كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٣

تقي الدين احمد بن علي المقريزي

كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٣

المؤلف:

تقي الدين احمد بن علي المقريزي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٩

البدري ، وزادت وجاعته في أيامه إلى أن مات ، يوم الاثنين سابع عشر ذي الحجة ، سنة ست وأربعين وسبعمائة. وكان شكلا مليحا حليما ، كثير المعروف والجود ، عفيفا لا يستخدم مملوكا أمرد البتة ، واقتصر من النساء على امرأته التي قدمت معه إلى مصر ، ومنها أولاده ، وكان يحب العلم وأهله ويطارح بمسائل علمية ، ويعرف ربع العبادات ، ويجيده ويتكلم على الخلاف فيه ، ويميل إلى الشيخ تقيّ الدين أحمد بن تيمية ، ويعادي من يعاديه ، ويكرم أصحابه ويكتب كلامه ، مع كثرة الإحسان إلى الناس بماله وجاهه ، وكان ينتسب إلى إبراهيم بن أدهم ، وهو من محاسن الدولة التركية رحمه‌الله.

حكر الخازن : هذا المكان فيما بين بركة الفيل وخط الجامع الطولوني ، كان من جملة البساتين ثم صار إصطبلا للجوق الذي فيه خيول المماليك السلطانية ، فلما تسلطن الملك العادل كتبغا اخرج منه الخيول وعمله ميدانا يشرف على بركة الفيل ، في سنة خمس وتسعين وستمائة ، ونزل إليه ولعب فيه بالاكرة أيام سلطنته كلها إلى أن خلعه الملك المنصور لاجين ، وقام في الملك من بعده ، فأهمل أمره وعمر فيه الأمير علم الدين سنجر الخازن وإلى القاهرة بيتا ، فعرف من حينئذ بحكر الخازن ، وتبعه الناس في البناء هناك ، وأنشأوا فيه الدور الجليلة ، فصار من أجلّ الأخطاط وأعمرها ، وأكثر من يسكن به الأمراء والمماليك.

سنجر الخازن : الأمير علم الدين الأشرفيّ ، أحد مماليك الملك المنصور قلاوون ، وتنقل في أيام ابنه الملك الأشرف خليل ، وصار أحد الخزان ، فعرف بالخازن. ثم ولي شدّ الدواوين مع الصاحب أمين الدين ، وانتقل منها إلى ولاية البهنسا ، ثم إلى ولاية القاهرة ، وشدّ الجهات. فباشر ذلك بعقل وسياسة وحسن خلق وقلة ظلم ومحبة للستر ، وتغافل عن مساويء الناس ، وإقالة عثرات ذوي الهيآت مع العصبية والمعرفة وكثرة المال وسعة الحال واقتناء الأملاك الكثيرة ، ثم أنه صرف عن ولاية القاهرة بالأمير قدادار في شهر رمضان سنة أربع وعشرين وسبعمائة ، فوجد الناس من عزله بقدادار شدّة ، وما زال بالقاهرة إلى أن مات ليلة السبت ثامن جمادى الأولى سنة خمس وثلاثين وسبعمائة ، فوجد له أربعة عشر ألف أردب غلة عتيقة وأموال كثيرة ، وله من الآثار مسجد بناه فوق درب استجدّه بحكر الخازن ، وخانقاه بالقرافة ، دفن فيها عفا الله عنه.

ربع البزادرة : هذا الربع تحت قلعة الجبل بسوق الخيل ، عمر بعد سنة ثلاث عشرة وسبعمائة ، وكان مكانه لا عمارة فيه ، فبنى الأجناد بجواره عدّة مساكن واستجدّوا حكرين من جواره ، فامتدّت العمائر إلى تربة شجر الدر حيث كان البستان المعروف بشجر الدر ، وهناك الآن سكن الخلفاء ، وامتدّت العمائر من تربة شجر الدر إلى المشهد النفيسيّ ، ومرّوا من تجاه المشهد بالعمائر إلى أن اتصلت بعمائر مصر وباب القرافة.

خط قناطر السباع : كان هذا الخط في أوّل الإسلام يعرف بالحمراء ، نزل فيه طائفة

٢٤١

تعرف ببني الأزرق وبني روبيل ، ثم دئرت هذه الخطة وبقيت صحراء فيها ديارات وكنائس للنصارى تعرف بكنائس الحمراء ، فلما زالت دولة بني أمية ودخل أصحاب بني العباس إلى مصر في سنة اثنتين وثلاثين ومائة ، نزلوا في هذه الخطة وعمروا بها فصارت تتصل بالعسكر ، وقد تقدّم خبر العسكر في هذا الكتاب ، فلما خرب العسكر وصار هذا المكان بساتين وغيرها إلى أن حفر الملك الناصر محمد بن قلاوون البركة الناصرية ، وانشأ ميدان المهاري والزريبة والربعين بجوار الجامع الطيبرسيّ على شاطىء النيل ؛ بنى الناس في حكر أقبغا واتصلت العمائر من خط السبع سقايات وخط قناطر السباع حتى اتصلت بالقاهرة ومصر والقرافة ، وذلك كله من بعد سنة عشرين وسبعمائة.

بئر الوطاويط : هذه البئر أنشأها الوزير أبو الفضل جعفر بن الفضل بن جعفر بن الفرات ، المعروف بابن خترابه ، لينقل منها الماء إلى السبع سقايات التي أنشأها وحبسها لجميع المسلمين ، التي كانت بخط الحمراء ، وكتب عليها بسم الله الرحم الرحيم ، لله الأمر من قبل ومن بعد ، وله الشكر وله الحمد ، ومنه المن على عبده جعفر بن الفضل بن جعفر بن الفرات ، وما وفقه له من البناء لهذه البئر وجريانها إلى السبع سقايات ، التي أنشأها وحبسها لجميع المسلمين ، وحبسه وسبله وقفا مؤبدا لا يحل تغييره ولا العدول بشيء من مائه ، ولا ينقل ولا يبطل ولا يساق إلّا إلى حيث مجراه ، إلى السقايات المسبلة ، فمن بدّله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدّلونه ، إن الله سميع عليم. وذلك في سنة خمس وخمسين وثلاثمائة ، وصلى الله على نبيه محمد وآله وسلم ، فلما طال الأمر خربت السقايات ، وإلى اليوم ، يعرف موضعها بخط السبع سقايات ، وبنى فوق البئر المذكورة وتولد فيها كثرة من الوطاويط ، فعرفت ببئر الوطاويط ، ولما أكثر الناس من بناء الأماكن في أيام الناصر محمد بن قلاوون ، عمر هذا المكان وعرف إلى اليوم بخط بئر الوطاويط ، وهو خط عامر ، فهذا ما في جهة الخليج مما خرج عن باب زويلة.

وأما جهة الجبل فإنها كانت عند وضع القاهرة صحراء ، وأوّل من أعلم أنه عمر خارج باب زويلة من هذه الجهة الصالح طلائع بن رزيك ، فإنه أنشأ الجامع الذي يقال له جامع الصالح ، ولم يكن بين هذا الجامع وبين هذا الشرف الذي عليه الآن قلعة الجبل بناء البتة ، إلّا أن هذا الموضع الآن عمل الناس فيه مقبرة ، فيما بين جامع الصالح وبين هذا الشرف من حين بنيت الحارات خارج باب زويلة ، فلما عمرت قلعة الجبل عمر الناس بهذه شيئا بعد شيء ، وما برح من بنى هناك يجد عند الحفر رمم الأموات ، وقد صارت هذه الجهة في الدولة التركية لا سيما بعد سنة ثلاث عشرة وسبعمائة من أعمر الأخطاط ، وأنشأ فيها الأمراء الجوامع والدور الملوكية ، وتحدّدت هناك عدّة أسواق ، وصار الشارع خارج باب زويلة يفصل بين هذه الجهة وبين الجهة التي من حدّ الخليج ، وكلتا هاتين الجهتين الآن عامرة ، وفي جهة الجبل خط البسطيين ، وخط الدرب الأحمر ، وخط سوق الغنم ، وخط جامع

٢٤٢

المارديني ، وخط التبانة ، وخط باب الوزير ، وخط المصنع ، وخط سويقة العزي ، وخط مدرسة الجابي ، وخط الرميلة ، وخط القبيبات ، وخط باب القرافة.

ذكر خارج باب الفتوح

اعلم أن خارج باب الفتوح إلى الخندق كان كله بساتين ، وتمتدّ البساتين من الخندق بحافتي الخليج إلى عين شمس ، فيقابل باب الفتوح من خارجه المنظرة المقدّم ذكرها عند ذكر المناظر التي كانت للخلفاء من هذا الكتاب ، ويلي هذه المنظرة بستان كبير عرف بالبستان الجيوشيّ ، أوّله من عند زقاق الكحل إلى المطرية ، ويقابله في برّ الخليج الغربيّ بستان آخر يتوصل إليه من باب القنطرة ، وينتهي إلى الخندق ، وقد ذكر خبر هذين البستانين عند ذكر مناظر الخلفاء ، وكان بين هذين البستانين بستان الخندق ، وكان على حافة الخليج من شرقيه فيما بين زقاق الكحل وباب القنطرة ، حيث المواضع التي تعرف اليوم ببركة جناق وبالكداسين إلى قريب من حارة بهاء الدين ، حارة تعرف بحارة البيازرة ، اختطت في نحو من سنة عشرين وخمسمائة ، وكانت مناظرها تشرف على الخليج ، وبجوارها بستان مختار الصقلبيّ ، وعرف بعد ذلك ببستان ابن صيرم الذي حكر وبنيت فيه المساكن الكثيرة بعد ذلك ، وكان أيضا خارج باب الفتوح حارة الحسينية ، وهم الريحانية إحدى طوائف عسكر الخلفاء الفاطميين ، وهذه الحارة اختطت بعد الشدّة العظمى التي كانت بمصر في خلافة المستنصر ، فصارت على يمين من خرج من باب الفتوح إلى صحراء الهليلج ، ويقابلها حارة أخرى تنتهي إلى بركة الأرمن التي عند الخندق ، وتعرف اليوم ببركة قراجا ، وقد ذكرت هذه الحارات عند ذكر حارات القاهرة وظواهرها من هذا الكتاب.

ذكر الخندق

هذا الموضع قرية خارج باب الفتوح كانت تعرف أوّلا بمنية الأصبغ ، ثم لما اختط القائد جوهر القاهرة أمر المغاربة أن يحفروا خندقا من جهة الشام ، من الجبل إلى الإبليز ، عرضه عشرة أذرع في عمق مثلها ، فبديء به يوم السبت حادي عشري شعبان سنة ستين وثلاثمائة ، وفرغ في أيام يسيرة ، وحفر خندقا آخر قدّامه وعمقه ، ونصب عليه باب يدخل منه ، وهو الباب الذي كان على ميدان البستان الذي للأخشيد ، وقصد أن يقاتل القرامطة من وراء هذا الخندق ، فقيل له من حينئذ الخندق ، وخندق العبيد ، والحفرة ، ثم صار بستانا جليلا من جملة البساتين السلطانية في أيام الخلفاء الفاطميين ، وأدركناها من منتزهات القاهرة البهجة إلى أن خربت.

قال ابن عبد الحكم : وكان عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه قد أقطع ابن سندر منية الأصبغ ، فحاز لنفسه منها ألف فدّان ، كما حدّثنا يحيى بن خالد عن الليث بن سعد

٢٤٣

رضي‌الله‌عنه ، ولم يبلغنا أن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه أقطع أحدا من الناس شيئا من أرض مصر ، إلّا ابن سندر ، فإنه أقطعه منية الأصبغ ، فلم تزل له حتى مات ، فاشتراها الأصبغ بن عبد العزيز من ورثته ، فليس بمصر قطيعة أقدم منها ولا أفضل ، وكان سبب إقطاع عمر رضي‌الله‌عنه ما أقطعه من ذلك كما حدّثنا عبد الملك بن مسلمة عن ابن لهيعة عن عمرو بن شعيبة عن أبيه عن جدّه ، أنه كان لزنباع بن روح الجذاميّ غلام يقال له سندر ، فوجده يقبل جارية له ، فجبه وجدع أنفه وأذنه ، فأتى سندر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأرسل إلى زنباع فقال : «لا تحملوهم من العمل ما لا يطيقون ، وأطعموهم مما تأكلون ، وألبسوهم مما تلبسون ، فإن رضيتم فامسكوا ، وإن كرهتم فبيعوا ولا تعذبوا خلق الله ، ومن مثّل به أو أحرق بالنار فهو حرّ ، وهو مولى الله ورسوله ، فأعتق سندر فقال : أوص بي يا رسول الله. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أوصي بك كل مسلم» فلما توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى سندر أبا بكر رضي‌الله‌عنه فقال : احفظ فيّ وصية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فعاله أبو بكر رضي‌الله‌عنه حتى توفي. ثم أتى عمر رضي‌الله‌عنه فقال : احفظ في وصية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال عمر رضي‌الله‌عنه : نعم إن رضيت أن تقيم عندي أجريت عليك ما كان يجرى عليك أبو بكر رضي‌الله‌عنه ، وإلا فانظر أيّ موضع أكتب لك. فقال سندر : مصر ، لأنها أرض ريف ، فكتب له إلى عمرو بن العاص : احفظ فيه وصية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فلما قدم إلى عمرو رضي‌الله‌عنه ، أقطع له أرضا واسعة ودارا ، فجعل سندر يعيش فيها ، فلما مات قبضت في مال الله تعالى.

قال عمرو بن شعيب : ثم اقطعها عبد العزيز بن مروان الأصبغ بعد ، فهي من خير أموالهم. قال : ويقال سندر وابن سندر ، وقال ابن يونس مسروح بن سندر الخصيّ مولى زنباع بن روح بن سلامة الجذاميّ ، يكنّى أبا الأسود ، له صحبة قدم مصر بعد الفتح بكتاب عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه بالوصاة ، فأقطع منية الأصبغ بن عبد العزيز. روى عنه أهل مصر حديثين ، روى عنه مزيد بن عبد الله البرنيّ ، وربيعة بن لقيط التجيبيّ ، ويقال سندر الخصيّ ، وابن سندر أثبت ، توفي بمصر في أيام عبد العزيز بن مروان.

ويقال كان مولاه وجده يقبّل جارية له فجبه وجدع أنفه وأذنيه ، فأتى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فشكا ذلك إليه ، فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى زنباع فقال : لا تحملوهم يعني العبيد ، ما لا يطيقون ، وأطعموهم مما تأكلون. فذكر الحديث بطوله ، وذكر عن عثمان بن سويد بن سندر ، أنه أدرك مسروح بن سندر الذي جدعه زنباع بن روح ، وكان جدّه لأمه ، فقال : كان ربما تغدّى معي بموضع من قرية عثمان واسمها سمسم ، وكان لابن سندر إلى جانبها قرية يقال لها قلون ، قطيعة ، وكان له مال كثير من رقيق وغير ذلك ، وكان ذا دهاء منكرا جسيما ، وعمر حتى أدرك زمان عبد الملك بن مروان ، وكان لروح بن سلامة أبي زنباع ، فورثه أهل التعدد بروح يوم مات ، وقال القضاعيّ : مسروح بن سندر الخصيّ ، ويكنى أبا الأسود ، له صحبة ، ويقال له سندر ، ودخل مصر بعد الفتح سنة اثنتين وعشرين.

٢٤٤

وقال الكنديّ في كتاب الموالي ، قال : أقبل عمرو بن العاص رضي‌الله‌عنه يوما يسير وابن سندر معه ، فكان ابن سندر ونفر معه يسيرون بين يدي عمرو بن العاص رضي‌الله‌عنه ، وأثاروا الغبار ، فجعل عمرو عمامته على طرف أنفه ثم قال : اتقوا الغبار فإنه أوشك شيء دخولا وأبعده خروجا ، وإذا وقع على الرثة صار نسمة. فقال بعضهم لأولئك النفر تنحوا ، ففعلوا إلّا ابن سندر ، فقيل له ألا تتنحى يا ابن سندر؟ فقال عمرو : دعوه فإن غبار الخصي لا يضرّ ، فسمعها ابن سندر فغضب وقال : أما والله لو كنت من المؤمنين ما آذيتني. فقال عمرو : يغفر الله لك ، أنا بحمد الله من المؤمنين. فقال ابن سندر : لقد علمت أني سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يوصي بي فقال : أوصي بك كل مؤمن.

وقال ابن يونس : اصبغ بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم يكنى أبا ريان ، حكى عنه أبو حبرة عبد الله بن عباد المغافريّ ، وعون بن عبد الله وغيره ، توفي ليلة الجمعة لأربع بقين من شهر ربيع الآخر سنة ست وثمانين ، قبل أبيه. وقال أبو الفجر عليّ بن الحسين الأصبهانيّ في كتاب الأغاني الكبير عن الرياشيّ أنه قال عن سكينة بنت الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم‌السلام ، أن أبا عذرتها عبد الله بن الحسين بن عليّ ، ثم خلفه عليها العثماني ، ثم مصعب بن الزبير ، ثم الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان. قال : وكان يتولى مصر ، فكتبت إليه سكينة أنّ مصر أرض وخمة ، فبنى لها مدينة تسمى بمدينة الأصبغ ، وبلغ عبد الملك تزوّجه أباها ، فنفس بها عليه وكتب إليه : اختصر مصرا وسكينة ، فبعث إليه بطلاقها ولم يدخل بها ، ومتعها بعشرين ألف دينار. قلت في هذا الخبر أوهام ، منها أن الأصبغ لم يل مصر ، وإنما كان مع أبيه عبد العزيز بن مروان ، ومنها أنّ الذي بناه الأصبغ لسكينة ، منية الأصبغ هذه وليست مدينة ، ومنها أن الأصبغ لم يطلّق سكينة ، وإنما مات عنها قبل أن يدخل عليها. وقال ابن زولاق في كتاب إتمام كتاب الكنديّ في أخبار أمراء مصر : وفي شوّال ، يعني من سنة ستين وثلاثمائة كثر الأرجاف بوصول القرامطة إلى الشام ، ورئيسهم الحسن بن محمد الأعسم ، وفي هذا الوقت ورد الخبر بقتل جعفر بن فلاح ، قتله القرامطة بدمشق ، ولما قتل ملكت القرامطة دمشق وصاروا إلى الرملة ، فانحاز معاذ بن حيان إلى يافا متحصنا بها ، وفي هذا الوقت تأهب جوهر القائد لقتال القرامطة ، وحفر خندقا وعمل عليه بابا ، ونصب عليه بابي الحديد اللذين كانا على ميدان الإخشيد ، وبنى القنطرة على الخليج ، وحفر خندق السري بن الحكم وفرّق السلاح على رجال المغاربة والمصريين ، ووكل بأبي الفضل جعفر بن الفضل بن الفرات خادما يبيت معه في داره ويركب معه حيث كان ، وأنفذ إلى ناحية الحجاز فتعرّف خبر القرامطة ، وفي ذي الحجة كبس القرامط القلزم وأخذوا واليها ، ثم دخلت سنة إحدى وستين وثلاثمائة ، وفي المحرّم بلغت القرامطة عين شمس ، فاستعدّ جوهر للقتال لشعر بقين من صفر ، وغلق أبواب الطابية وضبط الداخل والخارج ، وأمر الناس بالخروج إليه وأن يخرج الأشراف كلهم ، فخرج إليه أبو جعفر مسلم

٢٤٥

وغيره بالمضارب ، وفي مستهلّ ربيع الأول التحم القتال مع القرامطة على باب القاهرة ، وكان يوم جمعة ، فقتل من الفريقين جماعة وأسر جماعة وأصبحوا يوم السبت متكافئين ، ثم غدوا يوم الأحد للقتال وسار الحسن الأعسم بجميع عساكره ومشى للقتال على الخندق والباب مغلق ، فلما زالت الشمس فتح جوهر الباب واقتتلوا قتالا شديدا ، وقتل خلق كثير ، ثم ولى الأعسم منهزما ولم يتبعه القائد جوهر ونهب سواد الأعسم بالجب ، ووجدت صناديقه وكتبه ، وانصرف في الليل على طريق القلزم ، ونهب بنو عقيل وبنو طيّ كثيرا من سواده. وهو مشغول بالقتال ، وكان جميع ما جرى على القرمطي بتدبير جوهر وجوائز انفذها ، ولو أراد أخذ الأعسم في انهزامه لأخذه ، ولكن الليل حجز فكره جوهر اتباعه خوفا من الحيلة والمكيدة ، وحضر القتال خلق من رعية مصر وأمر جوهر بالنداء في المدينة ، من جاء بالقرمطيّ أو برأسه فله ثلاثمائة ألف درهم ، وخمسون خلعة ، وخمسون سرجا محلى على دوابها ، وثلاث جوائز ، ومدح بعضهم القائد جوهرا بأبيات منها :

كأنّ طراز النصر فوق جبينه

يلوح وأرواح الورى بيمينه

ولم يتفق على القرامطة منذ ابتداء أمرهم كسرة أقبح من هذه الكسرة ، ومنها فارقهم من كان قد اجتمع إليهم من الكافورية والإخشيدية ، فقبض جوهر على نحو الألف منهم وسجنهم مقيدين.

وقال ابن زولاق في كتاب سيرة الإمام المعز لدين الله ، ومن خطّه نقلت ، وفي هذا الشهر يعني المحرّم ، سنة ثلاث وستين وثلاثمائة ، تبسطت المغاربة في نواحي القرافة والمغاير وما قابرها ، فنزلوا في الدور وأخرجوا الناس من دورهم ، ونقلوا السكان وشرعوا في السكنى في المدينة ، وكان المعز قد أمرهم أن يسكنوا أطراف المدينة ، فخرج الناس واستغاثوا بالمعز ، فأمرهم أن يسكنوا نواحي عين شمس ، وركب المعز بنفسه حتى شاهد المواضع التي ينزلون فيها ، وأمر لهم بمال يبنون به ، وهو الموضع الذي يعرف اليوم بالخندق والحفرة وخندق العبيد ، وجعل لهم واليا وقاضيا ، ثم سكن أكثرهم بالمدينة مخالطين لأهل مصر ، ولم يكن القائد جوهر يبيحهم سكنى المدينة ولا المبيت بها ، وحظر ذلك عليهم ، وكان مناديه ينادي كل عشية لا يبيتن أحد في المدينة من المغاربة.

وقال ياقوت : منية الأصبغ تنسب إلى الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان ، ولا يعرف اليوم بمصر موضع يعرف بهذا الاسم ، وزعموا أنها القرية المعروفة بالخندق قريبا من شرقيّ القاهرة. وقال ابن عبد الظاهر : الخندق هو منية الأصبغ ، وهو الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان. قال مؤلفه رحمه‌الله : وقد وهم ابن عبد الظاهر فجعل أن الخندق احتفره العزيز بالله ، وإنما احتفره جوهر كما تقدّم ، وأدركت الخندق قرية لطيفة يبرز الناس من القاهرة إليها ليتنزهوا بها في أيام النيل والربيع ، ويسكنها طائفة كبيرة ، وفيها بساتين عامرة بالنخيل

٢٤٦

الفخر والثمار ، وبها سوق وجامع تقام به الجمعة ، وعليه قطعة أرض من أرض الخندق يتولاها خطيبة ، فلما كانت الحوادث والمحن من سنة ست وثنمانمائة ، خربت قرية الخندق ورحل أهلها منها ونقلت الخطبة من جامعة إلى جامع بالحسينية ، وبقى معطلا من ذكر الله تعالى وإقامة الصلاة مدّة ، ثم في شعبان سنة خمس عشرة وثمانمائة ، هدمه الأمير طوغان الدوادار وأخذ عمده وخشبه ، فلم يبق إلا بقية أطلاله ، وكانت قرية الخندق كأنها م حسنها ضرّة لكوم الريش ، وكانت تجاهها من شرقيها فخربتا جميعا.

صحراء الإهليلج : هذه البقعة شرقيّ الخندق في الرمل ، وإليها كانت تنتهي عمارة الحسينية من جهة باب الفتوح ، وكان بها شجر الإهليلج الهنديّ ، فعرفت بذلك ، وأظن أن هذا الإهليلج كان من جملة بستان ريدان الذي يعرف اليوم موضعه بالريدانية.

ذكر خارج باب النصر

أما خارج القاهرة من جهة باب النصر ، فإنه عند ما وضع القائد جوهر القاهرة ، كان فضاء ليس فيه سوى مصلّى العيد الذي بناه جوهر ، وهذا المصلّى اليوم يصلّى على من مات فيه ، وما برح ما بين هذا المصلى وبستان ريدان الذي يعرف اليوم بالريدانية لا عمارة فيه ، إلى أن مات أمير الجيوش بدر الجماليّ في سنة سبع وثمانين وأربعمائة ، فدفن خارج باب النصر بحريّ المصلى ، وبني على قبره تربة جليلة ، وهي باقية إلى اليوم هناك ، فتتابع بناء الترب من حينئذ خارج باب النصر ، فيما بين التربة الجيوشية والريدانية ، وقبر الناس موتاهم هناك لا سيما أهل الحارات التي عرفت خارج باب الفتوح بالحسينية ، وهي الريدانية ، وحارة البزادرة وغيرها ، ولم تزل هذه الجهة مقبرة إلى ما بعد السبعمائة بمدّة ، فرغب الأمير سيف الدين الحاج آل ملك في البناء هناك ، وأنشأ الجامع المعروف به في سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة ، وعمر دارا وحمّاما ، فاقتدى الناس به وعمروا هناك ، وكان قد بنى تجاه المصلى قبل ذلك الأمير سيف الدين كهرداس المنصوري دارا تعرف اليوم بدار الحاجب ، فسكن في هذه الجهة أمراء الدولة وعملوا فيما بين الريدانية والخندق مناخات الجمال ، وهي باقية هناك ، فصارت هذه الجهة في غاية العمارة ، وفيها من باب النصر إلى الريدانية سبعة أسواق جليلة ، يشتمل كل سوق منها على عدّة حوانيت كثيرة ، فمنها : سوق اللفت ، وهو تجاه باب بيت الحاجب الآن ، عند البئر ، كان فيه من جانبيه حوانيت يباع فيها اللفت ، ومن هذا السوق يشتري أهل القاهرة هذا الصنف والكرنب ، وتعرف هذه البئر إلى اليوم ببئر اللفت ، ويليها سويقة زاوية الخدّام ، وأدركت بهذه السويقة بقية صالحة ، ويلي ذلك سوق جامع آل ملك ، وكان سوقا عامرا فيه غالب ما يحتاج إليه من المآكل والأدوية والفواكه والخضر وغيرها ، وأدركته عامرا. ويليه سويقة السنابطة ، عرفت بقوم من أهل ناحية سنباط سكنوا بها ، وكانت سوقا كبيرا ، وأدركته عامرا. ويليها سويقة أبي ظهير ، وأدركتها عامرة ، ويليها سويقة

٢٤٧

العرب ، وكانت تتصل بالريدانية ، وتشتمل على حوانيت كثيرة جدّا أدركتها عامرة ، وليس فيها سكان ، وكانت كلها من لبن معقود عقودا ، وكان بأوّل سويقة العرب هذه فرن أدركته عامرا آهلا ، بلغني أنه كان يخبز فيه أيام عمارة هذا السوق وما حوله كل يوم نحو السبعة آلاف رغيف ، وكان من وراء هذا السوق أحواش فيها قباب معقودة من لبن ، أدركتها قائمة وليس فيها سكان ، وكان من جملة هذه الأحواش حوش فيه أربعمائة قبة يسكن فيها البزادرة والمكارية ، أجرة كل قبة در همان في كل شهر ، فيتحصل من هذا الحوش في كل شهر مبلغ ثمانمائة درهم فضة ، وكان يعرف بحوش الأحمديّ. فلما كان الغلاء في زمن الملك الأشرف شعبان بن حسين سنة سبع وسبعين وسبعمائة ، خرب كثير مما كان بالقرب من الريدانية ، واختلّت أحوال هذه الجهة إلى أن كانت المحن من سنة ست وثمانمائة ، فتلاشت وهدمت دورها وبيعت أنقاضها ، وفيها بقية آئلة إلى الدثور.

الريدانية

كانت بستانا لريدان الصقلبيّ ، أحد خدّام العزيز بالله نزار بن المعز ، كان يحمل المظلة على رأس الخليفة ، واختص بالحاكم ، ثم قتله في يوم الثلاثاء لعشر بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة وريدان إن كان اسما عربيا ، فإنه من قولهم ريح ريدة ، ورادة ، وريدانة ، أي لينة الهبوب ، وقيل ريح ريدة كثيرة الهبوب.

ذكر الخلجان التي بظاهر القاهرة

اعلم أن الخليج جمعه خلجان ، وهو نهر صغير يختلج من نهر كبير أو من بحر ، وأصل الخلج الانتزاع. خلجت الشيء من الشيء إذا انتزعته ، وبأرض مصر عدّة خلجان ، منها بظاهر القاهرة خليج مصر ، وخليج فم الخور ، وخليج الذكر ، والخليج الناصريّ ، وخليج قنطرة الفخر ، وسترى من أخبارها ما فيه كفاية إن شاء الله تعالى.

ذكر خليج مصر

هذا الخليج بظاهر مدينة فسطاط مصر ، ويمرّ من غربيّ القاهرة ، وهو خليج قديم احتفره بعض قدماء ملوك مصر ، بسبب هاجر أم إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله وسلامه عليهما ، حين أسكنها وابنها إسماعيل خليل الله إبراهيم عليهما الصلاة والسلام بمكة ، ثم تمادت الدهور والأعوام فجدّد حفره ثانيا بعض من ملك مصر من ملوك الروم بعد الإسكندر ، فلما جاء الله سبحانه بالإسلام ، وله الحمد والمنة ، وفتحت أرض مصر على يد عمرو بن العاص ، جدّد حفره بإشارة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، في عام الرمادة ، وكان يصب في بحر القلزم فتسير فيه السفن إلى البحر الملح ، وتمرّ في البحر إلى الحجاز واليمن والهند ، ولم يزل على ذلك إلى أن قام محمد بن عبد الله بن

٢٤٨

حسن بن حسن بن عليّ بن أبي طالب بالمدينة النبوية ، والخليفة حينئذ بالعراق أبو جعفر عبد الله بن محمد المنصور ، فكتب إلى عامله على مصر يأمره بطمّ خليج القلزم حتى لا تحمل الميرة من مصر إلى المدينة ، فطمّه وانقطع من حينئذ اتصاله ببحر القلزم وصار على ما هو عليه الآن ، وكان هذا الخليج أوّلا يعرف بخليج مصر ، فلما أنشأ جوهر القائد القاهرة بجانب هذا الخليج من شرقيه ، صار يعرف بخليج القاهرة ، وكان يقال له أيضا خليج أمير المؤمنين ، يعني عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، لأنه الذي أشار بتجديد حفره ، والآن تسميه العامة بالخليج الحاكميّ ، وتزعم أن الحاكم بأمر الله أبا عليّ منصورا احتفره ، وليس هذا بصحيح. فقد كان هذا الخليج قبل الحاكم بمدد متطاولة ، ومن العامة من يسميه خليج اللؤلؤة أيضا.

وسأقص عليك من أخبار هذا الخليج ما وقفت عليه من الأنباء.

قال الأستاذ إبراهيم بن وصيف شاه في أخبار طيطوس بن ماليا بن كلكن بن خربتا بن ماليق بن تدراس بن صابن مرقونس بن صابن قبطيم بن مصر بن بيصر بن حام بن نوح ، وجلس على سرير الملك بعد أبيه ماليا ، وكان جبارا جريئا شديد البأس مهابا ، فدخل عليه الأشراف وهنوه ودعوا له ، فأمرهم بالإقبال على مصالحهم وما يعنيهم ، ووعدهم بالإحسان ، والقبط تزعم أنه أوّل الفراعنة بمصر ، وهو فرعون إبراهيم عليه‌السلام ، وأن الفراعنة سبعة هو أوّلهم ، وأنه استخف بأمر الهياكل والكهنة ، وكان من خبر إبراهيم عليه‌السلام معه ، أن إبراهيم لما فارق قومه أشفق من المقام بالشام ، لئلا يتبعه قومه ويردّوه إلى النمرود ، لأنه كان من أهل كونا من سواد العراق ، فخرج إلى مصر ومعه سارّة امرأته وترك لوطا بالشام. وسار إلى مصر ، وكانت سارّة أحسن نساء وقتها ، ويقال أنّ يوسف عليه‌السلام ورث جزأ من جمالها ، فلما سار إلى مصر ، رأى الحرس المقيمون على أبواب المدينة سارة ، فعجبوا من حسنها ، ورفعوا خبرها إلى طيطوس الملك وقالوا : دخل إلى البلد رجل من أهل الشرق معه امرأة لم ير أحسن منها ولا أجمل.

فوجّه الملك إلى وزيره فأحضر إبراهيم صلوات الله عليه وسأله عن بلده ، فأخبره. وقال : ما هذه المرأة منك؟ فقال أختي. فعرّف الملك بذلك فقال : مره أن يجئني بالمرأة حتى أراها. فعرّفه ذلك ، فامتغص منه ولم تمكنه مخالفته ، وعلم أن الله تعالى لا يسوؤه في أهله ، فقال لسارة : قومي إلى الملك ، فإنه قد طلبك مني. قالت : وما يصنع بي الملك وما رآني قبل قال : أرجو أن يكون لخير. فقامت معه حتى أتوا قصر الملك ، فأدخلت عليه ، فنظر منها منظرا راعه وفتنته ، فأمر بإخراج إبراهيم عليه‌السلام فأخرج ، وندم على قوله إنها أخته ، وإنما أراد أنها أخته في الدين ، ووقع في قلب إبراهيم عليه‌السلام ما يقع في قلب الرجل على أهله ، وتمنى أنه لم يدخل مصر فقال : اللهم لا تفضح نبيك في أهله. فراودها

٢٤٩

الملك عن نفسها فامتنعت عليه ، فذهب ليمدّ يده إليها فقالت : إنك إن وضعت يدك عليّ أهلكت نفسك ، لأنّ لي ربا يمنعني منك. فلم يلتفت إلى قولها ومدّ يده إليها ، فجفت يده وبقي حائرا. فقال لها : أزيلي عني ما قد أصابني. فقالت : على أن لا تعاود مثل ما أتيت. قال : نعم. فدعت الله سبحانه وتعالى فزال عنه ورجعت يده إلى حالها. فلما وثق بالصحة راودها ومناها ووعدها بالإحسان ، فامتنعت وقالت : قد عرفت ما جرى. ثم مدّ يده إليها فجفت وضربت عليه أعضاؤه وعصبه ، فاستغاث بها وأقسم بالآلهة أنها إن أزالت عنه ذلك فإنه لا يعاودها. فسألت الله تعالى ، فزال عنه ذلك ورجع إلى حاله فقال : إنّ لك لربا عظيما لا يضيعك ، فأعظم قدرها وسألها عن إبراهيم فقالت : هو قريبي وزوجي. قال : فإنه قد ذكر أنك أخته. قالت : صدق ، أنا أخته في الدين ، وكل من كان على ديننا فهو أخ لنا. قال : نعم الدين دينكم.

ووجه إلى ابنته جوريا ، وكانت من الكمال والعقل بمكان كبير ، فألقى الله تعالى محبة سارة في قلبها ، فكانت تعظمها وأضافتها أحسن ضيافة ، ووهبت لها جوهرا ومالا. فأتت به إبراهيم عليه‌السلام فقال لها : ردّيه فلا حاجة لنا به. فردّته ، وذكرت ذلك جوريا لأبيها. فعجب منهما وقال : هذا كريم من أهل بيت الطهارة ، فتحيلي في برّها بكل حيلة ، فوهبت لها جارية قبطية من أحسن الجواري يقال لها آجر ، وهي هاجر أم إسماعيل عليه‌السلام ، وجعلت لها سلالا من الجلود ، وجعلت فيها زاد وحلوى وقالت : يكون هذا الزاد معك ، وجعلت تحت الحلوى جوهرا نفيسا وحليا مكللا. فقالت سارة : أشاور صاحبي. فأتت إبراهيم عليه‌السلام واستأذنته فقال : إذا كان مأكولا فخذيه. فقبلته منها.

وخرج إبراهيم ، فلما مضى وأمعنوا في السير ، أخرجت سارة بعض تلك السلال فأصابت الجوهر والحلي ، فعرّفت إبراهيم عليه‌السلام ذلك ، فباع بعضه وحفر من ثمنه البئر التي جعلها للسبيل ، وفرّق بعضه في وجوه البرّ ، وكان يضيف كل من مرّ به ، وعاش طيطوس إلى أو وجهت هاجر من مكة تعرّفه أنها بمكان جدب وتستغيثه ، فأمر بحفر نهر في شرقيّ مصر بسفح الجبل حتى ينتهي إلى مرقى السفن في البحر الملح ، فكان يحمل إليها الحنطة وأصناف الغلات ، فتصل إلى جدّة وتحمل من هناك على المطايا ، فأحيا بلد الحجاز مدّة ، ويقال إنما حلّيت الكعبة في ذلك العصر مما أهداه ملك مصر ، وقيل أنه لكثرة ما كان يحمله طوطيس إلى الحجاز سمته العرب وجرهم الصادوق ، ويقال أنه سأل إبراهيم عليه‌السلام أن يبارك له في بلده فدعا بالبركة لمصر ، وعرّفه أن ولده سيملكها ويصير أمرها إليهم قرنا بعد قرن.

وطوطيس أوّل فرعون كان بمصر ، وذلك أنه أكثر من القتل حتى قتل قراباته وأهل بيته وبني عمه وخدمه ونساءه ، وكثيرا من الكهنة والحكماء ، وكان حريصا على الولد فلم يرزق

٢٥٠

ولدا غير ابنته جوريا ، أو جورياق ، وكانت حكيمة عاقلة تأخذ على يده كثيرا وتمنعه من سفك الدماء ، فأبغضته ابنته وأبغضه جميع الخاصة والعامة ، فلما رأت أمره يزيد خافت على ذهاب ملكهم فسمته وهلك ، وكان ملكه سبعين سنة ، واختلفوا فيمن يملك بعده ، وأرادوا أن يقيموا واحدا من ولد اتريب ، فقال بعض الوزراء ودعا لجورياق ، فتمّ لها الأمر وملكت. فهذا كان أوّل أمر هذا الخليج.

ثم حفره مرّة ثانية أدريان قيصر ، أحد ملوك الروم ، ومن الناس من يسميه أندرويانوس ، ومنهم من يقول هوريانوس ، قال في تاريخ مدينة رومة ، وولي الملك أدريان قيصر أحد ملوك الروم ، وكانت ولايته إحدى وعشرين سنة ، وهو الذي درس اليهود مرّة ثانية إذ كانوا راموا النفاق عليه ، وهو الذي جدّد مدينة يروشالم ، يعني مدينة القدس ، وأمر بتبديل اسمها وأن تسمى إيليا. وقال علماء أهل الكتاب عن أدريان هذا : وغزا القدس وأخربه في الثانية من ملكه ، وكان ملكه في سنة تسع وثلاثين وأربعمائة من سني الإسكندر ، وقتل عامة أهل القدس ، وبنى على باب مدينة القدس منارا وكتب عليه : هذه مدينة إيليا ، ويسمى موضع هذا العمود الآن محراب داود. ثم سار من القدس إلى باب فحارب ملكها وهزمه وعاد إلى مصر ، فحفر خليجا من النيل إلى بحر القلزم ، وسارت فيه السفن وبقي رسمه عند الفتح الإسلاميّ ، فحفره عمرو بن العاص ، وأصاب أهل مصر منه شدائد وألزمهم بعبادة الأصنام ، ثم عاد إلى بلاده بممالك الروم فابتلى بمرض أعيى الأطباء ، فخرج يسير في البلاد يبتغي من يداويه ، فمرّ على بيت المقدس وكان خرابا ليس فيه غير كنيسة للنصارى ، فأمر ببناء المدينة وحصنها وأعاد إليها اليهود ، فأقاموا بها وملّكوا عليهم رجلا منهم.

فبلغ ذلك أدريان قيصر فبعث إليهم جيشا لم يزل يحاصرهم حتى مات اكثرهم جوعا وعطشا وأخذها عنوة ، فقتل من اليهود ما لا يحصى كثرة ، وأخرب المدينة حتى صارت تلالا عامرة فيها البتة ، وتتبع اليهود يريد أن لا يدع منهم على وجه الأرض أحدا ، ثم أمر طائفة من اليونانيين فتحوّلوا إلى مدينة القدس وسكنوا فيها ، فكان بين خراب القدس الخراب الثاني على يد طيطوس وبين هذا الخراب ثلاث وخمسون سنة ، فعمرت القدس باليونان ، ولم يزل قيصر هذا ملكا حتى مات ، فهذا خبر حفر هذا الخليج في المرّة الثانية ، فلما جاء الإسلام جدّد عمرو بن العاص حفره.

قال ابن عبد الحكم ذكر حفر خليج أمير المؤمنين رضي‌الله‌عنه : حدّثنا عبد الله بن صالح عن الليث بن سعد قال : إنّ الناس بالمدينة أصابهم جهد شديد في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه في سنة الرمادة ، فكتب رضي‌الله‌عنه إلى عمرو بن العاص وهو بمصر ، من عبد الله عمر أمير المؤمنين ، إلى العاصي ابن العاصي سلام. أما بعد : فلعمري يا عمرو ما تبالي إذا شبعت أنت ومن معك ، أن أهلك أنا ومن معي ، فيا غوثاه

٢٥١

ثم يا غوثاه يردّد ذلك. فكتب إليه عمرو : من عبد الله عمرو بن العاص إلى أمير المؤمنين ، أما بعد: فيا لبيك ثم يا لبيك ، قد بعثت إليك بعير أوّلها عندك وآخرها عندي ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

فبعث إليه بعير عظيمة ، فكان أوّلها بالمدينة وآخرها بمصر يتبع بعضها بعضا. فلما قدمت على عمر رضي‌الله‌عنه ، وسّع بها على الناس ، ودفع إلى أهل كل بيت بالمدينة وما حولها بعيرا بما عليه من الطعام ، وبعث عبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوّام وسعد بن أبي وقاص يقسّمونها على الناس ، فدفعوا إلى أهل كل بيت بعيرا بما عليه من الطعام ، ليأكلوا الطعام ، ويأتدموا بلحمه ، ويحتذوا بجلده ، وينتفعوا بالوعاء الذي كان فيه الطعام فيما أرادوا من لحاف أو غيره. فوسّع الله بذلك على الناس ، فلما رأى ذلك عمر رضي‌الله‌عنه ، حمد الله وكتب إلى عمرو بن العاص أن يقدم عليه هو وجماعة من أهل مصر معه ، فقدموا عليه. فقال عمر : يا عمرو ، إنّ الله قد فتح على المسلمين مصر ، وهي كثيرة الخير والطعام ، وقد ألقى في روعي لما أحببت من الرفق بأهل الحرمين والتوسعة عليهم حين فتح الله عليهم مصر ، وجعلها قوّة لهم ولجميع المسلمين ، أن أحفر خليجا من نيلها حتى يسيل في البحر ، فهو أسهل لما نريد من حمل الطعام إلى المدينة ومكة ، فإن حمله الطهر يبعد ، ولا نبلغ به ما نريد ، فانطلق أنت وأصحابك فتشاوروا في ذلك حتى يعتدل فيه رأيكم ، فانطلق عمرو فأخبر من كان معه من أهل مصر ، فثقل ذلك عليهم وقالوا : نتخوف أن يدخل من هذا ضرر على مصر ، فنرى أن تعظّم ذلك على أمير المؤمنين وتقول له : إنّ هذا أمر لا يعتدل ولا يكون ولا نجد إليه سبيلا. فرجع عمرو بذلك إلى عمر فضحك عمر رضي‌الله‌عنه حين رآه وقال : والذي نفسي بيده لكأني أنظر إليك يا عمرو وإلى أصحابك حين أخبرتهم بما أمرنا به من حفر الخليج ، فثقل ذلك عليهم وقالوا يدخل من هذا ضرر على أهل مصر ، فنرى أن تعظّم ذلك على أمير المؤمنين وتقول له ، إنّ هذا أمر لا يعتدل ولا يكون ، ولا نجد إليه سبيلا. فعجب عمرو من قول عمرو قال : صدقت والله يا أمير المؤمنين ، لقد كان الأمر على ما ذكرت. فقال له عمر رضي‌الله‌عنه : انطلق بعزيمة مني حتى تجدّ في ذلك ، ولا يأتي عليك الحول حتى تفرغ منه إن شاء الله تعالى.

فانصرف عمرو وجمع لذلك من الفعلة ما بلغ منه ما أراد ، ثم احتفر الخليج في حاشية الفسطاط الذي يقال له خليج أمير المؤمنين ، فساقه من النيل إلى القلزم ، فلم يأت الحول حتى جرت فيه السفن ، فحمل فيه ما أراد من الطعام إلى المدينة ومكة ، فنفع الله بذلك أهل الحرمين ، وسمي خليج أمير المؤمنين ، ثم لم يزل يحمل فيه الطعام حتى حمل فيه بعد عمر بن عبد العزيز ، ثم ضيعه الولاة بعد ذلك فترك وغلب عليه الرمل فانقطع ، فصار منتهاه إلى ذنب التمساح من ناحية بطحاء القلزم.

٢٥٢

قال : ويقال إنّ عمر رضي‌الله‌عنه قال لعمرو حين قدم عليه : يا عمرو إنّ العرب قد تشاءمت بي وكادت أن تغلب علي رحلي ، وقد عرفت الذي أصابها ، وليس جند من الأجناد أرجى عندي أن يغيث الله بهم أهل الحجاز من جندك ، فإن استطعت أن تحتال لهم حيلة حتى يغيثهم الله تعالى. فقال عمرو : ما شئت يا أمير المؤمنين ، قد عرفت أنه كانت تأتينا سفن فيها تجار من أهل مصر قبل الإسلام ، فلما فتحنا مصر انقطع ذلك الخليج واستدّ وتركه التجار ، فإن شئت أن نحفره فننشيء فيه سفنا يحمل فيها الطعام إلى الحجاز فعلته. فقال عمر رضي‌الله‌عنه : نعم فافعل.

فلما خرج عمرو من عند عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، ذكر ذلك لرؤساء أهل أرضه من قبط مصر فقالوا له : ما ذا جئت به ، أصلح الله الأمير ، تريد أن تخرج طعام أرضك وخصبها إلى الحجاز وتخرب هذه ، فإن استطعت فاستقل من ذلك. فلما ودّع عمر رضي‌الله‌عنه قال له : يا عمرو انظر إلى ذلك الخليج ولا تنسين حفره. فقال له : يا أمير المؤمنين إنه قد انسدّ ، وتدخل فيه نفقات عظيمة. فقال له : أمّا والذي نفسي بيده إني لأظنك حين خرجت من عندي حدّثت بذلك أهل أرضك فعظموه عليك وكرهوا ذلك ، أعزم عليك إلّا ما حفرته وجعلت فيه سفنا. فقال عمرو : يا أمير المؤمنين إنه متى ما يجد أهل الحجاز طعام مصر وخصبها مع صحة الحجاز لا يخفوا إلى الجهاد. قال : فإني سأجعل من ذلك أمرا ، لا يحمل في هذا البحر إلّا رزق أهل المدينة وأهل مكة. فحفره عمرو وعالجه وجعل فيه السفن. قال : ويقال أن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه كتب إلى عمرو بن العاص : إلى العاصي ابن العاصي ، فإنك لعمري لا تبالي إذا سمنت أنت ومن معك أن أعجف أنا ومن معي ، فيا غوثاه ويا غوثاه. فكتب إليه عمرو : أما بعد فيا لبيك ثم يا لبيك ، أتتك عير أوّلها عندك وآخرها عندي ، مع أني أرجو أن أجد السبيل إلى أن أحمل إليك في البحر ، ثم إن عمرا ندم على كتابه في الحمل إلى المدينة في البحر. وقال : إن أمكنت عمر من هذا خرّب مصر ونقلها إلى المدينة. فكتب إليه : إني نظرت في أمر البحر فإذا هو عسر ولا يلتأم ولا يستطاع. فكتب إليه عمر رضي‌الله‌عنه : إلى العاصي ابن العاصي ، قد بلغني كتابك ، تعتلّ في الذي كنت كتبت إليّ به من أمر البحر ، وأيم الله لتفعلنّ أو لأقلعن بأذنك ولأبعثن من يفعل ذلك. فعرف عمرو أنه الجدّ من عمر رضي‌الله‌عنه ، ففعل. فبعث إليه عمر رضي‌الله‌عنه أن لا ندع بمصر شيئا من طعامها وكسوتها وبصلها وعدسها وخلها إلّا بعثت إلينا منه.

قال : ويقال إن الذي دل عمرو بن العاص على الخليج رجل من القبط ، فقال لعمرو : أرأيت إن دللتك على مكان تجري فيه السفن حتى تنتهي إلى مكة والمدينة ، أتضع عني الجزية وعن أهل بيتي؟ فقال : نعم. فكتب بذلك إلى عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه. فكتب إليه أن أفعل ، فلما قدمت السفن خرج عمر رضي‌الله‌عنه حاجا أو معتمرا فقال للناس :

٢٥٣

سيروا بنا ننظر إلى السفن التي سيرها الله تعالى إلينا من أرض فرعون حتى أتتنا. فأتى الجار وقال : اغتسلوا من ماء البحر فإنه مبارك ، فلما قدمت السفن الجار وفيها الطعام ، صك عمر رضي‌الله‌عنه للناس بذلك الطعام صكوكا ، فتبايع التجار الصكوك بينهم قبل أن يقبضوها ، فلقي عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه العلاء بن الأسود رضي‌الله‌عنه فقال : كم ربح حكيم بن حزام؟ فقال : ابتاع من صكوك الجار بمائة ألف درهم وربح عليها مائة ألف ، فلقيه عمر رضي‌الله‌عنه فقال له : يا حكيم كم ربحت؟ فأخبره بمثل خبر العلاء. قال عمر رضي‌الله‌عنه : فبعته قبل أن تقبضه؟ قال نعم. قال عمر رضي‌الله‌عنه : فإنّ هذا بيع لا يصح فاردده. فقال حكيم : ما علمت أن هذا بيع لا يصح ، وما أقدر على ردّه. فقال عمر رضي‌الله‌عنه : لا بدّ. فقال حكيم : والله ما أقدر على ذلك ، وقد تفرّق وذهب ، ولكن رأس مالي وربحي صدقة.

وقال القضاعيّ في ذكر الخليج : أمر عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه عمرو بن العاص عام الرمادة بحفر الخليج الذي بحاشية الفسطاط الذي يقال له خليج أمير المؤمنين ، فساقه من النيل إلى القلزم ، فلم يأت عليه الحول حتى جرت فيه السفن ، وحمل فيه ما أراد من الطعام إلى المدينة ومكة ، فنفع الله تعالى بذلك أهل الحرمين ، فسمي خليج أمير المؤمنين.

وذكر الكنديّ في كتاب الجند العربيّ أن عمرا حفره في سنة ثلاث وعشرين ، وفرغ منه في ستة أشهر ، وجرت فيه السفن ووصلت إلى الحجاز في الشهر السابع ، ثم بنى عليه عبد العزيز بن مروان قنطرة في ولايته على مصر. قال : ولم يزل يحمل فيه الطعام حتى حمل فيه عمر بن عبد العزيز ، ثم أضاعته الولاة بعد ذلك فترك وغلب عليه الرمل ، فانقطع وصار منتهاه إلى ذنب التمساح من ناحية بطحاء القلزم.

وقال ابن قديد : أمر أبو جعفر المنصور بسدّ الخليج حين خرج عليه محمد بن عبد الله بن حسن بالمدينة ليقطع عنه الطعام ، فسدّ إلى الآن.

وذكر البلاذري أن أبا جعفر المنصور لما ورد عليه قيام محمد بن عبد الله قال : يكتب الساعة إلى مصر أن تقطع الميرة عن أهل الحرمين ، فإنهم في مثل الحرجة إذا لم تأتهم الميرة من مصر.

وقال ابن الطوير وقد ذكر ركوب الخليفة لفتح الخليج ، وهذا الخليج هو الذي حفره عمرو بن العاص لما ولي على مصر في أيام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه من بحر فسطاط مصر الحلو ، وألحقه بالقلزم بشاطئ البحر الملح ، فكانت مسافته خمسة أيام ، لتقرب معونة الحجاز من ديار مصر في أيام النيل ، فالمراكب النيلية تفرّغ ما تحمله من ديار مصر بالقلزم ، فإذا فرغت حملت ما في القلزم مما وصل من الحجاز وغيره إلى مصر ، وكان مسلكا للتجار وغيرهم في وقته المعلوم ، وكان أوّل هذا الخليج من مصر يشق الطريق

٢٥٤

الشارع المسلوك منه اليوم إلى القاهرة ، حافا بالقريوص الذي عليه البستان المعروف بابن كيسان مادا ، وآثاره اليوم مادة باقية إلى الحوض المعروف بسيف الدين حسين صار ابن رزيك ، والبستان المعروف بالمشتهى ، وفيه آثار المنظرة التي كانت معدّة لجلوس الخليفة لفتح الخليج من هذا الطريق ، ولم تكن الآدر المبنية على الخليج ، ولا شيء منها هناك ، وما برح هذا الخليج منتزها لأهل القاهرة يعبرون فيه بالمراكب للنزهة ، إلى أن حفر الملك الناصر محمد بن قلاوون الخليج المعروف الآن بالخليج الناصريّ.

قال المسبحيّ : وفي هذا الشهر ، يعني المحرّم ، سنة إحدى وأربعمائة ، منع الحاكم بأمر الله من الركوب في القوارب إلى القاهرة في الخليج ، وشدّد في المنع ، وسدّت أبواب القاهرة التي يتطرّق منها إلى الخليج ، وأبواب الطاقات من الدور التي تشرف على الخليج ، وكذلك أبواب الدور والخوخ التي على الخليج.

قال القاضي الفاضل في متجدّدات حوادث سنة أربع وتسعين وخمسمائة : ونهى عن ركوب المتفرّجين في المراكب في الخليج ، وعن إظهار المنكر ، وعن ركوب النساء مع الرجال ، وعلّق جماعة من رؤساء المراكب بأيديهم. قال : وفي يوم الأربعاء تاسع عشر رمضان ، ظهر في هذه المدّة من المنكرات ما لم يعهد في مصر في وقت من الأوقات ، ومن الفواحش ما خرج من الدور إلى الطرقات ، وجرى الماء في الخليج بنعمة الله تعالى بعد القنوط ، ووقوف الزيادة في الذراع السادس عشر ، فركب أهل الخلاعة وذوو البطالة في مراكب في نهار شهر رمضان ومعهم النساء الفواجر ، وبأيديهنّ المزاهر يضربن بها ، وتسمع أصواتهنّ ووجوههنّ مكشوفة ، وحرفاؤهنّ من الرجال معهنّ في المراكب لا يمنعون عنهنّ الأيدي ولا الأبصار ، ولا يخافون من أمير ولا مأمور شيئا من أسباب الإنكار ، وتوقع أهل المراقبة ، ما يتلو هذا الخطب من المعاقبة.

وقال جامع سيرة الناصر محمد بن قلاوون : وفي سنة ست وسبعمائة ، رسم الأميران بيبرس وسلار بمنع الشخاتير والمراكب من دخول الخليج الحاكميّ والتفرّج فيه ، بسبب ما يحصل من الفساد والتظاهر بالمنكرات اللاتي تجمع الخمر آلات الملاهي ، والنساء المكشوفات الوجوه المتزينات بأفخر زينة ، من كوافي الزركش والقنابيز والحلي العظيم ، ويصرف على ذلك الأموال الكثيرة ، ويقتل فيه جماعة عديدة ، ورسم الأميران المذكوران لمتولي الصناعة بمصر ، أن يمنع المراكب من دخول الخليج المذكور إلّا ما كان فيه غلة أو متجرا وما ناسب ذلك ، فكان هذا معدودا من حسناتهما ، ومسطورا في صحائفهما.

قال مؤلفه رحمه‌الله تعالى : أخبرني شيخ معمر ولد بعد سنة سبعمائة يعرف بمحمد المسعودي ، أنه أدرك هذا الخليج والمراكب تمرّ فيه بالناس للنزهة ، وأنها كانت تعبر من تحت باب القنطرة غادية ورائحة ، والآن لا يمرّ بهذا الخليج من المراكب إلّا ما يحمل متاعا

٢٥٥

من متجر أو نحوه ، وصارت مراكب النزهة والتفرج إنما تمرّ في الخليج الناصريّ فقط ، وعلى هذا الخليج الكبير في زماننا هذا أربع عشرة قنطرة ، يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى في القناطر ، وحافتا هذا الخليج الآن معمورتان بالدور ، وسيأتي إن شاء الله ذكر ذلك في مواضعه من هذا الكتاب.

وقال ابن سعد : وفيها خليج لا يزال يضعف بين خضرتها حتى يصير كما قال الرصافي :

ما زالت الأنحاء تأخذه

حتى غدا كذؤابة النجم

وقلت في نور الكتان الذي على جانبي هذا الخليج :

انظر إلى النهر والكتان يرمقه

من جانبيه بأجفان لها حدق

قد سلّ سيفا عليه للصبا شطب

فقابلته بأحداق بها أرق

وأصبحت في يد الأرواح تنسجها

حتى غدت حلقا من فوقها حلق

فقم نزرها ووجه الأرض متضح

أو عند صفرته إن كنت تغتبق

قال وقد ذكر مصر ولا ينكر فيها إظهار أواني الخمر ولا آلات الطرب ذوات الأوتار ، ولا تبرّج النساء العواهر ، ولا غير ذلك مما ينكر في غيرها ، وقد دخلت في الخليج الذي بين القاهرة ومصر ، ومعظم عمارته فيما يلي القاهرة ، فرأيت فيه من ذلك العجائب ، وربما وقع فيه قتل بسبب السكر ، فيمنع فيه الشرب ، وذلك في بعض الأحيان ، وهو ضيق وعليه من الجهتين مناظر كثيرة العمارة بعالم الطرب والتحكم والمجانة ، حتى أن المحتشمين والرؤساء لا يجيزون العبور به في مركب ، وللسرج في جانبيه بالليل منظر فتّان وكثيرا ما يتفرّج فيه أهل الستر ، وفي ذلك أقول :

لا تركبنّ في خليج مصر

إلّا إذا يسدل الظلام

فقد علمت الذي عليه

من عالم كلهم طغام

صفان للحرب قد أظلّا

سلاح ما بينهم كلام

يا سيدي لا تسر إليه

إلّا إذا هوّم النيام

والليل ستر على التصابي

عليه من فضله لثام

والسرج قد بدّدت عليه

منها دنانير لا ترام

وهو قد امتدّ والمباني

عليه في خدمة قيام

لله كم دوحة جنينا

هناك أثمارها الآثام

وقال ابن عبد الظاهر عن مختصر تاريخ ابن المأمون ، أنّ أوّل من رتب حفر خليج القاهرة على الناس المأمون بن البطائحيّ ، وكذلك على أصحاب البساتين في دولة الأفضل ،

٢٥٦

وجعل عليه واليا بمفرده ، ولله در الأسعد بن خطير المماتي حيث يقول :

خليج كالحسام له صقال

ولكن فيه للرائي مسرّه

رأيت به الملاح تجيد عوما

كأنهم نجوم في مجرّه

وقال بهاء الدين أبو الحسن عليّ بن الساعاتي في يوم كسر الخليج :

إنّ يوم الخليج يوم من الحس

ن بديع المرئيّ والمسموع

كم لديه من ليث غاب صؤول

ومهاة مثل الغزال المروع

وعلى السدّ عزة قبل أن تم

لكه ذلة المحب الخضوع

كسروا جسره هناك فحاكى

كسر قلب يتلوه فيض دموع

ذكر خليج فم الخور وخليج الذكر

قال ابن سيده في كتاب المحكم. في اللغة الخور مصب الماء في البحر ، وقيل هو خليج من البحر ، والخور المطمئن من الأرض ، وخليج فم الخور يخرج الآن من بحر النيل ويصب في الخليج الناصريّ ليقوّي جري الماء فيه ويغزره ، وكان قبل أن يحفر الخليج الناصريّ يمدّ خليج الذكر ، وكان أصله ترعة يدخل منها ماء النيل للبستان الذي عرف بالمقسي ثم وسّع.

قال ابن عبد الظاهر : وكان يخرج من البحر للمقسيّ الماء في البرابخ ، فوسّعه الملك الكامل ، وهو خليج الذكر. ويقال أنّ خليج الذكر حفره كافور الإخشيدي ، فلما زال البستان المقسيّ في أيام الخليفة الظاهر بن الحاكم وجعله بركة قدّام المنظرة المعروفة باللؤلؤة ، صار يدخل الماء إليها من هذا الخليج ، وكان يفتح هذا الخليج قبل الخليج الكبير ، ولم يزل حتى أمر الملك الناصر محمد بن قلاون في سنة أربع وعشرين وسبعمائة بحفره فحفر وأوصل بالخليج الكبير ، وشرع الأمراء والجند في حفره من أخريات جمادى الآخرة ، فلما فتح كادت القاهرة أن تغرق ، فسدّت القنطرة التي عليه فهدمها الماء ، ومن حينئذ عزم السلطان على حفر الخليج الناصري ، وأنا أدركت آثاره ، وفيه ينبت القصب المسمى بالفارسيّ. وأخبرني الشيخ المعمر حسام الدين حسين بن عمر الشهرزوريّ أنه يعرف خليج الذكر هذا وفيه الماء ، وسبح فيه غير مرّة ، وأراني آثاره ، وكان الماء يدخل إليه من تحت قنطرة الدكة الآتي ذكرها في القناطر إن شاء الله تعالى ، وعلى خليج فم الخور الآن قطنرة ، وعلى خليج الذكر قنطرة يأتي ذكرهما إن شاء الله تعالى عند ذكر القناطر ، وإنما قيل له خليج الذكر لأن بعض أمراء الملك الظاهر ركن الدين بيبرس كان يعرف بشمس الدين الذكر الكركيّ ، كان له فيه أثر من حفره ، فعرف به ، وكان للناس عند هذا الخليج مجتمع يكثر فيه لهوهم ولعبهم.

قال المسبحيّ وفي يوم الثلاثاء لخمس بقين منه ، يعني المحرّم ، سنة خمس عشرة

٢٥٧

وأربعمائة ، كان ثالث الفتح ، فاجتمع بقنطرة المقس عند كنيسة المقس من النصارى والمسلمين في الخيام المنصوبة وغيرها خلق كثير للأكل والشرب واللهو ، ولم يزالوا هناك إلى أن انقضى ذلك اليوم ، وركب أمير المؤمنين ، يعني الظاهر لاعزاز دين الله أبا الحسن عليّ بن الحاكم بأمر الله ، في مركبه إلى المقس ، وعليه عمامة شرب مفوّطة بسواد ، وثوب ديبقي من شكل العمامة ، ودار هناك طويلا وعاد إلى قصره سالما ، وشوهد من سكر النساء وتهتكهن وحملهن في قفاف الحمالين سكارى ، واجتماعهن مع الرجال أمر يقبح ذكره.

ذكر الخليج الناصريّ

هذا الخليج يخرج من بحر النيل ويصب في الخليج الكبير ، وكان سبب حفره أنّ الملك الناصر محمد بن قولان ، لما أنشأ القصور والخانقاه بناحية سرياقوس ، وجعل هناك ميدانا يسرح إليه ، وأبطل ميدان القبق المعروف بالميدان الأسود ظاهر باب النصر من القاهر ، وترك المسطبة التي بناها بالقرب من بركة الحبش لمطعم الطيور والجوارح ، اختار أن يحفر خليجا من بحر النيل لتمرّ فيه المراكب إلى ناحية سر ياقوس ، لحمل ما يحتاج إليه من الغلال وغيرها ، فتقدّم إلى الأمير سيف الدين أرغون نائب السلطنة بديار مصر بالكشف عن عمل ذلك ، فنزل من قلعة الجبل بالمهندسين وأرباب الخبرة إلى شاطىء النيل ، وركب النيل ، فلم يزل القوم في فحص وتفتيش إلى أن وصلوا بالمراكب إلى موردة البلاط من أراضي بستان الخشاب ، فوجدوا ذلك الموضع أوطأ مكان يمكن أن يحفر ، إلّا أن فيه عدّة دور ، فاعتبروا فم الخليج من موردة البلاط ، وقدّروا أنه إذا حفر مرّ الماء فيه من موردة البلاط إلى الميدان الظاهريّ الذي أنشأه الملك الناصر بستانا ، ويمرّ من البستان إلى بركة قرموط حتى ينتهي إلى ظاهر باب البحر ، ويمرّ من هناك على أرض الطبالة فيصب في الخليج الكبير ، فلما تعين لهم ذلك ، عاد النائب إلى القلعة وطالعه بما تقرّر ، فبرز أمره لسائر أمراء الدولة بإحضاء الفلاحين من البلاد الجارية في إقطاعاتهم ، وكتب إلى ولاة الأعمال بجمع الرجال لحفر الخليج ، فلم يمض سوى أيام قلائل حتى حضر الرجال من الأعمال ، وتقدّم إلى النائب بالنزول للحفر ومعه الحجاب ، فنزل لعمل ذلك ، وقاس المهندسون طول الحفر من موردة البلاط حيث تعين فم الخليج إلى أن يصب في الخليج الكبير ، وألزم كل أمير من الأمراء بعمل أقصاب فرضت له ، فلما أهلّ شهر جمادى الأولى سنة خمس وعشرين وسبعمائة ، وقع الشروع في العمل ، فبدأوا بهدم ما كان هناك من الأملاك التي من جهة باب اللوق إلى بركة قرموط ، وحصل الحفر في البستان الذي كان للنائب ، فأخذوا منه قطعة ، ورسم أن يعطى أرباب الأملاك أثمانها ، فمنهم من باع ملكه وأخذ ثمنه من مال السلطان ، ومنهم من هدم داره ونقل أنقاضها ، فهدمت عدّة دور ومساكن جليلة ، وحفر في عدّة بساتين ، فانتهى العمل في سلخ جمادى الآخرة على رأس شهرين ، وجرى الماء فيه عند زيادة النيل ، فأنشأ الناس عدّة سواق وجرت فيه السفن بالغلال وغيرها ،

٢٥٨

فسّر السلطان بذلك ، وحصل للناس رفق ، وقويت رغبتهم فيه ، فاشتروا عدّة أراض من بيت المال غرست فيها الأشجار وصارت بساتين جليلة ، وأخذ الناس في العمارة على حافتي الخليج ، فعمر ما بين المقس وساحل النيل ببولاق ، وكثرت العمائر على الخليج حتى اتصلت من أوّله بموردة البلاط إلى حيث يصب في الخليج الكبير بأرض الطبالة ، وصارت البساتين من وراء الأملاك المطلة على الخليج ، وتنافس الناس في السكنى هناك ، وأنشأوا الحمّامات والمساجد والأسواق ، وصار هذا الخليج مواطن أفراح ومنازل لهو ومغنى صبابات وملعب أتراب ومحل تيه وقصف ، فيما يمرّ فيه من المراكب وفيما عليه من الدور ، وما برحت مراكب النزهة تمرّ فيه بأنواع الناس على سبيل اللهو إلى أن منعت المراكب منه بعد قتل الأشرف ، كما يرد عند ذكر القناطر إن شاء الله تعالى.

ذكر خليج قنطرة الفخر

هذا الخليج يبتدئ من الموضع الذي كان ساحل النيل ببولاق ، وينتهي إلى حيث يصب في الخليج الناصريّ ، ويصب أيضا في خليج لطيف تسقى منه عدّة بساتين ، وكل من هذين الخليجين معمور الجانبين بالأملاك المطلق عليه ، والبساتين وجميع المواضع التي يمرّ فيها الخليج الناصريّ ، وأرض هذين الخليجين كانت غامرة بالماء ، ثم انحسر عنها الماء شيئا بعد شيء ، كما ذكر في ظواهر القاهرة ، وهذا الخليج حفر بعد الخليج الناصريّ.

ذكر القناطر

اعلم أن قناطر الخليج الكبير عدّتها الآن أربع عشرة قنطرة ، وعلى خليج فم الخور قنطرة واحدة ، وعلى خليج الذكر قنطرة واحدة ، وعلى الخليج الناصريّ خمس قناطر ، وعلى بحر أبي المنجا قنطرة عظيمة ، وبالجيزة عدّة قناطر.

ذكر قناطر الخليج الكبير

قال القضاعي : القنطرتان اللتان على هذا الخليج ، يعني خليج مصر الكبير ، أما التي في طرف الفسطاط بالحمراء القصوى ، فإن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بناها في سنة تسع وستين ، وكتب عليها اسمه ، وابتنى قناطر غيرها ، وكتب على هذه القنطرة المذكورة ، هذه القنطرة أمر بها عبد العزيز بن مروان الأمير ، اللهمّ بارك له في أمره كله ، وثبت سلطانه على ما ترضى ، وأقرّ عينه في نفسه وحشمه أمين. وقام ببنائها سعد أبو عثمان ، وكتب عبد الرحمن في صفر سنة تسع وستين ، ثم زاد فيها تكين أمير مصر في سنة عثمان عشرة وثلثمائة ، ورفع سمكها ، ثم زاد عليها الإخشيد في سنة إحدى وثلاثين وثلثمائة ، ثم عمرت في أيام العزيز بالله.

٢٥٩

وقال ابن عبد الظاهر : وهذه القنطرة ليس لها أثر في هذا الزمان ، قلت موضعها الآن خلف خط السبع سقايات ، وهذه القنطرة هي التي كانت تفتح عند وفاء النيل في زمن الخلفاء ، فلما انحسر النيل عن ساحل مصر اليوم ، أهملت هذه القنطرة ، وعملت قنطرة السدّ عند فم بحر النيل ، فإن النيل كان قد ربى الجرف ، حيث غيط الجرف الذي على يمنة من سلك من المراغة إلى باب مصر بجوار الكبارة.

قنطرة السد : هذه القنطرة موضعها مما كان غامرا بماء النيل قديما ، وهي الآن يتوصل من فوقها إلى منشأة المهرانيّ وغيرها من برّ الخليج الغربيّ ، وكان النيل عند إنشائها يصل إلى الكوم الأحمر الذي هو جانب الخليج الغربيّ الآن ، تجاه خط بين الزقاقين ، فإن النيل كان قد ربى جرفا قدّام الساحل القديم ، كما ذكر في موضعه من هذا الكتاب ، فأهملت القنطرة الأولى لبعد النيل ، وقدّمت هذه القنطرة إلى حيث كان النيل ينتهي ، وصار يتوصل منها إلى بستان الخشاب الذي موضعه اليوم يعرف بالمريس وما حوله ، وكان الذي أنشأها الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب ، في أعوام بضع وأربعين وستمائة ، ولها قوسان ، وعرفت الآن بقنطرة السدّ ، من أجل أن النيل لما انحسر عن الجانب الشرقيّ وانكشفت الأراضي التي عليها الآن ، خط بين الزقاقين إلى موردة الحلفاء ، وموضع الجامع الجديد إلى دار النحاس ، وما وراء هذه الأماكن إلى المراغة وباب مصر بجوار الكبارة ، وانكشف من أراضي النيل أيضا الموضع الذي يعرف اليوم بمنشأة المهرانيّ ، وصار ماء النيل إذا بدت زيادته يجعل عند هذه القنطرة سدّ من التراب حتى يسند الماء إليه إلى أن تنتهي الزيادة إلى ست عشرة ذراعا ، فيفتح السدّ حينئذ ويمرّ الماء في الخليج الكبير كما ذكر في موضعه من هذا الكتاب ، والأمر على هذا إلى اليوم.

قناطر السباع : هذه القناطر جانبها الذي يلي خط السبع سقايات من جهة الحمراء القصوى ، وجانبها الآخر من جهة جنان الزهريّ ، وأوّل من أنشأها الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ ، ونصب عليها سباعا من الحجارة ، فإن رنكه كان على شكل سبع ، فقيل لها قناطر السباع من أجل ذلك ، وكانت عالية مرتفعة ، فلما أنشأ الملك الناصر محمد بن قلاون الميدان السلطانيّ في موضع بستان الخشاب ، حيث موردة البلاط ، وتردّد إليه كثيرا ، وصار لا يمرّ إليه من قلعة الجبل حتى يركب قناطر السباع ، فتضرّر من علوّها وقال لومراء أنّ هذه القنطرة حين أركب إلى الميدان وأركب عليها يتألم ظهري من علوّها ، ويقال أنه أشاع هذا ، والقصد إنما هو كراهته لنظر أثر أحد من الملوك قبله ، وبغضه أن يذكر لأحد غيره شيء يعرف به ، وهو كلما يمرّ بها يرى السباع التي هي رنك الملك الظاهر ، فأحب أن يزيلها لتبقى القنطرة منسوبة إليه ومعروفة به ، كما كان يفعل دائما في محو آثار من تقدّمه وتخليد ذكره ، ومعرفة الآثار به ونسبتها له ، فاستدعى الأمير علاء الدين عليّ بن حسن

٢٦٠