم من أيام السنة.

ولهذا الدور ثلاثة أسماء ، وهي : شانكون ، وجونكون ، وخاون ، ويصير بحسبها مرّة أعظم ومرّة أوسط ، ومرّة أصغر ، فيقال : دور شانكون الأعظم ، ودور : جونكون الأوسط ، ودور : خاون الأصغر ، وبهذه الأدوار يعتبرون سني العالم وأيامه ، وجملتها مائة وثمانون

٦

سنة ، ثم تدور الأدوار الثلاثة عليها مرة أخرى. واتفق وقوع مبدأ الدور الأعظم في الشهر الأوّل من سنة ثلاث وثلاثين وستمائة : ليزدجرد ، واسمه بلغتهم : كادره ، وبلغة العرب : سنة الغار ، وكان دخول أوّل افرودين هذه السنة من سني العرب يوم الخميس ، وهو بلغتهم : سن جن ، ومن هذا اليوم وعلى هذا التاريخ تترتب مبادي سنيهم وأيامهم في الماضي والمستقبل ، وشهورهم اثنا عشر شهرا ، لكل شهر منها اسم بلغة : الخطا ، وبلغة الايعز لا حاجة بنا هنا إلى ذكره.

ويقسمون اليوم الأوّل بليلته اثني عشر قسما ، كل قسم منها يقال له : جاغ ، وكل جاغ ثمانية أقسام ، كل قسم منها يقال له : كه ، ويقسمون اليوم بليلته أيضا عشرة آلاف فنك ، وكل فنك منها : مائة مياو ، فيصيب كل جاغ : ثمانمائة وثلاثة وثلاثين فنكا وثلث فنك ، وكل : كه مائة وأربعة أفناك وسدس فنك ، وينسبون ، كل جاغ إلى صورة من الصور الاثنتي عشرة ، ومبدأ اليوم بليلته عندهم من نصف الليل ، وفي منتصف جاغ كسكو يتغير أوّل النهار وآخره بحسب الطول والقصر من قبل أنّ كل جاغ ساعتان مستويتان ، وفي منتصف النهار ينتصف جاغ يوند ، وهم يكبسون في كل ثلاث سنين قمرية شهرا واحدا يسمونه : سيون ليحفظوا بالكبس مبادي سني الشمس في زمان واحد من سنة أخرى ، ويكبسون أحد عشر شهرا في كل ثلاثين سنة قمرية ، ولا يقع عندهم شهر الكبس في موضع واحد بعينه من السنة ، بل يقع في كل موضع منها ، وكل شهر عدّة أيامه إما ثلاثون يوما أو تسعة وعشرون يوما ، ولا يمكن عندهم أكثر من ثلاثة أشهر متوالية تامّة ، ولا أكثر من شهرين ناقصين.

ومبادي شهورهم ، يوم الاجتماع إن وقع اجتماع النيرين نهارا ، فإن وقع الاجتماع ليلا كان أوّل الشهر في اليوم الذي بعد الاجتماع وزمان السنة الشمسية بحسب أرصادهم ، ثلثمائة وخمسة وستون يوما وألفان وأربعمائة وستة وثلاثون فنكا ، والسنة أربعة وعشرون قسما ، كل قسم منها : خمسة عشر يوما وألفان ومائة وأربعة وثمانون فنكا وخمسة أسداس فنك ، ولكل قسم من هذه الأقسام اسم ، وكل ستة أقسام منها فصل من فصول السنة ، فاسم أوّل قسم من فصولها الحن ، وأوّله أبدا ، حيث تكون الشمس في ست عشرة درجة من برج الدلو وهكذا أوائل كل فصل ، إنما تكون في حدود أواسط البروج الثابتة ، وكان بعد مدخل الحن من أوّل الدور الستينيّ في السنة المذكورة أحد عشر يوما ، وسبعة آلاف وستمائة وستين فنكا ، واسم مدخله بي خايني ، وكان بعد دخول السنة الفارسية المذكورة بنحو عشرين يوما ، ويبعد مدخله عن أوّل الدور الستينيّ ، ويتفاضل البعد بينهما في كل سنة بقدر فضل سنة الشمس على سنة القمر التي هي ثلثمائة وأربعة وخمسون يوما ، وثلاثة آلاف وستمائة واثنان وسبعون فتكا ، ومقدار الفضل بينهما عشرة أيام وثمانية آلاف وسبعمائة وأربعة وستون فنكا ، فإن زادت الأيام على زمان الشهر القمريّ الأوسط الذي هو تسعة وعشرون يوما ، وخمسة آلاف وثمانمائة وستة أفناك ، نقص منها هذا العدد ، واحتسب بالباقي.

٧

فإذا عرفت هذا من حسابهم ، فاعلم أنّ عمر العالم عندهم ثلثمائة ألف ونّ وستون ألف ونّ ، وكل ونّ : عشرة آلاف سنة. مضى من ذلك إلى أوّل سنة ثلاث وثلاثين وستمائة ليزدجرد ، وهي دور : شانكون الأعظم : ثمانية آلاف ونّ وثمانمائة ونّ وثلاثة وستون ونا ، وتسعة آلاف وسبعمائة ، وأربعون سنة ، فتكون المدّة العظمى على هذا : ثلاثة آلاف ألف ألف ألف ألف سنة وستمائة ألف ألف ألف ألف سنة بهذه الصورة ٣٦٠٠٠٠٠٠٠٠ والماضي منها إلى السنة المذكورة : ثمانية ، وثمانون ألف ألف سنة وستمائة ألف سنة وتسعة وثلاثون ألف سنة ، وسبعمائة سنة وأربعون سنة بهذه الصورة ٨٨٦٣٩٧٤٠ ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله.

وإنما ذكرت طرفا من حساب سني البراهمة ، وطرفا من حساب سني الخطا والايعز المستخرج من حساب الصين ليعلم المنصف أنّ ذلك لم يضعه حكماؤهم عبثا ، ولأمر ما جدع قصير أنفه ، وكم من جاهل بالتعاليم إذا سمع أقوالهم في مدّة سني العالم يبادر إلى تكذيبهم من غير علم بدليلهم عليه ، وطريق الحق أن يتوقف ، فيما لا يعلمه حتى يتبين أحد طرفيه فيرجحه على الآخر ، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.

وقال أصحاب السند هند : ومعناه : الدهر الداهر أنّ الكواكب وأوجاتها وجوز هراتها تجتمع كلها في أوّل برج الحمل عند كل أربعة آلاف ألف ألف سنة وثلثمائة ألف ألف سنة وعشرين ألف ألف سنة شمسية ، وهذه مدّة سني العالم.

قالوا : وإذا جمعت برأس الحمل فسدت المكوّنات الثلاث التي يحويها عالم الكون والفساد المعبر عنه بالحياة الدنيا ، وهذه المكوّنات هي : المعدن والنبات والحيوان ، فإذا فسدت بقي العالم السفليّ خرابا دهرا طويلا إلى أن تتفرّق الكواكب ، والأوجات والجوزهرات في بروج الفلك ، فإذا تفرّقت فيها بدأ الكون بعد الفساد ، فعادت أحوال العالم السفليّ إلى الأمر الأوّل ، وهذا يكون عودا بعد بدء إلى غير نهاية ، قالوا : ولكل واحد من الكواكب والأوجات والجوزهرات عدّة أدوار في هذه المدّة يدل كل دور منها على شيء من المكوّنات ، كما هو مذكور في كتبهم مما لا حاجة بنا هنا إلى ذكره ، وهذا القول منتزع من قول البراهمة الذي تقدّم ذكره.

وقال أصحاب الهازروان من قدماء الهند : إنّ كل ثلثمائة ألف سنة وستين ألف سنة شمسية : يهلك العالم بأسره ويبقى مثل هذه المدّة ، ثم يعود بعينه ، ويعقبه البدل ، وهكذا أبدا يكون الحال لا إلى نهاية.

قالوا : ومضى من أيام العالم المذكورة إلى طوفان نوح عليه‌السلام : مائة ألف وثمانون ألف سنة شمسية.

٨

ومضى من الطوفان إلى سنة الهجرة المحمدية ثلاثة آلاف وسبعمائة وثلاث وعشرون سنة ، وأربعة أشهر وأيام.

وبقي من سني العالم حتى يبتدئ ويفنى مائة ألف وبضع وسبعون ألف سنة شمسية ، أوّلها تاريخ الهجرة الذي يؤرخ به أهل الإسلام.

وقال أصحاب الأزجهير : مدّة العالم التي تجتمع فيها الكواكب برأس الحمل هي وأوجاتها وجوزهراتها : جزء من ألف جزء من مدّة : السند هند ، وهذا أيضا منتزع من قول البراهمة.

وقال أبو معشر ، وابن بو بخت : إنّ بعض الفرس يرى أنّ عمر الدنيا اثنا عشر ألف سنة بعدّة البروج ، لكل برج ألف سنة ، فكان ابتداء أمر الدنيا في أوّل ألف الحمل ، لأنّ الحمل والثور والجوزاء تسمى : أشرف الشرف ، وينسب إلى الحمل : الفصل ، وفيها تكون الشمس في شرفها ، وعلوّها ، وطول نهارها ، ولذلك كانت الدنيا كانت إلى ثلاثة آلاف سنة : علوية روحانية طاهرة ، ولأن السرطان والأسد والسنبلة : منتقصة ، فإنّ الشمس تنحط من علوّها في أوّل دقيقة من السرطان ، وكان قدر الدنيا وأبنائا منحطا في الثلاثة آلاف الثانية ، ولأن الميزان أهبط الهبوط ، وبئر الآبار ، وضدّ البرج الذي فيه شرف الشمس دل على أنه أصابت الدنيا واكتسب أهلها المعصية ، والميزان والعقرب والقوس إذا نزلتها الشمس لم تزدد إلّا انحطاطا ، والأيام إلّا نقصانا. فلذلك دلت على البلايا والضيق ، والشدّة والشرّ ، وحيث تبلغ الآلاف إلى أوّل الجدي الذي فيه أوّل ارتفاع الشمس ، وإشرافها على شرفها ، وفيه تزداد الأيام طولا ، والدلو والحوت اللذان تزداد الشمس فيهما صعودا ، حتى تصل لشرفها فيدل على ظهور الخير ، وضعف الشرّ ، وثبات الدين والعقل والعمل بالحق والعدل ، ومعرفة فضل العلم والأدب في تلك الثلاثة الآلاف سنة ، وما يكون في ذلك فعلى قدر صاحب الألف والمائة والعشرة ، وعلى حسب اتفاق الكواكب في أوّل سلطان صاحب الألف ، فلا يزال ذلك في زيادة حتى يعود أمر الدنيا في آخرها إلى مثل ما كان عليه ابتداؤها ، وهي في ألف الحمل وكلما تقارب آخر كل ألف من هذه الألوف اشتدّ الزمان ، وكثرت البلايا لأنّ أواخر البرج في حدود النحوس ، وكذلك في آخر المئين والعشرات ، فعلى هذا الانقضاء للدنيا إذا كان الزمان يعود إلى الحمل كما بدأ أوّل مرّة.

وزعموا أن ابتداء الخلق بالتحرّك كان والشمس في ابتداء المسير ، فدار الفلك ، وجرت المياه ، وهبت الرياح ، واتقدت النيران ، وتحرّك سائر الخلائق بما هم عليه من خير وشرّ ، والطالع تلك الساعة تسع عشرة درجة من برج السرطان ، وفيه المشتري ، وفي البيت الرابع الذي هو بيت العافية ، وهو برج الميزان زحل ، وكان الذنب في القوس ، والمرّيخ والجدي والزهرة وعطارد في الحوت ، ووسط السماء برج الحمل ، وفي أوّل دقيقة منه

٩

الشمس ، وكان القمر في الثور وفي بيت السعادة ، وكان الرأس في برج الجوزاء ، وهو بيت الشقاء ، وفي تلك الدقيقة من الساعة كان استقبال أمر الدنيا ، فكان خيرها وشرّها وانحطاطها وارتفاعها ، وسائر ما فيها على قدر مجاري البروج والنجوم ، وولاية أصحاب الألوف ، وغير ذلك من أحوالها. ولأنّ المشتري كان في السرطان في شرفه وزحل في الميزان في شرفه والمرّيخ والشمس والقمر في إشرافها دلت على كائنة جليلة ، فكان نشوء العالم ، وانبرز زحل.

فتولى الألف هو والميزان وكان المشتري في الطالع مقبولا. وكذلك جميع الكواكب كانت مقبولة ، فدل على نماء العالم وحسن نشوءه ، وكان زحل هو المستولي والعالي في الفلك والبرج طويل المطالع ، فطالت أعمار تلك الألف وقويت أبدانهم ، وكثرت مياههم وكون الميزان تحت الأرض دل على خفاء أوّل حدوث العالم ، وعلى أنّ أهل ذلك الزمان ينظرون في عمارة الأرضين وتشييد البنيان. ثم ولي الألف الثاني العقرب والمريخ ، وكان في الطالع المرّيخ ، فدل على القتل في ذلك الألف وسفك الدماء ، والسبي والظلم والجور والخوف والهمّ والأحزان والفساد وجور الملوك ، وولي الألف الثالث القوس وشاركه عطارد والزهرة بطلوعهما ، وكان الذنب في القوس ، فدل المشتري على النجدة في تلك الألف والشدّة والجلد والبأس والرياسة والعدل ، وتقسيم الملوك الدنيا ، وسفك الدماء بسبب ذلك ، ودلت الزهرة على ظهور بيت العبادة وعلى الأنبياء ، ودل عطارد على ظهور العقل والأدب والكلام ، وكون البرج مجسدا دلّ على انقلاب الخير والشرّ في تلك الألف مرّات ، وعلى ظهور ألوان من آيات الحق والعدل والجور.

ثم ولي الألف الرابع الجدي ، وكان فيه المرّيخ فدل على ما كان في تلك الألف من إهراق الدماء ، ودلت الشمس على ظهور الخير والعلم ، ومعرفة الله تعالى ، وعبادته وطاعته وطاعة أنبيائه ، والرغبة في الدين مع الشجاعة والجلد ، وكون البرج منقلبا هو والبرج الذي فيه الشمس دلّ على انقلاب ذلك في آخرها ، وظهور الشرّ والتفرّق والقسم والقتل وسفك الدماء والغصب في أصناف كثيرة ، وتحوّل ذلك وتلوّنه ، وكون الجدي منحطا دلّ على أنه يظهر في آخر تلك الألف الحسن الشبيه بصفة زحل والمريخ وانقطاع العظماء والحكماء ، وبوارهم وارتفاع السفلة ، وخراب العامر ، وعمارة الخراب ، وكثرة تلوّن الأشياء ، وولي الألف الخامس الدلو بطلوع القمر ، وكان القمر في الثور ، فدل الدلو لبرودته وعسره على سقوط العماء وعطلة أمرهم ، وارتفاع السفلة والعبيد ، ومحمدة البخلاء ، وظهور الجيش الأسود والسواد ، وعلى كثرة التفتيش ، والتفكر وظهور الكلام في الأديان ومحبة الخصومات وكون القمر في شرفه يدل على قهر الملوك ، وظهور ولاة الحق ، ونفاذ الخير ، وظهور بيوت العبادة والكف عن الدماء ، والراحة والسعادة في العامّة وثبات ما يكون من العدل والخير ، وطول المدّة فيه وكون البرج مائيا يدل على كثرة الأمطار والغرق وآفة من البرد يهلك فيها

١٠

الكثير ، ويلي الألف السادس برج الحوت بطلوع المشتري والرأس فيدل على المحمدة في الناس عامّة وعلى الصلاح والخير والسرور ، وذهاب الشرّ ، وحسن العيش ، ولكل واحد من الكواكب ولاية ألف سنة ، فصار عطارد خاتما في برج السنبلة.

وزعم ابن بوبخت : أنّ من يوم سارت الشمس إلى تمام خمس وعشرين من ملك أنوشروان ثلاثة آلاف وثمانمائة وسبع وستون سنة ، وذلك في ألف الجدي وتدبير الشمس ، ومنه إلى اليوم الأوّل من الهجرة سبع وثمانون سنة شمسية وستة وعشرون يوما ، ومن الهجرة إلى قيام يزدجرد تسع سنين وثلثمائة وسبعة وثلاثون يوما فذلك الجميع إلى أن قام يزدجرد ثلاثة آلاف وتسعمائة وست وستون سنة.

وقال أبو معشر : وزعم قوم من الفرس أنّ عمر الدنيا سبعة آلاف سنة بعدّة الكواكب السبعة. وزعم أبو معشر : أنّ عمر الدنيا ثلثمائة ألف سنة وستون ألف سنة ، وأنّ الطوفان كان في النصف من ذلك على رأس مائة ألف وثمانين ألف سنة.

وقال قوم : عمر الدنيا تسعة آلاف سنة لكل كوكب من الكواكب السبعة السيارة ألف سنة ، وللرأس ألف سنة ، وللذنب ألف سنة وشرّها ألف الذنب ، وإنّ الأعمار طالت في تدبير آلاف الثلاثة العلوية ، وقصرت في آلاف الكواكب السفلية.

وقال قوم : عمر الدنيا تسعة عشر ألف سنة بعدد البروج الاثني عشر لكل برج ألف سنة وبعدد الكواكب السبعة السيارة لكل كوكب ألف سنة.

وقال قوم : عمر الدنيا أحد وعشرون ألف سنة بزيادة ألف للرأس ، وألف للذنب.

وقال قوم : عمر الدنيا ثمانية وسبعون ألف سنة في تدبير برج الحمل اثنا عشر ألف سنة ، وفي تدبير برج الثور أحد عشر ألف سنة ، وفي تدبير الجوزاء عشرة آلاف سنة ، فكانت الأعمار في هذا الربع أطول ، والزمان أجدّ ، ثم تدبير الربع الثاني مدّة أربعة وعشرين ألف سنة ، فتكون الأعمار دون ما كانت في الربع الأوّل ، وتدبير الربع الثالث خمسة عشر ألف سنة ، وتدبير الربع الرابع ستة آلاف سنة.

وقال قوم : كانت المدّة من آدم إلى الطوفان ألفين وثمانين سنة وأربعة أشهر وخمسة عشر يوما ، ومن الطوفان إلى إبراهيم عليه‌السلام تسعمائة واثنتين وأربعين سنة وسبعة أشهر وخمسة عشر يوما ، فذلك ثلاثة آلاف ، ومائتان وثلاث وعشرون سنة.

وقال قوم من اليهود : عمر الدنيا سبعون ألف سنة منحصرة في ألف جيل ولفقوا ذلك من قول موسى عليه‌السلام في صلاته : إنّ الجيل سبعون سنة ، ومن قوله في الزبور : إنّ إبراهيم عليه‌السلام قطع معه الله تعالى عهد البقاء البشر ألف جيل ، فجاء من ذلك أنّ مدّة الدنيا سبعون ألف سنة ، واستظهروا لقولهم هذا بما في التوراة من قوله ، واعلم أنّ الله إلهك

١١

هو القادر المهيمن الحافظ العهد والفضل لمحبيه وحافظي وصاياه لألف جيل.

وذكر أبو الحسن عليّ بن الحسين المسعوديّ في كتاب أخبار الزمان عن الأوائل : أنهم قالوا : كان في الأرض ثمان وعشرون ذات أرواح وأيد وبطش وصور مختلفات بعدد منازل القمر لكل منزلة أمّة منفردة تعرف بها تلك الأمّة ، ويزعمون أن تلك الأمم كانت الكواكب الثابتة تدبرها ، وكانوا يعبدونها ، ويقال : لما خلق الله تعالى البروج الاثني عشر قسم دوامها في سلطانها ، فجعل للحمل اثني عشر ألف عام ، وللثور أحد عشر ألف عام ، وللجوزاء عشرة آلاف عام ، وللسرطان تسعة آلاف عام ، وللأسد ثمانية آلاف عام ، وللسنبلة سبعة آلاف عام ، وللميزان ستة آلاف عام ، وللعقرب خمسة آلاف عام ، وللقوس أربعة آلاف عام ، وللجدي ثلاثة آلاف عام ، وللدلو ألفي عام ، وللحوت ألف عام ، فصار الجميع ثمانية وسبعين ألف عام ، فلم يكن في عالم الحمل والثور والجوزاء حيوان ، وذلك ثلاثة وثلاثون ألف عام ، فلما كان عالم السرطان تكوّنت دواب الماء وهوامّ الأرض.

فلما كان عالم الأسد تكوّنت ذوات الأربع من الوحش والبهائم ، وذلك بعد تسعة آلاف عام من خلق دواب الماء والهوام ، فلما كان عالم السنبلة ، تكوّن الإنسانان الأوّلان ، وهما : أدمانوس ، وحنوانواس ، وذلك لتمام سبعة عشر ألف عام لخلق دواب الماء ، وهوامّ الأرض ولتمام ثمانية آلاف عام من خلق ذوات الأرض ، وخلقت الأرض في عالم الميزان ، ويقال : بل خلقت الأرض أوّلا ، وأقامت خالية ثلاثة وثلاثين ألف عام ليس فيها حيوان ولا عالم روحانيّ ، ثم خلق الله تعالى هوامّ الماء ، ودواب الأرض ، وما بعد ذلك على ما تقدّم ذكره ، فلما تمّ أربعة وعشرون ألف عام لخلق دواب الماء وهوامّ الأرض ، ولتمام خمسة عشر ألف عام من خلق ذوات الأربع ، ولتتمة سبعة آلاف عام من لدن تكوّن الإنسانين خلقت الطيور.

ويقال : إنّ مدّة مقام الإنسانين ونسلهما في الأرض مائة ألف وثلاثة وثلاثون ألف عام منها لزحل : ستة وخمسون ألف عام ، وللمشتري أربعة وأربعون ألف عام ، وللمرّيخ ثلاثة وثلاثون ألف عام ، ويقال : إنّ الأمم المخلوقات قبل آدم هي كانت الجبلة الأولى ، وهي ثمان وعشرون أمّة بإزاء منازل القمر خلقت من أمزجة مختلفة أصلها : الماء ، والهواء ، والأرض ، والنار ، فتباين خلقها ، فمنها أمّة خلقت طوالا زرقا ذوات أجنحة كلامهم قرقعة على صفة الأسود ، ومنها أمّة أبدانهم أبدان الأسود ورؤوسهم رؤوس الطير لهم شعور ، وآذان طوال ، وكلامهم دويّ ، ومنها أمّة لها وجهان : وجه أمامها ، ووجه خلفها ، ولها أرجل كثيرة ، وكلامهم كلام الطير ، ومنها أمّة ضعيفة في صور الكلاب لها أذناب ، وكلامهم همهمة لا يعرف ، ومنها أمّة تشبه بني آدم أفواههم في صدورهم يصفرون إذا تكلموا تصفيرا ، ومنها أمّة يشبهون نصف إنسان لهم عين واحدة ، ورجل يقفزون بها قفزا ، ويصيحون كصياح الطير ، ومنها أمّة لها وجوه كوجوه الناس وأصلاب كأصلاب السلاحف في رؤوسهم قرون

١٢

طوال لا يفهم كلامهم ، ومنها أمّة مدوّرة الوجوه لهم شعور بيض ، وأذناب كأذناب البقر ورؤوسهم في صدورهم لهم شعور وثديّ ، وهم أناس كلهنّ ليس فيهنّ ذكر يلقحن من الريح ، ويلدن أمثالهنّ ، ولهنّ أصوات مطربة يجتمع إليهنّ كثير من هذه الأمم لحسن أصواتهنّ ، ومنها أمّة على خلق بني آدم سود وجوههم ، ورؤوسهم كرؤوس الغربان ، ومنها أمّة في خلق الهوام والحشرات إلا أنها عظيمة الأجسام تأكل ، وتشرب مثل الأنعام ، ومنها أمّة كوجوه دواب البحر لها أنياب كأنياب الخنازير ، وآذان طوال ، ويقال : إنّ هذه الثمانية والعشرين أمّة تناكحت ، فصارت مائة وعشرين أمّة.

وسئل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه : هل كان في الأرض خلق قبل آدم يعبدون الله تعالى؟ فقال : نعم خلق الله الأرض ، وخلق فيها الجنّ يسبحون الله ويقدّسونه لا يفترون ، وكانوا يطيرون إلى السماء ، ويلقون الملائكة ، ويسلمون عليهم ويستعملون منهم خبر ما في السماء ، ثم إنّ طائفة منهم تمرّدت ، وعتت عن أمر ربها ، وبغت في الأرض بغير الحق ، وعدا بعضهم على بعض ، وجحدوا الربوبية ، وكفروا بالله ، وعبدوا ما سواه ، وتغايروا على الملك حتى سفكوا الدماء ، وأظهروا في الأرض الفساد ، وكثر تقاتلهم ، وعلا بعضهم على بعض ، وأقام المطيعون لله تعالى على دينهم ، وكان إبليس من الطائفة المطيعة لله والمسبحين له ، وكان يصعد إلى السماء ، فلا يحجب عنها لحسن طاعته.

ويروى : أنّ الجنّ كانت تفترق على إحدى وعشرين قبيلة ، وأنّ بعد خمسة آلاف سنة ملكوا عليهم ملكا يقال له : شملال بن ارس ، ثم افترقوا فملكوا عليهم : خمسة ملوك ، وأقاموا على ذلك دهرا طويلا ، ثم أغار بعضهم على بعض ، وتحاسدوا ، فكانت بينهم وقائع كثيرة ، فأهبط الله تعالى إليهم إبليس ، وكان اسمه بالعربية : الحارث ، وكنيته أبو مرّة ، ومعه عدد كثير من الملائكة ، فهزمهم وقتلهم ، وصار إبليس ملكا على وجه الأرض ، فتكبر وطغى ، وكان من امتناعه من السجود لآدم ما كان ، فأهبطه الله تعالى إلى الأرض ، فسكن البحر ، وجعل عرشه على الماء ، فألقيت عليه شهوة الجماع ، وجعل لقاحه لقاح الطير وبيضه.

ويقال : إنّ قبائل الجنّ من الشياطين خمس وثلاثون قبيلة ، خمس عشرة قبيلة تطير في الهواء وعشر قبائل مع لهب النار ، وثلاثون قبيلة يسترقون السمع من السماء ، ولكل قبيلة ملك موكل بدفع شرّها ، ومنهم صنف من السعالي (١) يتصوّرون في صور النساء الحسان ، ويتزوّجن برجال الأنس ويلدن منهم ، ومنهم صنف على صور الحيات إذا قتل أحد منهم واحدة هلك من وقته ، فإن كانت صغيرة هلك ولده أو عزيز عنده.

وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما أنه قال : إنّ الكلاب من الجنّ فإذا رأوكم تأكلون ،

__________________

(١) السعالي : ج. سعلاة وهي الغول أو ساحرة الجن.

١٣

فألقوا إليهم من طعامكم ، فإنّ لهم أنفسا يعني إنهم يأخذون بالعين.

وقد روي : أنّ الأرض كانت معمورة بأمم كثيرة منهم : الطمّ ، والرمّ ، والجنّ ، والبن ، والحسن ، والبسن ، وأنّ الله تعالى لما خلق السماء عمّرها بالملائكة ، ولما خلق الله الأرض عمرها بالجنّ ، فعاثوا وسفكوا الدماء ، فأنزل الله إليهم جندا من الملائكة ، فأتوا على أكثرهم قتلا وأسرا ، فكان ممن أسر إبليس ، وكان اسمه عزازيل ، فلما صعد به إلى السماء أخذ نفسه بالاجتهاد في العبادة والطاعة رجاء أن يتوب الله عليه ، فلما لم يجد ذلك عليه شيئا خامر الملائكة القنوط ، فأراط الله أن يظهر لهم خبث طويته ، وفساد نيته ، فخلق آدم فامتحنه بالسجود له ليظهر للملائكة تكبره ، وإبانة ما خفي عنهم من مكتوم أنبائه ، وإلى عمارة الأرض قبل آدم ممن أفسد فيها أشار بقوله تعالى حكاية عن الملائكة : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) [البقرة / ٣٠] يعنون كما فعل بها من قبل ، والله أعلم بمراده. وقال أبو بكر بن أحمد بن عليّ بن وحشية في كتاب الفلاحة : إنه عرّب هذا الكتاب ، ونقله من لسان الكلدانيين إلى اللغة العربية ، وإنه وجده من وضع ثلاثة حكماء قدماء وهم : صعريت وسوساد وفوقاي ابتدأه الأوّل ، وكان ظهوره في الألف السابعة من سبعة آلاف سني زحل ، وهي الألف التي يشارك فيها زحل القمر ، وتممه الثاني ، وكان ظهوره في آخر هذه الألف ، وأكمله الثالث ، وكان ظهوره بعد مضيّ أربعة آلاف سنة من دور الشمس الذي هو سبعة آلاف سنة ، وإنه نظر إلى ما بين زمان الأوّل والثالث ، فكان ثمانية عشر ألف سنة شمسية ، وبعض الألف التاسعة عشر ، وقد اختلف أهل الإسلام في هذه المسألة أيضا ، فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما أنه قال : الدنيا جمعة من جمع الآخرة ، واليوم ألف سنة ، فذلك سبعة آلاف سنة ، وروى سفيان عن الأعمش عن أبي صالح قال : قال كعب الأحبار : الدنيا ستة آلاف سنة.

وعن وهب بن منبه أنه قال : قد خلا من الدنيا خمسة آلاف سنة وستمائة سنة إني لأعرف كل زمان منها ، ومن فيه من الأنبياء ، فقيل له : فكم الدنيا؟ قال : ستة آلاف سنة.

وروى عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر رضي‌الله‌عنهما أنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «أجلكم في أجل من كان قبلكم من صلاة العصر إلى مغرب الشمس».

وفي حديث أبي هريرة : الحقب ثمانون عاما اليوم منها سدس الدنيا ، والحقب هنا بكسر الحاء وضمها.

قال أبو محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمدانيّ في كتاب الإكليل : وكأن الدنيا جزء من أربعة آلاف وسبعمائة وثلاثة وعشرين جزءا وثلث جزء من الحقب ، على أنّ السنة القمرية ثلثمائة وأربعة وخمسون يوما وخمس وسدس يوم ، فإذا كانت الدنيا ستة آلاف سنة ، واليوم ألف سنة تكون سنين قمرية ستة آلاف ألف سنة ، فإذا جعلناه جزءا وضربناه في أجزاء

١٤

الحقب ، وهي أربعة آلاف وسبعمائة سنة وثلاث وعشرون وثلث خرج من السنين : ثمانية وعشرون ألف ألف ألف وثلثمائة ألف ألف وأربعون ألف ألف ، وإذا كانت جمعة من جمع الآخرة زدنا مع هذا العدد مثل سدسه ، وهذا عدد الحقب.

وقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبريّ : الصواب من القول ما دل على صحته الخبر الوارد ، فذكر قوله عليه‌السلام : «أجلكم في أجل من كان قبلكم من صلاة العصر إلى مغرب الشمس» ، وقوله عليه‌السلام : «بعثت أنا والساعة كهاتين» وأشار بالسبابة والوسطى ، وقوله عليه‌السلام : «بعثت أنا والساعة جميعا إن كادت لتسبقني». قال : فمعلوم إن كان اليوم أوّله طلوع الشمس ، وآخره غروب الشمس ، وكان صحيحا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله : «أجلكم في أجل من كان قبلكم من صلاة العصر إلى مغرب الشمس» ، وقوله : «بعثت أنا والساعة كهاتين» وأشار بالسبابة والوسطى ، وكان قدر ما بين أوسط أوقات العصر ، وذلك إذا صار ظل كل شيء مثليه على التحرّي إنما يكون قدر نصف سبع اليوم يزيد قليلا أو ينقص قليلا ، وكذلك فضل ما بين الوسطى والسبابة ، إنما يكون نحوا من ذلك ، وكان صحيحا مع ذلك قوله عليه‌السلام : «لن يعجز الله أن يؤخر هذه الأمّة نصف يوم» يعني نصف اليوم الذي مقداره ألف سنة ، فأولى القولين اللذين أحدهما عن ابن عباس والآخر عن كعب. قول ابن عباس : إنّ الدنيا جمعة من جمع الآخرة سبعة آلاف ، وإذا كان كذلك ، وكان قد جاء عنه عليه‌السلام : أنّ الباقي من ذلك في حياته نصف يوم ، وذلك خمسمائة عام إذا كان ذلك نصف يوم من الأيام التي قدر الواحد منها ألف عام كان معلوما أنّ الماضي من الدنيا إلى وقت قوله عليه‌السلام : «ستة آلاف سنة وخمسمائة سنة» أو نحو ذلك ، وقد جاء عنه عليه‌السلام خبر يدل على صحة قول من قال : إنّ الدنيا كلها ستة آلاف سنة لو كان صحيحا لم يعد القول به إلى غيره ، وهو حديث أبي هريرة يرفعه الحقب ثمانون عاما اليوم منها سدس الدنيا ، فتبين من هذا الخبر أن الدنيا كلها ستة آلاف سنة ، وذلك أنه حيث كان اليوم الذي هو من أيام الآخرة مقداره ألف سنة من سني الدنيا ، وكان اليوم الواحد من ذلك سدس الدنيا ، كان معلوما أن جميعها ستة أيام من أيام الآخرة ، وذلك ستة آلاف سنة ، وقال أبو القاسم السهيليّ (١) : وقد مضت الخمسمائة من وفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى اليوم بنيف عليها ، وليس في قوله : لن يعجز الله أن يؤخّر هذه الأمّة نصف يوم ، ما ينفي الزيادة على النصف ، ولا في قوله : بعثت أنا والساعة كهاتين ، ما يقطع به على صحة تأويله ، يعني الطبري ، فقد نقل في تأويله غير هذا وهو أنه ليس بينه وبين الساعة نبيّ ، ولا شرعة غير شرعته مع التقريب لحينها ، كما قال تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) [القمر / ١] ، وقال : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) [النحل / ١] ولكن إذا قلنا : إنه عليه‌السلام إنما بعث في الألف الآخر بعد ما مضت منه سنون

__________________

(١) هو محمد بن محمد بن سهل الأندلسي أبو القاسم كان عالي الهمة شريف النفس ، وكان له علم بالفقه والتاريخ ويلقب بالوزير مجازا مات بالقاهرة سنة ٧٣٠ ه‍. الأعلام ج ٧ / ٤٣.

١٥

ونظرنا إلى الحروف المقطعة في أوائل السور وجدناها أربعة عشر حرفا يجمعها قولك. (ألم يسطع نص حق كره). ثم تأخذ العدد على حساب أبي جاد ، فيجيء تسعمائة وثلاثة ، ولم يسمّ الله تعالى أوائل السور إلا هذه الحروف ، فليس يبعد أن يكون من بعض مقتضياتها ، وبعض فوائدها الإشارة إلى هذا العدد من السنين لما قدّمناه من حديث الألف السابع الذي بعث عليه‌السلام فيه غير أن الحساب يحتمل أن يكون من مبعثه أو من وفاته أو من هجرته وكل قريب بعضه من بعض ، فقد جاء أشراطها ، ولكن لا تأتيكم إلا بغتة ، وقد روى أنه عليه‌السلام قال : «إن أحسنت أمّتي فبقاؤها يوم من أيام الآخرة» وذلك ألف سنة ، وإن أساءت فنصف يوم. ففي الحديث تتميم للحديث المتقدّم ، وبيان له ، إذ قد نقضت الخمسمائة والأمة باقية ، وقال شادان البلخيّ المنجم : مدّة ملة الإسلام ثلثمائة وعشرين سنين ، وقد ظهر كذب قوله ولله الحمد ، وقال أبو معشر : يظهر بعد المائة والخمسين من سني الهجرة اختلاف كثير.

وقال حراس : إنّ المنجمين أخبروا كسرى أنوشروان بتملك العرب ، وظهور النبوّة فيهم ، وأنّ دليلهم الزهرة ، وهي في شرفها ، والزهرة دليل العرب ، فتكون مدّة ملك نبوّتهم ألفا وستين سنة ، ولأنّ طالع القرآن الدال على ذلك برج الميزان والزهرة صاحبته في شرفها ، قال : وسأل كسرى وزيره بزرجمهر عن ذلك ، فأعلمه أن الملك يخرج من فارس ، وينتقل إلى العرب ، وتكون ولادة القائم بإمرة العرب لخمس وأربعين سنة من وقت القران ، وأنّ العرب تملك المشرق والمغرب من أجل أن المشتري دليل فارس قد قبل تدبير الزهرة دليل العرب ، والقران قد انتقل من المثلثة الهوائية إلى المثلثة المائية ، وإلى برج العقرب منها ، وهو دليل العرب أيضا ، وهذه الأدلة تقتضي بقاء الملة الإسلامية بقدر دور الزهرة ، وهو ألف وستون سنة شمسية.

وقال نفيل الروميّ : وكان في أيام بني أمية تبقى ملة الإسلام ، بقدر مدّة القران الكبيرة ، وهي تسعمائة وستون سنة شمسية ، فإذا عاد القران بعد هذه المدة إلى برج العقرب كما كان في ابتداء الملة ، وتغير وضع تشكيل الفلك عن هيئته في الابتداء ، فحينئذ يفتر العمل ، ويتجدّد ما يوجب خلاف الظنّ.

قال : واتفقوا على أنّ خراب العالم يكون باستيلاء الماء والنار حتى تهلك المكوّنات بأسرها ، وذلك إذا قطع قلب الأسد أربعا وعشرين درجة من برج الأسد الذي هو حدّ المرّيخ بعد تسعمائة وستين سنة شمسية من قران الملة ، ويقال : إنّ ملك رابلستان وهي عزبة بعث إلى عبد الله أمير المؤمنين المأمون بحكيم اسمه دوبان في جملة هدية ، فأعجب به المأمون ، وسأله عن مدّة ملك بني العباس ، فأخبره بخروج الملك عن عقبه ، واتصاله في عقب أخيه ، وأنّ العجم تغلبهم على الخلافة ، فيتغلب الديلم أوّلا ثم يسوء حالهم ، حتى يظهر الترك من

١٦

شمال المشرق ، فيملكون الفرات والروم والشام ، وقال يعقوب بن إسحاق الكنديّ : مدّة ملة الإسلام ستمائة وثلاث وتسعون سنة.

وقال الفقيه الحافظ أبو محمد عليّ بن أحمد بن سعيد بن حزم (١) : وأما اختلاف الناس في التاريخ ، فإنّ اليهود يقولون : أربعة آلاف سنة ، والنصارى يقولون : الدنيا خمسة آلاف سنة ، وأما نحن يعني أهل الإسلام ، فلا نقطع على علم عدد معروف عندنا ، ومن ادّعى في ذلك سبعة آلاف سنة أو أكثر أو أقلّ فقد قال ما لم يأت قط عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه لفظة تصح ، بل صح عنه عليه‌السلام خلافه ، بل نقطع على أن للدنيا أمدا لا يعلمه إلا الله تعالى ، قال الله تعالى : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) [الكهف / ٥١] ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أنتم في الأمم قبلكم إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود والشعرة السوداء في الثور الأبيض». وهذه نسبة من تدبرها ، وعرف مقدار عدد أهل الإسلام ، ونسبة ما بأيديهم من معمور الأرض ، وإنه الأكثر علم أن للدنيا أمدا لا يعلمه إلا الله تعالى ، وكذلك قوله عليه‌السلام : «بعثت أنا والساعة كهاتين» وضم أصبعيه المقدّستين السبابة والوسطى ، وقد جاء النص : بأن الساعة لا يعلم متى تكون إلا الله تعالى لا أحد سواه ، فصح أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إنما عني شدّة القرب لا فضل السبابة على السباحة إذ لو أراد ذلك لأخذت نسبة ما بين الإصبعين ، ونسب من طول الأصبع ، فكان يعلم بذلك متى تقوم الساعة ، وهذا باطل وأيضا فكان تكون نسبته صلى‌الله‌عليه‌وسلم إيانا من قبلنا بأننا كالشعرة في الثور كذبا ، ومعاذ الله من ذلك ، فصح أنه عليه‌السلام ، إنما أراد شدّة القرب ، وله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منذ بعث أربعمائة عام ونيف ، والله تعالى أعلم بما بقي للدنيا ، فإذا كان هذا العدد العظيم لا نسبة له عندما سلف لقتله ، وتفاهته بالإضافة إلى ما مضى ، فهو الذي قالهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من أننا فيمن مضى كالشعرة في الثور أو الرقمة في ذراع الحمار.

وقد رأيت بخط الأمير أبي محمد عبد الله بن الناصر قال : حدّثني محمد بن معاوية القرشيّ أنه رأى بالهند بلدا له اثنتان وسبعون ألف سنة ، وقد وجد محمود بن سبكتكين بالهند مدينة يؤرخون بأربعمائة ألف سنة ، قال أبو محمد : إلا أن لكل ذلك أوّلا ، ولا بدّ ونهاية لم يكن شيء من العالم موجودا قبله ، ولله الأمر من قبل ومن بعد ، والله أعلم.

ذكر التواريخ التي كانت للأمم قبل تاريخ القبط

التاريخ : كلمة فارسية أصلها : ماروز ، ثم عرّب.

قال محمد بن أحمد بن محمد بن يوسف البلخيّ في كتاب مفاتيح العلوم ، وهو

__________________

(١) عالم الأندلس بعصره وأحد أئمة الإسلام زهد في الوزارة وانصرف إلى التأليف ، قيل : إنه ألف أكثر من / : ٤٠ / مجلد في مختلف أنواع العلوم. ولد سنة ٣٨٤ ه‍ وتوفي سنة ٤٥٦ ه‍. الأعلام ج ٤ / ٢٥٤.

١٧

كتاب جليل القدر ، وهذا اشتقاق بعيد لو لا أنّ الرواية جاءت به ، وقال قدامة بن جعفر في كتاب الخراج : تاريخ كل شيء آخره ، وهو في الوقت غايته ، يقال : فلان تاريخ قومه ، أي إليه ينتهي شرفهم ، ويقال : ورّخت الكتاب توريخا وأرخته تأريخا ، اللغة الأولى لتميم ، والثانية لقيس ، ولكل أهل ملة تاريخ ، فكانت الأمم تؤرخ أوّلا بتاريخ الخليقة ، وهو ابتداء كون النسل من آدم عليه‌السلام ، ثم أرخت بالطوفان ، وأرخت ببخت نصر ، وأرخت بفيلبس ، وأرخت بالإسكندر ، ثم بأغشطش ، ثم بأنطيس ، ثم بدقلطيانوس ، وبه تؤرخ القبط ، لم يكن بعد تاريخ القبط إلا تاريخ الهجرة ، ثم تاريخ يزدجرد ، فهذه تواريخ الأمم المشهورة ، وللناس تواريخ أخر قد انقطع ذكرها.

فأما تاريخ الخليقة ، ويقال له : ابتداء كون النسل ، وبعضهم يقول : بدو التحرّك ، فإنّ لأهل الكتاب من اليهود والنصارى والمجوس في كيفيته ، وسياقة التاريخ منه خلافا كثيرا ، قال المجوس والفرس : عمر العالم اثنا عشر ألف عام على عدد بروج الفلك وشهور السنة ، وزعموا أنّ زرادشت صاحب شريعتهم قال : إن الماضي من الدنيا إلى وقت ظهوره ثلاثة آلاف ومائتا سنة وثمان وخمسون سنة ، وإذا حسبنا من أوّل يوم كيومرت الذي هو عندهم الإنسان الأوّل ، وجمعنا مدّة كل من ملك بعده ، فإنّ الملك ملصق فيهم غير منقطع عنهم ، كان العدد منه إلى الإسكندرية ثلاثة آلاف وثلثمائة وأربعا وخمسين سنة ، فإذا لم يتفق التفصيل مع الجملة ، وقال قوم : الثلاثة الآلاف الماضية إنما هي من خلق كيومرت فإنه مضى قبله ألف سنة ، والفلك فيها واقف غير متحرّك ، والطبائع غير مستحيلة ، والأمّهات غير متمازجة ، والكون والفساد غير موجود فيها ، والأرض غير عامرة ، فلما تحرّك الفلك حدث الإنسان الأوّل في معدن النهار ، وتولد الحيوان وتوالد وتناسل الإنس فكثروا ، وامتزجت أجزاء العناصر للكون والفساد ، فعمرت الدنيا ، وانتظم العالم.

وقال اليهود : الماضي من آدم إلى الإسكندرية ثلاثة آلاف وأربعمائة وثمان وأربعون سنة.

وقال النصارى : المدّة بينهما خمسة آلاف ومائة وثمانون سنة ، وزعموا أن اليهود نقصوها ، ليقع خروج عيسى ابن مريم عليه‌السلام في الألف الرابع وسط السبعة آلاف التي هي مقدار العالم عندهم ، حتى تخالف ذلك الوقت الذي سبقت البشارة من الأنبياء الذين كانوا بعد موسى بن عمران عليه‌السلام ، بولادة المسيح عيسى ، وإذا جمع ما في التوراة التي بيد اليهود من المدّة التي بين آدم عليه‌السلام ، وبين الطوفان ، كانت ألفا وستمائة وستا وخمسين سنة ، وعند النصارى في إنجيلهم ألفان ومائتا سنة واثنتان وأربعون سنة ، وتزعم اليهود أن توراتهم بعيدة عن التخاليط ، وتزعم النصارى : أن توراة السبعين التي هي بأيديهم لم يقع فيها تحريف ، ولا تبديل ، وتقول اليهود : فيها خلاف ذلك ، وتقول السامرية : بأنّ

١٨

توارثهم هي الحقّ ، وما عداها باطل ، ولس في اختلافهم ما يزيل الشك بل يقوّي الجالبة له ، وهذا الاختلاف بعينه بين النصارى أيضا في الإنجيل ، وذلك أنّ له عند النصارى أربع نسخ مجموعة في مصحف واحد ، أحدهما إنجيل متى ، والثاني لمارقوس ، والثالث للوقا ، والرابع ليوحنا ، قد ألف كل من هؤلاء الأربعة إنجيلا على حسب دعوته في بلاده ، وهي مختلفة اختلافا كثيرا ، حتى في صفات المسيح عليه‌السلام ، وأيام دعوته ، ووقت الصلب بزعمهم ، وفي نسبه أيضا ، وهذا الاختلاف لا يحتمل مثله ، ومع هذا فعند كل من أصحاب مرقيون ، وأصحاب ابن ديصان إنجيل يخالف بعضه هذا الأناجيل ، ولأصحاب ماني إنجيل على حدة يخالف ما عليه النصارى من أوّله إلى آخره ، ويزعمون أنه هو الصحيح ، وما عداه باطل.

ولهم أيضا إنجيل يسمى : إنجيل السبعين ينسب إلى تلامس ، والنصارى وغيرهم ينكرونه ، وإذا كان الأمر من الاختلاف بين أهل الكتاب ، كما قد رأيت ولم يكن للقياس والرأي مدخل في تمييز حق ذلك من باطله امتنع الوقوف على حقيقة ذلك من قبلهم ، ولم يعوّل على شيء من أقوالهم فيه ، وأما غير أهل الكتاب ، فإنهم أيضا مختلفون في ذلك.

قال أسوش : بين خلق آدم وبين ليلة الجمعة أوّل الطوفان ألفا سنة ومائتا سنة وست وعشرون سنة وثلاثة وعشرون يوما وأربع ساعات ، وقال ما شاه : واسمه منشا بن أثري منجم المنصور والمأمون في كتاب القرانات : أوّل قران وقع بين زحل والمشتري في بدء التحرّك ، يعني ابتداء النسل من آدم كان على مضيّ خمسمائة وتسع سنين وشهرين وأربعة وعشرين يوما مضت من ألف المريخ ، فوقع القران في برج الثور من المثلثة الأرضية على سبع درج واثنتين وأربعين دقيقة ، وكان انتقال الممرّ من برج الميزان ، ومثلثته الهوائية إلى برج العقرب ، ومثلثته المائية بعد ذلك بألفي سنة وأربعمائة سنة واثنتي عشرة سنة وستة أشهر وستة وعشرين يوما ، ووقع الطوفان في الشهر الخامس من السنة الأولى من القران الثاني من قرانات هذه المثلثة المائية ، وكان بين وقت القران الأوّل الكائن في بدء التحرّك ، وبين الشهر الذي كان فيه الطوفان ألفان وأربعمائة وثلاث وعشرون سنة وستة أشهر واثنا عشر يوما ، قال : وفي كل سبعة آلاف سنة وسنتين وعشرة أشهر وستة أيام يرجع القران إلى موضعه من برج الثور الذي كان في بدء التحرّك ، وهذا القول أعزك الله هو الذي اشتهر ، حتى ظنّ كثير من الملل ، أنّ مدّة بقاء الدنيا سبعة آلاف سنة فلا تغترّ به ، وتنبه إلى أصله تجده أوهى من بيت العنكبوت فاطرحه.

وقيل : كان بين آدم وبين الطوفان ثلاثة آلاف وسبعمائة وخمس وثلاثون سنة ، وقيل: كانت بينهما مدّة ألفين ومائتين وست وخمسين سنة ، وقيل : ألفان وثمانون سنة.

وأما تاريخ الطوفان : فإنه يتلو تاريخ الخليقة ، وفيه من الاختلاف ما لا يطمع في حقيقته من أجل الاختلاف فيما بين آدم وبينه وفيما بينه وبين تاريخ الإسكندر ، فإن اليهود

١٩

عندهم أنّ بين الطوفان ، وبين الإسكندر ألفا وسبعمائة واثنتين وتسعين سنة ، وعند النصارى بينهما ألفا سنة وتسعمائة وثمان وثلاثون سنة ، والفرس وسائر المجوس ، والكلدانيون أهل بابل ، والهند ، وأهل الصين ، وأصناف الأمم المشرقية ينكرون الطوفان ، وأقرّ به بعض الفرس ، لكنهم قالوا : لم يكن الطوفان بسوى الشام والمغرب ، ولم يعمّ العمران كله ولا غرّق إلا بعض الناس ، ولم يتجاوز عقبة حلوان ، ولا بلغ إلى ممالك المشرق ، قالوا : ووقع في زمان طمهورت ، وإنّ أهل المغرب لما أنذر حكماؤهم بالطوفان اتخذوا المباني العظيمة كالهرمين بمصر ، ونحوهما ليدخلوا فيها عند حدوثه ، ولما بلغ طمهورت الإنذار بالطوفان قبل كونه بمائة وإحدى وثلاثين سنة ، أمر باختيار مواضع في مملكته صحيحة الهواء والتربة ، فوجد ذلك بأصبهان (١) ، فأمر بتجليد العلوم ، ودفنها فيها في أسلم المواضع ، ويشهد لهذا ما وجد بعد الثلاثمائة من سني الهجرة في حيّ من مدينة أصبهان من التلال التي انشقت عن بيوت مملوءة أعد الأعدّة كثيرة قد ملئت من لحاء الشجر التي تلبس بها القسيّ(٢) ، وتسمى : التور مكتوبة بكتابة لم يدر أحد ما هي؟.

وأما المنجمون : فإنهم صححوا هذه السنين من القران الأوّل من قرانات العلويين : زحل والمشتري التي أثبت علماء أهل بابل ، والكلدانيين مثلها إذا كان الطوفان ظهوره من ناحيتهم ، فإنّ السفينة استقرّت على الجوديّ (٣) وهو غير بعيد من تلك النواحي ، قالوا : وكان هذا القران قبل الطوفان بمائتين وعشرين سنة ومائة وثمانية أيام ، واعتنوا بأمرها وصححوا ما بعدها ، فوجدوا ما بين الطوفان ، وبين أوّل ملك بخت نصر الأوّل ألفي سنة وستمائة وأربع سنين ، وبين بخت نصر هذا ، وبين الإسكندر أربعمائة وست وثلاثون سنة ، وعلى ذلك بنى أبو معشر أوساط الكواكب في زيجه ، وقال : كان الطوفان عند اجتماع الكواكب في آخر برج الحوت ، وأوّل برج الحمل ، وكان بين وقت الطوفان ، وبين تاريخ الإسكندر قدر ألفي سنة وسبعمائة وتسعين سنة مكبوسة وسبعة أشهر وستة وعشرين يوما ، وبينه وبين يوم الخميس أوّل المحرّم من السنة الأولى من سني الهجرة النبوية ألف ألف يوم وثلثمائة ألف يوم وتسعة وخمسون ألف يوم وتسعمائة يوم وثلاثة وسبعون يوما ، يكون من السنين الفارسية المصرية ثلاثة آلاف سنة ، وسبعمائة وخمسا وعشرين سنة ، وثلثمائة يوم وثمانية وأربعين يوما.

ومنهم من يرى أنّ الطوفان كان يوم الجمعة ، وعند أبي معشر أنه كان يوم الخميس ، ولما تقرّر عنده الجملة المذكورة ، وخرجت له المدّة التي تسمى : أدوار الكواكب ، وهي بزعمهم ثلثمائة ألف وستون ألف سنة شمسية ، وأوّلها متقدّم على وقت الطوفان بمائة ألف

__________________

(١) أصبهان : مدينة عظيمة مشهورة من أعلام المدن وأعيانها في بلاد فارس. معجم البلدان ج ١ / ٢٠٦.

(٢) القسي : جمع قساة وهي العصا.

(٣) الجودي : جبل مطل على جزيرة ابن عمر في الجانب الشرقي من دجلة من أعمال الموصل عليه استوت سفينة نوح عليه‌السلام بعد الطوفان. معجم البلدان ج ٢ / ١٧٩.

٢٠