كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٣

تقي الدين احمد بن علي المقريزي

كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٣

المؤلف:

تقي الدين احمد بن علي المقريزي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٩

بتجهيز أمير الشواني ، فنزل إلى الصناعة واستدعى الرئيس وهيأ جميع ما تحتاج إليه الشواني حتى كملت عدّتها ، نحو ستين شونة ، وشحنها بالعدد وآلات الحرب ، ورتب بها عدّة من المماليك السلطانية ، وألبسهم السلاح ، فأقبل الناس لمشاهدتهم من كلّ أوب قبل ركوب السلطان بثلاثة أيام ، وصنعوا لهم قصورا من خشب وأخصاص القش على شاطىء النيل خارج مدينة مصر وبالروضة ، واكتروا الساحات التي قدّام الدور والزرابي بالمائتي درهم ، كلّ زريبة ما دونها ، بحيث لم يبق بيت بالقاهرة ومصر إلا وخرج أهله أو بعضهم لرؤية ذلك ، فصار جمعا عظيما ، وركب السلطان من قلعة الجبل بكرة ، والناس قد ملأ وأما بين المقياس إلى بستان الخشاب إلى بلاق ، وونف السلطان ونائبه الأمير بيدر وبقية الأمراء قدّام دار النحاس ، ومنع الحجاب من التعرّض لطرد العامّة ، فبرزت الشواني واحدة بعد واحدة ، وقد عمل في كل شونة برج وقلعة تحاصر ، والقتال عليها ملح ، والنفط يرمى عليها ، وعدّة من النقابين في أعمال الحيلة ، في النقب ، وما منهم إلّا من أظهر في شونته عملا معجبا وصناعة غريبة يفوق بها على صاحبه ، وتقدّم ابن موسى الراعي وهو في مركب نيلية فقرأ قوله تعالى : (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [هود / ٤١] ثم تلاها بقراءة قوله تعالى : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) [آل عمران / ٢٦] إلى آخر الآية ، هذا والشواني تتواصل بمحاربة بعضها بعضا إلى أن أذن لصلاة الظهر ، فمضى السلطان بعسكره عائد إلى القلعة ، فأقام الناس بقية يومهم وتلك الليلة على ما هم عليه من اللهو في اجتماعهم ، وكان شيئا يجلّ وصفه ، وأنفق فيه مال لا يعدّ ، بحيث بلغت أجرة المركب في هذا اليوم ستمائة درهم فما دونها ، وكان الرجل الواحد يؤخذ منه أجرة ركوبه في المركب خمسة دراهم ، وحصل لعدّة من النواتية أجرة مراكبهم عن سنة في هذا اليوم ، وكان الخبز يباع اثنا عشر رطلا بدرهم ، فلكثرة اجتماع الناس بمصر بيع سبعة أرطال بدرهم ، فبلغ خبر الشواني إلى بلاد الفرنج فبعثوا رسلهم بالهدايا يطلبون الصلح.

فلما كان المحرّم سنة اثنتين وسبعمائة في سلطنة الناصر محمد بن قلاون ، جهزت الشواني بالعدد والسلاح والنفطية والأزودة ، وعين لها جماعة من أجناد الحلقة ، وألزم كلّ أمير بإرسال رجلين من عدّته ، وألزم أمراء الطبلخاناه والعشروات بإخراج كلّ أمير من عدّته رجلا ، وندب الأمير سيف الدين كهرداش المنصوريّ الزراق إلى السفر بهم ومعه جماعة من مماليك السلطان الزراقين ، وزينت الشواني أحسن زينة ، فخرج معظم الناس لرؤيتها وأقاموا يومين بلياليهما على الساحل بالبرّين ، وكان جمعا عظيما إلى الغاية ، وبلغت أجرة المركب الصغير مائة درهم لأجل الفرجة ، ثم ركب السلطان بكرة يوم السبت ثاني عشر المحرّم ومعه الأمير سلار النائب ، والأمير بيبرس الجاشنكير ، وسائر الأمراء ، والعسكر ، فوقفت المماليك

٣٤١

على البرّ نحو بستان الخشاب ، وعدّى الأمراء في الحراريق إلى الروضة ، وخرجت الشواني واحدة بعد واحدة ، فلعبت منها ثلاثة وخرجت الرابعة وفيها الأمير أقوش القاري من مينا الصناعة حتى توسط البحر ، فلعب بها الريح إلى أن مالت وانقلبت ، فصار أعلاها أسفلها فتداركها الناس ورفعوا ما قدروا عليه من العدد والسلاح ، وسلمت الرجال فلم يعدم منهم سوى أقوش وحده ، فتنكد الناس وعاد الأمراء إلى القلعة بالسلطان ، وجهز شونة عوضا عن التي غرقت وساروا إلى مينا طرابلس ، ثم ساروا ومعهم عدّة من طرابلس فأشرقوا من الغد على جزيرة أرواد من أعمال قبرس ، وقاتلوا أهلها وقتلوا أكثرهم وملكوها في يوم الجمعة ثامن عشري صفر ، واستولوا على ما فيها وهدموا أسوارها وعادوا إلى طرابلس ، وأخرجوا من الغنائم الخمس للسلطان ، واقتسموا ما بقي منها ، وكان معهم مائتان وثمانون أسيرا ، فسرّ السلطان بذلك سرورا كثيرا.

صناعة المقس : قال ابن أبي طيّ في تاريخه عند ذكر وفاة المعز لدين الله ، أنه أنشأ دار الصناعة التي بالمقس ، وأنشأ بها ستمائة مركب لم ير مثلها في البحر على ميناء. وقال المسبحي : أن العزيز بالله بن المعز هو الذي بنى دار الصناعة التي بالمقس ، وعمل المراكب التي لم ير مثلها فيما تقدم كبرا ووثاقة وحسنا. وقال في حوادث سنة ست وثمانين وثلاثمائة : ووقعت نار في الأسطول وقت صلاة الجمعة ، لست بقين من شهر ربيع الآخر ، فأحرقت خمس عشاريات وأتت على جميع ما في الأسطول من العدّة والسلاح واتهموا الروم النصارى ، وكانوا مقيمين بدار ماتك بجوار الصناعة التي بالمقس ، وحملوا على الروم هم وجموع من العامّة معهم ، فنهبوا أمتعة الروم وقتلوا منهم مائة رجل وسبعة رجال ، وطرحوا جثثهم في الطرقات ، وأخذ من بقي فحبس بصناعة المقس ، ثم حضر عيسى بن نسطورس خليفة أمير المؤمنين العزيز بالله في الأموال ووجوهها بديار مصر والشام والحجاز ، ومعه يانس الصقلبيّ ، وهو يومئذ خليفة العزيز بالله على القاهرة عند مسيره إلى الشام ، ومعهما مسعود الصقلبيّ متولي الشرطة ، وأحضروا الروم من الصناعة فاعترفوا بأنهم الذين أحرقوا الأسطول ، فكتب بذلك إلى العزيز بالله وهو مبرّز يريد السفر إلى الشام ، وذكر له في الكتاب خبر من قتل من الروم وما نهب ، وأنه ذهب في النهب ما يبلغ تسعين ألف دينار ، فطاف أصحاب الشرط في الأسواق بسجل فيه الأمر برد ما نهب من دار ماتك وغيرها ، والتوعد لمن ظهر عنده منه شيء ، وحفظ أبو الحسن يانس البلد وضبط الناس ، وأمر عيسى بن نسطورس أن يمدّ للوقت عشرون مركبا ، وطرح الخشب وطلب الصناع وبات في الصناعة ، وجدّ الصناع في العمل ، وأغلب أحداث الناس وعامّتهم يلعبون برءوس القتلى ويجرّون بأرجلهم في الأسواق والشوارع ، ثم قرنوا بعضهم إلى بعض على ساحل النيل بالمقس وأحرقوا يوم السبت ، وضرب بالحرس على البلد ، أن لا يتخلف أحد ممن نهب شيئا حتى يحضر ما نهبه ويردّه ، ومن علم عليه بشيء أو كتم شيئا أو جحده أو أخره ، حلت به العقوبة

٣٤٢

الشديدة ، وتتبع من نهب فقبض على عدّة قتل منهم عشرون رجلا ضربت أعناقهم ، وضرب ثلاثة وعشرون رجلا بالسياط ، وطيف بهم وفي عنق كلّ واحد رأس رجل ممن قتل من الروم ، وحبس عدّة أناس ، وأمر بمن ضربت أعناقهم فصلبوا عند كوم دينار ، وردّ المصريون إلى المطبق ، وكان ضرب من ضرب من النهابة وقتل من قتل منهم برقاع كتبت لهم ، تناول كلّ واحد منهم رقعة فيها مكتوب إما بقتل أو ضرب ، فأمضى فيهم بحسب ما كان في رقاعهم من قتل أو ضرب ، واشتدّ الطلب على النهاية فكان الناس يدل بعضهم على بعض ، فإذا أخذ أحد ممن اتهم بالنهب حلف بالأيمان المغلظة أنه ما بقى عنده شيء.

وجدّ عيسى بن نسطورس في عمل الأسطول وطلب الخشب ، فلم يدع عند أحد خشبا علم به إلّا أخذه منه ، وتزايد إخراج النهابة لما نهبوه ، فكانوا يطرحونه في الأزقة والشوارع خوفا من أن يعرفوا به ، وحبس كثير ممن أحضر شيئا أو عرف عليه من النهب ، فلما كان يوم الخميس ثامن جمادى الأولى ضربت أعناقهم كلهم على يد أبي أحمد جعفر صاحب يانس ، فإنه قدم في عسكر كثير من اليانسية حتى ضربت أعناق الجماعة ، وأغلقت الأسواق يومئذ وطاف متولى الشرطة وبين يديه أرباب النفط بعددهم والنار مشتعلة ، واليانسية ركاب بالسلاح ، وقد ضرب جماعة وشهرهم بين يديه وهم ينادي عليهم هذا جزاء من أثار الفتن ونهب حريم أمير المؤمنين ، فمن نظر فليعتبر فما تقال لهم عثرة ولا ترحم لهم عبرة في كلام كثير من هذا الجنس ، فاشتدّ خوف الناس وعظم فزعهم ، فلما كان من الغد نودي : معاشر الناس قد آمن الله من أخذ شيئا أو نهب شيئا على نفسه وما له ، فليردّ من بقي عنده شيء من النهب ، وقد أجلناكم من اليوم إلى مثله ، وفي سابع جمادى الآخرة نزل ابن نسطورس إلى الصناعة وطرح مركبين في غاية الكبر من التي استعملها بعد حريق الأسطول ، وفي غرّة شعبان نزل أيضا وطرح بين يديه أربعة مراكب كبارا من المنشأة بعد الحريق ، واتفق موت العزيز بالله وهو سائر إلى الشام في مدينة بلبيس.

فلما قام من بعده ابنه الحاكم بأمر الله في الخلافة أمر في خامس شوال بحط الذين صلبهم ابن نسطورس ، فتسلمهم أهلهم وأعطى لأهل كلّ مصلوب عشرة دنانير برسم كفنه ودفنه ، وخلع على عيسى بن نسطورس وأقرّه في ديوان الخاص ، ثم قبض عليه في ليلة الأربعاء سابع المحرّم سنة سبع وثمانين وثلاثمائة واعتقله إلى ليلة الاثنين سابع عشريه ، فأخرجه الأستاذ برجوان وهو يومئذ يتولى تدبير الدولة إلى المقس ، وضرب عنقه ، فقال وهو ماض إلى المقس : كلّ شيء قد كنت أحسبه إلّا موت العزيز بالله ، ولكن الله لا يظلم أحدا ، والله إني لأذكر وقد ألقيت السهام للقوم المأخوذين في نهب دار ماتك ، وفي بعضها مكتوب يقتل وفي أخرى يضرب ، فأخذ شاب ممن قبض عليه رقعة منها منها فجاء فيها يقتل ، فأمرت به إلى القتل ، فصاحت أمّه ولطمت وجهها وحلفت أنها وهو ما كانا ليلة النهب في شيء من أعمال مصر ، وإنما ورد أمصر بعد النهب بثلاثة أيام ، وناشدتني الله تعالى

٣٤٣

أن أجعله من جملة من يضرب بالسوط ، وأن يعفى من القتل ، فلم ألتفت إليها وأمرت بضرب عنقه ، فقالت أمّه : إن كنت لا بدّ قاتله فاجعله آخر من يقتل لأتمتع به ساعة ، فأمرت به فجعل أوّل من ضرب عنقه ، فلطخت بدمه وجمهها وسبقتني وهي منبوشة الشعر ذاهلة العقل إلى القصر ، فلما وافيت قالت لي أقتلته؟ كذلك. يقتلك الله ، فأمرت بها فضربت حتى سقطت إلى الأرض ، ثم كان من الأمر ما ترون مما أنا صائر إليه ، وكان خبره عبرة لمن اعتبر ، وفي نصف شعبان سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة ركب الحاكم بأمر الله إلى صناعة المقس لتطرح المراكب بين يديه.

صناعة الجزيرة : هذه الصناعة كانت بجزيرة مصر التي تعرف اليوم بالروضة ، وهي أوّل صناعة عملت بفسطاط مصر ، بنيت في سنة أربع وخمسين من الهجرة ، وكان قبل بنائها هناك خمسمائة فاعل تكون مقيمة أبدا معدّة لحريق يكون في البلاد أو هدم ، ثم اعتنى الأمير أبو العباس أحمد بن طولون بإنشاء المراكب الحربية في هذه الصناعة وأطافها بالجزيرة ، ولم تزل هذه الصناعة إلى أيام الملك الأمير أبي بكر محمد بن طفج الإخشيد ، فأنشأ صناعة بساحل فسطاط مصر ، وجعل موضع هذه الصناعة البستان المختار كما قد ذكر في موضعه من هذا الكتاب ،

صناعة مصر : هذه الصناعة كانت بساحل مصر القديم ، يعرف موضعها بدار خديجة بنت الفتح بن خاقان ، امرأة الأمير أحمد بن طولون ، إلى أن قدم الأمير أبو بكر محمد بن طفج الإخشيد أميرا على مصر من قبل الخليفة الراضي ، عوضا عن أحمد بن كيغلغ في سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة ، وقد كثرت الفتن ، فلم يدخل عيسى بن أحمد السلميّ أبو مالك كبير المغاربة في طاعته ، ومضى ومعه بحكم وعليّ بن بدر ونظيف النوشريّ وعليّ المغربيّ إلى الفيوم ، فبعث إليهم الإخشيد صاعدين الكلكم بمراكبه ، فقاتلوه وقتلوه وأخذوا مراكبه ، وركب فيها عليّ بن بدر وبحكم وقدموا مدينة مصر أوّل يوم من ذي القعدة ، فأرسوا بجزيرة الصناعة ، وركب الإخشيد في جيشه ووقف حيالهم ، والنيل بينهم وبينه ، فكره ذلك وقال : صناعة يحول بينها وبين صاحبها الماء ليست بشيء ، فأقام بحكم وعليّ بن بدر إلى آخر النهار ومضوا إلى جهة الإسكندرية وعاد الإخشيد إلى داره فأخذ في تحويل الصناعة من موضعها بالجزيرة إلى دار خديجة بنت الفتح ، في شعبان سة خمس وعشرين وثلاثمائة وكان إذ ذاك عندها سلّم ينزل منه إلى الماء ، وعند ما ابتدأ في إنشاء المراكب بها صاحت به امرأة فأمر بأخذها إليه ، فسألته أن يبعث معها من يحمل المال ، فسيّر معها طائفة ، فأتت بهم إلى دار خديجة هذه ودلتهم على موضع منها فأخرجوا منه عينا وورقا وحليا وغيره ، وطلبت المرأة فلم توجد ولا عرف لها خبر ، وكانت مراكب الأسطول مع ذلك تنشأ في الجزيرة وفي صناعتها إلى أيام الخليفة الآمر بأحكام الله تعالى ، فلما ولي المأمون بن البطائحيّ أنكر ذلك وأمر أن يكون إنشاء الشواني والمراكب النيلية الديوانية بصناعة مصر هذه ، وأضاف إليها دار

٣٤٤

الزبيب ، وأنشأ بها منظرة لجلوس الخليفة يوم تقدمة الأسطول ورميه ، فأقرّ إنشاء الحربيات والشلنديات بصناعة الجزيرة ، وكان لهذه الصناعة دهليز ماد بمساطب مفروشة بالحصر العبدانية بسطا وتازيرا ، وفيها محل ديوان الجهاد ، وكان يعرف في الدولة الفاطمية أن لا يدخل من باب هذه الصناعة أحد راكبا إلّا الخليفة والوزير إذا ركبا في يوم فتح الخليج عند وفاء النيل ، فإن الخليفة كان يدخل من بابها ويشقّها راكبا والوزير معه حتى يركب النيل إلى المقياس ، كما قد ذكر في موضعه من ذا الكتاب ، ولم تزل هذه الصناعة عامرة إلى ما قبل سنة سبعمائة ، ثم صارت بستانا عرف ببستان ابن كيسان ، ثم عرف في زمننا ببستان الطواشيّ ، وكان فيما بين هذه الصناعة والروضة بحر ، ثم تربى جرف عرف موضعه بالجرف ، وأنشئ هناك بستان عرف ببستان الجرف ، وصار في جملة أوقاف خانقاه المواصلة ، وقيل لهذا الجرف بين الزقاقين ، وكان فيه عدّة دور وحمّام وطواحين وغير ذلك ، ثم خرّب من بعد سنة ست وثمانمائة ، وخرب بستان الجرف أيضا ، وإلى اليوم بستان الطواشي فيه بقية ، وهو على يسرة من يريد مصر من طريق المراغة ، وبظاهره حوض ماء ترده الدواب ، ومن وراء البستان كيمان فيها كنيسة للنصارى. قال ابن المتوّج : وكان مكان بستان ابن كيسان صناعة العمارة ، وأدركت فيه بابها ، وبستان الجرف المقابل لبستان ابن كيسان كان مكانه بحر النيل ، وإن الجرف تربى به.

ذكر الميادين

ميدان ابن طولون : كان قد بناه وتأنق فيه تأنقا زائدا ، وعمل فيه المناخ وبركة الزئبق والقبة الذهبية ، وقد ذكر خبر هذا الميدان عند ذكر القطائع من هذا الكتاب.

ميدان الإخشيد : هذا الميدان أنشأه الأمير أبو بكر محمد بن طفج الإخشيد أمير مصر ، بجوار بستانه الذي يعرف اليوم في القاهرة بالكافوريّ ، ويشبه أن يكون موضع هذا الميدان اليوم حيث المكان المعروف بالبندقانيين وحامة الوزيرية ، وما جاور ذلك. وكان لهذا البستان بابان من حديد قلعهما القائد جوهر عند ما قدم القرمطيّ إلى مصر يريد أخذها ، وجعلهما على باب الخندق الذي حفره بظاهر القاهرة قريبا من مدينة عين شمس ، وذلك في سنة ستين وثلاثمائة وكان هذا الميدان من أعظم أماكن مصر ، وكانت فيه الخيول السلطانية في الدولة الإخشيدية.

ميدان القصر : هذا الميدان موضعه الآن في القاهرة ، يعرف بالخرنشف ، عمل عند بناء القاهرة بجوار البستان الكافوريّ ، ولم يزل ميدانا للخلفاء الفاطميين ، يدخل إليه من باب التبانين الذي موضعه الآن يعرف بقبو الخرنشف ، فلما زالت الدولة الفاطمية تعطل وبقي إلى أن بنى به الغز اصطبلات بالخرنشف ، ثم حكر وبني فيه ، فصار من أخطاط القاهرة.

ميدان قراقوش : هذا الميدان خارج باب الفتوح.

٣٤٥

ميدان الملك العزيز : هذا الميدان كان بجوار خليج الدكر ، وكان موضعه بستانا. قال القاضي الفاضل في متجددات ثالث عشري شهر رمضان ، سنة أربع وتسعين وخمسمائة : خرج أمر الملك العزيز عثمان بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ، بقطع النخل المثمر المستغل تحت اللؤلؤة بالبستان المعروف بالبغدادية ، وهذا البستان كان من بساتين القاهرة الموصوفة ، وكان منظره من المناظر المستحسنة ، وكان له مستغل ، وكان قد عنى الأوّلون به لمجاورته اللؤلؤة ، وأطلال جميع مناظرها عليه ، وجعل هذا البستان ميدانا وحرث أرضه وقطع ما فيه من الأصول. انتهى.

ثم حكر الناس أرض هذا البستان وبنوا عليها ، وهو الآن داثر فيه كيمان وأتربة انتهى.

الميدان الصالحيّ : هذا الميدان كان بأراضي اللوق من برّ الخليج الغربيّ ، وموضعه الآن من جامع المطباخ بباب اللوق إلى قنطرة قدادار التي على الخليج الناصريّ ، ومن جملته الطريق المملوكة الآن من باب اللوق إلى القنطرة المذكورة ، وكان أوّلا بستانا يعرف ببستان الشريف ابن ثعلب ، فاشتراه السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب ، بثلاثة آلاف دينار مصرية ، من الأمير حصن الدين ثعلب بن الأمير فخر الدين إسماعيل بن ثعلب الجعفريّ ، في شهر رجب سنة ثلاث وأربعين وستمائة ، وجعله ميدانا وأنشأ فيه مناظر جليلة تشرف على النيل الأعظم ، وصار يركب إليه ويلعب فيه بالكرة ، وكان عمل هذا الميدان سببا لبناء القنطرة التي يقال لها اليوم قنطرة الخرق على الخليج الكبير لجوازه عليها ، وكان قبل بنائها موضعها موردة سقائي القاهرة ، وما برح هذا الميدان تلعب فيه الملوك بالكرة من بعد الملك الصالح إلى أن انحسر ماء النيل من تجاهه ، وبعد عنه ، فأنشأ الملك الظاهر ميدانا على النيل.

وفي سلطنة الملك المعز عز الدين أيبك التركمانيّ الصالحيّ النجميّ ، قال له منجمه أنّ امرأة تكون سببا في قتله ، فأمر أن تخرب الدور والحوانيت التي من قلعة الجبل بالتبانة إلى باب زويلة ، وإلى باب الخرق وإلى باب اللوق إلى الميدان الصالحيّ ، وأمر أن لا يترك باب مفتوح بالأماكن التي يمرّ عليها يوم ركوبه إلى الميدان ، ولا تفتح أيضا طاقة ، وما زال باب هذا الميدان باقيا وعليه طوارق مدهونة إلى ما بعد سنة أربعين وسبعمائة ، فأدخله صلاح الدين بن المغربيّ في قيسارية الغزل التي أنشأ هناك ، ولأجل هذا الباب قيل لذلك الخط باب اللوق ، ولما خرب هذا الميدان حكر وبني موضعه ما هنالك من المساكن ، ومن جملته حكر مرادي ، وهو على يمنة من سلك من جامع الطباخ إلى قنطرة قدادار ، وهو في أوقاف خانقاه قوصون وجامع قوصون بالقرافة ، وهذا الحكر اليوم قد صار كيمانا بعد كثرة العمارة به.

٣٤٦

الميدان الظاهريّ : هذا الميدان كان بطرف أراضي اللوق يشرف على النيل الأعظم ، وموضعه الآن تجاه قنطرة قدادار من جهة باب اللوق ، أنشأه الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ الصالحيّ ، لما انحسر ماء النيل وبعد عن ميدان أستاذه الملك الصالح نجم الدين أيوب ، وما زال يلعب فيه بالكرة هو ومن بعده من ملوك مصر ، إلى أن كانت سنة أربع عشرة وسبعمائة ، فنزل السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون إليه وخرّب مناظره وعمله بستانا من أجل بعد البحر عنه ، وأرسل إلى دمشق فحمل إليه منها سائر أصناف الشجر ، وأحضر معها خولة الشام والمطعمين ، فغرسوها فيه وطعموها ، وما زال بستانا عظيما ، ومنه تعلم الناس بمصر تطعيم الأشجار في بساتين جزيرة الفيل ، وجعل السلطان فواكه هذا البستان مع فواكه البستان الذي أنشأه بسرياقوس تحمل بأسرها إلى الشراب خاناه السلطانية بقلعة الجبل ، ولا يباع منا شيء البتة ، وتصرف كلفهما من الأموال الديوانية ، فجادت فواكه هذين البستانين وكثرت حتى حاكت بحسنها فواكه الشام لشدجة العناية والخدمة بهما ، ثم إنّ السلطان لما اختص بالأمير قوصون أنعم بهذا البستان عليه ، فعمر تجاهه الزريبة التي عرفت بزريبة قوصون على النيل ، وبنى الناس الدور الكثيرة هناك سميا لما حفر الخليج الناصري ، فإن العمارة عظمت فيما بين هذا البستان والبحر وفيما بينه وبين القاهرة ومصر ، ثم إنّ هذا البستان خرب لتلاشي أحواله بعد قوصون ، وحكرت أرضه وبنى الناس فوقها الدور التي على يسرة من صعد القنطرة من جهة باب اللوق يريد الزريبة ، ثم لما خرب خط الزريبة خرب ما عمر بأرض هذا البستان من الدور ، منذ سنة ست وثمانمائة والله تعالى أعلم.

ميدان بركة الفيل : هذا الميدان كان مشرفا على بركة الفيل قبالة الكبش ، وكان أوّلا اصطبل الجوق برسم خيول المماليك السلطانية ، إلى أن جلس الأمير زين الدين كتبغا على تخت الملك وتلقب بالملك العادل ، بعد خلعه الملك الناصر محمد بن قلاون في المحرّم سنة أربع وتسعين وستمائة ، فلما دخلت سنة خمس وتسعين كان الناس في أشدّ ما يكون من غلاء الأسعار وكثرة الموتان ، والسلطان خائف على نفسه ومتحرّز من وقوع فتنة ، وهو مع ذلك ينزل من قلعة الجبل إلى الميدان الظاهريّ بطرف اللوق ، فحسن بخاطره أن يعمل إصطبل الجوق المذكور ميدانا عوضا عن ميدان اللوق ، وذكر ذلك للأمراء فأعجبهم ذلك ، فأمر بإخراج الخيل منه وشرعه في عمله ميدانا ، وبادر الناس من حينئذ إلى بناء الدور بجانبه ، وكان أوّل من أنشأ هناك الأمير علم الدين سنجر الخازن في الموضع الذي عرف اليوم بحكر الخازن ، وتلاه الناس في العمارة والأمراء ، وصار السلطان ينزل إلى هذا الميدان من القلعة فلا يجد في طريقه أحدا من الناس سوى أصحاب الدكاكين من الباعة لقلة الناس وشغلهم بما هم فيه من الغلاء والوباء ، ولقد رآه شخص من الناس وقد نزل إلى الميدان والطرقات خالية فأنشد ما قيل في الطبيب ابن زهر :

٣٤٧

قل للغلا أنت وابن زهر

بلغتما الحدّ والنهايه

ترفقا بالورى قليلا

في واحد منكما كفايه

وما برح هذا الميدان باقيا إلى أن عمّر السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون قصر الأمير بكتمر الساقي على بركة الفيل ، فأدخل فيه جميع أرض هذا الميدان ، وجعله إصطبل الأمير بكتمر الساقي ، في سنة سبع عشرة وسبعمائة ، وهو باق إلى وقتنا هذا.

ميدان المهاري : هذا الميدان بالقرب من قناطر السباع في برّ الخليج الغربيّ ، كان من جملة جنان الزهريّ ، أنشأه الملك الناصر محمد بن قلاون في سنة عشرين وسبعمائة ، ومن وراء هذا الميدان بركة ماء كان موضعها كرم القاضي الفاضل رحمة الله عليه.

قال جامع السيرة الناصرية : وكان الملك الناصر محمد بن قلاون له شغف عظيم بالخيل ، فعمل ديوانا ينزل فيه كلّ فرس بشأنه واسم صاحبه وتاريخ الوقت الذي حضر فيه ، فإذا حملت فرس من خيول السلطان أعلم به وترقب الوقت الذي تلد فيه ، واستكثر من الخيل حتى احتاج إلى مكان برسم نتاجها ، فركب من قلعة الجبل في سنة عشرين وسبعمائة ، وعين موضعا يعمله ميدانا برسم المهاري ، فوقع اختياره على أرض بالقرب من قناطر السباع ، وما زال واقفا بفرسه حتى حدّد الموضع وشرع في نقل الطين البليز إليه ، وزرعه من النخل وغيره ، وركب على الآبار التي فيه السواقي ، فلم يمض سوى أيام حتى ركب إليه ولعب فيه بالكرة مع الخاصكية ، ورتب فيه عدّة حجور للنتاج وأعدّلها سوّاسا وأميرا خورية وسائر ما يحتاج إليه ، وبني فيه أماكن ولازم الدخول إليه في ممرّه إلى الميدان الذي أنشأه على النيل بموردة الملح.

فلما كان بعد أيام وأشهر حسن في نفسه أن يبني تجاه هذا الميدان على النيل الأعظم بجوار جامع الطيبرسي زريبة ، ويبرز بالمناظر التي ينشئها في الميدان إلى قرب البحر ، فنزل بنفسه وتحدّث في ذلك ، فكثّر المهندسون المصروف في عينه وصعّبوا الأمر من جهة قلة الطين هناك ، وكان قد أدركه السفر للصعيد ، فترك ذلك وما برحت الخيول في هذا الميدان إلى أن مات الملك الظاهر برقوق في سنة إحدى وثمانمائة ، واستمرّ بعده في أيام ابنه الملك الناصر فرج ، إلّا أنه تلاشى أمره عما كان قبل ذلك ، ثم انقطعت منه الخيول وصار براحا خاليا.

ميدان سرياقوس : كان هذا الميدان شرقيّ ناحية سرياقوس بالقرب من الخانقاه ، أنشأه الملك الناصر محمد بن قلاون في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة ، وبنى فيه قصورا جليلة وعدّة منازل للأمراء ، وغرس فيه بستانا كبيرا نقل إليه من دمشق سائر الأشجار التي تحمل الفواكه ، وأحضر معها خولة بلاد الشام حتى غرسوها وطعموا الأشجار ، فأفلح

٣٤٨

فيه الكرم والسفرجل وسائر الفواكه ، فلما كمل في سنة خمس وعشرين خرج ومعه الأمراء والأعيان ونزل القصور التي هناك ، ونزل الأمراء والأعيان على منازلهم في الأماكن التي بنيت لهم ، واستمرّ يتوجه إليه في كلّ سنة ويقيم به الأيام ويلعب فيه بالكرة إلى أن مات ، فعملل ذلك أولاده الذين ملكوا من بعده.

فكان السلطان يخرج في كل سنة من قلعة الجبل بعد ما تنقضي أيام الركوب إلى الميدان الكبير الناصريّ وعلى النيل ، ومعه جميع أهل الدولة من الأمراء والكتاب وقاضي العسكر وسائر أرباب الرتب ، ويسير إلى السرحة بناحية سرياقوس وينزل بالقصور ويركب إلى الميدان هناك للعب الكرة ، ويخلع الأمراء وسائر أهل الدولة ، ويقيم في هذه السرحة أياما ، فيمرّ للناس في إقامتهم بهذه السرحة أوقات لا يمكن وصف ما فيها من المسرّات ، ولا حصر ما ينفق فيها من المآكل والهبات من الأموال ، ولم يزل هذا الرسم مستمرّ إلى سنة تسع وتسعين وسبعمائة ، وهي آخر سرحة سار إليها السلطان بسرياقوس ، ومن هذه السنة انقطع السلطان الملك الظاهر برقوق عن الحركة لسرياقوس ، فإنه اشتغل في سنة ثمانمائة بتحرّك المماليك عليه من وقت قيام الأمير علي باي إلى أن مات.

وقام من بعده ابنه الملك الناصر فرج ، فما صفا الوقت في أيامه من كثرة الفتن وتواتر الغلوات والمحن ، إلى أن نسي ذلك وأهمل أمر الميدان والقصور وخرب ، وفيه إلى اليوم بقية قائمة. ثم بيعت هذه القصور في صفر سنة خمس وعشرين وثمانمائة بمائة دينار ، لينقض خشبها وشبابيكها وغيرها ، فنقضت كلها ، وكان من عادة السلطان إذا خرج إلى الصيد لسرياقوس أو شبرا أو البحيرة أنه ينعم على أكابر أمراء الدولة قدرا وسنّا ، كلّ واحد بألف مثقال ذهيبا ، وبرذون خاص مسرج ولمجم ، وكنبوش مذهب ، وكان من عادته إذا مرّ في متصيدانه بإقطاع أمير كبير قدّم له من الغنم والإوز والدجاج وقصب السكر والشعير ما تسمو همة مثله إليه ، فيقبله السلطان منه وينعم بخلعة كاملة ، وربما أمر لبعضهم بمبلغ مال.

وكانت عادة الأمراء أن يركب الأمير منهم حيث يركب في المدينة وخلفه جنيب ، وأما أكابرهم فيركب بجنيبين ، هذا في المدينة والحاضرة ، وهكذا يكون إذا خرج إلى سرياقوس وغيرها من نواحي الصعيد ، ويكون في الخروج إلى سرياقوس وغيرها من الأسفار لكلّ أمير طلب يشتمل على أكثر مماليكه ، وقدّامهم خزانة محمولة على جمل واحد يجرّه راكب آخر على جمل ، والمال على جملين ، وربما زاد بعضهم على ذلك. وأمام الخزانة عدّة جنائب تجرّ على أيدي مماليك ركّاب خيل وهجن ، وركّاب من العرب على هجن ، وأمامها الهجن بأكوارها مجنوبة ، وللطبلخانات قطار واحد ، وهو أربعة ، ومركوب الهجان والمال قطاران ، وربما زاد بعضهم ، وعدد الجنائب في كثرتها وقلتها إلى رأي الأمير وسعة نفسه ، والجنائب منها ما هو مسرح ملجم ، ومنها ما هو بعباءة لا غير ، وكان يضاهي بعضهم بعضا في

٣٤٩

الملابس الفاخرة والسروح المحلاة والعدد الملحية.

وكان من رسوم السلطان في خروجه إلى سرياقوس وغيرها من الأسفار أن لا يتكلف إظهار كلّ شعار السلطنة ، بل يكون الشعار في موكبه السائر فيه جمهور مماليكه مع المقدّم عليهم واستاداره ، وأمامهم الخزائن والجنائب والهجن ، وأما هو نفسه فإنه يركب ومعه عدّة كبيرة من الأمراء الكبار والصغار من الغرباء والخواص ، وجملة من خواص مماليكه ، ولا يركب في السير برقبة ولا بعصائب ، بل يتبعه جنائب خلفه ، ويقصد في الغالب تأخير النزول إلى الليل ، فإذا جاء الليل حملت قدّامة فوانيس كثيرة ومشاعل ، فإذا قارب مخيمه تلقى بشموع موكبية في سمعدانات كفت ، وصاحت الجاويشية بين يديه ، ونزل الناس كافة إلّا حملة السلاح ، فإنهم وراءه ، والوشاقية أيضا وراءه ، وتمشي الطبر دارية حوله حتى إذا وصل القصور بسرياقوس أو الدهليز من المخيم نزل عن فرسه ودخل إلى الشقة ، وهي خيمة مستديرة متسعة ، ثم منها إلى شقة مختصرة ، ثم منها إلى اللاجوق ، وبدائر كلّ خيمة من جميع جوانبها من داخل سور خركاه ، وفي صدر اللاجوق قصر صغير من خشب برسم المبيت فيه ، وينصب بإزاء الشقة الحمّام بقدور الرصاص ، والحوض على هيئة الحمام المبنيّ في المدن ، إلّا أنه مختصر. فإذا نام السلطان طافت به المماليك دائرة بعد دائرة ، وطاف بالجميع الحرس ، وتدور الزفة حول الدخليز في كلّ ليلة ، وتدور بسرياقوس حول القصر في كلّ ليلة مرّتين ، الأولى منذ يأوي إلى النوم ، والثانية عند قعوده من النوم ، وكلّ زفة يدور بها أمير جاندار ، وهو من أكابر الأمراء ، وحوله الفوانيس والمشاعل والطبول والبياتة ، وينام على باب الدهليز النقباء وأرباب النوب من الخدم ، ويصحب السلطان في السفر غالب ما تدعو الحاجة إليه حتى يكاد يكون معهم مارستان لكثرة من معه من الأطباء وأرباب الكحل والجراح والأشربة والعقاقير ، وما يجري مجرى ذلك ، وكل من عاده طبيب ووصف له ما يناسبه ، يصرف له من الشراب خاناه أو الدواء خاناه المحمولين في الصحبة. والله أعلم.

الميدان الناصريّ : هذا الميدان من جملة أراضي بستان الخشاب ، فيما بين مدينة مصر والقاهرة ، وكان موضعه قديما غامرا بماء النيل ، ثم عرف ببستان الخشاب ، فلما كانت سنة أربع عشرة وسبعمائة هدم السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون الميدان الظاهريّ ، وغرس فيه أشجارا كما تقدّم ، وأنشأ هذا الميدان من أراضي بستان الخشاب ، فإنه كان حينئذ مطلا على النيل ، وتجهز في سنة ثمان عشرة وسبعمائة للركوب إليه ، وفرّق الخيول على جميع الأمراء واستجدّ ركوب الأوجاقية بكوا في الزركس على صفة الطاسات فوق رؤوسهم ، وسمّاهم الجفتاوات ، فيركب منهم اثنان بثوبي حرير أطلس أصفر ، وعلى رأس كلّ منهما كوفية الذهب ، وتحت كل واحد فرس أبيض بحلية ذهب ، ويسيران معا بين يدي السلطان في ركوبه من قلعة الجبل ، إلى الميدان ، وفي عودته منه إلى القلعة ، وكان السلطان إذا ركب

٣٥٠

إلى هذا الميدان للعب الأكرة يفرّق حوائص ذهب على الأمراء المقدّمين ، وركوبه إلى هذا الميدان دائما يوم السبت في قوّة الحرّ بعد وفاء النيل مدّة شهرين من السنة ، فيفرّق في كلّ ميدان على اثنين بالنوبة ، فمنهم من تجيء نوبته بعد ثلاث سنين أو أربع سنين ، وكان من مصطلح الملوك أن تكون تفرقة السلطان الخيول على الأمراء في وقتين ، أحدهما عند ما يخرج إلى مرابط خيله في الربيع عند اكتمال تربيعها ، وفي هذا الوقت يعطي أمراء المئين الخيول مسرجة ملجمة بكنابيش مذهبة ، ويعطي أمراء الطبلخانات خيلا عريا. والوقت الثاني يعطي الجميع خيولا مسرجة ملجمة بلا كنابيش ، بفضة خفيفة ، وليس لأمراء العشروات خظ في ذلك إلّا ما يتفقدهم به على سبيل الأنعام ، ولخاصكية السلطان المقرّبين من أمراء المئين وأمراء الطبلخانات زيادة كثيرة من ذلك ، بحيث يصل إلى بعضهم المائة فرس في السنة.

وكان من شعار السلطان أن يركب إلى اليميدان وفي عنق الفرس رقبة حرير أطلس أصفر بزرگش ذهب ، فتستر من تحت أذني الفرس إلى حيث السرج ، ويكون قدّامه اثنان من الأوشاقية راكبين على حصانين اشهبين برقبتين نظير ما هو راكب به ، كأنهما معدّان لأن يركبهما ، وعلى الأوشاقيين المذكورين قبا آن اصفران من حرير بطراز مزركش بالذهب ، وعلى رأسهما قبعان مزركشان ، وغاشية السرج محمولة أمام السلطان ، وهي أديم مزركش مذهب يحملها بعض الركابدارية قدّامة وهو ماش في وسط الموكب ، ويكون قدّامة فارس يشبب بشبابة لا يقصد بنغمها إلا طراب ، بل ما يقرع بالمهابة سامعة ، ومن خلف السلطان الجنائب ، وعلى رأسه العصائب السلطانية ، وهي صفر مطرزة بذهب بألقابه واسمه ، وهذا لا يختص بالركوب إلى الميدان ، بل يعمل هذا الشعار أيضا إذا ركب يوم العيد أو دخل إلى القاهرة أو إلى مدينة من مدن الشام ، ويزداد هذا الشعار في يوم العيدين ودخول المدينة برفع المظلة على رأسه ، ويقال لها الحبر ، وهو أطلس أصفر مزركش من أعلاه قبة وطائر من فضة مذهبة ، يحملها يومئذ بعض أمراء المئين الأكابر ، وهو راكب فرسه إلى جانب السلطان ، ويكون أرباب الوظائف والسلاحدارية كلهم خلف السلطان ، ويكون حوله وأمامه الطبردارية ، وهم طائفة من الاكراد ذوي الإقطاعات والأمرة ، ويكونون مشاة وبأيديهم الأطباء المشهورة.

ذكر قلعة الجبل

قال ابن سيده في كتاب المحكم : القلعة بتحريك القاف واللام والعين وفتحها ، الحصن الممتنع في جبل ، وجمعها قلاع وقلع ، وأقلعوا بهذه البلاد بنوها فجعلوها كالقلعة. وقيل : القلعة بسكون اللام ، حصن مشرف ، وجمعه قلوع ، وهذه القلعة على قطعة من الجبل وهي تتصل بجبل المقطم ، وتشرف على القاهرة ومصر والنيل والقرافة ، فتصير

٣٥١

القاهرة في الجهة البحرية منها ، ومدينة مصر والقرافة الكبرى وبركة الحبش في الجهة القبلية الغربية ، والنيل الأعظم في غربيها ، وجبل المقطم من ورائها في الجهة الشرقية. وكان موضعها أوّلا يعرف بقبة الهواء ، ثم صار من تحته ميدان أحمد بن طولون ، ثم صار موضعها مقبرة فيها عدّة مساجد ، إلى أن أنشأها السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ، أوّل الملوك بديار مصر ، على يدّ الطواشي بهاء الدين قراقوش الأسديّ في سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة ، وصارت من بعده دار الملك بديار مصر إلى يومنا هذا ، وهي ثامن موضع صار دار المملكة بديار مصر. وذلك أن دار الملك كانت أوّلا قبل الطوفان مدينة أمسوس ، ثم صار تخت الملك بعبد الطوفان بمدينة منف إلى أن خرّبها بخت نصر ، ثم لما ملك الإسكندر بن فيليبس سار إلى مصر وجدّد بناء الإسكندرية فصارت دار المملكة من حينئذ بعد مدينة منف الإسكندرية ، إلى أن جاء الله تعالى بالإسلام ، وقدم عمرو بن العاص رضي‌الله‌عنه بجيوش المسلمين إلى مصر وفتح الحصن واختط مدينة فسطاط مصر ، فصارت دار الإمارة من حينئذ بالفسطاط إلى أن زالت دولة بني أمية ، وقدمت عساكر بني العباس إلى مصر وبنوا في ظاهر الفسطاط العسكر ، فصار الأمراء من حينئذ تارة ينزلون في العسكر وتارة في الفسطاط ، إلى أن بنى أحمد بن طولون القصر والميدان ، وأنشأ القطائع بجانب العسكر ، فصارت القطائع منازل الطولونية إلى أن زالت دولتهم ، فسكن الأمراء بعد زوال دولة بني طولون بالعسكر إلى أن قدم جوهر القائد من بلاذ المغرب بعساكر المعز لدين الله وبنى القاهرة المعزية ، فصارت القاهرة من حينئذ دار الخلافة ومقرّ الإمامة ومنزل الملك ، إلى أن انقضت الدولة الفاطمية على يد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ، فلما استبدّ بعدهم بأمر سلطنة مصر بنى قلعة الجبل هذه ومات ، فسكنها من بعده الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب ، واقتدى به من ملك مصر من بعده من أولاده إلى أن انقرضوا على يد مماليكهم البحرية وملكوا مصر من بعدهم ، فاستقرّوا بقلعة الجبل إلى يومنا هذا ، وسأجمع إن شاء الله تعالى من أخبار قلعة الجبل هذه وذكر من ملكها ما فيه كفاية. والله أعلم.

اعلم أن أوّل ما عرف من خبر موضع قلعة الجبل ، أنه كان فيه قبة تعرف بقبة الهواء ، قال أبو عمرو الكنديّ في كتاب أمراء مصر : وابتنى حاتم بن هرثمة القبة التي تعرف بقبة الهواء ، وهو أوّل من ابتناها ، وولي مصر إلى أن صرف عنها في جمادى الآخرة سنة خمس وتسعين ومائة. قال : ثم مات عيسى بن منصور أمير مصر في قبة الهواء بعد عزله ، لاحدى عشرة خلت من شهر ربيع الآخر ، سنة ثلاث وثلاثين ومائتين ، ولما قدم أمير المؤمنين المأمون إلى مصر في سنة سبع عشرة ومائتين ، جلس بقبة الهواء هذه ، وكان بحضرته سعيد بن عفير ، فقال المأمون : لعن الله فرعون حيث يقول : أليس لي ملك مصر ، فلو رأى العراق وخصبها. فقال سعيد بن عفير : يا أمير المؤمنين لا تقل هذا ، فإن الله عزوجل قال :

٣٥٢

(وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) [الأعراف / ١٣٧] فما ظنك يا أمير المؤمنين بشيء دمّره الله هذا بقيته ثم قال سعيد : لقد بلغنا أن أرضا لم تكن أعظم من مصر ، وجميع أهل الأرض يحتاجون إليها ، وكانت الأنهار بقناطر وجسور بتقدير ، حتى أنّ الماء يجري تحت منازلهم وأفنيتهم ، يرسلونه متى شاؤوا ويحبسونه متى شاؤوا ، وكانت البساتين متصلة لا تنقطع ، ولقد كانت الأمة تضع المكتل على رأسها فيمتلىء مما يسقط من الشجر ، وكانت المرأة تخرج حاسرة لا تحتاج إلى خمار لكثرة الشجر ، وفي قبة الهواء حبس المأمون الحارث بن مسكين. قال الكنديّ في كتاب الموالي : قدم المأمون مصر وكان بها رجل يقال له الحضرميّ ، يتظلم من ابن أسباط وابن تميم ، فجلس الفضل بن مروان في المسجد الجامع ، وحضر مجلسه يحيى بن أكثم وابن أبي داود ، وحضر إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد ، وكان على مظالم مصر ، وحضر جماعة من فقهاء مصر وأصحاب الحديث ، وأحضر الحارث بن مسكين ليولي قضاء مصر ، فدعاه الفضل بن مروان ، فبينما هو يكلمه إذ قال الحضرميّ للفضل : سل أصلحك الله الحارث عن ابن أسباط وابن تميم. قال : ليس لهذا أحضرناه. قال : أصلحك الله سله ، فقال الفضل للحارث : ما تقول في هذين الرجلين فقال : ظالمين غاشمين. قال : ليس لهذا أحضرناك ، فاضطرب المسجد وكان الناس متوافرين ، فقام الفضل وصار إلى المأمون بالخبر وقال : خفت على نفسي من ثوران الناس مع الحارث ، فأرسل المأمون إلى الحارث فدعاه ، فابتدأه بالمسألة فقال : ما تقول في هذين الرجلين؟ فقال : ظالمين غاشمين. قال : هل ظلماك بشيء؟ قال : لا. قال : فعاملتهما؟ قال : لا. قال : فكيف شهدت عليهما؟ قال : كما شهدت أنك أمير المؤمنين ولم أرك قط إلّا الساعة ، وكما شهدت أنك غزوت ولم أحضر غزوك. قال : اخرج من هذه البلاد فليست لك ببلاد ، وبع قليلك وكثيرك ، فإنك لا تعاينها أبدا.

وحبسه في رأس الجبل في قبة ابن هرثمة ، ثم انحدر المأمون إلى البشرود وأحضره معه ، فلما فتح البشرود أحضر الحارث ، فلما دخل عليه سأله عن المسألة التي سأله عنها بمصر ، فردّ عليه الجواب بعينه ، فقال : فأيّ شيء تقول في خروجنا هذا؟ قال : أخبرني عبد الرحمن بن القاسم عن مالك ، أنّ الرشيد كتب إليه في أهل دهلك يسأله عن قتالهم فقال : إن كانوا خرجوا عن ظلم من السلطان فلا يحلّ قتالهم ، وإن كانوا إنما شقوا العصا فقتالهم حلال. فقال المأمون : أنت تيس ومالك أتيس منك ، ارجل عن مصر. قال : يا أمير المؤمنين إلى الثغور؟ قال الحق بمدينة السلام. فقال له أبو صالح الحرّانيّ : يا أمير المؤمنين تغفر زلته؟ قال : يا شيخ تشفعت فارتفع.

ولما بنى أحمد بن طولون القصر والميدان تحت قبة الهواء هذه ، كان كثيرا ما يقيم

٣٥٣

فيها ، فإنها كانت تشرف على قصره ، واعتنى بها الأمير أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون ، وجعل لها الستور الجليلة والفرش العظيمة ، في كلّ فصل ما يناسبه. فلما زالت دولة بني طولون وخرب القصر والميدان ، كانت قبة الهواء مما خرب ، كما تقدّم ذكره عند ذكر القطائع من هذا الكتاب ، ثم عمل موضع قبة الهواء مقبرة وبني فيها عدّة مساجد.

قال الشريف محمد بن أسعد الجوانيّ النسابة في كتاب النقطة في الخطط : والمساجد المبنية على الجبل ، المتصلة باليحاميم المطلة على القاهرة المعزية التي فيها المسجد المعروف بسعد الدولة ، والترب التي هناك ، تحتوي القلعة التي بناها السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب علي الجميع ، وهي التي نعتها بالقاهرة ، وبنيت هذه القلعة في مدّة يسيرة ، وهذه المساجد هي مسجد سعد الدولة ، ومسجد معز الدولة. والي مصر ، ومسجد مقدّم بن عليان من بني بويه الديلميّ ، ومسجد العدّة بناه أحد الأستاذين الكبار المستنصرية ، وهو عدّة الدولة ، وكان بعد مسجد معز الدولة ، ومسجد عبد الجبار بن عبد الرحمن بن شبل بن عليّ رئيس الرؤساء. وكافي الكفاة أبي يعقوب بن يوسف ، الوزير بهمدان ، ابن عليّ. بناه وانتقل بالإرث إلى ابن عمه القاضي الفقيه أبي الحجاج يوسف بن عبد الجبار بن شبل ، وكان من أعيان السادة ، ومسجد قسطة ، وكان غلاما أرمنيا من غلمان المظفر بن أمير الجيوش ، مات مسموما من أكلة هريسة.

وقال الحافظ أبو الطاهر السلفيّ : سمعت أبا منصور قسطة الأرمنيّ والي الاسكندرية يقول : كان عبد الرحمن خطيب ثغر عسقلان يخطب بظاهر البلد في عيد من الأعياد ، فقيل له : قد قرب منا العدو. فنزل عن المنبر وقطع الخطبة ، فبلغه أن قوما من العسكرية عابوا عليه فعله ، فخطب في الجمعة الأخرى داخل البلد في الجامع خطبة بليغة قال فيها : قد زعم قوم أن الخطيب فزع ، وعن المنبر نزع ، وليس ذلك عارا على الخطيب ، فإنما ترسه الطيلسان وحسامه اللسان ، وفرسه خشب لا تجري من الفرسان ، وإنما العار على من تقلد الحسام وسنّ السنان ، وركب الجياد الحسان ، وعند اللقاء يصيح إلى عسقلان.

وكان قسطة هذا من عقلاء الأمراء المائلين إلى العدل ، المثابرين على مطالعة الكتب ، وأكثر ميله إلى التواريخ وسير المتقدّمين ، وكان مسجده بعد مسجد شقيق الملك ، ومسجد الديلميّ ، وكان على قرنة الجبل المقابل للقلعة من شرقيها إلى البحريّ ، وقبره قدّام الباب. وتربة ولخشى الأمير والد السلطان رضوان بن ولخشى ، المنعوت بالأفضل ، كان من الأعيان الفضاء الأدباء ، ضرب على طريقة ابن البوّاب ، وأبي عليّ بن مقلة ، وكتب عدّة ختمات ، وكان كريما شجاعا يلقّب فحل الأمراء ، وكانت هذه التربة آخر الصف ، ومسجد شقيق الملك الأستاذ خسروان صاحب بيت المال أضيف إلى سور القلعة البحري إلى المغرب قليلا ، ومسجد أمين الملك صارم الدولة مفلح صاحب الملجس الحافظيّ كان بعد مسجد

٣٥٤

القاضي أبي الحجاج ، المعروف بمسجد عبد الجبار ، وهو في وسط القلعة ، بعده تربة لاون أخي يانس ، ومسجد القاضي النبيه ، كان لمام الدولة غنّام ، ومات رسولا ببلاد الشام ، وشراه منه وأنشأه القاضي النبيه ، وقبره به ، وكان القاضي من الأعيان.

وقال ابن عبد الظاهر : أخبرني والدي قال : كنا نطلع إليها ، يعني إلى المساجد التي كانت موضع قلعة الجبل ، قبل أن تسكن في ليالي الجمع ، نبيت متفرّجين كما نبيت في جواسق الجبل والقرافة.

قال مؤلفه رحمه‌الله : وبالقلعة الآن مسجد الردينيّ ، وهو أبو الحسن علي بن مرزوق بن عبد الله الردينيّ الفقيه المحدّث المفسر ، كان معاصرا لأبي عمر وعثمان بن مرزوق الحوفيّ ، وكان ينكر على أصحابه ، وكانت كلمته مقبولة عند الملوك ، وكان يأوي بمسجد سعد الدولة ، ثم تحوّل منه إلى مسجد عرف بالردينيّ ، وهو الموجود الآن بداخل قلعة الجبل ، وعليه وقف بالإسكندرية ، وفي هذا المسجد قبر يزعمون أنه قبره ، وفي كتب المزارات بالقرافة ، أنّه توفي ودفن بها في سنة أربعين وخمسمائة ، بخط سارية شرقيّ تربة الكيروانيّ ، واشتهر قبره بإجابة الدعاء عنده.

ذكر بناء قلعة الجبل

وكان سبب بنائها أن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ، لما أزال الدولة الفاطمية من مصر واستبدّ بالأمر ، لم يتحوّل من دار الوزارة بالقاهرة ، ولم يزل يخاف على نفسه من شيعة الخلفاء الفاطميين بمصر ، ومن الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي سلطان الشام ، رحمة الله عليه ، فامتنع أوّلا من نور الدين بأن سير أخاه الملك المعظم شمس الدولة توران شاه بن أيوب في سنة تسع وستين وخمسمائة ، إلى بلاد اليمن لتصير له مملكة تعصمه من نور الدين ، فاستولى شمس الدولة على ممالك اليمن ، وكفى الله تعالى صلاح الدين أمر نور الدين ومات في تلك السنة ، فحلاله الجوّ وأمن جانبه ، وأحبّ أن يجعل لنفسه معقلا بمصر ، فإنه كان قد قسم القصرين بين أمرائه وأنزلهم فيهما ، فيقال أنّ السبب الذي دعاه إلى اختيار مكان قلعة الجبل ، أنه علق اللحم بالقاهرة فتغير بعد يوم وليلة ، فعلق لحم حيوان آخر في موضع القلعة فلم يتغير إلا بعد يومين وليلتين ، فأمر حينئذ بإنشاء قلعة هناك ، وأقام على عمارتها الأمير بهاء الدين قراقوش الأسديّ ، فشرع في بنائها وبنى سور القاهرة الذي زاده في سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة ، وهدم ما هنالك من المساجد وأزال القبور وهدم الأهرام الصغار التي كانت بالجيزة تجاه مصر ، وكانت كثيرة العدد ، ونقل ما وجد بها من الحجارة وبنى به السور والقلعة وقناطر الجيزة ، وقصد أن يجعل السور يحيط بالقاهرة والقلعة ومصر ، فمات السلطان قبل أن يتم الغرض من السور والقلعة ، فأهمل العمل إلى أن كانت سلطنة الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب في قلعة الجبل

٣٥٥

واستنابته في مملكة مصر وجعله وليّ عهد ، فأتم بناء القلعة وأنشأ بها الآدر السلطانية ، وذلك في سنة أربع وستمائة ، وما برح يسكنها حتي مات ، فاستمرّت من بعده دار مملكة مصر إلى يومنا هذا ، وقد كان السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب يقيم بها أياما ، وسكنها الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين في أيام أبيه مدّة ، ثم انتقل منها إلى دار الوزارة.

قال ابن عبد الظاهر : وسمعت حكاية تحكى عن صلاح الدين أنه طلعها ومعه أخوه الملك العادل ، فلما رآها التفت إلى أخيه وقال : يا سيف الدين ، قد بنيت هذه القلعة لأولادك. فقال : يا خوند منّ الله عليك أنت وأولادك وأولاد أولادك بالدنيا. فقال : ما فهمت ما قلت لك ، أنا نجيب ما يأتي لي أولاد نجباء ، وأنت غير نجيب فأولادك يكونون نجباء ، فسكت.

قال مؤلفه رحمه‌الله : وهذا الذي ذكره صلاح الدين يوسف من انتقال الملك عنه إلى أخيه وأولاد أخيه ليس هو خاصا بدولته ، بل اعتبر ذلك في الدول تجد الأمر ينتقل عن أولاد القائم بالدولة إلى بعض أقاربه ، هذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو القائم بالملة الإسلامية ، ولما توفي صلى‌الله‌عليه‌وسلم انتقل أمر القيام بالملة الإسلامية بعده إلى أبي بكر الصدّيق رضي‌الله‌عنه ، واسمه عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرّة بن كعب بن لؤيّ ، فهو رضي‌الله‌عنه يجتمع من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في مرّة بن كعب ، ثم انتقل الأمر بعد الخلفاء الراشدين رضي‌الله‌عنهم إلى بني أمية كان القائم بالدولة الأموية معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية ، فلم تفلح أولاده وصارت الخلافة إلى مروان بن الحكم بن العاص بن أمية ، فتوارثها بنو مروان حتى انقضت دولتهم بقيام بني العباس رضي‌الله‌عنه ، فكان أول من قام من بني العباس عبد الله بن محمد السفاح ، ولما مات انتقلت الخلافة من بعده إلى أخيه أبي جعفر عبد الله بن محمد المنصور ، واستقرّت في بنيه إلى أن انقرضت الدولة العباسية من بغداد.

وكذا وقع في دول العجم أيضا ، فأول ملوك بني بوبه ، عماد الدين أبو عليّ الحسن بن بويه ، والقائم من بعده في السلطنة أخوه حسن بن بويه ، وأوّل ملوك بني سلجوق ، طغريل ، والقائم من بعده في السلطنة ابن أخيه ألب أرسلان بن داود بن ميكال بن سلجوق ، وأوّل قائم بدولة بني أيوب ، السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ، ولما مات اختلف أولاده فانتقل ملك مصر والشام وديار بكر والحجاز واليمن إلى أخيه الملك العادل أبي بكر بن أيوب ، واستمرّ فيهم إلى أن انقرضت الدولة الأيوبية ، فقام بمملكة مصر المماليك الأتراك ، وأوّل من قام منهم بمصر الملك المعز أيبك ، فلما مات لم يفلح ابنه عليّ فصارت المملكة إلى قطز ، وأوّل من قام بالدولة الجركسية الملك الظاهر برقوق ، وانتقلت المملكة من بعد ابنه الملك الناصر فرج إلى الملك المؤيد شيخ المحموديّ الظاهريّ ، وقد جمعت في هذا

٣٥٦

فصلا كبيرا ، وقلما تجد الأمر بخلاف ما قلته لك ولله عاقبة الأمور.

قال ابن عبد الظاهر : والملك الكامل هو الذي اهتم بعمارتها وعمارة أبراجها ، البرج الأحمر وغيره ، فكملت في سنة أربع وستمائة ، وتحوّل إليها من دار الوزارة ونقل إليها أولاد العاضد وأقاربه وسجنهم في بيت فيها ، فلم يزالوا فيه إلى أن حوّلوا منه في سنة إحدى وسبعين وستمائة. قال : وفي آخر سنة اثنتين وثمانين وسنمائة شرع السلطان الملك المنصور قلاون في عمارة برج عظيم على جانب باب السرّ الكبير ، وبنى علوه مشترفات وقاعات مرخمة لم ير مثلها ، وسكنها في صفر سنة ثلاث وثمانين وستمائة ، ويقال أن قراقوش كان يستعمل في بناء القلعة والسور خمسين ألف أسير.

البئر التي بالقلعة : هذه البئر من العجائب ، استنبطها قراقوش. قال ابن عبد الظاهر : وهذه البئر من عجائب الأبنية ، تدور البقر من أعلاها فتنقل الماء من نقالة في وسطها ، وتدور أبقار في وسطها تنقل الماء من أسفلها ، ولها طريق إلى الماء ينزل البقر إلى معينها في مجاز ، وجميع ذلك حجر منحوت ليس فيه بناء ، وقيل أن أرضها مسامّة أرض بركة الفيل وماؤها عذب. سمعت من يحكي من المشايخ أنها لما نقرت جاء ماؤها حلوا ، فأراد قراقوش أو نوّا به الزيادة في مائها ، فوسع نقر الجبل فخرجت منه عين مالحة غيرت حلاوتها. وذكر القاضي ناصر الدين شافع بن عليّ في كتاب عجائب البنيان ، أنه ينزل إلى هذه البئر بدرج نحو ثلاثمائة درجة.

ذكر صفة القلعة

وصفة قلعة الجبل أنها بناء على نشزعال ، يدور بها سور من حجر بأبراج وبدنات حتى تنتهي إلى القصر الأبلق ، ثم من هناك تتصل بالدور السلطانية على غير أوضاع أبراج الغلال ، ويدخل إلى القلعة من بابين ، أحدهما بابها الأعظم المواجه للقاهرة ، ويقال له الباب المدرّج ، وبداخله يجلس والي القلعة ، ومن خارجه تدق الخليلية قبل المغرب. والباب الثاني باب القرافة ، وبين البابين ساحة فسيحة في جانبها بيوت ، وبجانبها القبليّ سوق للمآكل ، ويتوصل من هذه الساحة إلى دركاه جليلة كان يجلس بها الأمراء حتى يؤذن لهم بالدخول ، وفي وسط الدركاه باب القلعة ، ويدخل منه في دهليز فسيح إلى ديار وبيوت وإلى الجامع الذي تقام به الجمعة ، ويمشي من دهليز باب القلعة في مداخل أبواب إلى رحبة فسيحة في صدرها الإيوان الكبير المعدّ لجلوس السلطان في يوم المواكب ، وإقامة دار العدل. وبجانب هذه الرحبة ديار جليلة ، ويمرّ منها إلى باب القصر الأبلق ، وبين يدي باب القصر رحبة دون الأولى يجلس بها خواص الأمراء قبل دخولهم إلى الخدمة الدائمة بالقصر ، وكان بجانب هذه الرحبة محاذيا لباب القصر خزانة القصر ، ويدخل من باب القصر في دهاليز خمسة إلى قصر عظيم ، ويتوصل منه إلى الإيوان الكبير بباب خاص ، ويدخل منه

٣٥٧

أيضا إلى قصور ثلاثة ، ثم إلى دور الحرم السلطانية ، وإلى البستان والحمّام والحوش ، وباقي القلعة فيه دور ومساكن للماليك السلطانية وخواص الأمراء بنسائهم وأولادهم ومماليكهم ودواوينهم وطشتخاناتهم (١) وفرشخاناتهم (٢) وشربخاناتهم (٣) ومطابخهم وسائر وظائفهم ، وكانت أكابر أمراء الألوف وأعيان أمراء الطبلخاناه والعشراوات تسكن بالقلعة إلى آخر أيام الناصر محمد بن قلاون ، وكان بها أيضا طباق المماليك السلطانية ودار الوزارة ، وتعرف بقاعة الصاحب ، وبها قاعة الإنشاء وديوان الجيش وبيت المال وخزانة الخاص ، وبها الدور السلطانية من الطشتخاناه والركابخاناه والحوائجخاناه والزردخاناه ، وكان بها الجب الشنيع لسجن الأمراء ، وبها دار النيابة ، وبها عدّة أبراج يحبس بها الأمراء والمماليك ، وبها المساجد والحوانيت والأسواق ، وبها مساكن تعرف بخرائب التتر ، كانت قدر حارة خرّبها الملك الأشرف برسباي في ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وثمانمائة ، ومن حقوق القلعة الإصطبل السلطانيّ ، وكان ينزل إليه السلطان من جانب إيوان القصر ، ومن حقوقها أيضا الميدان ، وهو فاصل بين الإصطبلات وسوق الخيل من غربيه ، وهو فسيح المدى وفيه يصلي السلطان صلاة العيدين ، وفيه يلعب بالأكرة مع خواصه ، وفيه تعمل المدّات أوقات المهمات أحيانا ، ومن رأى القصور والإيوان الكبير والميدان الأخضر والجامع يقرّ لملوك مصر بعلوّ الهمم وسعة الإنفاق والكرم.

باب الدرفيل : هذا الباب بجانب خندق القلعة ، ويعرف أيضا بباب المدرج ، وكان يعرف قديما بباب سارية ، ويتوصل إليه من تحت دار الضيافة وينتهي منه إلى القرافة ، وهو فيما بين سور القلعة والجبل.

والدرفيل هو الأمير حسام الدين لاجين الأيدمريّ ، المعروف بالدرفيل ، دوادار الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ ، مات في سنة اثنتين وسبعين وستمائة.

دار العدل القديمة : هذه الدار موضعها الآن تحت القلعة ، يعرف بالطبلخاناه ، والذي بنى دار العدل الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ ، في سنة إحدى وستين وستمائة ، وصار يجلس بها لعرض العساكر في كلّ اثنين وخميس ، وابتدأ بالحضور في أوّل سنة اثنتين وستين وستمائة ، وصار يجلس بها لعرض العساكر في كلّ اثنين وخميس ، وابتدأ بالحضور في أوّل سنة اثنتين وستين وستمائة ، فوقف إليه ناصر الدين محمد بن أبي نصر وشكا أنه أخذ له بستان في أيام المعز أيبك ، وهو بأيدي المقطعين ، وأخرج كتابا مثبتا وأخرج من

__________________

(١) طشتخان : بيت الطشت : وفيها ثياب السلطان التي لا بد لها من الغسل. النجوم الزاهرة ج ٩ ص ٣٩.

(٢) فرشخانة : خزانة الفراش ، وهي التي بها الخيم والبسط والأسحطة والقناديل. النجوم الزاهرة ج ٩ ص ١١٥.

(٣) شربخانة : من أرباب الوظائف من الأمراء. صبح الأعشى ج ٤ / ١٩٥.

٣٥٨

ديوان الجيش ما يشهد بأن البستان ليس من حقوق الديوان ، فأمر بردّه عليه فتسلمه. وأحضرت مرافعة في ورقة مختومة رفعها خادم أسود في مولاه القاضي شمس الدين شيخ الحنابلة ، تضمنت أنه يبغض السلطان ويتمنى زوال دولته ، فإنه لم يجعل للحنابلة مدرّسا في المدرسة التي أنشأها بخط بين القصرين ، ولم يولّ قاضيا حنبليا ، وذكر عنه أمورا قادحة ، فبعث السلطان الورقة إلى الشيخ ، فحضر إليه وحلف أنه ما جرى منه شيء ، وأن هذا الخادم طردته فاختلق عليّ ما قال. فقبل السلطان عذره وقال : ولو شتمتني أنت في حلّ ، وأمر بضرب الخادم مائة عصا. وغلت الأسعار بمصر حتى بلغ أردب القمح نحو مائة درهم ، وعدم الخبز ، فنادى السلطان في الفقراء أن يجتمعوا تحت القلعة ، ونزل في يوم الخميس سابع ربيع الآخر منها وجلس بدار العدل هذه ونظر في أمر السعر وأبطل التسعير ، وكتب مرسوما إلى الأمراء ببيع خمسمائة أردب ، في كلّ يوم ما بين مائتين إلى ما دونهما ، حتى لا يشتري الخزان شيئا ، وأن يكون البيع للضعفاء والأرامل فقط دون من عداهم ، وأمر الحجاب فنزلوا تحت القلعة وكتبوا أسماء الفقراء الذين تجمعوا بالرميلة ، وبعث إلى كلّ جهة من جهات القاهرة ومصر وضواحيهما حاجبا لكتابة أسماء الفقراء ، وقال : والله لو كان عندي غلة تكفي هؤلاء لفرّقتها ، ولما انتهى إحضار الفقراء أخذ منهم لنفسه ألوفا ، وجعل باسم ابنه الملك السعيد ألوفا ، وأمر ديوان الجيش فوزع باقيهم ، على كلّ أمير من الفقراء بعدّة رجاله ، ثم فرّق ما بقي على الأجناد ، ومفاردة الحلقة ، والمقدّمين ، والبحرية ، وجعل طائفة التركمان ناحية وطائفة الأكراد ناحية ، وقرّر لكلّ واحد من الفقراء كفايته لمدّة ثلاثة أشهر ، فلما تسلم الأمراء والأجناد ما خصهم من الفقراء فرّق من بقي منهم على الأكابر والتجار والشهود ، وعين لأرباب الزوايا مائة أردب قمح في كلّ يوم ، تخرج من الشون السلطانية إلى جامع أحمد بن طولون وتفرّق على من هناك ، ثم قال : هؤلاء المساكين الذين جمعناهم اليوم ومضى النهار لا بدّ لهم من شيء ، وأمر ففرّق في كلّ منهم نصف درهم ليتقوّت به في يومه ، ويستمرّ له من الغد ما تقرّر ، فأنفق فيهم جملة مال ، وأعطى للصاحب بهاء الدين عليّ بن محمد بن حنا طائفة كبيرة من العميان ، وأخذ الأتابك سيف الدين أقطاي طائفة التركمان ، ولم يبق أحد من الخواص والأمراء الحواشي ولا من الحجاب والولاة وأرباب المناصب وذوي المراتب وأصحاب الأموال حتى أخذ جماعة من الفقراء على قدر حاله.

وقال السلطان للأمير صارم الدين المسعوديّ والي القاهرة : خذ مائة فقير وأطعمهم لله تعالى. فقال : نعم قد أخذتهم دائما. فقال له السلطان هذا شيء فعلته ابتداء من نفسك ، وهذه المائة خذها لأجلي. فقال للسلطان : السمع والطاعة ، وأخذ مائة فقير زيادة على المائة التي عينت له ، وانقضى النهار في هذا العمل وشرع الناس في فتح الشون والمخازن وتفرقة الصدقات على الفقراء ، فنزل سعر القمح ونقص الأردب عشرين درهما ، وقلّ وجود

٣٥٩

الفقراء إلى أن جاء شهر رمضان ، وجاء المغلّ الجديد ، فأوّل يوم من بيع الجديد نقص سعر أردب القمح أربعين درهما ورقا ، وفي اليوم الذي جلس فيه السلطان بدار العدل للنظر في أمور الأسعار قرئت عليه قصة ضمان دار الضرب ، وفيها أنه قد توقفت الدراهم وسألوا إبطال الناصرية ، فإن ضمانهم بمبلغ مائتي ألف وخمسين ألف درهم ، فوقع عليها يحط عنهم منها مبلغ خمسين ألف درهم وقال : نحط هذا ولا نؤذي الناس في أموالهم.

وفي مستهل شهر رجب منها جلس أيضا بدار العدل ، فوقف له بعض الأجناد بصغير يتيم ذكر أنه وصيه ، وشكا من قضيته. فقال السلطان لقاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز ، أنّ الأجناد إذا مات أحد منهم استولى خجداشه على موجوده ، فيموت الوصيّ ، ويكبر اليتيم فلا يجد له مالا ، وتقدّم إليه أن لا يمكّن وصيا من الانفراد بتركة ميت ، ولكن يكون نظر القاضي شاملا له ، وتصير أموال الأيتام مضبوطة بأمناء الحكم. ثم أنه استدعى نقباء العساكر وأمرهم بذلك ، فاستمرّ الحال فيه على ما ذكر.

وفي خامس عشري شعبان سنة ثلاث وستين وستمائة ، جلس بدار العدل واستدعى تاج الدين ابن القرطبيّ وقال له : قد أضجرتني مما تقول عندي مصالح لبيت المال ، فتحدّث الآن بما عندك ، فتكلّم في حق قاضي القضاة تاج الدين ، وفي حق متولي جزيرة سواكن ، وفي حق الأمراء ، وأنهم إذا مات منهم أحد أخذ ورثته أكثر من استحقاقهم ، فأنكر عليه وأمر بحبسه ، وتحدّث السلطان في أمر الأجناد وأنه إذا مات أحدهم في مواطن الجهاد لا يصل إليه شاهد حتى يشهد عليه بوصيته ، وأنه يشهد بعض أصحابه ، فإذا حضر إلى القاهرة لا تقبل شهادته ، وكان الجنديّ في ذلك الوقت لا تقبل شهادته ، فرأى السلطان أن كلّ أمير يعين من جماعته عدّة ممن يعرف خيره ودينه ليسمع قولهم ، وألزم مقدّمي الأجناد بذلك ، فشرع قاضي القضاة في اختيار رجال جياد من الأجناد وعينهم لقبول شهادتهم ، ففرحت العساكر بذلك.

وجلس أيضا في تاسع عشرية بدار العدل فوقف له شخص وشكا أن الأملاك الديوانية لا يمكن أحد من سكانها أن ينتقل منها ، فأنكر السلطان ذلك وأمر أن من انقضت مدّة إجارته وأراد الخلوّ فلا يمنع من ذلك ، وله في ذلك عدّة أخبار كلها صالحة ، رحمه‌الله تعالى.

وما برحت دار العدل هذه باقية إلى أن استجدّ السلطان الملك المنصور قلاون الإيوان فهجرت دار العدل هذه إلى أن كانت سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة ، فهدمها السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون ، وعمل موضعها الطبلخاناه ، فاستمرّت طبلخاناه إلى يومنا ، إلّا أنه كان في أيام عمارتها إنما يجلس بها دائما في أيام الجلوس نائب دار العدل ومعه القضاة ، وموقع دار العدل والأمراء ، فينظر نائب دار العدل. في أمور المتظلمين ، وتقرأ عليه

٣٦٠