كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٣

تقي الدين احمد بن علي المقريزي

كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٣

المؤلف:

تقي الدين احمد بن علي المقريزي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٩

الجسر من قليوب إلى دمياط : هذا الجسر أنشأه السلطان الملك المظفر ركن الدين بيبرس المنصوريّ ، المعروف بالجاشنكير ، في أخريات سنة ثمان وسبعمائة ، وكان من خبره : أنه ورد القصاد بموافقة صاحب قبرس عدّة من ملوك الفرنج على غزو دمياط ، وأنهم أخذوا ستين قطعة ، فاجتمع الأمراء واتفقوا على إنشاء جسر من القاهرة إلى دمياط خوفا من حركة الفرنج في أيام النيل ، فيتعذر الوصول إلى دمياط ، وعين لعمل ذلك الأمير أقوش الورميّ الحساميّ ، وكتب الأمراء إلى بلادهم بخروج الرجال والأبقار ، ورسم للولاة بمساعدة أقوش ، وأن يخرج كلّ وال إلى العمل برجال عمله وأبقارهم ، فما وصل أقوش إلى ناحية فارسكور حتى وجد ولاة الأعمال قد حضروا بالرجال والأبقار ، فرتب الأمور. فعمل فيه ثلاثمائة جرّافة بستمائة رأس بقر ، وثلاثين ألف رجل ، وأقام أقوش الحرمة ، وكان عبوسا قليل الكلام مهابا إلى الغاية ، فجدّ الناس في العمل لكثرة من ضربه بالمقارع ، أو خزم أنفه ، أو قطع أذنه ، أو أخرق به ، إلى أن فرغ في نحو شهر واحد ، فجاء من قليوب إلى دمياط مسافة يومين في عرض أربع قصبات من أعلاه ، وست قصبات من أسفله ، ومشى عليه ستة رؤوس من الخيل صفا واحدا ، فعمّ النفع به وسلك عليه المسافرون بعد ما كان يتعذر السلوك أيام النيل ، لعموم الماء الأراضي. والله تعالى أعلم.

وقد وجد بخط المصنف رحمه‌الله في أصله هنا ما صورته

أمراء الغرب ببيروت بيت حشمة ومكارم ، ومقامهم بجبال الغرب من بلاد بيروت ، ولهم خدم على الناس وتفضيل ، وهم ينسبون إلى الحسين بن إسحاق بن محمد التنوخيّ الذي مدحه أبو الطيب المتنبي بقوله :

سدوا بابن إسحاق الحسين فصافحت

وقاربها كيزانها (١) والنّمارق(٢)

ثم كان كرامة بن بجير بن عليّ بن إبراهيم بن الحسين بن إسحاق بن محمد التنوخيّ ، فهاجر إلى الملك العادل نور الدين الشهيد محمود بن زنكي ، فأقطعه الغرب وما معه بإمرته ، فسمّي أمير الغرب ، وكان منشوره بخط العماد الأصفهانيّ الكاتب ، فتحضر الأمير كرامة بعد البداوة ، وسكن حصن بلجمور من نواحي إقطاعه ، ويعلو على تل أعمال بغير بناء ، ثم أنشأ أولاده هناك حصنا وما زالوا به ، وكان كرامة ثقيلا على صاحب بيروت ، وذلك أيام الفرنج ، فأراد أخذه مرارا فلم يجد إليه سبيلا ، فأخذ في الحيلة عليه ، وهادن أولاده وسألهم حتى نزلوا إلى الساحل وألفوا الصيد بالطير وغيره ، فراسلهم حتى صار يصطاد معهم وأكرمهم وحباهم وكساهم ، وما زال يستدرجهم مرّة بعد ، مرّة ، ثم أخرج ابنه معه وهو شاب وقال :

__________________

(١) الكيزان : جمع كوز ، إناء من الفخار أصغر من الإبريق له أذن يشرب منه.

(٢) النمارق : جمع نمرق : الوسادة الصغيرة ، أو الوسادة الصغيرة يجعلها الراكب تحته على الراحل.

٣٠١

قد عزمت على زواجه ، ثم دعا ملوك الساحل وأولاد كرامة الثلاثة ، فأتوه وتأخر أصغر أولاد كرامة مع أمّه بالحصن في عدّة قليلة ، فامتلأ الساحل بالشواني والمدينة بالفرنج ، وتلقوهم بالشمع والأغاني ، فلما صاروا في القلعة وجلسوا مع الملوك غدر بهم وأمسكهم وأمسك غلمانهم وغرّقهم ، وركب بجموعه ليلا إلى الحصن ، فأجفل الفلاحون والحريم والصبيان إلى الجبال والشعر والكوف ، وبلغ من بالحصن أن أولاد كرامة الثلاثة قد غرقوا ، ففتحوه وخرجت أمّهم ومعها ابنها حجي بن كرامة وعمره سبع سنين ، ولم يبق من بينهم سواه ، فأدرك السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب وتوجه إليه ، لما فتح صيدا وبيروت ، وباس رجله في ركابه ، فلمس بيده رأسه وقال له : أخذنا نارك ، طيّب قلبك ، انت مكان أبيك. وأمر له بكتابة أملاك أبيه بستين فارسا.

فلما كانت أيام المنصور قلاون ، ذكر أولاد تغلب بن مسعر الشجاعيّ أن بيد الخليقة أملا كاعظيمة بغير استحقاق ، ومن جملتهم أمراء الغرب ، فحملوا إلى مصر ، ورسم السلطان باقطاع أملاك الجبلية مع بلاد طرابلس لأمرائها وجندها ، فأقطعت لعشرين فارسا من طرابلس ، فلما كانت أيام الأشرف خليل بن قلاون ، قدموا مصر وسألوا أن يخدموا على أملاكهم بالعدّة ، فرسم لهم وأن يزيدوها عشرة أرماح ، فلما كان الروك الناصريّ ونيابة الأمير تنكر بالشام ، وولاية علاء الدين بن سعيد ، كشف تلك الجهات ، رسم السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون أن يستمرّ عليها بستين فارسا ، فاستمرّت على ذلك. ثم كان منهم الأمير ناصر الدين الحسين بن خضر بن محمد بن حجي بن كرامة بن بجير بن عليّ ، المعروف بابن أمير الغرب ، فكثرت مكارمه وإحسانه وخدمته كلّ من يتوجه إلى تلك الناحية ، وكانت إقامته بقرية أعبية بالجبل ، وله دار حسنة في بيروت ، واتصلت خدمته إلى كل غادورائح ، وباد الأكابر والأعيان مع رياسة كبيرة ومعرفة عدّة صنائع يتقنها ، وكتابة جيدة ، وترسل عدّة قصائد ، ومولده في محرّم سنة ثمان وستين وستمائة ، وتوفي للنصف من شوال سنة إحدى وخمسين وسبعمائة. انتهى.

ووجد بخطه أيضا من أخبار اليمن ما مثاله : كان ابتداء دولة بني زياد ، أن محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن زياد سلمه المأمون مع عدّة من بني أمية إلى الفضل بن سهل بن ذي الرياستين ، فورد على المأمون اختلال اليمن ، فثنى الفضل على محمد هذا ، فبعثه المأمون أميرا على اليمن ، فحج ومضى إلى اليمن ، ونتج بها من بعد محاربته العرب ، وملك اليمن وبنى مدينة زبيد في سنة ثلاث ومائتين ، وبعث مولاه جعفرا بهدية جليلة إلى المأمون في سنة خمس ، وعاد إليه في سنة ست ومعه من جهة المأمون ألفا فارس ، فقوي ابن زياد وملك جميع اليمن ، وقلد جعفر الجبال ، وبنى بها مدينة الدمجرة ، فظهرت كفاءة جعفر لكثرة دهائه ، فقتله ابن زياد ، ثم مات محمد بن زياد ، فملك بعده ابنه إبراهيم ، ثم ملك بعده ابنه أبو الجيش إسحاق بن إبراهيم ، وطالت مدّته ومات سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة وترك طفلا

٣٠٢

اسمه زياد ، فأقيم بعده وكفلته أخته هند ابنة إسحاق ، وتولى معها رشد عبد أبي الجيش حتى مات ، فولى بعد رشد عبده حسين بن سلامة ، وكان عفيفا ، فوزر لهند ولأخيها حتى ماتا ، ثم انتقل الملك إلى طفل من آل زياد ، وقام بأمره عمته وعبد الحسين بن سلامة اسمه مرجان ، وكان لمرجان عبدان قد تغلبا على أمره يقال لأحدهما قيس وللآخر نجاح ، فتنافسا على الوزارة ، وكان قيس عسوفا ، ونجاح رقيقا ، وكان مرجان سيدهما يميل إلى قيس ، وعمة الطفل تميل إلى نجاح ، فشكا قيس ذلك إلى مرجان ، فقبض على الملك الطفل إبراهيم وعلى عمته تملك ، فبنى قيس عليهما جدارا ، فكان إبراهيم آخر ملوك اليمن من آل زياد ، وكان القبض عليه وعلى عمته سنة سبع وأربعمائة ، فكانت مدّة بني زياد مائتي سنة وأربعا وستين سنة ، فعظم قتل إبراهيم وعمته تملك على نجاح وجمع الناس ، وحارب قيسا بزبيد حتى قتل قيس ، وملك نجاح المدينة في ذي القعدة سنة اثنتي عشرة ، وقال لسيده مرجان : ما فعلت بمواليك وموالينا؟ فقال : هم في ذلك الجدار ، فأخرجهما وصلى عليهما ودفنهما وبنى عليهما مسجدا ، وجعل سيده مرجان موضعهما في الجدار ، ووضع معه جثة قيس وبنى عليهما الجدار ، واستبدّ نجاح بمملكة اليمن ، وركب بالمظلة وضربت السكة باسمه ، ونجاح مولى مرجان ، ومرجان مولى حسين بن سلامة ، وحسين مولى رشد ، ورشد مولى بني زياد ، ولم يزل نجاح ملكا حتى مات سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة ، سمته جارية أهداها إليه الصليحيّ وترك من الأولاد عدّة.

فملك منهم سعيد الأحوال وإخوته عدّة سنين حتى استولى عليهم الصليحيّ فهربوا إلى دهلك ، ثم قدم منهم جياش بن نجاح إلى زبيد متنكرا ، وأخذ منها وديعة وعاد إلى دهلك ، فقدمها أخوه سعيد الأحوق بعد ذلك واختفى بها ، واستدعى أخاه جياشا وسارا في سبعين رجلا يوم التاسع من ذي القعدة سنة ثلاث وسبعين ، وقصدوا الصليحيّ وقد سار إلى الحج ، فوافوه عند بئر أمّ معبد وقتلوه في ثاني عشرى ذي القعدة المذكور ، وقتل معه ابنه عبد الله ، واحتز سعيد رأسيهما ، واحتاط على امرأته أسماء بنت شهاب ، وعاد إلى زبيد ومعه أخوه جياش والرأسان بين أيديهما على هودج أسماء ، وملك اليمن ، فجمع المكرم ابن أسماء في سنة خمس وسبعين وسار من الجبال إلى زبيد وقاتل سعيدا ، ففرّ سعيد ، وملك المكرم واسمه أحمد ، وأنزل رأس الصليحيّ وأخيه ودفنهما ، وولي زبيد خاله أسعد بن شهاب ، وماتت أسماء أمّه بعد ذلك في صنعاء سنة سبع وسبعين.

ثم عاد ابنا نجاح إلى زبيد وملكاها في سنة تسع وسبعين ، ففرّ أسعد بن سهاب ، ثم غلبهما أحمد المكرم بن عليّ الصليحيّ ، وقتل سعيد بن نجاح في سنة إحدى وثمانين ، وفرّ أخوه جياش إلى الهند ، ثم عاد وملك زبيد في سنة إحدى وثمانين المذكورة ، فولدت له جاريته الهندية ابنه الفاتك بن جياش ، وبقي المكرم في الجبال يغير على بلاد جياش ، وجياش يملك تهامة حتى مات آخر سنة ثمان وتسعين ، فملك بعده ابنه فاتك ، وخالف عليه

٣٠٣

أخوه إبراهيم ، ومات فاتك سنة ثلاث وخمسمائة ، فملك بعده ابنه منصور بن فاتك ، وهو صغير فثار عليه عمه إبراهيم فلم يظفر ، وثار بزبيد عبد الواحد بن جياش وملكها ، فسار إليه عبد فاتك واستعادها ، ثم مات منصور وملك بعده ابنه فاتك بن منصور ، ثم ملك بعده ابن عمه فاتك بن محمد بن فاتك بن جياش في سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة ، حتى قتل سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة ، وهو آخر ملوك بني نجاح ، فتغلب على اليمن عليّ بن مهديّ في سنة أربع وخمسين.

وأما الصليحيّ : فإنه عليّ بن القاضي محمد بن علي ، كان أبوه في طاعته أربعون ألفا فأخذ ابنه التشيع عن عامر بن عبد الله الرواحيّ ، أحد دعاة المستضيء ، وصحبه حتى مات ، وقد أسند إليه أمر الدعوة ، فقام بها وصار دليلا لحاج اليمن عدّة سنين ، ثم ترك الدلالة في سنة تسع وعشرين وأربعمائة ، وصعد رأس جبل مسار في ستين رجلا ، وجمع حتى ملك اليمن في سنة خمس وخمسين ، وأقام على زبيد أسعد بن شهاب بن عليّ الصليحيّ ، وهو أخو زوجته وابن عمه ، ثم انه حج فقتله بنو نجاح في ذي القعدة سنة ثلاث وسبعين ، واستقرّت التهائم لبني نجاح ، واستقرّت صنعاء لأحمد بن عليّ الصليحيّ المقتول ، وتلقب بالملك المكرم. ثم جمع وقصد سعيد بن نجاح بزبيد وقاتله وهزمه إلى دهلك ، وملك زبيد في سنة خمس وسبعين ، فعاد سعيد وملك زبيد في سنة تسع وسبعين ، فأتاه المكرم فقتله في سنة إحدى وثمانين ، فملك جياش أخو سعيد ومات المكرم بصنعاء سنة أربعة وثمانين ، فملك بعده أبو حمير سبأ بن أحمد المظفر بن عليّ الصليحيّ في سنة أربع وثمانين حتى مات سنة خمس وتسعين ، وهو آخر الصليحيين ، فملك بعده عليّ بن إبراهيم بن نجيب الدولة ، فقدم من مصر إلى جبال اليمن في سنة ثلاث عشرة وخمسمائة ، وقام بأمر الدعوة والمملكة التي كانت بيد سبأ ، ثم قبض عليه بأمر الخليفة الآمر بأحكام الله الفاطميّ بعد سنة عشرين وخمسمائة ، وانتقل الملك والدعوة إلى الزريع بن عباس بن المكرم ، وآل الزريع من إل عدن ، وهم من حمدان ، ثم من جشم ، وبنوا المكرم يعرفون بآل الذنب. وكانت عدن للزريع بن عباس وأحمد بن مسعود بن المكرم ، فقتلا على زبيد ، وولي بعدهما ولداهما أبو السعود بن زريع وأبو الغارات بن مسعود ، ثم استولى على الملك والدعوة سبأ بن أبي السعود بن زريع حتى مات سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة ، فولي بعده ولده الأعز عليّ بن سبأ ، وكان مقامه بالرمادة ، فمات بالسل ، وملك أخوه المعظم محمد في سنة ثمان وثلاثين.

وولي من الصليحيين أيضا المملكة السيدة سنة بنت أحمد بن جعفر بن موسى الصليحيّ ، زوجة أحمد المكرم ، ولقبت بالحرّز ، ومولدها سنة أربعين وأربعمائة ، وربتها أسماء بنت شهاب ، وتزوّجها الملك المكرم أحمد بن أسماء ، وهو ابن علي الصليحيّ ، سنة إحدى وستين ، وولاها الأمر في حياته ، فقامت بتدبير المملكة والحروب ، وأقبل زوجها على لذاته حتى مات ، وتولى ابن عمه سبأ ، فاستمرّت في الملك حتى مات سبأ ، وتولى ابن

٣٠٤

نجيب الدولة حتى ماتت سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة ، وشاركه في الملك المفضل أبو البركات بن الوليد الحميريّ ، وكان يحكم بين يدي الملكة الحرّة ، وهي من وراء الحجاب ، ومات المفضل في رمضان سنة أربع وثلاثين وخمسمائة ، وملك بلاده ابنه الملك المنصور ، ومنصور بن المفضل ، حتى ابتاع منه محمد بن سبأ بن أبي السعود معاقل الصليحيين ، وعدّتها ثمانية وعشرون حصنا بمائة ألف دينار ، في سنة سبع وأربعين وخمسمائة ، وبقي المنصور بعد حتى مات بعد ما ملك نحو ثمانين سنة.

وأما عليّ بن مهديّ : فإنه حميريّ من سواحل زبيد ، كان أبوه مهديّ رجلا صالحا ، ونشأ ابنه على طريقة حسنة ، وحج ووعظ ، وكان فصيحا حسن الصوت عالما بالتفسير وغيره ، يتحدّث بالمغيبات فتكون كما يقول ، وله عدّة أتباع كثيرة وجموع عديدة ، ثم قصد الجبال وأقام بها إلى سنة إحدى وأربعين وخمسمائة ، ثم عاد إلى أملاكه ووعظ ، ثم عاد إلى الجبال ودعا إلى نفسه فأجابه بطن من خولان فسماهم الأنصاري ، وسمّي من صعد معه من تهامة المهاجرين ، وولّى على خولان سبأ ، وعلى المهاجرين رجلا آخر ، وسمّي كلا منهما شيخ الإسلام ، وجعلهما نقيبين على طائفتيهما فلا يخاطبه أحد غيرهما وهما يوصلان كلامه إلى من تحت أيديهما ، وأخذ يغادي الغارات ويراوحها على التهائم حتى أجلى البوادي ، ثم حاصر زبيد حتى قتل فاتك بن محمد آخر ملوك بني نجاح ، فحارب ابن مهديّ عبد فاتك حتى غلبهم وملك زبيد يوم الجمعة رابع عشر رجب سنة أربع وخمسين وخمسمائة ، فبقي على الملك شهرين وأحدا وعشرين يوما ومات.

فملك بعده ابنه مهديّ ثم عبد الغنيّ بن مهديّ ، وخرجت المملكة عن عبد الغنيّ إلى أخيه عبد الله ، ثم عادت إلى عبد الغنيّ ، واستقرّ حتى سار إليه توران شاه بن أيوب من مصر في سنة تسع وستين وخمسمائة وفتح اليمن وأسر عبد الغنيّ ، وهو آخر ملوك بني مهديّ ، يكفر بالمعاصي ويقتل من يخالف اعتقاده ويستبيح وطء نسائهم واسترقاق أولادهم ، وكان حنفي الفروع ، ولأصحابه فيه غلوّ زائد ، ومن مذهبه قتل من شرب الخمر ومن سمع الغناء.

ثم ملك توران شاه بن أيوب عدن من ياسر ، وملك بلاد اليمن كلها واستقرّت في ملك السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ، وعاد شمس الدولة توازن شاه بن أيوب إلى مصر في شعبان سنة ست وسبعين ، واستخلف على عدم عز الدين عثمان بن الزنجيلي ، وعلى زبيد حطان بن كليل بن منقد الكافي ، فمات شمس الدولة بالإسكندرية ، فاختلف نوّابه ، فبعث السلطان صلاح الدين يوسف جيشا فاستولى على اليمن ، ثم بعث في سنة ثمان وسبعين أخاه سيف الإسلام ظهير الدين طفتكين بن أيوب ، فقدم إليها وقبض على حطان بن كليل بن منقد وأخذ أمواله وفيها سبعون غلاف زردية مملوءة ذهبا عينا ، وسجنه فكان آخر العهد به ، ونجا عثمان بن الزنجيليّ بأمواله إلى الشام فظفر بها سيف الإسلام ، وصفت له

٣٠٥

مملكة اليمن حتى مات بها في شوال سنة ثلاث وتسعين. فأقيم بعده ابنه الملك المعز اسماعيل بن طفتكين بن أيوب ، فجعظ وادّعى أنه أمويّ ، وخطب لنفسه بالخلافة وعمل طول كمه عشرين ذراعا ، فثار عليه مماليكه وقتلوه في سنة تسع وتسعين ، وأقاموا بعده أخاه الناصر ، ومات بعد أربع سنين فقام من بعده زوج أمّه غازي بن حزيل أحد الأمراء ، فقتله جماعة من العرب ، وبقي اليمن بغير سلطان ، فتغلبت أمّ الناصر على زبيد ، فقدم سليمان بن سعد الدين شاهنشاه بن أيوب إلى اليمن ، فعبر يحمل ركوته على كتفه فملكته أم الناصر البلاد وتزوّجت به ، فاشتدّ ظلمه وعتوّه إلى أن قدم الملك المسعود أقسيس بن الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب من مصر في سنة اثنتي عشرة وستمائة ، فقبض عليه وحمله إلى مصر فأجرى له الكامل ما يقوم به إلى أن استشهد على المنصورة سنة سبع وأربعين وستمائة ، وأقام المسعود باليمن وحج ملك مكة أيضا في شهر ربيع الأوّل سنة عشرين وستمائة ، وعاد إلى اليمن ثم خرج عنها واستخلف عليها استاداره عليّ بن رسول ، فمات بمكة سنة ست وعشرين ، فقام عليّ بن رسول على ملك اليمن حتى مات في سنة تسع وعشرين ، واستقرّ عوضه ابنه عمر بن عليّ بن رسول وتلقب بالمنصور حتى قتل سنة ثمان وأربعين ، واستقرّ بعده ابنه المظفر يوسف بن عمر بن عليّ بن رسول وصفا له اليمن وطالت أيامه انتهى ما ذكره المصنف بخطه في تاريخه ، عفا الله عنه وأرضاه وجعل الجنة مقرّه ومثواه.

ووجد بخطه أيضا ما مثاله : السلطان محمد بن طغلق شاه ، وطغلق يلقب غياث الدين ، وهو مملوك السلطان علاء الدين محمود بن شهاب الدين مسعود ملك الهند ، مقرّ ملكه مدينة دهلي وجميع البلاد برّا وبحرا بيده ، إلّا الجزائر المغلغلة في البحر ، وأما الساحل فلم يبق منه قيد شبر إلا وهو بيده ، وأوّل ما فتح مملكة تكنك ، عدّة قراها مائة ألف قرية وتسعمائة قرية ، فتح بلاد حاجنكيز ، وبها سبعون مدينة جليلة كلها بنادر على البحر ، فتح بلاد لنكوتي وهي كرسيّ تسعة ملوك ، ثم فتح بلاد دواكير وبها أربع وثمانون قلعة كلها جليلات المقدار ، وبها ألف ألف قرية ومائتا ألف قرية ، ثم فتح بلاد ورسمند وكان بها ستة ملوك ، ثم فتح بلاد المعبر وهم أقليم جليل له سبعون مدينة بنادر على البحر ، وجملة ما بيده ثلاثة وعشرون إقليما ، وهي : أقليم دهلي ، وأقليم الدواكير ، وإقليم الملثان ، وإقليم كهران ، وإقليم سامان ، وإقليم سوستان ، وإقليم وجا ، وإقليم هاسي ، وإقليم سرسيني ، وإقليم المعبر ، وإقليم تكنك كحرات ، وإقليم بداون ، وإقليبم عوض ، وإقليم التيوج ، وإقليم لنكوتي ، وإقليم بهار ، وإقليك كره ، وإقليم ملاوه ، وإقليم بهادر ، وإقليم كلافور ، وإقليم حاجنكيز ، وإقليم بليخ ، وإقليم ورسمند. وهذه الأقاليم تشتمل على ألف مدينة ، ومائتي مدينة دهلي دور عمرانها أربعون ميلا ، وجملة ما يطلق عليه اسم دهلي إحدى وعشرون مدينة ، وفي دهلي ألف مدرسة كلها للحنفية إلّا واحدة فإنها للشافعية ، ونحو سبعين

٣٠٦

مارستان ، وفي بلادها من الخوانك والربط نحو ألفين ، وبها جامع ارتفاع مئذنته ستمائة ذراع في الهواء ، وللسلطان خدمة مرّتين في كلّ يوم بكرة وبعد العصر ، ورتب الأمراء على هذه الأنواع ، أعلاهم قدرا الخانات ثم الملوك ثم الأمراء ثم الأسفهسلارية ثم اجلند ، وفي خدمته ثمانون خانا ، وعسكره تسعمائة ألف فارس ، وله ثلاثة آلاف فيل تلبس في الحروب البرك اصطونات الحديد المذهب ، وتلبس في أيام السلم جلال الديباج وأنواع الحرير وتزين بالقصور والأسرّة المصفحة ويشدّ عليها بروج الخشب يركب فيها الرجال للحرب ، فيكون على الفيل من عشرة رجال إلى ستة ، وله عشرون ألف مملوك أتراك ، وعشرة آلاف خادم خصيّ ، وألف خازندار ، وألف مشبقدار ، ومائتا ألف عبد ركابية تلبس السلاح وتمشي بركابه وتقاتل رجالة بين يديه ، والاسفهسلارية لا يؤهل منهم أحد لقرب السلطان ، وإنما يكون منهم نوع الولاة ، والخان يكون له عشرة آلاف فارس ، وللملك ألف ، وللأمير مائة فارس ، وللاسفسلار دون ذلك ، ولكلّ خان عبرة لكّين كلّ لك مائة ألف تنكة ، كلّ تنكة ثمانية دراهم ، ولكلّ ملك من ستين ألف تنكة إلى خمسين ألف تنكة ، ولكل أمير من أربعين ألف تنكة إلى ثلاثين ألف تنكة ، ولكلّ اسفهسلار من عشرين ألف تنكة إلى ما حولها ، ولكلّ جنديّ من عشرة آلاف تنكة إلى ألف تنكة ، ولكلّ مملوك من خمسة آلاف تنكة إلى ألف تنكة ، سوى طعامهم وكساويهم وعليقهم ، ولكلّ عبد في الشهر منان من الحنطة والأرز ، في كلّ يوم ثلاثة أستار لحم وما يحتاج إليه ، وفي كلّ شهر عشر تنكات بيضاء ، وفي كلّ سنة أربع كساو. وللسلطان دار طراز فيها أربعة آلاف قزّاز لعمل أنواع القماش ، سوى ما يحمل له من الصين والعراق والإسكندرية ، ويفرّق كلّ سنة مائتي ألف كسوة كاملة ، في فصل الربيع مائة ألف ، وفي فصل الخريف مائة ألف ، ففي الربيع غالب الكسوة من عمل الإسكندرية ، وفي الخريف كلها حرير من عمل دار الطراز بدهلي وقماش الصين والعراق ، ويفرّق على الخوانك والربط الكساوي ، وله أربعة آلاف زركشيّ تعمل الزركش ، ويفرّق كلّ سنة عشرة آلاف فرس مسرجة وغير مسرجة سوى ما يعطي الأجناد من البراذين ، فإنه بلا حساب يعطي جشارات ، ومع هذا فالخيل عنده غالية مطلوبة ، وللسلطان نائب من الخانات يسمى ابريت ، اقطاعه قدر إقليم بحر العراق ، ووزير إقطاعه كذلك ، وله أربعة نوّاب مسمى كلّ واحد منهم من أربعين ألف تنكة إلى عشرين ألف تنكة ، وله أربعة ربيسان أي كتاب سرّ ، لكلّ واحد منهم ثلاثمائة كاتب ، ولكل كاتب إقليم عشرة آلاف تنكة ، ولصدر جهان وهو قاضي القضاة قرى يتحصل منها نحو ستين ألف تنكة ، ولصدر الإسلام وهو أكبر نوّاب القاضي ، ولشيخ الإسلام وهو شيخ الشيوخ مثل ذلك ، وللمحتسب ثمانية آلاف تنكة ، وله ألف طبيب ومائتا طبيب ، وعشرة آلاف بزدار تركب الخيل وتحمل طيور الصيد ، وله ثلاثة آلاف سوّاق لتحصيل الصيد ، وخمسمائة نديم ، وألفان ومائتان للملاهي سوى مماليكه ، وهم ألف مملوك ، وألف شاعر باللغات العربية والفارسية والهندية ، يجري عليهم ديوانه ،

٣٠٧

ومتى غنى أحد منهم لغيره قتله ، ولكلّ نديم قريتان أو قرية ، ومن أربعين ألف تنكة إلى ثلاثين ألف تنكة إلى عشرين ألف تنكة ، سوى الخلع والكساوي والافتقادات ، ويمدّ في وقت كلّ خدمة في المرتين من كلّ يوم سماط يأكل منه عشرون ألفا مثل الخانات والملوك والأمراء والاسفهسلارية وأعيان الأجناد ، وله طعام خاص ، يأكل معه الفقهاء وعدّتهم مائتا فقيه في الغداء والعشاء ، فيأكلون ويتباحثون بين يديه ، ويذبح في مطابخه كلّ يوم ألفان وخمسمائة رأس من البقر ، وألفا رأس من الغنم ، سوى الخيل وأنواع الطير ، ولا يحضر مجلسه من الجند إلّا الأعيان ، ومن دعته ضرورة إلى الحضور ، والندماء وأرباب الأغاني يحضرون بالنوبة ، وكذلك الربيسان والأطباء ونحوهم لكلّ طائفة نوبة تحضر فيها للخدمة ، والشعراء تحضر في العيدين والمواسم وأوّل شهر رمضان ، وإذا تجدّد نصر على عدوّ أو فتوح ونحو ذلك مما يهنّى به السلطان.

وأمور الجند والعامّة مرجعها إلى ابريت ، وأمر القضاة كلهم مرجعه إلى صدر جهان ، وأمر الفقهاء إلى شيخ الإسلام ، وأمر الواردين والوافدين والأدباء والشعراء إلى الربيسان ، وهم كتاب السرّ. وجهز هذا السلطان مرّة أحد كتاب سرّه إلى السلطان أبي سعيد رسولا ، وبعث معه ألف ألف تنكة ليتصدّق بها في مشاهد العراق ، وخمسمائة فرس ، فقدم بغداد وقد مات أبو سعيد ، وكان هذا السلطان ترعد الفرائض لمهابته وتزلزل الأرض لموكبه ، يجلس بنفسه لإنصاف رعيته ولقراءة القصص عليه جلوسا عامّا ، ولا يدخل أحد عليه ومعه سلاح ولو السكين ويجلس ، وعنده سلاح كامل لا يفارقه أبدا ، وإذا ركب في الحرب فلا يمكن وصف هيبته ، وله أعلام سود في أوساطها تبابين من ذهب تسير عن يمينه ، وأعلام حمر فيها تبابين من ذهب تسير عن يساره ، ومعه مائتا جمل نقارات ، وأربعون جملا كوسات كبارا ، وعشرون بوقا ، وعشرة صنوج ، ويدق له خمس نوب كلّ يوم ، وإذا خرج إلى الصيد كان في جف وعدّة من معه زيادة على مائة ألف فارس ومائتي فيل وأربعة قصور خشب على ثمانمائة جمل ، كلّ قصر منها على مائتي جمل كلها ملبسة حريرا مذهبا ، كلّ قصر طبقتان ، سوى الخيم والجركاوات ، وإذا انتقل من مكان إلى مكان للنزهة يكون معه نحو ثلاثين ألف فارس وألف جنيب مسرجة ملجمة بالذهب المرصع بالجوهر والياقوت ، وإذا خرج في قصره من موضع إلى آخر يمرّ راكبا وعلى رأسه الحبر ، والسلاح دارية وراءه بأيديهم السلاح ، وحوله نحو اثنا عشر ألف مملوك مشاة ، لا يركب منهم إلّا حامل الحبر والسلاح دارية والجمدارية حملة القماش ، وإذا خرج للحرب أو سفر طويل حمل على رأسه سبع حبورة ، منها اثنان مرصعان ليس لهما قيمة ، وله فخامة عظيمة وقوانين وأوضاع جليلة ، والخانات والملوك والأمراء لا يركب أحد منهم في السفر والحضر إلّا بالأعلام ، وأكثر ما يحمل الخان سبعة أعلام ، وأكثر ما يحمل الأمير ثلاثة ، وأكثر ما يجرّه الخان في الحضر عشرة جنائب ، وأكثر ما يجرّ الأمير في الحضر جنيبان ، وأما في السفر فحسبما يختار.

٣٠٨

وكان للسلطان برّ وإحسان ، وفيه تواضع ، ولقد مات عنده رجل فقير فشهد جنازته وحمل نعشه على عنقه ، وكان يحفظ القرآن العزيز العظيم والهداية في فقه الحنفية ، ويجيد علم المعقول ، ويكتب خطا حسنا ، ولذته في الرياضة وتأديب النفس ، ويقول الشعر ويباحث العلماء ويؤاخذ الشعراء ويأخذ بأطراف الكلام على كلّ من حضر على كثرة العلماء عنده ، والعلماء تحضر عنده وتفطر في رمضان معه بتعيين صدر جهان لهم في كلّ ليلة ، وكان لا يترخص في محذور ولا يقرّ على منكر ولا يتجاسر أحد في بلاده أن يتظاهر بمحرّم ، وكان يشدّد في الخمر ويبالغ في العقوبة على من يتعاطاه من المقرّبين منه ، وعاقب بعض أكابر الخانات على شرب الخمر وقبض عليه وأخذ أمواله وجملتها أربعمائة ألف ألف مثقال وسبعة وثلاثون ألف ألف مثقال ذهبا أحمر ، زنتها ألف وسبعمائة قنطار بالمصريّ ، وله وجوه برّ كثيرة منها : أنه يتصدّق في كلّ يوم بلكّين ، عنهما من نقد مصر ألف وستمائة ألف درهم ، وربما بلغت صدقته في يوم واحد خمسين لكّا ، ويتصدّق عند كلّ رؤية هلال شهر بلكين دائما ، وعليه راتب لأربعين ألف فقير ، كلّ واحد منهم درهم في كلّ يوم ، وخمسة أرطال برّ وأرز ، وقرّر ألف فقيه في مكاتب لتعليم الأطفال القرآن ، وأجرى عليهم الأرزاق ، وكان لا يدعي بدهلي سائلا بل يجري على الجميع الأرزاق ، ويبالغ في الإحسان إلى الغرباء ، وقدم عليه رسول من أبي سعيد مرّة بالسلام والتودّد ، فخلع عليه وأعطاه حملا من المال ، فلما أراد الانصراف أمره أن يدخل الخزانة ويأخذ ما يختار ، فلم يأخذ غير مصحف ، فسأله عن ذلك فقال : قد أغناني السلطان بفضله ، ولم أجد أشرف من كتاب الله ، فزاد إعجابه به وأعطاه مالا جملته ثمانمائة تومان ، والتومان عشرة آلاف دينار ، وكلّ دينار ستة دراهم ، تكون جملة ذلك ثمانية آلاف ألف دينار ، عنها ثمانية وأربعون ألف ألف درهم.

وقصده شخص من بلاد فارس وقدّم له كتبا في الحكمة منها كتاب الشفاء لابن سينا ، فأعطاه جوهرا بعشرين ألف مثقال من الذهب ، وقصده آخر من بخارى بحملي بطيخ أصفر فتلف غالبه حتى لم يبق منه إلا اثنتان وعشرون بطيخة ، فأعطاه ثلاثة آلاف مثقال ذهبا ، وكان قد التزم أن لا ينطق في إطلاقاته بأقل من ثلاثة آلاف مثقال ذهبا ، وبعث ثلاث لكوك ذهبا إلى بلاد ما وراء النهر ليفرّق على العلماء لكّ ، وعلى الفقراء لكّ ، ويبتاع له حوائج بلك ، وبعث للبرهان الضياء عزه جي شيخ سمرقند بأربعين ألف تنكة ، وكان لا يفارق العلماء سفرا وحضرا ، ومنار الشرع في أيامه قائم ، والجهاد مستمرّ ، فبلغ مبلغا عظيما في إعلاء كلمة الإيمان ، فنشر الإسلام في تلك الأقطار وهدم بيوت النيران وكسر الندود والأصنام واتصل به الإسلام إلى أقصى الشرق ، وعمر الجوامع والمساجد ، وأبطل التثويب في الآذان ولم يخل له يوم من الأيام من بيع آلاف من الرقيق لكثرة السبي ، حتى أن الجارية لا يتعدّى ثمنها بمدينة دهلي ثمان تنكات ، والسرّية خمس عشرة تنكة ، والعبد المراهق أربعة دراهم ، ومع رخص قيمة الرقيق فإنه تبلغ قيمة الجارية الهندية عشرين ألف تنكة ، لحسنها ولطف خلقها ،

٣٠٩

وحفظها القرآن وكتابتها الخط ، وروايتها الأشعار والأخبار ، وجودة غنائها وضربها بالعود ولعبها بالشطرنج ، وهن يتفاخرن فتقول الواحدة آخذ قلب سيدي في ثلاثة أيام ، فتقول الأخرى أنا آخذ قلبه في يوم ، فتقول الأخرى أنا أخذ قلبه في ساعة ، فتقول الأخرى أنا آخذ قلبه في طرفة عين ، وكان ينعم على جميع من في خدمته من أرباب السيوف والأقلام بكلّ جليل من البلاد والأموال والجواهر والخيول المجللة بالذهب وغير ذلك ، إلّا الفيلة فإنه لا يشاركه فيها أحد ، وللثلاثة آلاف فيل راتب عظيم ، فأكثرها مؤنة له في كلّ يوم أربعون رطلا من أرز ، وستون رطلا من شعير ، وعشرون رطلا من سمن ، ونصف حمل من حشيش ، وقيّمها جليل القدر ، إقطاعه مثل إقليم العراق ، وإذا وقف السلطان للحرب كان أهل العلم حوله والرماة قدّامه وخلفه ، وأمامه الفيلة كما تقدّم عليها الفيالة ، وقدّامها العبيد المشاة ، والخيل في الميمنة والميسرة ، فتهيأ له من النصر ما لا تهيأ لأحد ممن تقدّمه ، ففتح الممالك وهدم قواعد الكفار ومحا صور معابدهم ، وأبطل فخرهم ، وكان يجلس كلّ يوم ثلاثاء جلوسا عامّا على تخت مصفح بالذهب ، وعلى رأسه حبر في موكب عظيم ، وينادي مناديه من له شكوى في شخص ، فينظر في ظلامات الناس ، وكان لا يوجد بدهلي في أيامه خمر البتة.

وأوّل من ملك مدينة دهلي قطب الدين أيبك ، وذلك أن شهاب الدين محمد بن سالم بن الحسين ، أحد الملوك الغورية ، فتح الهند بعد عدّة حروب ، وأقطع مملوكه أيبك هذا مدينة دهلي ، فبعث أيبك عسكرا عليه محمد بن بختيار ، فأخذ إلى تخوم الصين ، وذلك كله في سنة سبع وأربعين وخمسمائة ، ثم ولي بعده ايتمش بن أيبك أربعين سنة ، فقام بعده ابنه علاء الدين عليّ بن ايتمش بن أيبك ، ثم أخوه معز الدين بن أيتمش ، ثم أخته رضية خاتون فأقامت ثلاث سنين ، ثم أخوها ناصر الدين بن ايتمش فأقام أربعا وعشرين سنة ، ثم قام بعده مملوكه غياث الدين بليان سبعا وعشرين سنة ، ثم بعده معز الدين نيابا خمس سنين ، ثم ابنه شمس الدين كيمورس سبعة أشهر ، ثم خرج الملك عن بيت السلطان شمس الدين ايتمش ، وقويت التركمان العلجية وكانوا أمراء يقال للواحد منهم خان ، واستبدّ كبيرهم جلال الدين فيروز سبع سنين ، ثم ابن أخيه علاء الدين محمود بن شهاب مسعود اثنتين وعشرين سنة ، ومات سنة خمس عشرة وسبعمائة ، ثم ابنه شهاب الدين عمر بن محمود بن مسعود سنة واحدة ، ولقب غياث الدين ، ثم أخوه قطب الدين مبارك بن محمود أربع سنين وقتل سنة عشرين وسبعمائة ، ثم علاء الدين خسر ومملوك علاء الدين محمود سبعة أشهر ، وملك غياث الدين طغلق شاه مملوك السلطان علاء الدين محمود بن مسعود في أوّل شعبان سنة عشرين وسبعمائة ، ثم ملك بعده ابنه محمد بن طغلق شاه صاحب الترجمة. هذا آخر ما وجد بخطه رحمه‌الله تعالى.

ووجد بخطه أيضا رحمه‌الله تعالى : ما أحسن قول الأديب محمد بن حسن بن شاور النقيب :

٣١٠

مشت أيامكم لا بل نراها

جرت جريا على غير اعتياد

وما عقدت نواصيها بخير

ولا كانت تعدّ من الجياد

بخشان : مدينة فيما وراء النهر بها معدن اللعل البدخشانيّ ، وهو المسمى بالبلخش ، وبها معدن اللازورد الفائق ، وهما في جبل بها يحفر عليهما في معادنهما ، فيوجد اللازورد بسهولة ، ولا يوجد اللعل إلا بتعب كبير وإنفاق زائد ، وقد لا يوجد بعد التعب الشديد والنفقة الكثيرة ، ولهذا عز وجوده وغلت قيمته.

وأقصر ليل بلغار بالبحرين أربع ساعات ونصف ، وأقصر ليل أفتكون ثلاث ساعات ونصف ، فهو أقصر من ليل بلغار بساعة واحدة ، وبين بلغار وأفتكون مسافة عشرين يوما بالسير المعتاد. انتهى.

السلطانية من عراق العجم ، بناها السلطان محمد خدابنده أوكانيق بن أرغون بن ابغا بن هولاكو ، وخدابنده ملك بعد أخيه محمود غازان ، وملك بعد خدابنده ابنه السلطان أبو سعيد بهادر خان ، وكان الشيخ حسن بن حسين بن أقبغا مع قائد السلطان محمد بن طشتمر بن استيمر بن عترجي ، ومذ مات أبو سعيد لم يجمع بعده على طاعة ملك ، بل تفرّقوا وقام في كلّ ناحية قائم. انتهى.

ووجد بخطه أيضا ما نصه : ولله در أبي إسحاق الأديب حيث قال :

إذا كنت قد أيقنت أنك هالك

فمالك مما دون ذلك تشفق

ومما يشين المرء ذا الحلم أنّه

يرى الأمر حتما واقعا ثم يقلق

وحيث يقول :

ومن طوى الخمسين من عمره

لاقى أمورا فيه مستنكرة

وإن تخطاها رأى بعدها

من حادثات الدهر ما لم يره

انتهى ما وجد بخطه في أصله.

ذكر الجزائر

اعلم أن الجزائر التي هي الآن في بحر النيل كلها حادثة في الملة الإسلامية ، ما عدا الجزيرة التي تعرف اليوم بالروضة تجاه مدينة مصر ، فإن العرب لما دخلوا مع عمرو بن العاص إلى مصر ، وحاصروا الحصن الذي يعرف اليوم بقصر الشمع في مصر ، حتى فتحه الله تعالى عنوة على المسلمين ، كانت هذه الجزيرة حينئذ تجاه القصر ، ولم يبلغني إلى الآن متى حدثت ، وأما غيرها من الجزائر فكلها قد تجدّدت بعد فتح مصر.

٣١١

ويقال والله أعلم ، أنّ بلهيت الذي يعرف اليوم بأبي الهول ، طلسم وضعه القدماء لقلب الرمل عن برّ مصر الغربيّ الذي يعرف اليوم ببرّ الجيزة ، وأنه كان في البرّ الشرقيّ بجوار قصر الشمع صنم من حجارة على مسامتة أبي الهول ، بحيث لو امتدّ خيط من رأس أبي الهول وخرج على استواء ، لسقط على رأس هذا الصنم ، وكان مستقبل المشرق ، وأنه وضع أيضا لقلب الرمل عن البرّ الشرقيّ ، فقدّر الله سبحانه وتعالى أن كسر هذا الصنم على يد بعض أمراء الملك الناصر محمد بن قلاون ، في سنة إحدى عشرة وسبعمائة ، وحفر تحته حتى بلغ الحفر إلى الماء ، ظنا أنه يكون هناك كنز ، فلم يوجد شيء ، وكان هذا الصنم يعرف عند أهل مصر بسريّة أبي الهول ، فكان عقيب ذلك غلبة النيل على البرّ الشرقيّ ، وصارت هذه الجزائر الموجودة اليوم ، وكذلك قام شخص من صوفية الخانقاه الصلاحية سعيد السعداء ، يعرف بالشيخ محمد صائم الدهر في تغيير المنكر أعوام بضع وثمانين وسبعمائة ، فشوّه وجوه سباع الحجر التي على قناطر السباع خارج القاهرة ، وشوّه وجه أبي الهول ، فغلب الرمل على أراضي الجيزة ، ولا ينكر ذلك ، فلله في خليقته أسرار يطلع عليها من يشاء من عباده ، والكلّ بخلقه وتقديره.

وقد ذكر الأستاذ إبراهيم بن وصيف شاه في كتاب أخبار مصر ، في خبر الواحات الداخلة ، أن في تلك الصحارى كانت أكثر مدن ملوك مصر العجيبة وكنوزهم ، إلا أن الرمال غلبت عليها. قال : ولم يبق بمصر ملك إلّا وقد عمل للرمال طلسما لدفعها ، ففسدت طلسماتها لقدم الزمان.

وذكر ابن يونس عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال : إني لأعلم السنة التي تخرجون فيها من مصر ، قال ابن سالم : فقلت له ما يخرجنا منها يا أبا محمد أعدوّ؟ قال : لا ولكنكم يخرجكم منها نيلكم ، هذا يغور فلا تبقى منه قطرة ، حتى تكون فيه الكثبان من الرمل ، وتأكل سباع الأرض حيتانه.

وقال الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير قال : إنّ الصحابيّ حدّثه أنه سمع كعبا يقول : ستعرك العراق عرك الأديم ، وتفت مصر فت البعرة. قال الليث : وحدّثني رجل عن وهب المعافريّ أنه قال : وتشق الشام شق الشعرة ، وسأذكر من خبر هذه الجزائر المشهورة ما وصلت إلى معرفته إن شاء الله تعالى.

ذكر الروضة

اعلم أنّ الروضة تطلق في زماننا هذا على الجزيرة التي بين مدينة مصر ومدينة الجيزة ، وعرفت في أوّل الإسلام بالجزيرة ، وبجزيرة مصر ، ثم قيل لها جزيرة الحصن ، وعرفت إلى اليوم بالروضة ، وإلى هذه الجزيرة انتقل المقوقس لما فتح الله تعالى على المسلمين القصر

٣١٢

وصار بها هو ومن معه من جموع الروم والقبط ، وبها أيضا بنى أحمد بن طولون الحصن ، وبها كانت الصناعة ، يعني صناعة السفن الحربية ، أي كانت بها دار الصناعة ، وبها كان الجنان والمختار ، وبها كان الهودج الذي بناه الخليفة الآمر بأحكام الله لمحبوبته البدوية ، وبها بنى الملك الصالح نجم الدين أيوب القلعة الصالحية ، وبها إلى اليوم مقياس النيل ، وسأورد من أخبار الروضة هنا ما لا تجده مجتمعا في غير هذا الكتاب.

قال ابن عبد الحكم وقد ذكر محاصرة المسلمين للحصن : فلما رأى القوم الجدّ من المسلمين على فتح الحصن والحرص ، ورأوا صبرهم على القتال ورغبتهم فيه ، خافوا أن يظهروا عليهم ، فتنحى المقوقس وجماعة من أكابر القبط وخرجوا من باب الحصن القبليّ ، ودونهم جماعة يقاتلون العرب ، فلحقوا بالجزيرة موضع الصناعة اليوم وأمروا بقطع الجسر ، وذلك في جري النيل ، وتخلف في الحصن بعد المقوقس الأعرج ، فلما خاف فتح باب الحصن خرج هو وأهل القوّة والشرف وكانت سفنهم ملصقة بالحصن ، ثم لحقوا بالمقوقس بالجزيرة.

قال : وكان بالجزيرة يعني بعد فتح مصر في أيام عبد العزيز بن مروان أمير مصر ، خمسمائة فاعل معدّة لحريق يكون في البلد أو هدم.

وقال القضاعيّ جزيرة فسطاط مصر. قال الكنديّ : بنيت بالجزيرة الصناعة في سنة أربع وخمسين ، وحصن الجزيرة بناه أحمد بن طولون في سنة ثلاث وستين ومائتين ليحرز فيه حرمه وماله ، وكان سبب ذلك مسير موسى بن بغا العراقيّ من العراق واليا على مصر ، وجميع أعمال ابن طولون ، وذلك في خلافة المعتمد على الله. فلما بلغ أحمد بن طولون مسيرة ، استعدّ لحربه ومنعه من دخول أعماله ، فلما بلغ موسى بن بغا إلى الرقة تثاقل عن المسير لعظم شأن ابن طولون وقوّته ، ثم عرضت لموسى علة طالت به وكان بها موته ، وثاوره الغلمان وطلبوا منه الأرزاق ، وكان ذلك سبب تركه المسير ، فلم يلبث موسى بن بغا أن مات وكفى ابن طولون أمره ، ولم يزل هذا الحصن على الجزيرة حتى أخذه النيل شيئا بعد شيء ، وقد بقيت منه بقايا متقطعة إلى الآن ، وقد اختصر القاضي القضاعيّ رحمه‌الله في ذكر سبب بناء ابن طولون حصن الجزيرة.

وقد ذكر جامع سيرة ابن طولون أن صاحب الزنج لما قدم البصرة في سنة أربع وخمسين ومائتين ، واستعجل أمره ، أنفذ إليه أمير المؤمنين المعتمد على الله تعالى ، أبو العباس أحمد ابن أمير المؤمنين ، المتوكل على الله جعفر بن المعتصم بن الرشيد رسولا ، في حمل أخيه الموفق بالله أبي أحمد طلحة من مكة إليه ، وكان الخليفة المهتدي بالله محمد بن الواثق بن المعتصم نفاه إليها ، فلما وصل إليه جعل العهد بالخلافة من بعده لابنه المفوّض ، وبعد المفوّض تكون الخلافة للموفق طلحة ، وجعل غرب الممالك الإسلامية للمفوّض ،

٣١٣

وشرقها للموفق ، وكتب بينهما بذلك كتابا ارتهن فيه أيمانهما بالوفاء بما قد وقعت عليه الشروط ، وكان الموفق يحسد أخاه المعتمد على الخلافة ولا يراه أهلا لها ، فلما جعل المعتمد الخلافة من بعده لابنه ثم للموفق بعده ، شق ذلك عليه وزاد في حقده ، وكان المعتمد متشاغلا بملاذّ نفسه من الصيد واللعب والتفرّد بجواريه ، فضاعت الأمور وفسد تدبير الأحوال وفاز كلّ من كان متقلدا عملا بما تقلده ، وكان في الشروط التي كتبها المعتمد بين المفوّض والموفق ، أنه ما حدث في عمل كلّ واحد منهما من حدث كانت النفقة عليه من مال خراج قسمه ، واستخلف على قسم ابنه المفوّض موسى بن بغا ، فاستكتب موسى بن بغا عبيد الله بن سليمان بن وهب ، وانفرد الموفق بقسمه من ممالك الشرق ، وتقدّم إلى كلّ منهما أن لا ينظر في عمل الآخر ، وخلد كتاب الشروط بالكعبة ، وأفرد الموفق لمحاربة صاحب الزنج وأخرجه إليه وضم معه الجيوش ، فلما كبر أمره وطالت محاربته أياه ، وانقطعت موادّ خراج المشرق عن الموفق ، وتقاعد الناس عن حمل المال الذي كان يحمل في كلّ عام ، واحتجوا بأشياء ، دعت الضرورة الموفق إلى أن كتب إلى أحمد بن طولون ، وهو يومئذ أمير مصر ، في حمل ما يستعين به في حروب صاحب الزنج ، وكانت مصر في قسم المفوّض ، لأنها من الممالك الغربية ، إلّا أن الموفق شكا في كتابه إلى ابن طولون شدّة حاجته إلى المال بسبب ما هو بسبيله ، وأنفذ مع الكتاب تحريرا خادم المتوكل ليقبض منه المال ، فما هو إلّا أن ورد تحرير على ابن طولون بمصر ، وإذا بكتاب المعتمد قد ورد عليه ، يأمره فيه بحمل المال إليه على رسمه مع ما جرى الرسم بحمله مع المال في كلّ سنة ، من الطراز والرقيق والخيل والشمع وغير ذلك ، وكتب أيضا إلى أحمد بن طولون كتابا في السرّ ، أنّ الموفق إنما أنفذ تحريرا إليك عينا ومستقصيا على أخبارك ، وأنه قد كاتب بعض أصحابك فاحترس منه واحمل المال إلينا وعجل إنفاذه ، وكان تحرير لما قدم إلى مصر أنزله أحمد بن طولون معه في داره بالميدان ، ومنعه من الركوب ولم يمكنه من الخروج من الدار التي أنزله بها حتى سار من مصر ، وتلطف في الكتب التي أجاب بها الموفق ، ولم يزل بتحرير حتى أخذ جميع ما كان معه من الكتب التي وردت من العراق إلى مصر ، وبعث معه إلى الموفق ألف ألف دينار ومائتي ألف دينار ، وما جرى الرسم بحمله من مصر ، وأخرج معه العدول وسار بنفسه صحبته حتى بلغ به العريش ، وأرسل إلى ماخور متولي الشام ، فقدم عليه بالعريش ، وسلّمه إليه هو والمال وأشهد عليه بتسليم ذلك ورجع إلى مصر ، ونظر في الكتب التي أخذها من تحرير ، فإذا هي إلى جماعة من قوّاده باستمالتهم إلى الموفق ، فقبض على أربابها وعاقبهم حتى هلكوا في عقوبته ، فلما وصل جواب ابن طولون إلى الموفق ومعه المال ، كتب إليه كتابا ثانيا يستقل فيه المال ويقول : إن الحساب يوجب أضعاف ما حملت ، وبسط لسانه بالقول ، والتمس فيمن معه من يخرج إلى مصر ويتقلدها عوضا عن ابن طولون فلم يجد أحدا عوضه ، لما كان من كيس أحمد بن طولون وملاطفته وجوه الدولة.

٣١٤

فلما ورد كتاب الموفق على ابن طولون قال : وأيّ حساب بيني وبينه ، أو حال توجب مكاتبتي بهذا أو غيره ، وكتب إليه بعد البسملة : وصل كتاب الأمير أيده الله تعالى وفهمته ، وكان ، أسعده الله ، حقيقا بحسن التخير لمثلي وتصييره إياي عمدته التي يعتمد عليها ، وسيفه الذي يصول به ، وسنانه الذي يتقي الأعداء بحدّه ، لأني دائب في ذلك وجعلته وكدي ، واحتملت الكلف العظام والمؤن الثقال باستجذاب كل موصوف بشجاعة ، واستدعاء كلّ منعوت بغنى وكفاية ، بالتوسعة عليهم وتواصل الصلات ، والمعاون لهم ، صيانة لهذه الدولة وذبا عنها ، وحسما لأطماع المتشوّفين لها والمنحرفين عنها ، ومن كانت هذه سبيله في الموالاة ، ومنهجه في المناصحة ، فهو حريّ أن يعرف له حقه ويوفر من الإعظام قدره ، ومن كلّ حال جليلة حظه ومنزلته ، فعو ملت بضدّ ذلك من المطالبة بحمل ما أمر به والجفاء في المخاطبة بغير حال توجب ذلك ، ثم أكلف على الطاعة جعلا ، وألزم في المناصحة ثمنا ، وعهدي بمن أستدعي ما استدعاه الأمير من طاعته ، أن يستدعيه بالبذل والإعطاء والإرغاب والإرضاء والإكرام ، لا أن يكلّف ويحمل من الطاعة مؤنة وثقلا ، وإني لا أعرف السبب الذي يوجب الوحشة ويوقعها بيني وبين الأمير أيده الله تعالى ، ولا ثم معاملة تقتضي معاملة أو تحدث منافرة ، لأن العمل الذي أنا بسبيله لغيره ، والمكاتبة في أموره إلى من سواه ، ولا أنا من قبله ، فإنه والأمير جعفر المفوّض أيده الله تعالى ، قد اقتسما الأعمال وصار لكلّ واحد منهما قسم قد انفرد به دون صاحبه ، وأخذت عليه البيعة فيه أنه من نقض عهده أو أخفر ذمّته ولم يف لصاحبه بما أكد على نفسه ، فالأمّة بريئة منه ومن بيعته ، وفي حلّ وسعة من خلفه ، والذي عاملني به الأمير من محاولة صرفي مرّة وإسقاط رسمي أخرى ، وما يأتيه ويسومنيه ناقض لشرطه مفسد لعهده ، وقد التمس أوليائي وأكثروا الطلب في إسقاط اسمه وإزالة رسمه ، فآثرت الإبقاء وإن لم يؤثره ، واستعملت الأناة إذ لم تستعمل معي ، ورأيت الاحتمال والكظم أشبه بذوي المعرفة والفهم ، فصبرت نفسي على أحرّ من الجمر ، وأمرّ من الصبر ، وعلى ما لا يتسع به الصدر. والأمير أيده الله تعالى أولى من أعانني على ما أوثره من لزوم عهده ، وأتوخاه من تأكيد عقده بحسن العشرة والإنصاف وكف الأذى والمضرّة ، وأن لا يضطرّني إلى ما يعلم الله عزوجل كرهي له ، أن أجعل ما قد أعددته لحياطة الدولة من الجيوش المتكاثفة والعساكر المتضاعفة التي قد ضرّست رجالها من الحروب وجرت عليهم محن الخطوب مصر وفا إلى نقضها ، فعندنا وفي حيزنا من يرى أنه أحق بهذا الأمر وأولى من الأمير ، ولو أمنوني على أنفسهم ، فضلا عن أن يعثروا مني على ميل ، أو قيام بنصرتهم ، لاشتدّت شوكتهم ولصعب على السلطان معاركتهم ، والأمير يعلم أن بإزائه منهم واحدا قد كبر عليه وفض كلّ جيش أنهضه إليه ، على أنه لا ناصر له إلّا لفيف البصرة وأوباش عامّتها ، فكيف من يجدر كنا منيعا وناصرا مطيعا ، وما مثل الأمير في أصالة رأيه يصرف مائة ألف عنان عدّة له ، فيجعلها عليه بغير ما سبب يوجب ذلك ، فإن يكن من الأمير أعتاب أو رجوع

٣١٥

إلى ما هو أشبه به وأولى ، وإلّا رجوت من الله عزوجل كفاية أمره وحسم مادّة شرّه ، وأجراءنا في الحياطة على أجمل عادته عندنا والسلام.

فلما وصل الكتاب إلى الموفق أقلقه وبلغ منه مبلغا عظيما ، وأغاظه غيظا شديدا ، وأحضر موسى بن بغا وكان عون الدولة وأشدّ أهلها بأسا وإقداما ، فتقدّم إليه في صرف أحمد بن طولون عن مصر وتقليدها ماخور ، فامتثل ذلك وكتب إلى ماخور كتاب التقليد وأنفذه إليه ، فلما وصل إليه الكتاب توقف عن إرساله إلى أحمد بن طولون لعجزه عن مناهضته ، وخرج موسى بن بغا عن الحضرة مقدّرا أنه يدور عمل المفوّض ليحمل الأموال منه ، وكتب إلى ماخور أمير الشام ، وإلى أحمد بن طولون أمير مصر ، لما بلغه من توقف ما خور عن مناهضته يأمرهما بحمل الأموال ، وعزم على قصد مصر والإيقاع بابن طولون واستخلاف ماخور عليها ، فسار إلى الرقة وبلغ ذلك ابن طولون فأقلقه وغمه ، لا لأنه يقصر عن موسى بن بغا ، لكن لتحمله هتك الدولة ، وأن يأتي سبيل من قاوم السلطان وحاربه وكسر جيوشه ، إلّا أنه لم يجد بدّا من المحاربة ليدفع عن نفسه ، وتأمّل مدينة فسطاط مصر فوجدها لا تؤخذ إلّا من جهة النيل ، فأراد لكبر همته وكثرة فكره في عواقب الأمور ، أن يبني حصنا على الجزيرة التي بين الفسطاط والجيزة ليكون معقلا لحرمه وذخائره. ثم يشتغل بعد ذلك بحرب من يأتي من البر ، وقد زاد فذكره فيمن يقدم من النيل ، فأمر ببناء الحصن على الجزيرة ، واتخذ مائة مركب حربية سوى ما ينضاف إليها من العلابيات والحمائم والعشاريات والسنابيك وقوارب الخدمة ، وعمد إلى سدّ وجه البحر الكبير ، وأن يمنع ما يجيء إليه من مراكب طرسوس وغيرها من البحر الملح إلى النيل ، بأن توقف هذه المراكب الحربية في وجه البحر الكبير ، خوفا مما سيجيء من مراكب طرسوس ، كما فعل محمد بن سليمان من بعده بأولاده ، كأنه ينظر إلى الغيب من ستر رقيق ، وجعل فيها من يذب عن هذه الجزيرة ، وأنفذ إلى الصعيد وإلى أسفل الأرض بمنع من يحمل الغلال إلى البلاد ، ليمنع من يأتي من البرّ الميرة ، وأقام موسى بن بغا بالرقة عشرة أشهر ، وقد اضطربت عليه الأتراك وطالبوه بأرزاقهم مطالبة شديدة ، بحيث استتر منهم كاتبه عبيد الله بن سليمان لتعذر المال عليه ، وخوفه على نفسه منهم ، فخاف موسى بن بغا عند ذلك ودعته ضرورة الحال إلى الرجوع ، فعاد إلى الحضرة ولم يقم بها سوى شهرين ومات من علة ، في صفر سنة أربع وستين ومائتين ، هذا وأحمد بن طولون يجدّ في بناء الحصن على الجزيرة ، وقد ألزم قوّاده وثقاته أمر الحصن ، وفرّقه عليهم قطعا ، قام كلّ واحد بما لزمه من ذلك ، وكدّ نفسه فيه ، وكان يتعاهدهم بنفسه في كلّ يوم ، وهو في غفلة عما صنعه الله تعالى له من الكفاية والغنى عما يعانيه ، ومن كثرة ما بذل في هذا العمل ، قدّر أنّ كلّ طوبة منه وقفت عليه بدرهم صحيح ، ولما تواترت الأخبار بموت موسى بن بغا كف عن العمل ، وتصدّق بمال كثير شكرا لله تعالى على ما منّ به عليه من صيانته عما يقبح فيه عنه إلّا حدوثة ، وما رأى الناس

٣١٦

شيئا كان أعظم من عظيم الجدّ في بناء هذا الحصن ، ومباكرة الصناع له في الأسحار حتى فرغوا منه ، فإنهم كان يخرجون إليه من منازلهم في كلّ بكرة من تلقاء أنفسهم من غير استحثاث ، لكثرة ما سخا به من بذل المال ، فلما انقطع البناء لم ير أحد من الصناع التي كانت فيه مع كثرتها ، كأنما هي نار صبّ عليها ماء فطفئت لوقتها ، ووهب للصناع مالا جزيلا وترك لهم جميع ما كان سلفا معهم ، وبلغ مصروف هذا الحصن ثمانين ألف دينار ذهبا.

وكان مما حمل أحمد بن طولون على بناء الحصن ، أن الموفق أراد أن يشغل قلبه ، فسرقت نعله من بيت حظية لا يدخله إلّا ثقاته ، وبعث الموفق إليه. فقال له الرسول : من قدر على أخذ هذه النعل من الموضع الذي تعرفه ، أليس هو بقادر على أخذ روحك ، فو الله أيها الأمير لقد قام عليه أخذ هذه النعل بخمسين ألف دينار ، فعند ذلك أمر ببناء الحصن.

وقال أبو عمر الكنديّ في كتاب أمراء مصر : وتقدّم أبو أحمد الموفق إلى موسى بن بغا في صرف أحمد بن طولون عن مصر وتقليدها ماخور التركيّ ، فكتب موسى بن بغا بذلك إلى ماخور وهو والي دمشق يومئذ ، فتوقف لعجزه عن مقاومة أحمد بن طولون ، فخرج موسى بن بغا فنزل الرقة ، وبلغ ابن طولون أنه سائر إليه ، ولم يجد بدّا من محاربته ، فأخذ أحمد بن طولون في الحذر منه وابتدأ في ابتناء الحصن الذي بالجزيرة التي بين الجسرين ، ورأى أن يجعله معقلا لماله وحرمه ، وذلك في سنة ثلاث وستين ومائتين ، واجتهد أحمد بن طولون في بناء المراكب الحربية ، وأطافها بالجزيرة ، وأظهر الامتناع من موسى بن بغا بكل ما قدر عليه ، وأقام موسى بن بغا بالرقة عشرة أشهر ، وأحمد بن طولون في إحكام أموره ، واضطربت أصحاب موسى بن بغا عليه وضاق بهم منزلهم ، وطالبوا موسى بالمسير أو الرجوع إلى العراق ، فبينا هو كذلك توفي موسى بن بغا في سنة أربع وستين ومائتين. وقال محمد بن داود لأحمد بن طولون وفين تحامل :

لما ثوى ابن بغا بالرقتين ملا

ساقيه زرقا إلى الكعبين والعقب

بنى الجزيرة حصنا يستجن به

بالعسف والضرب والصناع في تعب

وراقب الجيزة القصوى فخندقها

وكاد يصعق من خوف ومن رعب

له مراكب فوق النيل راكدة

فما سوى القار للنظار والخشب

ترى عليها لباس الذل مذ بنيت

بالشطّ ممنوعة من عزّة الطلب

فما بناها لغزو الروم محتسبا

لكن بناها غداة الروع والعطب

وقال سعيد بن القاضي من أبيات :

٣١٧

وإن جئت رأس الجسر فانظر تأمّلا

إلى الحصن أو فاعبر إليه على الجسر

ترى أثرا لم يبق من يستطيعه

من الناس في بدو البلاد ولا حضر

مآثر لا تبلى وإن باد أهلها

ومجد يؤدّي وارثيه إلى الفخر

وما زال حصن الجزيرة هذا عامرا أيام بني طولون ، وعملت فيه صناعة مصر التي تنشأ فيها المراكب الحربية ، فاستمرّ صناعة إلى أن تقلد الأمير محمد بن طفج الإخشيد إمارة مصر من قبل أمير المؤمنين الراضي بالله ، وسير مراكب من الشأم ، عليها صاعد بن الكلكم ، فدخل تنيس وسارت مقدّمته في البر ، ودخل صاعد دمياط وسار فهزم جيش مصر الذي جهزه أحمد بن كيغلغ إليه ، بتدبير محمد بن عليّ الماردانيّ على بحيرة نوسا ، وأقبل في مراكبه إلى الفسطاط ، فكان بالجزيرة ، وقدم محمد بن طفج وتسلم البلد لست بقين من رمضان سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة وفرّ منه جماعة إلى الفيوم ، فخرج إليهم صاعد بن الكلكم في مراكبه وواقعهم بالفيوم ، فقتل في عدّة من أصحابه ، وقدمت الجماعة في مراكب ابن كلكم فأرسوا بجزيرة الصناعة وحرّقوها ، ثم مضوا إلى الإسكندرية وساروا إلى برقة فقال محمد بن طفج الصناعة هنا خطأ وأمر بعمل صناعة في برّ مصر.

وحكى ابن زولاق في سيرة محمد بن طفج أنه قال : اذكر أني كنت آكل مع أبي منصور تكين أمير مصر ، وجرى ذكر الصناعة فقال تكين : صناعة يكون بيننا وبينها بحر خطأ ، فأشارت الجماعة بنقلها فقال : إلى أيّ موضع؟ فأردت أن أشير عليه بدار خديجة بنت الفتح بن خاقان ، ثم سكت وقلت أدع هذا الرأي لنفي إذا ملكت مصر ، فبلغت ذلك والحمد لله وحده. ولما أخذ محمد بن طفج دار خديجة كان يتردّد إليها حتى عملت ، فلما ابتدءوا بإنشاء المراكب فيها صاحت به امرأة فقال : خذوها ، فساروا بها إلى داره ، فأحضرها مسار واستخبرها عن أمرها فقالت : ابعث معي من يحمل المال ، فأرسل معها جماعة إلى دار خديجة هذه ، فدلتهم على مكان استخرجوا منه عينا وورقا وحليا وثيابا وعدّة ذخائر لم ير مثلها ، وصاروا بها إلى محمد بن طفج ، فطلب المرأة ليكافئها على ما كان منها فلم توجد ، فكان هذا أوّل مال وصل إلى محمد بن طفج بمصر. قال : واستدعى محمد بن طفج الإخشيد صالح بن نافع وقال له : كان في نفسي إذا ملكت مصر أن أجعل صناعة العمارة في دار ابنة الفتح ، وأجعل موضع الصناعة من الجزيرة بستانا أسميه المختار ، فاركب وخط لي بستانا ودارا ، وقدّر لي النفقة عليهما ، فركب صالح بجماعة وخطوا بستانا فيه دار للغلمان ودار للنوبة وخزائن للكسوة وخزائن للطعام ، وصوّروه وأتوا به فاستحسنه وقال : كم قدّرتم النفقة؟ قالوا ثلاثين ألف دينار. فاستكثرها ، فلم يزالوا يضعون من التقدير حتى صار خمسة آلاف دينار ، فأذن في عمله.

٣١٨

ولما شرعوا فيه ألزمهم المال من عندهم ، فقسّط على جماعة ، وفرغ من بنائه ، فاتخذه الإخشيد منتزها له وصار يفاخر به أهل العراق ، وكان نقل الصناعة من الجزيرة إلى ساحل النيل بمصر في شعبان خمس وعشرين وثلاثمائة ، فلم يزل البستان المختار منتزها إلى أن زالت الدولة الإخشيدية والكافورية ، وقدمت الدولة الفاطمية من بلاد المغرب إلى مصر ، فكان يتنزه فيه المعز لدين الله معدّ ، وابنه العزيز بالله نزار ، وصارت الجزيرة مدينة عامرة بالناس ، لها وال وقاض ، وكان يقال القاهرة ومصر والجزيرة ، فلما كانت أيام استيلاء الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدرا الجمالي ، وحجره على الخلفاء ، أنشأ في بحريّ الجزيرة مكانا نزها سماه الروضة ، وتردّد إليها تردّدا كثيرا ، فكان يسير في العشاريات الموكبيات من دار الملك التي كانت سكنه بمصر ، إلى الروضة. ومن حينئذ صارت الجزيرة كلها تعرف بالروضة ، فلما قتل الأفضل بن أمير الجيوش ، واستبدّ الخليفة الآمر بأحكام الله أبو عليّ منصور بن المستعلي بالله ، أنشأ بجوار البستان المختار من جزيرة الروضة مكانا لمحبوبته العالية البدوية ، سماه الهودج.

الهودج : قال ابن سعيد في كتاب المحلّى بالأشعار عن تاريخ القرطبيّ : قد أكثر الناس في حديث البدوية وابن مياح من بني عمها وما يتعلق بذلك من ذكر الخليفة الآمر بأحكام الله ، حتى صارت رواياتهم في هذا الشأن كأحاديث البطال وألف ليلة وليلة وما أشبه ذلك ، والاختصار منه أن يقال أنّ الخليفة الآمر كان قد ابتلى بعشق الجواري العربيات ، وصارت له عيون في البوادي ، فبلغه أن بالصعيد جارية من أكمل العرب وأظرف نسائهم ، شاعرة جميلة ، فيقال أنه تزيا بزيّ بداة الأعراب وصار يجول في الأحياء إلى أن انتهى إلى حيها ، وبات هناك في ضائفة ، وتحيل حتى عاينها ، فما ملك صبره ، ورجع إلى مقرّ ملكه وسرير خلافته ، فأرسل إلى أهلها يخطبها فأجابوه إلى ذلك وزوّجوها منه ، فلما صارت إلى القصور صعب عليها مفارقة ما اعتادت ، وأحبت أن تسرّج طرفها في الفضاء ولا تقبض نفسها تحت حيطان المدينة ، فبنى لها البناء المشهور في جزيرة الفسطاط المعروف بالهودج ، وكان على شاطيء النيل في شكل غريب ، وكان بالإسكندرية القاضي مكين الدولة أبو طالب أحمد بن عبد المجيد بن أحمد بن الحسن بن حديد ، قد استولى على أمورها وصار قاضيها وناظرها ، ولم يبق لأحد معه فيها كلام ، وضمن أموالها بحملة يحملها ، وكان ذا مروءة عظيمة يحتذي أفعال البرامكة ، وللشعراء فيه مدائح كثيرة ، وممن مدحه ظافر الحدّاد ، وأمية بن أبي الصلت ، وجماعة ، وكان الأفضل بن أمير الجيوش إذا أراد الاعتناء بأحد كتب معه كتابا إلى ابن حديد هذا ، فيغنيه بكثرة عطائه ، وكان له بستان يتفرّج فيه ، به جرن كبير من رخام قطعة واحدة ، ينحدر فيه الماء فيبقى كالبركة من سعته ، وكان يجد في نفسه برؤية هذا الجرن زيادة على أهل النعم ، ويباهي به أهل عصره ، فوشي به للبدوية محبوبة الخليفة ، فطلبته من الخليفة ، فأنفذ في الحال بإحضاره ، فلم يسع ابن حديد إلّا أن قلعه من مكانه

٣١٩

وبعث به وفي نفسه حزازة من أخذه منه ، وخدم البدوية وخدم جميع من يلوذ بها ، حتى قالت : هذا الرجل أخجلنا بكثرة هداياه وتحفه ، ولم يكلفنا قط أمرا نقدر عليه عند الخليفة مولانا ، فلما بلغه ذلك عنها قال : ما لي حاجة بعد الدعاء لله تعالى بحفظ مكانها وطول حياتها ، غير ردّ الجرن الذي أخذ من داري التي بنيتها في أيامهم من نعمهم إلى مكانه ، فلما سمعت هذا عنه تعجبت منه وأمرت بردّ الجرن إليه ، فقيل له قد وصلت إلى حدّ أن خيرتك البدوية في جميع المطالب ، فنزلت همتك إلى قطعة حجر. فقال : أنا أعرف بنفسي ، ما كان لها أمل سوى أن لا تغلب في أخذ ذلك الجرن من مكانه ، وقد بلغها الله أملها ، وبقيت البدوية متعلقة الخاطر بابن عمّ لها ربيت معه يعرف بابن ميّاح ، فكتبت إليه وهي بقصر الخليفة الآمر :

يا ابن ميّاح إليك المشتكى

مالك من بعدكم قد ملك

كنت في حيى مرأ مطلقا

نائلا ما شئت منكم مدركا

فأنا الآن بقصر مؤصد

لا أرى إلّا حبيسا ممسكا

كم تثنينا بأغصان اللوا

حيث لا نخشى علينا دركا

وتلاعبنا بر ملات الحمى

حيثما شاء طليق سلكا

فأجابها :

بنت عمي والتي غذيتها

بالهوى حتّى علا واحتنكا

بحت بالشكوى وعندي ضعفها

لو غدا ينفع منها المشتكى

ما لك الأمر إليه يشتكى

هالك وهو الذي قد هلكا

شأن داود غدا في عصرنا

مبديا بالتيه ما قد ملكا

فبلغت الآمر فقال : لولا أنه أساء الأدب في البيت الرابع لرددتها إلى حيه وزوّجتها به.

قال القرطبيّ وللناس في طلب ابن ميّاح واختفائه أخبار تطور ، وكان من عرب طيء في عصر الخليفة الآمر طراد بن مهلهل ، فلما بلغه قضية الآمر مع العالية البدوية قال :

ألا أبلغوا الآمر المصطفى

مقال طراد ونعم المقال

قطعت الأليفين عن إلفة

بها سمر الحيّ بين الرجال

كذا كان آباؤك الأقدمون

سألت فقل لي جواب السؤال

فلما بلغ الآمر شعره قال : جواب السؤال قطع لسانه على فضوله ، وأمر بطلبه في أحياء العرب ففرّ ولم يقدر علي ، فقالت العرب : ما أخسر صفقة طراد ، باع أبيات الحيّ بثلاثة أبيات ، ولم يزل الآمر يتردّد إلى الهودج بالروضة للنزهة فيه ، إلى أن ركب من القصر بالقاهرة يريد الهودج في يوم الثلاثاء رابع ذي القعدة سنة أربع وعشرين وخمسمائة ، فلما

٣٢٠