كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٣

تقي الدين احمد بن علي المقريزي

كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٣

المؤلف:

تقي الدين احمد بن علي المقريزي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٩

الجيش ، وأمر بحفر خليج صغير يخرج من البحر ويمرّ إلى حائط الرصد ، وينقر في الحجر تحت الرصد عشر آبار يصبّ فيها الخليج المذكور ، ويركّب على الآبار السواقي لتنقل الماء إلى القناطر العتيقة التي تحمل الماء إلى القلعة. زيادة لمائها ، وكان فيما بين أوّل هذا المكان الذي عيّن لحفر الخليج وبين آخره تحت الرشد ، أملاك كثيرة. وعدّة بساتين ، فندب الأمير أقبغا عبد الوحد لحفر هذا الخليج وشراء الأملاك من أربابها ، فحفر الخليج وأجراه في وسط بستان الصاحب بهاء الدين بن حنا ، وقطع أنشابه وهدم الدور ، وجمع عامّة الحجارين لقطع الحجر ، ونقر الآبار ، وصار السلطان يتعاهد النزول للعمل كلّ قليل ، فعمل عمق الخليج من فم البحر أربع قصبات ، وعمق كلّ بئر في الحجر أربعين ذراعا ، فقدّر الله تعالى موت الملك الناصر قبر تمام هذا العمل ، فبطل ذلك وانطمّ الخليج بعد ذلك ، وبقيت منه إلى اليوم قطعة بجوار رباط الآثار ، وما زالت الحائط قائمة من حجر في غاية الإتقان من إحكام الصناعة. وجودة البناء عند سطح الجرف الذي يعرف اليوم بالرصد ، قائما من الأرض في طول الجرف إلى أعلاه ، حتى هدمه الأمير يلبغا السالميّ في سنة اثنتي عشرة وثمانمائة ، وأخذ ما كان به من الحجر فرمّ به القناطر التي تحمل إلى اليوم حتى يصل إلى القلعة ، وكانت تعرف بسواقي السلطان ، فلما هدمت جهل أكثر الناس أمرها ونسوا ذكرها.

المطبخ : كان أوّلا موضعه في مكان الجامع ، فأدخله السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون فيما زاده في الجامع ، وبنى هذا المطبخ الموجود الآن ، وعمل عقوده بالحجارة خوفا من الحريق ، وكانت أحوال المطبخ متسعة جدا سيما في سلطنة الأشرف خليل بن قلاون ، فإنه تبسط في المآكل وغيرها ، حتى لقد ذكر جماعة من الأعيان أنهم أقاموا مدّة سفرهم معه يرسلون كلّ يوم عشرين درهما فيشترى لهم بها مما يأخذه الغلمان ، أربع خوافق صيني مملوءة طعاما مفتخرا بالقلوبات ونحوها ، في كلّ خافقية ما ينيف على خمسة عشر رطل لحم ، أو عشرة أطيار دجار سمان ، وبلغ راتب الحوايج خاناه في أيام الملك العادل كتبغا كلّ يوم عشرين ألف رطل لحم ، وراتب البيوت والجرايات غير أرباب الرواتب في كلّ يوم سبعمائة أردب قمحا ، واعتبر القاضي شرف الدين عبد الوهاب النشو ناظر الخاص أمر المطبخ السلطانيّ في سنة تسع وثلاثين وسبعمائة ، فوجد عدّة الدجاج الذي يذبح في كلّ يوم للسماط والمخاطي التي تخص السلطان ويبعث بها إلى الأمراء سبعمائة طائر ، وبلغ مصروف الحوايج خاناه في كلّ يوم ثلاثة عشر ألف درهم ، فأكثر أولاد الناصر من مصروفها حتى توقفت أحوال الدولة في أيام الصالح إسماعيل ، وكتبت أوراق بكلف الدولة في سنة خمس وأربعين وسبعمائة ، فبلغت في السنة ثلاثين ألف ألف درهم ، ومنها مصروف الحوايج خاناه في كلّ يوم اثنان وعشرون ألف درهم. وبلغ في أيام الناصر محمد بن قلاون راتب السكّر في شهر رمضان خاصة من كل سنة ، ألف قنطار ، ثم تزايد حتى بلغ في شهر رمضان سنة خمس وأربعين وسبعمائة ثلاثة آلاف قنطار ، عنها ستمائة ألف درهم ، عنها ثلاثون ألف

٤٠١

دينار مصرية ، وكان راتب الدور السلطانية في كل يوم من أيام شهر رمضان ستين قنطارا من الحلوى برسم التفرقة للدور وغيرها ، وكانت الدولة قد توقفت أحوالها فوفر من المصروف في كلّ يوم أربعة آلاف رطل لحم ، وستمائة كماجة سميذ ، وثلاثمائة أردب من الشعير ، ومبلغ ألفي درهم في كلّ شهر وأضيف إلى ديوان الوزارة سوق الخيل والدواب والجال ، وكانت بيد عدّة أجناد عوّضوا عنها إقطاعات بالنواحي.

واعتبر في سنة ست وأربعين وسبعمائة متحصل الحاج عليّ الطباخ ، فوجد له على المعاملين في كل يوم خمسمائة درهم ، ولابنه أحمد في كلّ يوم ثلاثمائة درهم سوى الأطعمة المفتخرة وغيرها ، وسوى ما كان يتحصّل له في عمل المهمات مع كثرتها ، ولقد تحصل له من ثمن الروس والأكارع وسقط الدجاج والأوز في مهم عمله للأمير بكتمر الساقي ، ثلاثة وعشرون ألف درهم ، عنها نحو ألفين ومائتي دينار ، فأوقعت الحوطة عليه وصودر ، فوجد له خمسة وعشرون دارا على البحر وفي عدّة أماكن. واعتبر مصروف الحوائج خاناه في سنة ثمان وأربعين وسبعمائة ، فكان في كلّ يوم اثنين وعشرين ألف رطل من اللحم.

أبراج الحمام : كان بالقلعة أبراج برسم الحمام التي تحمل البطائق ، وبلغ عدّتها على ما ذكره ابن عبد الظاهر في كتاب تمائم الحمائم ، إلى آخر جمادى الآخرة سنة سبع وثمانين وستمائة ، ألف طائر وتسعمائة طائر ، وكان بها عدّة من المقدّمين ، لكلّ مقدّم منهم جزء معلوم ، وكانت الطيور المذكورة لا تبرح في الأبراج بالقلعة ، ما عدا طائفة منها فإنها في برج بالبرقية خارج القاهرة ، يعرف ببرج الفيوم ، رتبه الأمير فخر الدين عثمان بن قزل أستادار الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب ، وقيل له برج الفيوم ، فإن جيمع الفيول كانت في إقطاع ابن قزل ، وكانت البطائق ترد إليه من الفيوم ، ويبعثها من القاهرة إلى الفيوم من هذا البرج ، فاستمرّ هذا البرج يعرف بذلك. وكان بكلّ مركز حمام في سائر نواحي المملكة مصرا وشاما ، ما بين أسوان إلى الفرات ، فلا تحصى عدّة ما كان منها في الثغور والطرقات الشامية والمصرية ، وجميعها تدرج وتنقل من القلعة إلى سائر الجهات ، وكان لها بغال الحمل من الإصطبلات السلطانية ، وجاميكات البرّاجين والعلوفات تصرف من الأهراء السلطانية ، فتبلغ النفقة عليها من الأموال ما لا يحصى كثرة ، وكانت ضريبة العلف لكل مائة طائر ربع ويبة فول في كلّ يوم ، وكانت العادة أن لا تحمل البطاقة إلّا في جناح الطائر ، لأمور منها حفظ البطاقة من المطر وقوّة الجناح ، ثم إنهم عملوا البطاقة في الذنب ، وكانت العادة إذا بطق من قلعة الجبل إلى الإسكندرية فلا يسرّح الطائر إلّا من منية عقبة بالجيزة ، وهي أوّل المراكز ، وإذا سرّح إلى الشرقية لا يطلق إلّا من مسجد تبر خارج القاهرة ، وإذا سرّح إلى دمياط لا يسرّح إلّا من ناحية بيسوس ، وكان يسير مع البرّاجين من يوصلهم إلى هذه الأماكن من الجاندارية ، وكذلك كانت العادة في كلّ مملكة يتوخى الإبعاد

٤٠٢

في التسريح عن مستقر الحمّام ، والقصد بذلك أنها لا ترجع إلى أبراجها من قريب ، وكان يعمل في الطيور السلطانية علائم ، وهي داغات في أرجلها أو على مناقيرها ، ويسميها أرباب الملعوب الاصطلاح ، وكان الحمام إذا سقط بالبطاقة لا يقطع البطاقة من الحمام إلا السلطان بيده من غير واسطة ، وكانت لهم عناية شديدة بالطائر ، حتى أن السلطان إذا كان يأكل وسقط الطائر لا يمهل حتى يفرغ من الأكل ، بل يحل البطاقة ويترك الأكل ، وهكذا إذا كان نائما لا يمهل بل ينبه.

قال ابن عبد الظاهر : وهذا الذي رأينا عليه ملوكنا ، وكذلك في الموكب وفي لعب الأكرة ، لأنه بلمحة يفوت ولا يستدرك المهم العظيم ، إمّا من واصل أو هارب ، وإمّا من متجدّد في الثغور. قال : وينبغي أن تكتب البطائق في ورق الطير المعروف بذلك ، ورأيت الأوائل لا يكتبون في أولها بسملة ، وتؤرّخ بالساعة واليوم لا بالسنين ، وأنا أورخها بالسنة ، ولا يكثر في نعوت المخاطب فيها ، ولا يذكر حشو في الألفاظ ، ولا يكتب إلّا لبّ الكلام وزبدته ، ولا بدّ وأن يكتب سرّح الطائر ورفيقه ، حتى إن تأخر الواحد ترقّب حضوره ، أو تطلب ولا يعمل للبطائق هامش ولا تجمّل ، ويكتب آخرها حسبلة ، ولا تعنون إلّا إذا كانت منقولة ، مثل أن تسرّح إلى السلطان من مكان بعيد ، فيكتب لها عنوان لطيف حتى لا يفتحها أحد ، وكلّ وال تصل إليه يكتب في ظهرها أنها وصلت إليه ونقلها ، حتى تصل مختومة.

قال : ومما شاهدته وتوليت أمره ، أنّه في شهور سنة ثمان وثمانين وستمائة ، حضر من جهة نائب الصبيبة نيف وأربعون طائرا صحبة البرّاجين ، ووصل كتابه أنه درجها إلى مصر ، فأقامت مدّة لم يكن شغل تبطق فيه فقال برّاجوها : قد أزفّ الوقت عليها في القرنصة ، وجرى الحديث مع الأمير بيدار نائب السلطنة ، فتقرّر كتب بطائق على عشرة منها بوصولها لا غير ، وسرّحت يوم أربعاء جميعها ، فاتفق وقوع طائرين منها ، فأحضرت بطائقهما وحصل الاستهزاء بها ، فلما كان بعد مدّة وصل كتاب السلطان أنها وصلت إلى الصبيبة في ذلك اليوم بعينه ، وبطق بذلك في ذلك اليوم بعينه إلى دمشق ، ووصل الخبر إلى دمشق في يوم واحد ، وهذا مما أنا مصرّفه وحاضره والمشير به. قال مؤلفه رحمه‌الله : قد بطل الحمام من سائر المملكة إلّا ما ينقل من قطيا إلى بلبيس ومن بلبيس إلى قلعة الجبل ، ولا تسل بعد ذلك عن شيء. وكأني بهذا القدر وقد ذهب ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.

ذكر ملوك مصر منذ بنيت قلعة الجبل

اعلم أن الذين ولوا أرض مصر في الملة الإسلامية على ثلاثة أقسام. القسم الأول : من ولي بفسطاط مصر ، منذ فتح الله تعالى أرض مصر ، على أيدي العرب أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورضي عنهم وتابعيهم فصارت دار إسلام ، إلى أن قدم القائد أبو الحسين جوهر من بلاد إفريقية بعساكر مولاه المعز لدين الله أبي تميم معدّ وبنى القاهرة ، وهؤلاء

٤٠٣

يقال لهم امراء مصر ، ومدّتهم ثلاثمائة وسبع وثلاثون سنة وسبعة أشهر وستة عشر يوما أوّلها يوم الجمعة مستهل المحرم ، سنة عشرين من الهجرة ، وآخرها يوم الاثنين سادس عشر شعبان ، سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة. وعدّة هؤلاء الأمراء مائة واثنا عشر أميرا.

القسم الثاني : من وليّ بالقاهرة منذ بنيت إلى أن مات الإمام العاضد لدين الله أبو محمد عبد الله رحمه‌الله ، وهؤلاء يقال لهم الخلفاء الفاطميون ، ومدّتهم بمصر مائتا سنة وثماني سنين وأربعة أشهر واثنان وعشرون يوما ، أوّلها يوم الثلاثاء سابع عشر شعبان ، سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة ، وآخرها يوم الأحد عاشر المحرّم ، سنة سبع وستين وخمسمائة. وعدّة هؤلاء الخلفاء أحد عشر خليفة.

والقسم الثالث : من ملك مصر بعد موت العاضد إلى وقتنا هذا الذي نحن فيه ، ويقال لهم الملوك والسلاطين ، وهم ثلاثة أقسام : القسم الأول ملوك بني أيوب ، وهم أكراد. والقسم الثاني البحرية وأولادهم ، وهم مماليك أتراك لبني أيوب. والقسم الثالث مماليك أولاد البحرية ، وهم جراكسة ، وقد تقدّم في هذا الكتاب ذكر الأمراء والخلفاء ، وستقف إن شاء الله تعالى على ذكر من ملك من الأكراد والأتراك والجراكسة ، وتعرف أخبارهم على ما شرطنا من الاختصار ، إذ قد وضعت لبسط ذلك كتابا سميته كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك ، وجردت تراجمهم في كتاب التاريخ الكبير المقفى ، فتطلبهما تجد فيهما ما لا تحتاج بعده إلى سواهما في معناهما.

ذكر من ملك مصر من الأكراد

اعلم أن الناس قد اختلفوا في الأكراد ، فذكر العجم أنّ الأكراد فضل طعم الملك بيوراسف ، وذلك أنه كان يأمر أن يذبح له كلّ يوم إنسانان ويتخذ طعامه من لحومهما ، وكان له وزير يسمى أرماييل ، وكان يذبح واحدا ويستحيي واحدا ويبعث به إلى جبال فارس ، فتوالدوا في الجبال وكثروا.

ومن الناس من ألحقهم بإماء سليمان بن داود عليهما‌السلام ، حين سلب ملكه ووقع على نسائه المنافقات الشيطان الذي يقال له الجسد ، وعصم الله تعالى منه المؤمنات ، فعلق منه المنافقات ، فلما ردّ الله تعالى على سليمان عليه‌السلام ملكه ، ووضع هؤلاء الإماء الحوامل من الشيطان قال : أكردوهم إلى الجبال والأودية ، فربتهم أمّهاتهم وتناكحوا وتناسلوا ، فذلك بدء نسب الأكراد.

والأكراد عند الفرس من ولد كرد بن اسفندام بن منوشهر ، وقيل هم ينسبون إلى كرد بن مرد بن عمرو بن صعصعة بن معاوية بن بكر ، وقيل هم من ولد عمر ومزيقيا بن عامر ابن ماء السماء ، وقيل من بني حامد بن طارق ، من بقية أولاد حميد بن زهير بن الحارث بن

٤٠٤

أسد بن عبد العزى بن قصيّ. وهذه أقوال الفقهاء لهم ممن أراد الحظوة لديهم لما صار الملك إليهم.

وإنما هم قبيل من قبائل العجم ، وهم قبائل عديدة : كورانية بنو كوران وهذبانية وبشتوية وشاصنجانية وسرنجية وبزولية ومهرانية وزردارية وكيكانية وجاك وكرودنيلية وروادية ودسنية وهكارية وحميدية ووركجية ومروانية وجلانية وسنيكية وجوني. وتزعم المروانية أنها من بني مروان بن الحكم ، ويزعم بعض الهكارية أنها من ولد عتبة بن أبي سفيان بن حرب.

وأوّل من ملك مصر من الأكراد الأيوبية.

السلطان الملك الناصر صلاح الدين : أبو المظفر يوسف بن نجم الدين أبي الشكر أيوب بن شادي بن مروان الكرديّ ، من قبيل الروادية ، أحد بطون الهذبانية. نشأ أبوه أيوب وعمه أسد الدين شير كوه ببلد دوين من أرض أذربيجان من جهة أرّان وبلاد الكرج ، ودخلا بغداد وخدما مجاهد الدين بهروز ، شحنة (١) بغداد ، فبعث أيوب إلى قلعة تكريت وأقامه بها مستحفظا لها ، ومعه أخوه شير كوه وهو أصغر منه سنا ، فخدم أيوب الشهيد زنكي لما انهزم ، فشكر له خدمته ، واتفق بعد ذلك أنّ شير كوه قتل (٢) رجلا بتكريت فطرد هو وأخوه أيوب من قلعتها ، فمضيا إلى زنكي بالموصل فآواهما وأقطعهما إقطاعا عنده ، ثم رتب أيوب بقلعة بعلبك مستحفظا ، ثم أنعم عليه بإمرة ، واتصل شير كوه بنور الدين محمود بن زنكي في أيام أبيه وخدمه ، فلما ملك حلب بعد أبيه كان لنجم الدين أيوب عمل كثير في أخذ دمشق لنور الدين ، فتمكنا في دولته ، حتى بعث شير كوه مع الوزير شاور بن مجير السعديّ إلى مصر ، فسار صلاح الدين في خدمته من جملة أجناده ، وكان من أمر شير كوه ما كان حتى مات.

فأقيم بعده في وزارة العاضد ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب في يوم الثلاثاء خامس عشري جمادى الآخرة ، سنة أربع وستين وخمسمائة ، ولقبه بالملك الناصر ، وأنزله بدار الوزارة من القاهرة ، فاستمال قلوب الناس وأقبل على الجدّ وترك اللهو وتعاضد هو والقاضي الفاضل عبد الرحيم بن عليّ البيسانيّ رحمه‌الله على إزالة الدولة الفاطمية ، وولى صدر الدين بن درباس قضاء القضاة ، وعزل قضاة الشيعة ، وبنى بمدينة مصر مدرسة للفقهاء المالكية ، ومدرسة للفقهاء الشافعية ، وقبض على أمراء الدولة وأقام أصحابه عوضهم ، وأبطل المكوس بأسرها من أرض مصر ، ولم يزل يدأب في إزالة الدولة حتى تم له ذلك ،

__________________

(١) شحنة بغداد : أي رئيس الشرطة أو محافظ المدينة أو الأمير المشرف عليها. النجوم الزاهرة ج ٦ ص ٣.

(٢) في النجوم الزاهرة ج ٦ ص ٤ : وسببه أن نجم الدين كان يرمي بالنشاب فوقعت نشابه في مملوك بهروز فقتلته من غير قصد ، فاستحى نجم الدين من بهروز فخرج هو وأخوه إلى الموصل. وقيل غير ذلك.

٤٠٥

وخطب لخليفة بغداد المستنصر بأمر الله أبي محمد بن الحسن العباسيّ ، وكان العاضد مريضا فتوفي بعد ذلك بثلاثة أيام ، واستبدّ صلاح الدين بالسلطنة من أوّل سنة سبع وستين وخمسمائة ، واستدعى أباه نجم الدين أيوب وإخوته من بلاد الشام ، فقدموا عليه بأهاليهم.

وتأهب لغزو الفرنج وسار إلى الشوبك وهي بيد الفرنج ، فواقعهم وعاد إلى أيلة فجبى الزكوات من أهل مصر وفرّقها على أصنافها ، ورفع إلى بيت المال سهم العاملين وسهم المؤلفة وسهم المقاتلة وسهم المكاتبين ، وأنزل الغز بالقصر الغربيّ وأحاط بأموال القصر وبعث بها إلى الخليفة ببغداد ، وإلى السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بالشام ، فأتته الخلع الخليفية فلبسها ، ورتب نوب الطبلخاناه في كلّ يوم ثلاث مرّات ، ثم سار إلى الإسكندرية ، وبعث ابن أخيه تقيّ الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب على عسكر إلى برقة ، وعاد إلى القاهرة. ثم سار في سنة ثمان وخمسين إلى الكرك وهي بيد الفرنج فحصرها وعاد بغير طائل ، فبعث أخاه الملك المعظم شمس الدولة توران شاه ابن أيوب إلى بلاد النوبة ، فأخذ قلعة إبريم وعاد بغنائم وسبي كثير ، ثم سار لأخذ بلاد اليمن فملك زبيد وغيرها ، فلما مات نور الدين محمود بن زنكي توجه السلطان صلاح الدين في أوّل صفر سنة سبعين إلى الشام وملك دمشق بغير مانع ، وأبطل ما كان يؤخذ بها من المكوس كما أبطلها من ديار مصر ، وأخذ حمص وحماه ، وحاصر حلب وبها الملك الصالح مجير الدين إسماعيل بن العادل نور الدين محمود بن زنكي ، فقاتله أهلها قتالا شديدا ، فرحل عنها إلى حمص وأخذ بعلبك بغير حصار ، ثم عاد إلى حلب ، فوقع الصلح على أن يكون له ما بيده من بلاد الشام مع المعرّة وكفر طاب ، ولهم ما بأيديهم ، وعاد فأخذ بغزاس بعد حصار ، وأقام بدمشق ، وندب قراقوس التقويّ لأخذ بلاد المغرب ، فأخذ أيجلن وعاد إلى القاهرة. وكانت بين السلطان وبين الحبيين وقعة هزمهم فيها وحصرهم بحلب أياما ، وأخذ بزاعة ومنبج وعزاز ، ثم عاد إلى دمشق.

وقدم القاهرة في سادس عشرى ربيع الأوّل سنة اثنتين وسبعين بعد ما كانت لعساكره حروب كثيرة مع الفرنج ، فأمر ببناء سور يحيط بالقاهرة ومصر وقلعة الجبل ، وأقام على بنائه الأمير بهاء الدين قراقوش الأسديّ ، فشرع في بناء قلعة الجبل وعمل السور وحفر الخندق حوله ، وبدأ السلطان بعمل مدرسة بجوار قبر الإمام الشافعيّ رضي‌الله‌عنه في القرافة ، وعمل مارستانا بالقاهرة ، وتوجه إلى الإسكندرية فصام بها شهر رمضان ، وسمع الحديث على الحافظ أبي طاهر أحمد السلفيّ ، وعمر الأسطول وعاد إلى القاهرة ، وأخرج قراقوش التقويّ إلى بلاد المغرب ، وأمر بقطع ما كان يؤخذ من الحجاج ، وعوّض أمير مكة عنه في كلّ سنة ألفي دينار وألف أردب غلة ، سوى إقطاعه بصعيد مصر وباليمن ، ومبلغه ثمانية آلاف أردب.

٤٠٦

ثم سار من القاهرة في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين إلى عسقلان وهي بيد الفرنج ، وقتل وأسر وسبى وغنم ، ومضى يريدهم بالرملة فقاتل البرنس أرياط متملك الكرك قتالا شديدا ، ثم عاد إلى القاهرة ، ثم سار منها في شعبان يريد الفرنج وقد نزلوا على حماه حتى قدم دمشق وقد رحلوا عنها ، فواصل الغارات على بلاد الفرنج وعساكره تغزو بلاد المغرب ، ثم فتح بيت الأحزان من عمل صفد وأخذه من الفرنج عنوة ، وسار في سنة ست وسبعين لحرب فتح الدين فليح (١) أرسلان صاحب قونيه من بلاد الروم ، وعاد ثم توجه إلى بلاد الأرمن ، وعاد فخرّب حصن بهنسا (٢) ومضى إلى القاهرة فقدمها في ثالث عشر شعبان.

ثم خرج إلى الإسكندرية وسمع بها موطأ الإمام مالك على الفقيه أبي طاهر بن عوف ، وأنشأ بها مارستانا ودارا للمغاربة ومدرسة ، وجدّد حفر الخليج ونقل فوهته ، ثم مضى إلى دمياط وعاد إلى القاهرة ، ثم سار في خامس المحرّم سنة ثمان وسبعين على إيلة ، فأغار على بلاد الفرنج ومضى إلى الكرك ، فعاثت عساكره ببلاد طبرية وعكا ، وأخذ الشقيف من الفرنج ، ونزل السلطان بدمشق وركب إلى طبرية فواقع الفرنج ، وعاد فتوجه إلى حلب ونازلها ثم مضى إلى البيرة على الفرات ، وعدّى إلى الرها فأخذها ، وملك حرّان والرقّة ونصيبين ، وحاصر الموصل فلم ينل منها غرضا ، فنازل سنجار حتى أخذها ، ثم مضى على حرّان إلى آمد فأخذها وسار على عين تاب إلى حلب ، فملكها في ثامن عشر صفر سنة تسع وسبعين ، وعاد إلى دمشق وعبر الأران (٣) وحرّق بيسان على الفرنج وخرّب لهم عدّة حصون وعاد إلى دمشق ، ثم سار إلى الكرك فلم ينل منها غرضا ، وعاد ثم خرج في سنة ثمانين من دمشق فنازل الكرك ، ثم رحل عنها إلى نابلس فحرّقها وأكثر من الغارات حتى دخل دمشق ، ثم سار منها إلى حماه ومضى حتى بلغ حرّان ، ونزل على الموصل وحصرها ، ثم سار عنها إلى خلاط فلم يملكها ، فمضى حتى أخذ ميافارقين وعاد إلى الموصل ، ثم رحل عنها وقد مرض إلى حرّان ، فتقرّر الصلح مع المواصلة على أن خطبوا له بها وبديار بكر وجميع البلاد الأرتقية ، وضرب السكة فيها باسمه ، ثم سار إلى دمشق فقدمها في ثاني ربيع الأوّل سنة اثنتين وثمانين ، وخرج منها في أوّل سنة ثلاث وثمانين ، ونازل الكرك والشوبك وطبرية ، فملك طبرية في ثالث عشري ربيع الآخر من الفرنج ، ثم واقعهم على حطين (٤) وهم في خمسين ألفا ، فهزمهم بعد وقائع عديدة وأسر منهم عدّة ملوك ، ونازل عكا حتى تسلمها في ثاني جمادى الأولى ، وأنقذ منها أربعة آلاف أسير مسلم من الأسر ، وأخذ مجدل يافا وعدّة حصون ، منها الناصرية وقيسارية وحيفا وصفورية والشقيف والغولة والطور وسبسطية

__________________

(١) في النجوم الزاهرة : قليج ج ٦ ص ٢٥.

(٢) حصن بهنسا : بهنسا مدينة بمصر من الصعيد الأدنى غربي النيل.

(٣) وأظنها الأردن.

(٤) انظر النجوم الزاهرة ج ٦ ص ٢٧.

٤٠٧

ونابلس وتبنين وصرخد وصيدا وبيروت وجبيل ، وأنقذ من هذه البلاد زيادة على عشرين ألف أسير مسلم كانوا في أسر الفرنج ، وأسر من الفرنج مائة ألف إنسان ، ثم ملك منهم الرملة وبلد الخليل عليه‌السلام وبيت لحم من القدس ومدينة عسقلان ومدينة غزة وبيت جبريل ، ثم فتح بيت المقدس (١) في يوم الجمعة سابع عشري رجب وأخرج منه ستين ألفا من الفرنج بعد ما أسر ستة عشر ألفا ما بين ذكر وأنثى ، وقبض من مال المفاداة ثلاثمائة ألف دينار مصرية ، وأقام الجمعة بالأقصى وبنى بالقدس مدرسة للشافعية ، وقرّر على من يرد كنيسة قمامة (٢) من الفرنج قطيعة يؤديها ، ثم نازل عكا وصور ونازل في سنة أربع وثمانين حصن كوكب ، وندب العساكر إلى صفد والكرك والشوبك.

وعاد إلى دمشق فدخلها سادس ربيع الأوّل وقد غاب عنها في هذه الغزوة أربعة عشر شهرا وخمسة أيام ، ثم خرج منها بعد خمسة أيام فشنّ الغارات على الفرنج وأخذ منهم أنطرسوس (٣) وخرّب سورها وحرّقها وأخذ جبلة واللاذقية وصهيون والشغر وبكاس وبقراص ، ثم عاد إلى دمشق آخر شعبان بعد ما دخل حلب ، فملكت عساكره الكرك والشوبك والسلع في شهر رمضان ، وخرج بنفسه إلى صفد وملكها من الفرنج في رابع عشر شوّال ، وملك كوكب في نصف ذي القعدة وسار إلى القدس ، ومضى بعد النحر إلى عسقلان ونزل بعكا وعاد إلى دمشق أوّل صفر سنة خمس وثمانين ، ثم سار منها في ثالث ربيع الأوّل ونازل شقيف أرنون وحارب الفرنج حروبا كثيرة ، ومضى إلى عكا وقد نزل الفرنج عليها وحصروا من بها من المسلمين ، فنزل بمرج عكا وقاتل الفرنج من أوّل شعبان حتى انقضت السنة.

وقد خرج الألمان من قسطنطينية في زيادة ألف ألف يريد بلاد الإسلام ، فاشتدّ الأمر ودخلت سنة ست وثمانين والسلطان بالخرّوبة على حصار الفرنج ، والإمداد تصل إليه ، وقدم الألمان طرسوس يريد بيت المقدس ، فخرّب السلطان سور طبرية ويافا وأرسوف وقيسارية وصيدا وجبيل ، وقوي الفرنج بقدوم ابن الألمان إليهم تقوية لهم ، وقد مات أبوه بطرسوس وملك بعده ، فقدّر الله تعالى موته أيضا على عكا ، ودخلت سنة سبع وثمانين ، فملك الفرنج عكا في سابع عشر جمادى الآخرة وأسروا من بها من المسلمين وحاربوا السلطان وقتلوا جميع من أسروه من المسلمين وساروا إلى عسقلان فرحل السلطان في أثرهم وواقعهم بأرسوف ، فانهزم من معه وهو ثابت حتى عادوا إليه ، فقاتل الفرنج وسبقهم إلى عسقلان وخرّبها ، ثم مضى إلى الرملة وخرّب حصنها وخرّب كنيسة له ودخل القدس

__________________

(١) انظر النجوم الزاهرة ج ٦ ص ٣٢.

(٢) كنيسة القيامة.

(٣) أنظر سوس : بلد من سواحل الشام ، وهي آخر أعمال دمشق من البلاد الساحلية وأول أعمال حمص.

٤٠٨

فأقام بها إلى عاشر رجب سنة ثمان وثمانين ، ثم سار إلى يافا فأخذها بعد حروب وعاد إلى القدس وعقد الهدنة بينه وبين الفرنج مدّة ثلاث سنين وثلاثة أشهر ، أوّلها حادي عشر شعبان ، على أنّ للفرنج من يافا إلى عكا إلى صور وطرابلس وأنطاكية ، ونودي بذلك ، فكان يوما مشهودا ، وعاد السلطان إلى دمشق فدخلها خامس عشري شوّال وقد غاب عنها أربع سنين ، فمات بها في يوم الأربعاء سابع عشري صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة ، عن سبع وخمسين سنة ، منها مدّة ملكه بعد موت العاضد ، اثنتان وعشرون سنة وستة عشر يوما ، فقام من بعده بمصر ولده.

السلطان الملك العزيز عماد الدين أبو الفتح عثمان (١) : وقد كان يومئذ ينوب عنه بمصر وهو مقيم بدار الوزارة من القاهرة ، وعنده جلّ عساكر أبيه من الأسدية والسلاحية والأكراد ، فأتاه ممن كان عند أخيه الملك الأفضل عليّ ، الأمير فخر الدين جهاركس ، والأمير فارس الدين ميمون القصريّ ، والأمير شمس الدين سنقر الكبير ، وهم عظماء الدولة ، فأكرمهم. وقدم عليه القاضي الفاضل فبالغ في كرامته ، وتنكر ما بينه وبين أخيه الأفضل ، فسار من مصر لمحاربته وحصره بدمشق ، فدخل بينهما العادل أبو بكر حتى عاد العزيز إلى مصر على صلح فيه دخل ، فلم يتم ذلك ، وتوحش ما بينهما وخرج العزيز ثانيا إلى دمشق ، فدبر عليه عمه العادل حتى كاد أن يزول ملكه وعاد خائفا ، فسار إليه الأفضل والعادل حتى نزلا بلبيس ، فجرت أمور آلت إلى الصلح ، وأقام العادل مع العزيز بمصر ، وعاد الأفضل إلى مملكته بدمشق ، فقام العادل بتدبير أمور الدولة ، وخرج بالعزيز لمحاربة الأفضل فحصراه بدمشق حتى أخذاها منه بعد حروب وبعثاه إلى صرخد ، وعاد العزيز إلى مصر وأقام العادل بدمشق حتى مات العزيز في ليلة العشرين من محرّم سنة خمس وتسعين وخمسمائة ، عن سبع وعشرين سنة وأشهر ، منها مدّة سلطنته بعد أبيه ست سنين تنقص شهرا واحدا ، فأقيم بعده ابنه.

السلطان الملك المنصور ناصر الدين محمد (٢) : وعمره تسع سنين وأشهر بعهد من أبيه ، وقام بأمور الدولة بهاء الدين قراقوش الأسديّ الأتابك ، فاختلف عليه أمراء الدولة وكاتبوا الملك الأفضل عليّ بن صلاح الدين ، فقدم من صرخد في خامس ربيع الأوّل ، فاستولى على الأمور ولم يبق للمنصور معه سوى الاسم ، ثم سار به من القاهرة في ثالث رجب يريد أخذ دمشق من عمه العادل بعد ما قبض على عدّة من الأمراء ، وقد توجه العادل إلى ماردين ، فحصر الأفضل دمشق ، وقد بلغ العادل خبره فعاد وسار يريده حتى دخل دمشق ، فجرت حروب كثيرة آلت إلى عود الأفضل إلى مصر بمكيدة دبرها عليه العادل ، وخرج العادل في أثره وواقعه على بلبيس فكسره في سادس ربيع الآخر سنة ست وتسعين ،

__________________

(١) انظر النجوم الزاهرة ج ٦ ص ١٠٩.

(٢) انظر ترجمته في النجوم الزاهرة ج ٦ ص ١٣١.

٤٠٩

والتجأ إلى القاهرة وطلب الصلح ، فعوّضه العادل صرخد ودخل إلى القاهرة في يوم السبت ثامن عشره ، وأقام بأتابكية المنصور ثم خلعه في يوم الجمعة حادي عشر شوّال ، وكانت سلطنته سنة وثمانية أشهر وعشرين يوما ، واستبدّ بالسلطنة بعده عمّ أبيه.

السلطان الملك العادل سيف الدين أبو بكر محمد بن أيوب (١) : فخطب له بديار مصر وبلاد الشام وحرّان والرها وميافارقين ، وأخرج المنصور وإخوته من القاهرة إلى الرها ، واستناب ابنه الملك الكامل محمدا عنه ، وعهد إليه بعده بالسلطنة ، وحلف له الأمراء ، فسكن قلعة الجبل واستمرّ أبوه في دار الوزارة ، وفي أيامه توقفت زيادة النيل ولم يبلغ سوى ثلاثة عشر ذراعا تنقص ثلاثة أصابع ، وشرقت أراضي مصر إلّا الأقل ، وغلت او سعار وتعذر وجود الأقوات حتى أكلت الجيف ، وحتى أكل الناس بعضهم بعضا ، وتبع ذلك فناء كبير وامتدّ ذلك ثلاث سنين ، فبلغت عدّة من كفنه العادل وحده من الأموات في مدّة يسيرة نحو مائتي ألف وعشرين ألف إنسان ، فكان بلاء شنيعا ، وعقب ذلك تحرّك الفرنج على بلاد المسلمين في سنة تسع وتسعين ، فكانت معهم عدّة حروب على بلاد الشام آلت إلى أن عقد العادل معهم الهدنة ، فعاودوا الحرب في سنة ستمائة وعزموا على أخذ القدس ، وكثر عيثهم وفسادهم ، وكانت لهم وللمسلمين شؤون آلت إلى نزولهم على مدينة دمياط في رابع ربيع الأوّل سنة خمس عشرة وستمائة ، والعادل يومئذ بالشام ، فخرج الملك الكامل لمحاربتهم ، فمات العادل بمرج الصفر في يوم الخميس سابع جمادى الآخرة منها وحمل إلى دمشق ، فكانت مدّة سلطنته بديار مصر تسع عشرة سنة وشهرا واحدا وتسعة عشر يوما وقام من بعده ابنه.

السلطان الملك الكامل ناصر الدين أبو المعالي محمد (٢) : بعهد أبيه. فأقام في السلطنة عشرين سنة وخمسة وأربعين يوما ومات بدمشق يوم الأربعاء حادي عشري رجب سنة خمس وثلاثين وستمائة. وأقيم بعده ابنه.

السلطان الملك العادل سيف الدين أبو بكر : فاشتغل باللهو عن التدبير ، وخرجت عنه حلب ، واستوحش منه الأمراء لتقريبه الشباب ، وسار أخوه الملك الصالح نجم الدين أيوب من بلاد الشرق إلى دمشق وأخذها في أوّل جمادى الأولى سنة ست وثلاثين ، وجرت له أمور آخرها أنه سار إلى مصر فقبض الأمراء على العادل وخلعوه يوم الجمعة ثامن ذي القعدة سنة سبع وثلاثين وستمائة ، فكانت سلطنته سنتين وثلاثة أشهر وتسعة. وقام بعده بالسلطنة أخوه.

السلطان الملك الصالح نجم الدين أبو الفتوح أيوب (٣) : فاستولى على قلعة الجبل في

__________________

(١) انظر ترجمته في النجوم الزاهرة ج ٦ ص ١٤٤.

(٢) انظر ترجمته في النجوم الزاهرة ج ٦ ص ٢٠٠.

(٣) انظر النجوم الزاهرة ج ٦ ص ٢٨٢.

٤١٠

يوم الأحد رابع عشر ذي القعدة وجلس على سرير الملك بها ، وكان قد خطب له قبل قدومه ، فضبط الأمور وقام بأعباء المملكة أتم قيام ، وجمع الأموال التي أتلفها أخوه ، وقبض على الأمراء ونظر في عمارة أرض مصر ، وحارب عربان الصعيد ، وقدّم مماليكه وأقامهم أمراء ، وبنى قلعة الروضة وتحوّل من قلعة الجبل إليها وسكنها ، وملك مكة وبعث لغزو اليمن ، وعمر المدارس الصالحية بين القصرين من القاهرة ، وقرّر بها دروسا أربعة للشافعية والحنفية والمالكية والحنابلة ، وفي أيامه نزل الفرنج على دمياط في ثالث عشري صفر سنة سبع وأربعين وعليهم الملك روادفرنس (١) وملكوها ، وكان السلطان بدمشق ، فقدم عند ما بلغه حركة الفرنج ونزل أشموم (٢) طناح وهو مريض ، فمات بناحية المنصورة مقابل الفرنج ، في يوم الأحد رابع عشر شعبان منها ، وكانت مدّة سلطنته بعد أخيه تسع سنين وثمانية أشهر وعشرين يوما ، فقامت أمّ ولده خليل واسمها شجرة الدرّ (٣) بالأمر ، وكتمت موته واستدعت ابنه توران شاه من حصن كيفا وسلمت إليه مقاليد الأمور. فقام من بعده ابنه.

السلطان الملك المعظم غياث الدين توران شاه : وقد سار من حصن كيفا في نصف شهر رمضان فمرّ على دمشق وتسلطن بقلعتها في يوم الاثنين لليلتين بقيتا منه ، وركب إلى مصر فنزل الصالحية طرف الرمل لأربع عشرة بقيت من ذي القعدة ، فأعلن حينئذ بموت الصالح ولم يكن أحد قبل ذلك يتفوّه بموت السلطان ، بل كانت الأمور على حالها والخدمة تعمل بالدهليز والسماط يمدّ وشجرة الدرّ تدبر أمور الدولة ، وتوهم الكافة أن السلطان مريض ما لأحد عليه سبيل ، ولا وصول ، ثم سار المعظم من الصالحية إلى المنصورة ، فقدمها يوم الخميس حادي عشريه ، فأساء تدبير نفسه وتهدّد البحرية حتى خافوه ، وهم يومئذ جمرة العسكر ، فقتلوه بعد سبعين يوما في يوم الاثنين تاسع عشري المحرّم سنة ثمان وأربعين وستمائة ، وبموته انقضت دولة بني أيوب من ديار مصر بعد ما أقامت إحدى وثمانين سنة وسبعة عشر يوما ، وملك منهم ثمانية ملوك.

ذكر دولة المماليك البحرية

وهم الملوك الأتراك ، وكان ابتداء أمر هذه الطائفة ، أنّ السلطان الملك الصالح نجم

__________________

(١) في النجوم الزاهرة ج ٦ ص ٢٩٢ ريدا فرانس. وهو الملك لويس التاسع ملك فرنسا وقد جاء على رأس الحملة الصليبية السابعة.

(٢) في النجوم الزاهرة ج ٦ ص ٢٩٣ أشمون طنّاح.

(٣) هي الملكة شجرة الدر بنت عبد الله ، جارية السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب وزوجته وأم ولده خليل وكانت حظيّة عنده إلى الغاية. انظر النجوم الزاهرة ج ٦ ص ٢٣٢.

٤١١

الدين أيوب ، كان قد أقرّه أبوه السلطان الملك الكامل محمد ببلاد الشرق ، وجعل ابنه العادل أبا بكر وليّ عهده في السلطنة بمصر ، فلما مات قام من بعده العادل في السلطنة ، وتنكر ما بينه وبين ابن عمه الملك الجواد مظفر الدين يونس بن مودود بن العادل أبي بكر بن أيوب ، وهو نائب دمشق ، فاستدعى الصالح نجم الدين من بلاد الشرق ورتب ابنه المعظم ثوران شاه على بلاد الشرق ، وأقرّه بحصن كيفا ، وقدم دمشق وملكها ، فكاتبه أمراء مصر تحثه على أخذها من أخيه العادل ، وخامر عليه بعضهم ، فسار من دمشق في رمضان سنة ست وثلاثين ، فانزعج العادل انزعاجا كبيرا وكتب إلى الناصر داود صاحب الكرك ، فسار إليه ليعاونه على أخيه الصالح ، فاتفق مسير الملك الصالح إسماعيل بن العادل أبي بكر بن أيوب من حماه وأخذه دمشق للملك العادل أبي بكر بن الملك الكامل محمد ، في سابع عشري صفر سنة سبع وثلاثين ، والملك الصالح نجم الدين أيوب يومئذ على نابلس ، فانحلّ أمره وفارقه من معه حتى لم يبق معه إلّا مماليكه ، وهم نحو الثمانين ، وطائفة من خواصه نحو العشرين ، وأما الجميع فإنهم مضوا إلى دمشق وكان الناصر داود قد فارق العادل وسار من القاهرة مغاضبا له إلى الكرك ، ومضى إلى الصالح نجم الدين أيوب وقبضه بنابلس في ثاني عشر ربيع الأول منها وسجنه بالكرك ، فأقام مماليك الصالح بالكرك حتى خلص من سجنه في سابع عشري شهر رمضان منها ، فاجتمع عليه مماليكه وقد عظمت مكانتهم عنده ، وكان من أمره ما كان حتى ملك مصر ، فرعى لهم ثباتهم معه حين تفرّق عنه الأكراد ، وأكثر من شرائهم وجعلهم أمراء دولته وخاصته وبطانته والمحيطين بدهليزه ، إذا سافر وأسكنهم معه في قلعة الروضة ، وسماهم البحرية ، وكانوا دون الألف مملوك ، قيل ثمانمائة ، وقيل سبعمائة وخمسون ، كلهم أتراك. فلما مات الملك الصالح بالمنصورة أحس الفرنج بشيء من ذلك ، فركبوا من مدينة دمياط وساروا على فارسكور ، وواقعوا العسكر في يوم الثلاثاء أوّل شهر رمضان سنة سبع وأربعين ، ونزلوا بقرية شرمشاح ، ثم بالبرمون ، ونزلوا تجاه المنصورة ، فكانت الحروب بين الفريقين إلى خامس ذي القعدة ، فلم يشعر المسلمون إلّا والفرنج معهم في المعسكر ، فقتل الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ ، وانهزم الناس ، ووصل روادفرنس ملك الفرنج إلى باب قصر السلطان ، فبرزت البحرية وحملوا على الفرنج حملة منكرة حتى أزاحوهم وولوا ، فأخذتهم السيوف والدبابيس وقتل من أعيانهم ألف وخمسمائة ، فظهرت البحرية من يومئذ واشتهرت ، ثم لما قدم الملك المعظم توران شاه أخذ في تهديد شجرة الدرّ ومطالبتها بمال أبيه ، فكاتبت البحرية تذكرهم بما فعلته من ضبط المملكة حتى قدم المعظم ، وما هي فيه من الخوف منه ، فشق ذلك عليهم ، وكان قد وعد الفارس أقطاي المتوجه إليه من المنصورة لاستدعائه من حصن كيفا بإمرة ، فلم يف له ، فتنكر له وهو من أكابر البحرية ، وأعرض مع ذلك عن البحرية وأطرح جانب الأمراء وغيرهم حتى قتلوه ، وأجمعوا على أن يقيموا بعده في السلطنة سرّية أستاذهم.

٤١٢

الملكة عصمة الدين أم خليل شجرة الدر الصالحية : فأقاموها في السلطنة وحلفوا لها في عاشر صفر ، ورتبوا الأمير عز الدين أيبك التركمانيّ الصالحيّ أحد البحرية مقدّم العسكر ، وسار عز الدين أيبك الروميّ من العسكر إلى قلعة الجبل ، وأنهى ذلك إلى شجرة الدرّ ، فقامت بتدبير المملكة وعلمت على التواقيع بما مثاله والدة خليل ، ونقش على السكة اسمها ومثاله ، المستعصمة الصالحية ملكة المسلمين والدة المنصور خليل خليفة أمير المؤمنين ، وكانت البحرية قد تسلمت مدينة دمياط من الملك روادفرنس بعد ما قرّر على نفسه أربعمائة ألف دينار ، وعاد العسكر من المنصورة إلى القاهرة في تاسع صفر وحلفوا لشجرة الدرّ في ثالث عشره ، فخلعت عليهم وأنفقت فيهم الأموال ، ولم يوافق أهل الشام على سلطنتها ، وطلبوا الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن العزيز صاحب حلب فسار إليهم بدمشق وملكها ، فانزعج العسكر بالقاهرة ، وتزوّج الأمير عز الدين أيبك التركمانيّ بالملكة شجرة الدرّ ، ونزلت له عن السلطنة وكانت مدّتها ثمانين يوما. وملك بعدها.

السلطان الملك المعز عز الدين أيبك الجاشنكير التركمانيّ الصالحيّ (١) : أحد المماليك الأتراك البحرية ، وكان قد انتقل إلى الملك الصالح من أولاد ابن التركمانيّ ، فعرف بالتركمانيّ ، ورقّاه في خدمه حتى صار من جملة الأمراء ورتبة جاشنكيره (٢) ، فلما مات الصالح وقدّمته البحرية عليهم في سلطنة شجرة الدرّ ، كتب إليهم الخليفة المستعصم من بغداد يذمّهم على إقامة امرأة ، ووافق مع ذلك أخذ الناصر لدمشق ، وحركتهم لمحاربته ، فوقع الاتفاق على إقامة أيبك في السلطنة ، فأركبوه بشعار السلطنة في يوم السبت آخر شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين وستمائة ، ولقبوه بالملك المعز ، وجلس على تخت الملك بقلعة الجبل ، فورد الخبر من الغد بأخذ الملك المغيث عمر بن العادل الصغير الكرك والشوبك ، وأخذ الملك السعيد قلعة الصبيبة ، فاجتمع رأي الأمراء على إقامة الأشرف مظفر الدين موسى بن الناصر ، ويقال المسعود يوسف بن الملك المسعود يوسف ، ويقال طسز ، ويقال أيضا اقسيس بن الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب ، شريكا للمعز في السلطنة ، فأقاموه معه وعمره نحو ست سنين ، في خامس جمادى الأولى ، وصارت المراسيم تبرز عن الملكين ، إلّا أن الأمر والنهي للمعز ، وليس للأشرف سوى مجرّد الاسم ، وولى المعز الوزارة لشرف الدين أبي سعيد هبة الله بن صاعد الفائزيّ ، وهو أوّل قبطيّ وليّ وزارة مصر ، وخرج المعز بالعساكر وعربان مصر لمحاربة الناصر يوسف في

__________________

(١) انظر النجوم الزاهرة ج ٧ ص ٣.

(٢) الجاشنكير : هو الذي يتحدث بأمر السماط مع الاستادار ، ويتذوق الطعام والشراب قبل السلطان خوفا من أن يدس فيه سمّ أو نحوه. والكلمة مركبة من لفظين «جاشنا» وهي فارسية معناها الذوق والثاني «كير» ومعناها المتناول. أي الذي يتنذوق الطعام. النجوم الزاهرة ج ٧ ص ٤.

٤١٣

ثالث ذي القعدة ، وخيم بمنزلة الصالحية وترك الأشرف بقلعة الجبل ، واقتتل مع الناصر في عاشره ، فكانت النصرة له على الناصر ، وعاد في ثاني عشره ، فنزل بالناس من البحرية بلاء لا يوصف ما بين قتل ونهب وسبي ، بحيث لو ملك الفرنج بلاد مصر ما زادوا في الفساد على ما فعله البحرية ، وكان كبراؤهم ثلاثة ، الأمير فارس الدين أقطاي ، وركن الدين بيبرس البند قداريّ ، وبليان الرشيديّ ، ثم في محرّم سنة تسع وأربعين خرج المعز بالأشرف والعساكر فنزل بالصالحية وأقام بها نحو سنتين ، والرسل تتردّد بينه وبين الناصر ، وأحدث الوزير الأسعد هبة الله الفائزيّ مظالم لم تعهد بمصر قبله ، فورد الخبر في سنة خمسين بحركة التتر على بغداد ، فقطع المعز من الخطبة اسم الأشرف وانفرد بالسلطنة وقبض على الأشرف وسجنه ، وكان الأشرف موسى آخر ملوك بني أيوب بمصر ، ثم إن المعز جمع الأموال فأحدث الوزير مكوسا كثيرة سماها الحقوق السلطانية ، وعاد المعز إلى قلعة الجبل في سنة إحدى وخمسين وأوقع بعرب الصعيد وقبض على الشريف حصن الدين ثعلب بن ثعلب ، وأذلّ سائر عرب الوجهين القبليّ والبحريّ وأفناهم قتلا وأسرا وسبيا ، وزاد في القطيعة على من بقي منهم حتى ذلوا وقلوا ، ثم قتل الفارس أقطاي ، ففرّ منه معظم البحرية ، بيبرس وقلاون في عدد كثير منهم إلى الشام وغيرها ، ولم يزل إلى أن قتلته شجرة الدرّ في الحمام ليلة الأربعاء رابع عشري ربيع الأوّل سنة خمس وخمسين وستمائة ، فكانت مدّته سبع سنين تنقص ثلاثة وثلاثين يوما ، وكان ظلوما غشوما سفاكا للدماء ، أفنى عوالم كثيرة بغير ذنب وقام من بعده ابنه.

السلطان الملك المنصور نور الدين عليّ بن المعز أيبك (١) : في يوم الخميس خامس عشري ربيع الأوّل وعمره خمس عشرة سنة ، فدبر أمره نائب أبيه الأمير سيف الدين قطز ، ثم خلعه في يوم السبت رابع عشري ذي القعدة سنة سبع وخمسين وستمائة ، فكانت مدّته سنتين وثمانية أشهر وثلاثة أيام ، وقام من بعده.

السلطان الملك المظفر سيف الدين قطز (٢) : في يوم السبت ، وأخرج المنصور بن المعز منفيا هو وأمّه إلى بلاد الأشكريّ ، وقبض على عدّة من الأمراء ، وسار فأوقع بجمع هولاكو على عين جالوت وهزمهم في يوم الجمعة خامس عشري رمضان ، سنة ثمان وخمسين ، وقتل منهم وأسر كثيرا بعد ما ملكوا بغداد وقتلوا الخليفة المستعصم بالله عبد الله ، وأزالوا دولة بني العباس وخرّبوا بغداد وديار بكر وحلب ونازلوا دمشق فملكوها ، فكانت هذه الوقعة أوّل هزيمة عرفت للتتر منذ قاموا ، ودخل المظفر قطز إلى دمشق وعاد منها يريد مصر ، فقتله الأمير ركن الدين بيبرس البندقداريّ قريبا من المنزلة الصالحية في يوم السبت

__________________

(١) انظر النجوم الزاهرة ج ٧ ص ٣٧.

(٢) انظر النجوم الزاهرة ج ٧ ص ٦٧.

٤١٤

نصف ذي القعدة منها ، فكانت مدّته سنة تنقص ثلاثة عشر يوما ، وقام من بعده.

السلطان الملك الظاهر ركن الدين أبو الفتح بيبرس البند قداريّ (١) الصالحيّ (٢) : التركيّ الجنس أحد المماليك البحرية ، وجلس على تخت السلطنة بقلعة الجبل في سابع عشر ذي القعدة سنة ثمان وخمسين ، فلم يزل حتى مات بدمشق في يوم الخميس سابع عشري المحرّم ، سنة ست وسبعين وستمائة ، فكانت مدّته سبع عشرة سنة وشهرين واثني عشر يوما ، وقام من بعده ابنه.

السلطان الملك السعيد ناصر الدين أبو المعالي محمد بركة قان (٣) : وهو يومئذ بقلعة الجبل ينوب عن أبيه ، وقد عهد إليه بالسلطنة وزوّجه بابنة الأمير سيف الدين قلاون الألفيّ ، فجلس على التخت في يوم الخميس سادس عشري صفر ، سنة ست وسبعين ، إلى أن خلعه الأمراء في سابع ربيع الآخر سنة ثمان وسبعين ، وكانت مدّته سنتين وشهرين وثمانية أيام ، لم يحسن فيها تدبير ملكه ، وأوحش ما بينه وبين الأمراء. فأقيم بعده أخوه.

السلطان الملك العادل بدر الدين سلامش بن الظاهر بيبرس (٤) : وعمره سبع سنين وأشهر ، وقام بتدبيره الأمير قلاون أتابك العساكر ، ثم خلعه بعد مائة يوم وبعث به إلى الكرم ، فسجن مع أخيه بركة بها. وقام من بعده.

السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاون الألفيّ العلائيّ الصالحيّ (٥) : أحد المماليك الأتراك البحرية ، كان قبجاقي الجنس من قبيلة مرج أغلى ، فجلب صغيرا واشتراه الأمير علاء الدين آق سنقر الساقي العادليّ بألف دينار ، وصار بعد موته إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب في سنة سبع وأربعين وستمائة ، فجعله من جملة البحرية ، فتنقلت به الأحوال حتى صار أتابك العساكر في أيام العادل سلامش ، وذكر اسمه مع العادل على المنابر ، ثم جلس على التخت بقلعة الجبل في يوم الأحد العشرين من شهر رجب سنة ثمان وسبعين ، وتلقب بالملك المنصور وأبطل عدّة مكوس ، فثار عليه الأمير شمس الدين سنقر الأشقر بدمشق وتسلطن ولقب نفسه بالملك الكامل ، في يوم الجمعة رابع عشري ذي الحجة ، فبعث إليه وهزمه واستعاد دمشق ، ثم قدمت التتر إلى بلاد حلب وعاثوا بها ، فتوجه إليهم السلطان بعساكره وأوقع بهم على حمص في يوم الخميس رابع عشري رجب ، سنة

__________________

(١) البند قداري : نسبة إلى البند قدار ، وهو الذي يحمل قوس البندق خلف السلطان أو الأمير. وقد سمي بيبرس بهذا الاسم لأنه كان في أول أمره مملوكا أيدكين البند قدار ، ثم انتقل إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب وصار من مماليكه البحرية. النجوم الزاهرة ج ٧ ص ٨٦.

(٢) انظر النجوم الزاهرة ج ٧ ص ٨٦.

(٣) في النجوم الزاهرة : بركة خان : وقد سمي كذلك على اسم جده لأمه ، بركة خان بن دولة خان الخوارزمي. ج ٧ ص ٢٢٣.

(٤) انظر ترجمته في النجوم الزاهرة ج ٧ ص ٢٤٣.

(٥) انظر النجوم الزاهرة ج ٧ ص ٢٧٨.

٤١٥

ثمانين وستمائة ، وهزمهم بعد مقتلة عظيمة وعاد إلى قلعة الجبل ، وتوجه في سنة أربع وثمانين حتى نازل حصن المرقب ثمانية وثلاثين يوما وأخذه عنوة من الفرنج ، وعاد إلى القلعة ، ثم بعث العسكر فغزا بلاد النوبة في سنة سبع وثمانين وعاد بغنائم كثيرة ، ثم سار في سنة ثمان وثمانين لغزو الفرنج بطرابلس ، فنازلها أربعة وثلاثين يوما حتى فتحها عنوة في رابع ربيع الآخر وهدمها جميعها ، وأنشأ قريبا منها مدينة طرابلس الموجودة الآن ، وعاد إلى قلعة الجبل وبعث لغزو النوبة ثانيا عسكرا فقتلوا وأسروا وعادوا ، ثم خرج لغزو الفرنج بعكا ، وهو مريض ، فمات خارج القاهرة ليلة السبت سادس ذي القعدة سنة تسع وثمانين وستمائة ، فكانت مدّته إحدى عشرة سنة وشهرين وأربعة وعشرين يوما. وقام من بعده ابنه.

السلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل : في يوم الأحد سابع ذي القعدة المذكور ، وسار لفتح عكا في ثالث ربيع الأوّل سنة تسعين وستمائة ، ونصب عليها اثنين وتسعين منجنيقا وقاتل من بها من الفرنج أربعة وأربعين يوما حتى فتحها عنوة ، في يوم الجمعة سابع عشر جمادى الأولى ، وهدمها كلها بما فيها ، وحرّقها وأخذ صور وحيفا وعتليت وانطرسوس وصيدا ، وهدمها وأجلى الفرنج من الساحل فلم يبق منهم أحد ولله الحمد ، وتوجه إلى دمشق وعاد إلى مصر فدخل قلعة الجبل يوم الاثنين تاسع شعبان ، ثم خرج في ثامن ربيع الآخر سنة إحدى وتسعين وستمائة بعد ما نادى بالنفير للجهاد ، فدخل دمشق وعرض العساكر ومضى منها فمرّ على حلب ونازل قلعة الروم ، ونصب عليها عشرين منجنيقا حتى فتحها بعد ثلاثة وثلاثين يوما عنوة ، وقتل من بها من النصارى الأرمن وسبى نساءهم وأولادهم ، وسماها قلعة المسلمين ، فعرفت بذلك ، وعاد إلى مصر فدخل قلعة الجبل في يوم الأربعاء ثاني ذي القعدة ، وسار في رابع المحرّم سنة اثنتين وتسعين حتى بلغ مدينة قوص من صعيد مصر ، ونادى فيها بالتجهز لغزو اليمن ، وعاد ثم سار مخفا على الهجن في البريّة إلى الكرك ، ومضى إلى دمشق فقدمها في تاسع جمادى الآخرة ، وقصد غزو بهنسا وأخذها من الأرمن ، فقدموا إليه وسلموها من تلقاء أنفسهم وسلموا أيضا مرعش وتل حمدون ، ومضى من دمشق في ثاني رجب ، وعبر من حمص إلى سلمية (١) وهجم على الأمير مهنا بن عيسى وقبضه وإخوته وحملهم في الحديد إلى قلعة الجبل ، وعاد إلى دمشق ثم رجع إلى مصر فقدم قلعة الجبل في ثامن عشري رجب ، ثم توجه للصيد فبلغ الطرّانة ، وانفرد في نفر يسير ليصطاد ، فاقتحم عليه الأمير بيدار في عدّة معه وقتلوه في يوم السبت ثاني عشر المحرّم سنة ثلاث وتسعين وستمائة ، فكانت مدّته ثلاث سنين وشهرين وأربعة أيام ، ثم حمل ودفن بمدرسة الأشرفية (٢) وأقيم من بعده أخوه.

__________________

(١) سلمية : بليدة في ناحية البرّية من أعمال حماه بينهما مسيرة يومين.

(٢) أظنها المدرسة الشريفية. انظر المدارس من هذا الكتاب.

٤١٦

السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون (١) : وعمره سبع سنين ، وقام الأمير زين الدين كتبغا بتدبيره ، ثم خلعه بعد سنة تنقص ثلاثة أيام ، وقام من بعده.

السلطان الملك العادل زين الدين كتبغا المنصوريّ : أحد مماليك الملك المنصور قلاون ، وجلس على التخت بقلعة الجبل في يوم الأربعاء حادي عشر المحرّم ، سنة أربع وتسعين ، وتلقب بالملك العادل ، فكانت أيامه شرّ أيام لما فيها من قصور مدّ النيل وغلاء الأسعار وكثرة الوباء في الناس ، وقدوم الأويراتية (٢). فقام عليه نائبه الأمير حسام الدين لاجين وهو عائد من دمشق بمنزلة العرجاء ، في يوم الاثنين ثامن عشري المحرّم سنة ست وتسعين ، ففرّ إلى دمشق واستولى لاجين على الأمر ، فكانت مدّته سنتين وسبعة عشر يوما ، وقدم لاجين بالعسكر إلى مصر وقام في السلطنة :

السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين المنصوريّ : أحد مماليك المنصور قلاون ، وجلس على التخت بقلعة الجبل وتلقب بالملك المنصور في يوم الاثنين ثامن عشري المحرّم المذكور ، واستناب مملوكه منكوتمر فنفرت القلوب عنه حتى قتل في ليلة الجمعة حادي عشر ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين وستمائة ، فكانت مدّته سنتين وشهرين وثلاثة عشر يوما ، ودبر الأمراء بعده أمور الدولة حتى قدم من الكرك.

السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون : وأعيد إلى السلطنة مرّة ثانية في يوم الاثنين سادس جمادى الأولى ، وقام بتدبير الأمور الأميران سلار نائب السلطنة ، وبيبرس الجاشنكير أستادار ، حتى سار كأنه يريد الحج ، فمضى إلى الكرك وانخلع من السلطنة ، فكانت مدّته تسع سنين وستة أشهر وثلاثة عشر يوما ، فقام من بعده.

السلطان الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير : أحد مماليك المنصور قلاون ، في يوم السبت ثالث عشري ذي الحجة ، سنة ثمان وسبعمائة ، حتى فرّ من قلعة الجبل في يوم الثلاثاء سادس عشر رمضان ، سنة تسع وسبعمائة ، فكانت مدّته عشرة أشهر وأربعة وعشرين يوما. ثم قدم من الشام في العساكر :

السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون : وأعيد إلى السلطنة مرّة ثالثة في يوم الخميس ثاني شوّال منها ، فاستبدّ بالأمر حتى مات في ليلة الخميس حادي عشري ذي الحجة ، سنة إحدى وأربعين وسبعمائة ، وكانت مدّته الثالثة اثنتين وثلاثين سنة وشهرين وخمسة وعشرين

__________________

(١) هو السلطان الملك الناصر أبو الفتوح ناصر الدين محمد ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي النجمي الألفي. النجوم الزاهرة ج ٧ ص ٣٥.

(٢) الأويراتية : اسم جنس يطلق على عدة قبائل مغولية سكنت الجزء الأعلى من حوض نهر يينسي بأواسط آسيا وهم أصل جنس الكالمول. النجوم الزاهرة ج ٧ ص ٥١.

٤١٧

يوما ، ودفن بالقبة المنصورية على أبيه ، وأقيم بعده ابنه.

السلطان الملك المنصور سيف الدين أبو بكر : بعهد أبيه في يوم الخميس حادي عشري ذي الحجة ، وقام الأمير قوصون بتدبير الدولة ، ثم خلعه بعد تسعة وخمسين يوما ، في يوم الأحد لعشرين من صفر سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة ، وأقام بعده أخاه :

السلطان الملك الأشرف علاء الدين كجك بن الناصر محمد بن قلاون : ولم يكمل له من العمر ثمان سنين (١) فتنكرت قلوب الأمراء على قوصون وحاربوه وقبضوا عليه كما ذكر في ترجمته ، وخلعوا الأشرف في يوم الخميس أوّل شعبان ، فكانت مدّته خمسة أشهر وعشرة أيام ، وقام الأمير أيدغمش بأمر الدولة ، وبعث يستدعي من بلاد الكرم :

السلطان الملك الناصر شهاب الدين أحمد بن الناصر محمد بن قلاون : وكان مقيما بقلعة الكرك من أيام أبيه ، فقدم على البريد في عشرة من أهل الكرك ليلة الخميس ثامن عشري شهر رمضان ، وعبر الدور من قلعة الجبل بمن قدم معه ، واحتجب عن الأمراء ولم يخرج لصلاة العيد ، ولا حضر السماط على العادة إلى أن لبس شعار السلطنة ، وجلس على التخت في يوم الاثنين عاشر شوّال ، وقلوب الأمراء نافرة منه لإعراضه عنهم ، فساءت سيرته ، ثم خرج إلى الكرك في يوم الأربعاء ثاني ذي القعدة ، واستخلف الأمير آق سنقر السلاريّ نائب الغيبة. فلما وصل قبة النصر نزل عن فرسه ولبس ثياب العرب ومضى مع خواصه أهل الكرك على البريد ، وترك الأطلاب فسارت على البرّ حتى وافته بالكرك ، فردّ العسكر إلى بلد الخليل وأقام بقلعة الكرك ، وتصرّف أقبح تصرّف ، فخلعه الأمراء في يوم الأربعاء حادي عشري المخرّم ، سنة ثلاث وأربعين ، فكانت مدّته ثلاثة أشهر وثلاثة عشر يوما. وأقاموا بعده أخاه.

السلطان الملك الصالح عماد الدين إسماعيل : في يوم الخميس ثاني عشري المحرّم المذكور ، وقام الأمير أرغون زوج أمّه بتدبير المملكة مع مشاركة عدّة من الأمراء ، وسارت الأمراء والعساكر لقتال الناصر أحمد في الكرك حتى أخذ وقتل ، فلما أحضرت رأسه إلى السلطان الصالح ورآها فزع ، ولم يزل يعتاده المرض حتى مات ليلة الخميس رابع عشر ربيع الآخر سنة ست وأربعين وسبعمائة ، فكانت مدّته ثلاث سنين وشهرين وأحد عشر يوما. وقام بعده أخوه.

السلطان الملك الكامل سيف الدين شعبان : بعهد أخيه وجلس على التخت من غد ، فأوحش ما بينه وبين الأمراء حتى ركبوا عليه ، فركب لقتالهم فلم يثبت من معه وعاد إلى القلعة منهزما ، فتبعه الأمراء وخلعوه ، وذلك في يوم الاثنين مستهلّ جمادى الآخرة سنة سبع

__________________

(١) في النجوم الزاهرة : خمس سنين ج ١٠ ص ١٩.

٤١٨

وأربعين وسبعمائة ، فكانت مدّته سنة وثمانية وخمسين يوما. فأقيم بعده أخوه.

السلطان الملك المظفر زين الدين حاجي : من يومه ، فساءت سيرته وانهمك في اللعب ، فركب الأمراء عليه ، فركب إليهم وحاربهم فخانه من معه وتركوه حتى أخذ وذبح في يوم الأحد ، ثاني عشر رمضان ، سنة ثمان وأربعين وسبعمائة ، وكانت مدّته سنة وثلاثة أشهر واثني عشر يوما. وأقيم من بعده أخوه.

السلطان الملك الناصر بدر الدين أبو المعالي حسن بن محمد : في يوم الثلاثاء رابع عشرة ، وعمره إحدى عشرة سنة ، فلم يكن له من الأمر شيء ، والقائم بالأمر الأمير شيخو العمريّ ، فلما أخذ في الاستبداد بالتصرّف خلع وسجن في يوم اثنين ثامن عشري جمادى الآخرة ، سنة اثنتين وخمسين ، فكانت مدّته أربع سنين تنقص خمسة عشر يوما ، منها تحت الحجر ثلاث سنين ونيف ، ومدّة استبداده نحو من تسعة أشهر. وأقيم من بعده أخوه.

السلطان الملك الصالح صلاح الدين صالح : في يوم الاثنين المذكور ، فكثر لهوه وخرج عن الحدّ في التبذل واللعب ، فثار عليه الأميران شيخو وطاز وقبضا عليه وسجناه بالقلعة ، في يوم الاثنين ثاني شوّال ، سنة خمس وخمسين وسبعمائة ، فكانت مدّته ثلاث سنين وثلاثة أشهر وثلاثة أيام.

وأعيد السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاون : في يوم الاثنين المذكور ، فأقام حتى قام عليه مملوكه الأمير يلبغا الخاصكيّ وقتله في ليلة الأربعاء ، تاسع جمادى الأولى سنة اثنتين وستين ، فكانت مدّته هذه ست سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام.

وأقيم من بعده ابن أخيه السلطان الملك المنصور صلاح الدين محمد بن المظفر حاجي بن محمد بن قلاون : وعمره أربع عشرة سنة ، في يوم الأربعاء المذكور ، وقام بالأمر الأمير يلبغا ، ثم خلعه وسجنه بالقلعة في يوم الاثنين رابع عشر شعبان ، سنة أربع وستين وسبعمائة.

وأقام بعده السلطان الملك الأشرف زين الدين أبا المعالي شعبان بن حسين بن الناصر محمد بن المنصور قلاون : وعمره عشر سنين ، في يوم الثلاثاء خامس عشر شعبان المذكور ، ولم يل من بني قلاون من أبوه لم يتسلطن سواه ، فأقام تحت حجر يلبغا حتى قتل يلبغا في ليلة الأربعاء عاشر ربيع الآخر ، سنة ثمان وستين وسبعمائة ، فأخذ يستبدّ بملكه حتى انفرد بتدبيره ، إلى أن قتل في يوم الثلاثاء سادس ذي القعدة ، سنة ثمان وسبعين وسبعمائة ، بعد ما أقيم بدله ابنه في السلطنة ، فكانت مدّته أربع عشرة سنة وشهرين وخمسة عشر يوما.

فقام بالأمر ابنه السلطان الملك المنصور علاء الدين عليّ بن شعبان بن حسين : وعمره

٤١٩

سبع سنين ، في يوم السبت ثالث ذي القعدة المذكور ، وأبوه حيّ ، فلم يكن حظه من السلطنة سوى الاسم حتى مات في يوم الأحد ، ثالث عشري صفر سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة ، فكانت مدّته خمس سنين وثلاثة أشهر وعشرين يوما.

فأقيم بعده أخوه السلطان الملك الصالح زين الدين حاجي : في يوم الاثنين رابع عشري صفر المذكور ، فقام بأمر الملك وتدبير الأمور الأمير الكبير برقوق ، حتى خلعه في يوم الأربعاء تاسع شهر رمضان سنة أربع وثمانين وسبعمائة ، فكانت مدّته سنة وشهرين ينقصان أربعة أيام ، وبه انقضت دولة المماليك البحرية الأتراك وأولادهم ، ومدّتهم مائة وست وثلاثون سنة وسبعة أشهر وتسعة أيام ، أوّلها يوم الخميس عاشر صفر سنة ثمان وأربعين وستمائة ، وآخرها يوم الثلاثاء ثامن عشر شهر رمضان سنة أربع وثمانين وسبعمائة ، وعدّتهم أربعة وعشرون ذكرا ، ما بين رجل وصبيّ ، وامرأة واحدة ، وأوّلهم امرأة وآخرهم صبيّ ولما أقيم الناصر حسن بعد أخيه المظفر حاجي طلب المماليك الجراكسة الذين قرّبهم المظفر بسفارة الأمير أغرلو ، فإنه كان يدّعي أنه كان جركسيّ الجنس ، وجلبهم من أماكن حتى ظهروا في الدولة وكبرت عمائمهم وكلوتاتهم ، فأخرجوا منفيين أنحس خروج ، فقدموا على البلاد الشامية والله تعالى أعلم.

ذكر دولة المماليك الجراكسة

وهم واللاض والروس أهل مدائن عامرة ، وجبال ذات أشجار ، ولهم أغنام وزروع ، وكلهم في مملكة صاحب مدينة سراي قاعدة خوارزم ، وملوك هذه الطوائف لملك سراي كالرعية ، فإن داروه وهادوه كفّ عنهم ، وإلّا غزاهم وحصرهم ، وكم مرجة قتلت عساكره منهم خلائق ، وسبت نساءهم وأولادهم ، وجلبتهم رقيقا إلى الأقطار ، فأكثر المنصور قلاون من شرائهم ، وجعلهم وطائفة اللاض جميعا في أبراج القلعة ، وسماهم البرجية ، فبلغت عدّتهم ثلاثة آلاف وسبعمائة ، وعمل منهم أوشاقية (١) وجمقدارية وجاشنكيرية وسلاحدارية ، وأوّلهم :

السلطان الملك الظاهر أبو سعيد برقوق بن آنص : أخذ من بلاد الجركس وبيع ببلاد القرم ، فجلبه خواجا فخر الدين عثمان بن مسافر إلى القاهرة ، فاشتراه منه الأمير الكبير يلبغا الخاصكيّ وأعتقه وجعله من جملة مماليكه الأجلاب ، فيعرف ببرقوق العثمانيّ. فلما قتل يلبغا أخرج الملك الأشرف الأجلاب من مصر ، فسار منهم برقوق إلى الكرك ، فأقام في عدّة منهم مسجونا بها عدّة سنين ، ثم أفرج عنه وعمن كان معه ، فمضوا إلى دمشق وخدموا عند الأمير منجك نائب الشام حتى طلب الأشرف اليلبغاوية ، فقدم برقوق في جملتهم واستقرّ في

__________________

(١) الأوشاقية : الذين يتولون أمر الخيل في التسيير والرياض. النجوم الزاهرة ج ١١ ص ١٩٦.

٤٢٠