كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٣

تقي الدين احمد بن علي المقريزي

كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٣

المؤلف:

تقي الدين احمد بن علي المقريزي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٩

حسب البهتان يبقى

أخرب الله دياره

فلما قتل السلطان في سنة اثنين وستين ، عاد الهرماس إلى القاهرة وأعاد بعض داره ، فلما كانت سنة ثمانين وسبعمائة صارت هذه الدار إلى الأمير جمال الدين عبد الله بن بكتمر الحاجب ، فأنشأها قاعة وعدّة حوانيت وربعا علوّ ذلك ، وانتقل من بعده إلى أولاده ، وهو بأيديهم إلى اليوم.

دار أوحد الدين : هذه الدار بداخل درب السلامي في رحبة باب العيد ، مقابل قصر الشوك وإلى جانب المارستان العتيق الصلاحيّ ، كان موضعها من حقوق القصر الكبير ، وصار أخيرا طاحونا ، فهدمها القاضي أوحد الدين عبد الواحد أيام كان يباشر توقيع الأمير الكبير برقوق ، بعد سنة ثمانين وسبعمائة ، فلما حفر أساس هذه الدار ووجد فيه هيئة قبة معقودة من لبن ، وفي داخلها إنسان ميت قد بليت أكفانه وصار عظما نخرا ، وهو في غاية طول القامة ، يكون قدر خمسة أذرع ، وعظام ساقيه خلاف ما عهد من الكبر ، ودماغه عظيم جدا ، فلما كملت هذه الدار سكنها أيام مباشرته وظيفة كتابة السر إلى أن مات بها ، وقد حبسها على أولاده ، فاستمرت بأيديهم إلى أن أخذها منهم الأمير جمال الدين يوسف الاستادار ، كما أخذ غيرها من الأوقاف ، فاستمرّت في جملة ما بيده إلى أن قتله الملك الناصر فرج ، فقبضها فيما قبض مما خلف جمال الدين ، فلما قتل الملك الناصر فرج واستقل الملك المؤيد شيخ بمملكة مصر استرجع أولاد جمال الدين ما كان أخذه الناصر من أملاك جمال الدين ، وصارت بأيديهم إلى أن وقف له أولاد أوحد الدين في طلب دار أبيهم ، فعقد لذلك مجلس اجتمع فيه القضاة ، فتبين أن الحق بيد أولاد أوحد الدين ، فقضي بإعادة الدار إلى ما وقفها عليه أوحد الدين ، فتسلمها أولاد أوحد الدين من ورثة جمال الدين ، وهي الآن بأيديهم.

عبد الواحد بن إسماعيل بن ياسين الحنفيّ : أوحد الدين كاتب السر ، ولد بالقاهرة ونشأ بها في كنف قاضي القضاة جمال الدين عبد الله بن عليّ التركمانيّ الحنفيّ لصهارة كانت بين أبيه وبين التركمانية ، وباشر توقيع الحكم مدة ، واتفق أن أميرا من أمراء الملك الأشرف شعبان بن حسين يعرف بيونس الرماح مات ، فادّعى برقوق العثمانيّ أحد الممالك اليلبغاوية أنه ابن عم يونس هذا ، وأنه يستحق إرثه لموته عن غير ولد ، حضر إلى المدرسة الصالحية بين القصرين حيث يجلس القضاة للحكم بين الناس حتى يثبت ما ادّعاه ، فلما أراد الله من اسعاد جدّ أوحد الدين لم يقف برقوق على أحد من موقعي الحكم إلا عليه ، وأخبره بما يريد ، فبادر إلى توريق سؤال باسم برقوق ، وانهائه أنه ابن عمّ يونس الرماح ، وأن عنده بينة تشهد بذلك ، ودخل بهذا السؤال إلى قاضي القضاة ، وأنهى العمل حتى ثبت أن برقوق ابن عم يونس يستحق ارثه ، فلما فرغ من ذلك دفع برقوق إلى أوحد الدين مبلغ دراهم اجرة

١٤١

توريقه كما هي عادة أهل مصر في هذا ، فامتنع من أخذها ، وألحف برقوق في سؤاله ، وهو يمتنع ، فتقلد له برقوق المنة بذلك واعتقد أمانته وخيره ، وصار لكثرة ركونه إليه إذا قدم فلاحوا إقطاعه يبعثهم إليه حتى يحاسبهم عما حملوه من الخراج ، فلما قتل الملك الأشرف وثارت المماليك ، وكان من أمرهم ما كان إلى أن تغلّب برقوق وصار من جملة الأمراء واستولى على الاصطبل السلطانيّ في شهر ربيع الآخر سنة تسع وسبعين وسبعمائة ، وصار أميرا خور ، أقام أوحد الدين موقعا عنده ، وما زال أمر برقوق يزداد قوّة حتى انيطت به أمور المملكة كلها ، فصار أوحد الدين صاحب الحل والعقد ، وكاتب السرّ بدر الدين محمد بن عليّ بن فضل الله اسما لا معنى له ، إلى أن جلس الأمير برقوق على تخت المملكة في شهر رمضان سنة أربع وثمانين وسبعمائة ، فقرّر القاضي أوحد الدين في وظيفة كتابة السرّ عوضا عن ابن فضل الله ، وخلع عليه في يوم السبت ثاني عشر شوال من السنة المذكورة ، فباشر كتابة السرّ على القالب الجائز ، وضبط الأمور أحسن ضبط ، وعكف سائر الناس على بابه لتمكنه من سلطانه ، وكان الأمير يونس الدوادار يرى أنه أكثر الناس من الأمراء تمكينا من السلطان ، وجرت العادة بانتماء كاتب السرّ إلى الدوادار ، فأحب أوحد الدين الاستبداد على الأمير يونس الدوادار ، فقال السلطان سرّا في غيبة يونس : أن السلطان يرسم بكتابة مهمات الدولة وأسرار المملكة إلى البلاد الشامية وغيرها ، والأمير الدوادار يريد من المملوك أن يطلع على ذلك ، فلم يقدر المملوك على مخالفته ، ولا أمكنه إعلامه إلّا بإذن ، فأنفق السلطان من ذلك وقال : الحذر أن يطلع على شيء من مهمات السلطان أو أسراره. فقال : أخاف منه إن سأل ولم أعلمه. فقال السلطان : ما عليك منه.

فرأى أنه قد تمكن حينئذ ، فأمسك أياما. ثم أراد الازدياد من الاستبداد فقال للسلطان سرّا : قد رسم السلطان أن لا يطّلع أحد على سرّ السلطان ، ولا يعرف بما يكتب من المهمات ، وطائفة البريدية كلهم يمشون في خدمة الدوادار ، فإذا اقتضت آراء السلطان تسفير أحد منهم في مهم يحتاج المملوك إلى استدعائه من خدمة الأمير الدوادار ، فإذا التمس مني أني أخبره بالمعنى الذي توجه فيه البريدي لا أقدر على إعلامه بذلك ، ولا آمن إن كتمته ، وانصرف. فلما كان من الغد وطلع الأمراء إلى الخدمة على العادة ، قال السلطان للأمير يونس الدوادار : أرسل البريدية كلهم إلى كاتب السرّ ليمشوا ويركبوا معه ، فلم يجد بدّا من إرسالهم ، وحصل عنده من إرسالهم المقيم المقعد ، فصار البريدية يركبون نوبا في خدمة أوحد الدين ، ويتصرف في أمور الدولة وحده مع سلطانه ، فانفرد بالكلمة ، وخضع له الخاص والعام إلّا أنه نغّص عليه في نفسه ومرض مرضا طويلا سقطت معه شهوة الطعام ، بحيث أنه لم يكن يشتهي شيئا من الغداء ، وتنوّع له المأكل من بين يديه لكي تميل نفسه إلى شيء منها ، ومتى تناول غذاء تقيأه في الحال ، وما زال على ذلك إلى أن مات عن سبع وثلاثين سنة ، في يوم السبت ثاني ذي الحجة سنة ست وثمانين وسبعمائة ، ودفن خارج باب

١٤٢

النصر ، فلم يتأخر أحد من الأمراء والأعيان عن جنازته ، وكان حسن السياسة ، رضيّ الخلق ، عاقلا ، كثير السكون ، جيد السيرة ، جميل الصورة ، حسن الهيئة ، عارفا بأمر دنياه ، محبا للمداراة ، صاحب باطن ، قليل العلم رحمه‌الله.

ربع الزيتي : هذا الربع كان بجوار قنطرة الحاجب التي على الخليج الناصري ، وكان يشتمل على عدّة مساكن ينزلها أهل الخلاعة للقصف ، فإنه كان يشرف من جهاته الأربع على رياض وبساتين ففي شرقية غيط الزيتي ، وقد خرب ، وموضعه اليوم بركة ماء ، وفي غريبه غيط الحاجب بيبرس ، وأدركته عامرا وهو اليوم مزارع بعد ما كان له باب كبير بجانبه حوض ماء للسبيل ، وعليه سياج من طين دائر به ، ومن قبلي ، هذا الربع الخليج وقنطرة الحاجب والجنينة التي بأرض الطبالة ، ومن بحر به بساتين تتصل بالبعل وكوم الريش ، وما زال هذا الربع معمورا باللذات آهلا بكثرة المسرّات إلى أن كانت سنة الغرقة ، وهي سنة خمس وخمسين وسبعمائة ، فخربت دور كوم الريش وغيرها ، ووصل ماء النيل إلى قنطرة الحاجب ، فخرب ربع الزيتي وأهمل أمره حتى صار كوما عظيما تجاه قنطرة الحاجب ، وغيط الحاجب ، وسمعت من أدركته يخبر عن هذا الربع بعجائب من الملاذ التي كانت فيه ، وكانت العامة تقول في هزلها : ستي أين كنتي وأين رحتي وأين جيتي قالت مع ربع الزيتي :

ثمّ انقضت تلك السنون وأهلها

فكأنها وكأنّهم أحلام

الدار التي في أوّل البرقية من القاهرة التي حيطانها حجارة بيض منحوتة : هذه الدار بقي منها جدار على يمين من سلك من المشهد الحسينيّ يريد باب البرقية ، وبقي منها أيضا جدار على يمين من سلك من رحبة الأيدي مريّ إلى باب البرقية ، وهي دار الأمير صبيح بن شاهنشاه أحد أمراء الدولة الفاطمية في أيام الصالح طلائع بن رزيك ، وكانت في غاية الكبر والتحسين. قال بعض أصحاب الصالح : يا مولانا أبقاك الله حتى تتم دار ابن شاهنشاه ، وكان الضرغام قبل أن يلي وزارة مصر قد فرّس العادل أبا شجاع رزيك بن الصالح طلائع بن رزيك ، فظهر منه فارسا في غاية الفروسية ، بحيث أنه قد حضر في يوم عيد الحلقة وأخذ رمحا وحربة وقوسا وسهما ، فأخذ الحلقة بالرمح ، ورمى بالسهم فأصاب الغرض ، وحذف بالحربة فأثبتها في المرمى ، ولعب بالرمح في غاية الحسن.

ثم دخل صبيح ابن شاهنشاه فعمل مثل ذلك ، فتحرّك الضرغام وكان يلبس عمامة بعذبة وإكمال واسعة على زيّ المصرييين يومئذ ، فتلثم بعذبته ولف أكمامه وأخذ رمحه ولعب به في غاية الحسن ، وطرد كذلك ودخل في الحلقة وأخذها ، فعجب منه كل من في العسكر ، فأخذ عند ذلك الأمير صبيح ابن شاهنشاه المبخرة وأتى إليه وقال : يا مولاي كفاك الله أمر العين ، فإن هذا شيء ما يقدر عليه أحد ، وجعل يدور حول فرسه ويبخره والضرغام

١٤٣

يتبسم ويعجبه ذلك ، وبعد هذا كان قتل ابن شاهنشاه على يده في سنة ثمان وخمسين وخمسمائة ولم تكمل هذه الدار.

دار التمر : هذه الدار بمدينة مصر من خارجها ، فيما انحسر عنه ماء النيل بعد الخمسمائة من سني الهجرة ، وتعرف اليوم بصناعة التمر ، تجاه الصاغة بخط سوق المعاريج ، ومن جملتها بيت برهان الدين إبراهيم الحليّ ومدرسته ، وهذه الدار وقفها القاضي عبد الرحيم بن عليّ البيسانيّ على فكاك الأسرى من المسلمين ببلاد الفرنج.

قال القاضي محي الدين عبد الله بن عبد الظاهر في كتاب الدر النظيم في أوصاف القاضي الفاضل عبد الرحيم : ومن جملة بنائه دار التمر بمصر المحروسة ، ولها دخل عظيم ، يجمع ويشترى به الأسرى من بلاد الفرنج ، وذلك مستمرّ إلى هذا الوقت ، وفي كل وقت يحضر بالأسارى فيلبسون ويطوفون ويدعون له ، وسمعتهم مرارا يقولون : يا الله يا رحمن يا رحيم ارحم القاضي الفاضل عبد الرحيم.

وقال القاضي جمال الدين بن شيث : كان للقاضي الفاضل ربع عظيم يؤجره بمبلغ كبير ، فلما عزم على الحج ركب ومرّ به ووقف عليه وقال : اللهم إنك تعلم أن هذا الخان ليس شيء أحب إليّ منه ، أو قال أعز عليّ منه ، اللهم فاشهد أني وقفته على فكاك الأسرى من بلاد الفرنج.

وقال ابن المتوّج : ومن جملة الأوقاف الوقف الفاضلي ، وهو الدار المشهورة بصناعة التمر الوقف على فكاك الأسرى من يد العدوّ ، المشتملة على مخازن وأخصاص وشون ومنازل علوية وحوانيت بمجازها وظاهرها ، وهي اثنا عشر حانوتا ، وخمسة مقاعد ، وثمانية وخمسون مخزنا ، وخمسة عشر خصا ، وست قاعات وساحة ، وست شون ، وخمسة وسبعون منزلا ، وخمسة مقاعد علوية ، الأجرة عن ذلك جميعه إلى آخر شعبان سنة تسع وثمانين وستمائة في كل شهر ألف ومائة وست وثلاثون درهما نقرة ، واستجدّ بها القاضي جمال الدين الوجيزي خليفة الحكم بمصر حين كان ينظر في الأوقاف دارا من ريع الوقف ، فأكلها البحر ، فأمر ببناء زربية أمامها من مال الوقف.

عمارة أمّ السلطان : هذه العمارة من جملة المنحر كانت دارا تعرف بالأمير جمال الدين ايدغدي العزيزيّ ولها باب من الدرب الأصفر الذي هو الآن تجاه خانقاه (١) بيبرس ، وباب من المحايريين تجاه الجامع الأقمر. عرفت هذه الدار بالأمير مظفر الدين موسى

__________________

(١) الخانقاه : كلمة فارسية معناها البيت. وقيل أصلها خونقاه : أي الموضع الذي يأكل فيه الملك.

والخوانق حصلت في الإسلام في حدود الأربعمائة للهجرة وجعلت لتخلي الصوفية فيها لعبادة الله.

وأول خانقاه عملت في مصر هي خانقاه السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب.

النجوم الزاهرة ٤ / ٥٣.

١٤٤

الصالح علي ابن الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفي ، ثم خربت فأنسأتها خوند أم الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن فلاوون ، وجعلت منها قيسارية (١) بخط الركن المخلق يباع بها الجلود ويعلوها ربع جليل لسكن العامّة يشتمل على عدّة طباق ، ووقفت ذلك على مدرستها بخط التبانة خارج باب زويلة ، فلم تزل جارية في وقفها إلى أن اغتصبها الوزير الأمير جمال الدين يوسف الأستادار فيما أخذ من الأوقاف ، وجعلها وقفا على مدرسته بخط رحبة باب العيد من القاهرة ، وجعلت خوند بركة من جملة هذه الدار قاعة لم يعمر فيها سوى بوابتها لا غير ، وهي أهلّ بوّابات الدور ، وقد دخلت أيضا فيما أخذه جمال الدين وصارت بيد مباشري مدرسته إلى أن أخذها السلطان الملك الأشرف أبو العزيز برسباي الدقماقي الظاهريّ ، وابتدأ بعملها وكالة في شوّال سنة خمس وعشرين وثمانمائة ، فكملت في رجب سنة ست وعشرين ، وغيّر من الطراز المنقوش في الحجارة بجانبي باب الدخول ، اسم شعبان بن حسين ، وكتب برسباي ، فجاءت من أحسن المباني ويعلوها طباق للسكنى ، ولم يسخر في عمارتها أحد من الناس كما أحدثه ولاة السوء في عمائرهم ، بل كان العمال من البنايين والفعلة ونحوهم يوفون أجورهم من غير عنف ولا عسف ، فإنه كان القائم على عمارتها القاضي زين الدين عبد الباسط بن خليل ناظر الجيش ، وهذه عادته في أعماله أن لا يكلف فيها العمال غير طاقتهم ، ويدفع إليهم أجورهم والله أعلم.

ذكر الحمامات

قال ابن سيده : الحمّام والحميم والحميمة جميعا الماء الحار ، والحميمة أيضا المخض إذا سخن ، وقد أحمّه وحمّه ، وكلّما سخن فقد حمّ. قال ابن الأعرابي : والحمائم جمع الحميم الذي هو الماء الجار ، وهذا خطأ ، لأن فعيلا لا يجمع على فعائل ، وإنما هو جمع الحميمة الذي هو الماء الحار لغة في الحميم مذكر ، وهو أحد ما جاء من الأسماء على فعال ، نحو القذاف والجبان والجمع حمّامات.

قال سيبويه : جمعوه بالألف والتاء وإن كان مذكرا ، حيث لم يكسر جعلوا ذلك عوضا من التكسير. والاستحمام الاغتسال بالماء الحار ، وقيل هو الاغتسال بأيّ ماء كان ، والحميم العرق ، واستحمّ الرجل عرق. وأمّا قولهم لداخل الحمام إذا خرج طاب حميمك ، فقد يعني به العرق ، أي طاب عرقك ، وإذا دعي له بطبيب العرق ، فقد دعي له بالصحة ، لأنّ الصحيح يطيب عرقه.

وروي عن سفيان الثوري أنه قال : ما درهم ينفقه المؤمن هو فيه أعظم أجرا من درهم صاحب حمّام ليخليه له ، وقال محمد بن إسحاق في كتاب المبتدىء : إنّ أوّل من اتخذ

__________________

(١) قيسارية : بلدة على ساحل بحر الشام من أعمال فلسطين.

١٤٥

الحمامات والطلاء بالنورة سليمان بن داود عليهما‌السلام ، وأنه لما دخل ووجد حميمة قال : اوّاه من عذاب الله أوّاه.

وذكر المسبحيّ في تاريخه : أنّ العزيز بالله نزار بن المعز لدين الله ، أوّل من بنى الحمامات بالقاهرة ، وذكر الشريف أسعد الجوّاني عن القاضي القضاعي أنه كان في مصر الفسطاط ألف ومائة وسبعون حماما. وقال ابن المتوّج أن عدّة حمامات مصر في زمنه بضع وسبعون حماما. وذكر ابن عبد الظاهر أن عدّة حمامات القاهرة إلى آخر سنة خمس وثمانين وستمائة ، تقرّب من ثمانين حماما ، وأقل ما كانت الحمامات ببغداد في أيام الخليفة الناصر أحمد بن المستنصر نحو الألف حمام.

حمّامي السيدة العمة : قال ابن عبد الظاهر : حمّامي الكافي يعرفان بحمامي السيدة العمة ، وانتقلتا إلى الكامل بن شاور ، ثم إلى ورثة الشريف ابن ثعلب ، وهما الآن بأيديهم ، ولا تدور إلّا الواحدة ، وهاتان الحمامان كانتا على يمنة من يدخل من أول حارة الروم تجاه ربع الحاجب لؤلؤ ، المعروف الآن بربع الزياتين ، علو الفندق الذي بابه بسوق الشوّايين ، وكانت إحداهما برسم الرجال والأخرى برسم النساء ، وقد خربتا ولم يبق لهما أثر البتة.

حمام الساباط : قال ابن عبد الظاهر : كان في القصر الصغير باب يعرف بباب الساباط ، كان الخليفة في العيد يخرج منه إلى الميدان ، وهو الخرشتف الآن ، إلى المنحر لينحر فيه الضحايا. قلت حمام الساباط هذا يعرّف في زمننا بحمّام المارستان المنصوري وهو برسم دخول النساء عند باب سرّ المارستان المنصوري ، وهذا الحمّام هو حمّام القصر الصغير الغربي ، ويعرف أيضا بحمّام الصنيمة ، فلما زالت دولة الخلفاء الفاطميين من القاهرة ، باعها القاضي مؤيد الدين أبو المنصور محمد بن المنذر بن محمد العدل الأنصاريّ الشافعيّ ، وكيل بيت المال في أيام الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف بن أيوب ، للأمير عز الدين أيبك العزيزيّ هي وساحات تحاذيها بألف ومائتي دينار ، في ذي الحجة سنة تسعين وخمسمائة ، ثم باعها الأمير عز الدين أيبك للشيخ أمين الدين قيمار بن عبد الله الحمويّ التاجر ، بألف وستمائة دينار ، فورثها من بعده من استحق إرثه ، ثم اشترى من الورثة نصفها الأمير الفارس صارم الدين خطلبا الكاملي العادلي ، في سنة سبع وثلاثين وستمائة ، وانتقلت أيضا منها حصة إلى ملك الأمير علاء الدين ايدكين البندقداري الصالحي النجمي استادار الملك الظاهر بيبرس ، في سنة ثمان وسبعين وستمائة ، فلما تملك الملك المنصور قلاوون الألفي وانشأ المارستان الكبير المنصوري ، صارت فيما هو موقوف عليه ، وهي الآن في أوقافه ولها شهرة في حمامات القاهرة.

حمام لؤلؤ : هذه الحمام برأس رحبة الأيد مرى ملاصقة لدار السناني ، أنشأها الأمير

١٤٦

حسام الدين لؤلؤ الحاجب في أيام ... (١).

حمام الصنيمة : هذه الحمّام كانت بالقرب من خزانة البنود ، على يسرة من سلك في رحبة باب العيد إلى قصر الشوك ، وقد خربت ، وعمل في موضعها مبيضة للغزل ، بالقرب من الجمالية.

حمام تتر : هذه الحمام كانت بخط دار الوزارة الكبرى ، وقد خربت وصار مكانها دارا عرفت بالأمير الشيخ علي ، وهي الدار المجاورة للمدرسة النابلسية في الزّقاق المقابل للخانقاه الصلاحية سعيد السعداء.

وتتر هذا : بتاءين مفتوحتين كل منهما منقوط بنقطتين من فوق ، أحد مماليك أسد الدين شير كوه ، عمّ السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ، استولى على هذه الحمّام وكانت معدّة لدار الوزارة في مدّة الدولة الفاطمية ، فعرفت به وما حولها ، وإلى الآن يعرف ذلك الخط بخط خرائب تتر ، والعامّة تقول خرائب التتر بالتعريف ، وهو خطأ.

حمام كرجي : هذه الحمّام كانت بخط خرائب تتر أيضا في جوار المدرسة النابلسية ، تجاه باب الخانقاه الصلاحية ، عرفت بالأمير علم الدين كرجي الأسديّ ، أحد الأمراء الأسدية في أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ، وقد خربت هذه الحمّام وبني في مكانها هذا البناء الذي تجاه باب الخانقاه بأوّل الزّقاق.

حمام كتيلة : هذه الحمّام كانت داخل باب الخوخة برأس سويقة الصاحب ، عرفت أخيرا بالأمير صارم الدين ساروج شادّ الدواوين ، ثم خربت في أيام ... (٢) ومكانها الآن مسمط يذبح فيه الغنم وتسمط.

حمّام ابن أبي الدم : هذه الحمام كانت فيما بين سويقة المسعودي وباب الخوجة ، أنشأها ابن أبي الدم اليهودي ، أحد كتاب الإنشاء في أيام الخليفة الحاكم ، وتولى ابن خيران الديوان ونقل عنه أنه وسع بين السطور في كتاب كتبه إلى الخليفة (٣) وهذه مكاتبة الأعلى إلى الأدنى ، فلما حضر وأنكر عليه ، ألحق بين السطر والسطر سطرا مناسبا للفظ والمعنى ، من غير أن يظهر ذلك ، فعفا عنه. وقد خربت وصار مكانها دربا فيه دور يعرف بسكن القاضي بدر الدين حسن البردينيّ ، أحد خلفاء الحاكم العزيزي الشافعيّ ، وأدركت بعض آثار هذه الحمام.

حمام الحصينية : هذه الحمام كانت في سويقة الصاحب من داخل درب الحصينية

__________________

(١) بياض في الأصل.

(٢) بياض في الأصل.

(٣) بياض في الأصل.

١٤٧

الذي يعرف اليوم بدرب ابن عرب وقد خربت.

حمام الذهب : هذه الحمّام كانت بدار الذهب ، أحد مناظر الخلفاء الفاطميين التي ذكرت في المناظر من هذا الكتاب ، وقد خربت هذه الحمّام ولم يبق لها أثر.

حمام ابن قرقة : هذه الحمّام كانت بخط سويقة المسعودي من حارة زويلة ، أنشأها أبو سعيد بن قرقة الحكيم ، متولي الاستعمالات بدار الديباج وخزائن السلاح في الدولة الفاطمية ، بجوار داره التي تقدّمت في الدور من هذا الكتاب ، ثم عرفت هذه الحمّام في الدولة الأيوبية بالأمير صارم الدين المسعودي وإلى القاهرة ، المنسوب إليه سويقة المسعودي المذكورة في الأسواق من هذا الكتاب ، ثم خربت هذه الحمّام وعمل في موضعها فندق عرف أخيرا بفندق عمار الحمّامي ، بجوار جامع ابن المغربي من جانبه الغربيّ ، وأخذت بئر هذه الحمّام ، فعملت للحمام التي تعرف اليوم بحمّام السلطان.

حمّام السلطان : هذه الحمّام يتوصل إليها الآن من سويقة المسعودي ، ومن قنطرة الموسكي ، وهي من الحمّامات القديمة عرفت في الدولة الفاطمية بحمّام الأوحد ، ثم عرفت في الدولة الأيوبية بحمّام ابن يحيى ، وهو القاضي المفضل هبة الله بن يحيى العدل ، ثم عرفت بحمّام الطيبرسي ، ثم هي الآن تعرف بحمّام السلطان.

حمّام خوند : هذه الحمّام بجوار رحبة خوند ، المذكورة في الرحاب من هذا الكتاب ، وكانت برسم الدار التي تعرف الآن بدار خوندارد تكين ، ثم أفردت وصارت إلى الآن حمّاما يدخله عامة الرجال في أوائل النهاء ، ثم تعقبهم النساء من بعد ، إلى أن هدمها الأمير صلاح الدين محمد استادار السلطان ابن الأمير الوزير الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله في شهر رجب سنة أربع وعشرين وثمانمائة ، وعمل موضعها من جملة داره التي هناك.

حمّام ابن عبود : هذه الحمّام موضعها فيما بين اصطبل الجميزة المذكورة في اصطبلات الخلفاء من هذا الكتاب ، وبين رأس حارة زويلة ، وهي من الحمامات القديمة ، عرفت بحمّام الفلك ، وهو القاضي فلك الملك العادل ، ثم عرفت بالأمير عليّ بن أبي الفوارس ، ثم عرفت بابن عبود ، وهو الشيخ نجم الدين أبو عليّ الحسين بن محمد بن إسماعيل بن عبود القرشيّ الصوفيّ ، مات في يوم الجمعة ثالث عشرى شوال سنة اثنين وعشرين وسبعمائة بعد ما عظم قدره ونفذ في أرباب الدولة نهيه وأمره ، وهو صاحب الزاوية المعروفة بزاوية ابن عبود بلحف الحبل ، قريبا من الدينوريّ من القرافة ، فانظرها في الزوايا من هذا الكتاب ، ولم تزل هذه الحمام جارية في أوقاف التربة المذكورة إلى أن تسلّط الأمير جمال الدين على أموال أهل مصر ، فاغتصب ابن أخته الأمير شهاب الدين أحمد المعروف بسيدي أحمد ابن أخت جمال الدين هذه الحمام ، واغتصب دار ابن فضل الله التي تجاه هذه الحمام ، واغتصب آدرا أخر بجوارها ، وعمر هناك دارا عظيمة كما قد ذكر في الدور من هذا الكتاب.

١٤٨

حمّام الصاحب : هذه الحمام بسويقة الصاحب ، عرفت بالصاحب الوزير صفيّ الدين عبد الله بن شكر الدمري صاحب المدرسة الصاحبية التي بسويقة الصاحب ، ثم تعطلت مدّة سنين ، فلما ولي الأمير تاج الدين الشوبكي ولاية القاهرة في أيام الملك المؤيد شيخ ، جدّدها وأدار بها الماء في سنة سبع عشرة وثمانمائة.

حمّام السلطان : هذه الحمّام كان موضعها قديما من جملة دار الديباج ، وهي الآن بخط بين العواميد من البندقانيين بجوار خوخة سوق الجوار ، ومدرسة سيف الإسلام ، أنشأها الأمير فخر الدين عثمان ابن قزل استادار السلطان الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب ، وتنقلت إلى أن صارت في أوقاف الملك الناصر محمد بن قلاوون.

حمّاما طغريك : هاتان الحمامان بجوار فندق فخر الدين بالقرب من سويقة حارة الوزيرية ، أنشأهما الأمير حسام الدين طغريك المهرانيّ ، أحد الأمراء الأيوبية.

حمام السوباشي : هذه الحمّام كانت بدرب طلائع بخط الخروقيين الذي يعرف اليوم بسوق الفرّايين ، عرفت بالأمير الفارس همام الدين أبو سعيد برغش السوباشي ، واسمه عمرو بن كحت بن شيرك العزيزي والي القاهرة.

حمام عجينة : هذه الحمام كانت بخط الأكفانيين ، انشأها الأمير فخر الدين أخو الأمير عز الدين موسك في الدولة الأيوبية ، وتنقلت حتى صارت بيد أولاد الملك الظاهر بيبرس البندقداريّ ، مما أوقف عليهم ، وعرفت أخيرا بحمام عجينة ، ثم خربت بعد سنة أربعين وسبعمائة ، وموضعها الآن خربة بجوار الفندق الكبير المعدّ لديوان المواريث.

حمّام دري : هذه الحمّام كانت بخط الأكفانيين الآن ، عرفت بشهاب الدولة دري الصغير غلام المظفر ابن أمير الجيوش. قال الشريف محمد بن أسعد الجواني في كتاب النقط لمعجم ما أشكل من الخطط. شهاب الدولة دري المعروف بالصغير المظفري غلام المظفر أمير الجيوش ، كان أرمنيا وأسلم ، وكان من المشددين في مذهب الإمامية ، وقرأ الجمل في النحو للزجاجيّ ، وكتاب اللمع لابن جني ، وكانت له خرائط من القطن الأبيض في يديه ورجليه ، وكان يتولى خزائن الكسوة ، ولا يدخل على بسط السلطان ولا بسط الخليفة الحافظ لدين الله ، ولا يدخل مجلسه إلا بتلك الخرائط في رجليه ، ولا يأخذ من أحد شيئا إلّا وفي يديه خريطة ، يظنّ أنّ كل من لمسه نجّسه ، وسوسة منه ، فإذا اتفق أنه صافح أحد المومس رقعة بيده من غير خريطة ، لا يمس ثوبه بها أبدا حتى يغسلها ، فإن لمس ثوبه بها غسل الثوب ، وكان الاستاذون المحنكون يرمون له في بساط الخليفة الحافظ العنب ، فإذا مشى عليه وانفجر ووصل ماؤه إلى رجليه سبهم وحرد ، فيعجب الخليفة من ذلك ويضحك ولا يؤاخذه بما صدر منه ، ومات بعد سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة ، وقد خربت

١٤٩

هذه الحمام ولم يبق لها أثر يعرف.

حمّام الرصاصي : هذه الحمّام كانت بحارة الديلم ، أنشأها الأمير سيف الدين حسن بن أبي الهيجاء المروانيّ ، حامل السيف المنصور ، وأوقفها هي وجميع الآدر المجاورة لها على أولاده وذريته ، فلما زالت الدولة الفاطمية عرفت بالأمير عز الدين أيبك الرصاصي ، ولم تزل باقية إلى بعد سنة أربعين وسبعمائة ، ثم خربت.

حمام الجيوشي : هذه الحمام كانت بحارة برجوان ، على يمنة من دخل من رأي الحارة ، وكانت من حقوق دار المظفر المظفر ابن أمير الجيوش ، ثم صارت بعد زوال الدولة الفاطمية من جملة ما أوقفه الملك العادل أبو بكر ابن أيوب على رباطه الذي كان بخط النخالين من فسطاط مصر ، ثم وضع بنو الكويك أصهار قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن جماعة أيديهم عليها في جملة ما وضعوا أيديهم عليه من الأوقاف بحارة ابن جماعة ، وانتفعوا بريعها مدّة سنين ، ثم خربوها بعد سنة أربعين وسبعمائة ، وموضعها الآن بجوار دار قاضي القضاة شمس الدين محمد الطرابلسي ، وبعضها داخل في الدار المذكورة ، وبئرها بجوار القبو الذي يسلك من تحته إلى حمّام الرومي داخل حارة برجوان ، ويعلو هذا العقد حاصل الماء الذي للحمام ، ويمرّ على مجراه من حجرة مركّبة على جدار بجوار القبر إلى الحمام المذكورة ، وآثار هذا الجدار باقية إلى اليوم ، وكان قد استأجر هذه البئر والقبور بعد تعطل الحمّام القاضي أبو الفداء تاج الدين إسماعيل بن أحمد بن الخطباء المخزوميّ ، من مباشري أوقاف رباط العادل ، وبني على البئر وبجوارها دارا سكنها مدّة أعوام ، وأنشأ بابا على حاصل الماء المركب على القبور مشرفا عاليا ، تأنّق في ترخيمه ودهانه وكتب بدائره:

مشترف كم شبهوه الأدبا

لحسنه إذ جاء شيئا عجبا

فقال قوم قلعة مبنية

وآخرون شبهوه مرقبا

وشاعر أعجبه ترخيمه

فقال تلك روضة فوق الربا

وقائل ما ذا ترى تشبيهه

فقلت هذا منبر ابن الخطبا

ثم خربت هذه الدار بعد موت ابن الخطباء واحترقت في سنة تسع وثمانمائة ، وآثارها باقية وما زال ابن الخطباء يدفع حكر هذه البئر وهذا القبو لجهة الرباط العادلي حتى خرب ، وعفى أثره وجهل مكانه ، وقد رأيته في سنة أربع وتسعين وسبعمائة عامرا.

حمّام الرومي : هذه الحمّام بجوار حارة برجوان ، عرفت بالأمير سنقر الرومي الصالحيّ أحد الأمراء في أيام الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ ، أنشأها بجوار اسطبله الذي يعرف اليوم باسطبل ابن الكويك ، وذلك تجاه رحبة داره التي عرفت بدار مازان ، ووقف هذه الدار والإسطبل والحمّام المذكورة في سنة اثنين وستين وستمائة ، فأما الدار فإنها صارت أخيرا بيد رجل من عامة الناس يعرف بعيسى البناء ، فباعها انقاضا بعد ما

١٥٠

خرّبها في سنة سبع وثمانمائة لرجل من المباشرين ، فهدمها ليعمرها عمارة جليلة ، فلم يمهل وعاجله القضاء فمات ، وصارت خربة فابتاعها بعض الناس من ورثة المذكور وشرع في عمارة شيء منها ، وأما الإصطبل والحمّام فوضع بنو الكويك أيديهم عليهما مدّة أعوام ، حتى صارا ملكا لهم يورثان ، وهما الآن بيد شرف الدين محمد بن محمد بن الكويك ، وقد جعل ما يخصه من الحمّام وقفا على نفسه ، ثم على اناس من بعده ، وفي هذه الحمام حصة أيضا وقفها شيخنا برهان الدين إبراهيم الشامي الضرير على أمته وهي بيدها.

سنقر الرومي : الصالحيّ النجميّ ، أحد مماليك الملك الصالح نجم الدين أيوب البحرية ، ترقى عنده في الخدم حتى صار جامدار ، وكان من خوشداشية بيبرس البندقداريّ وأصدقائه ، فلما قتل الفارس أقطاي في أيام الملك المعز أيبك التركماني ، وخرج البحرية من القاهرة إلى بلاد الشام ، كان سنقر ممن خرج ورافق بيبرس وارتفق بصحبته ، ونال منه مالا وثيابا وغير ذلك ، وتنقل معهم في الكرك إلى أن كان من أمره في الصيد مع صاحب الكرك ، فطلب سنقر من بيبرس شيئا فلم يجبه وامتنع من إعطائه ، فحنق وفارقه إلى مصر فأقام بها ، ثم أن بيبرس قدم إلى مصر بعد ذلك وقد صار أميرا فلم يعبأ سنقر به ولا قدّم إليه شيئا كعادة الخواشداشية ، فلما صار الأمر إلى بيبرس ، وملك بعد قطز ، قدّم سنقر وأعطاه الإقطاعات الجليلة ، ونوّه بقدره ، فلم يرض ، فصار إذا ورد عليه الإنعام السلطانيّ لا يأخذه بقبول ، ويخلو كل وقت بجماعة بعد جماعة ويفرّق فيهم المال ، فيبلغ ذلك السلطان ويغضي عنه ، وربما بعث إليه وحذره مع الأمير قلاوون وغيره فلم ينته ، ثم أنه قتل مملوكين من مماليكه بغير ذنب ، فعزّ قتلهما على السلطان فطلبه في رابع عشرى ذي الحجة سنة ثلاث وستين وستمائة واعتقله ، فقال أريد أعرف ذنبي ، فبعث إليه السلطان يعدّ ذنوبه. فتحسر وقال : أوّاه لو كنت حاضرا قتل الملك المظفر قطز ، حتى أعاند في الذي جرى ، وكان كثيرا ما يقول ذلك ، وبلغ هذا القول هذه السلطان في حال أمرته فقال : أنت أخي ، وتتحسر كونك ما قدرت أن تعين عليّ.

حمّاما سويد : هاتان الحمامان بآخر سويقة أمير الجيوس ، عرفتا بالأمير عز الدين معالي بن سويد ، وقد خربت إحداهما ، ويقال أنها غارت في الأرض وهلك فيها جماعة ، وبقيت الأخرى وهي الآن بيد الخليفة أبي الفضل العباسيّ بن محمد المتوكل.

حمام طغلق : هذه الحمام بجوار درب المنصوري من خط حارة الصالحية ، صارت أخيرا بيد ورثة الأمير قطلوبغا المنصوريّ حاجب الحجاب في أيام الملك الأشرف شعبان بن حسين ، وكانت معدّة لدخول الرجال ، ثم تعطلت بعد سنة تسعين وسبعمائة ، وأخذ حاصلها ، وعهدي بها بعد سنة ثمانمائة أطلالا واهية.

حمّام ابن علكان : هذه الحمّام كانت بحارة الجودرية ، أنشأها الأمير شجاع الدين

١٥١

عثمان بن علكان ، صهر الأمير الكبير فخر الدين عثمان بن قزل ، ثم انتقلت إلى الأمير علم الدين سنجر الصيرفيّ الصالحيّ النجميّ ، وما زالت إلى أن خربت بعد سنة أربعين وسبعمائة ، فعمر مكانها الأمير ازدمر الكاشف إسطبلا بعد سنة خمسين وسبعمائة.

حمّام الصاحب : هذه الحمام بخط طواحين الملحيين.

حمّام كتبغا الأسدي : هذه الحمام موضعها الآن المدرسة الناصرية بخط بين القصرين.

حمّام ألتطمش خان : هذه الحمّام كانت بجوار ميضاة الملك ركن الدين الظاهر بيبرس ، المجاورة للمدرسة الظاهرية بخط بين القصرين ، أنشأتها الخاتون التطمش خان زوجة الملك الظاهر ركن الدين بيبرس ، ثم خربت وصار موضعها زقاقا ، فلما ولي كمال الدين عمر بن العديم قضاء القضاة الحنفية بالديار المصرية ، في سلطنة الملك الناصر فرج ، شرع في عمارة هذا الزقاق ، فمات ولم يكمله ، فوضع الأمير جمال الدين يده في العمارة وأنشأها فندقا جعله وقفا فيما وقف على مدرسته التي أنشأها برحبة باب العيد ، فلما قتله الملك الناصر فرج واستولى على جميع ما تركه ، جعل هذا الفندق من جملة ما أرصده للتربة التي أنشأها على قبر أبيه الملك الظاهر برقوق خارج باب النصر.

حمّام القاضي : هذه الحمام من جملة خط درب الأسواني ، وهي من الحمامات القديمة ، كانت تعرف بإنشاء شهاب الدولة بدر الخاص ، أحد رجال الدولة الفاطمية ، ثم انتقلت إلى ملك القاضي السعيد أبي المعالي هبة الله بن فارس ، وصارت بعده إلى ملك القاضي كمال الدين أبي حامد محمد ابن قاضي القضاة صدر الدين عبد الملك بن درباس الماراني ، فعرفت بحمّام القاضي إلى اليوم ، ثم باع ورثة أبي حامد منها حصة للأمير عز الدين أيدمر الحليّ نائب السلطنة في أيام الملك الظاهر ركن الدين بيبرس ، وصارت منها حصة إلى الأمير علاء الدين طيبرس الخازنداري ، فجعلها وقفا على مدرسته المجاورة للجامع الأزهر.

حمّام الخرّاطين : هذه الحمّام أنشأها الأمير نور الدين أبو الحسن عليّ بن نجا بن راجح بن طلائع ، فعرفت بحمام ابن طلائع وكان بجوارها ، ثم حمّام أخرى تعرف بحمّام السوباشي فخربت ، ومستوقد حمام ابن طلائع هذه إلى الآن من درب ابن طلائع ، الشارع بسوق الفرّايين الآن ، ولها منه أيضا باب ، وصارت أخيرا في وقف الأمير علم الدين سنجر السروري المعروف بالخياط والي القاهرة ، وتوفي في سنة ثمان وتسعين وستمائة ، فاغتصبها الأمير جمال الدين يوسف الأستادار في جملة ما اغتصب من الأوقاف والأملاك وغيرها ، وجعلها وقفا على مدرسته برحبة باب العيد وهي الآن موقوفة عليها.

١٥٢

حمّام الخشيبة : هذه الحمام بجوار درب السلسلة ، كانت تعرف بحمام قوّام الدولة خير ، ثم صارت حماما لدار الوزير المأمون ابن البطائحي ، فلما قتل الخليفة الآمر بأحكام الله وعملت خشيبة تمنع الراكب أن يمرّ من تجاه المشهد الذي بني هناك ، عرفت هذه الحمّام بخشيبة ، تصغير خشبة ، وقد تقدّم ذلك مسبوطا عند ذكر الأخطاط من هذه الكتاب.

قال ابن عبد الظاهر : مدرسة السيوفيين وقفها الأمير عز الدين فرج شاه على الحنفية ، وكانت هذه الدار قديما تعرف بدار المأمون بن البطائحي ، وحمام الخشيبة كانت لها ، فبيعت ، وهذه الحمّام هي الآن في أوقاف خوند طغاي أم أنوك ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون على تربتها التي في الصحراء خارج باب البرقية.

حمام الكويك : هذه الحمّام فيما بين حارة زويلة ودرس شمس الدولة ، أنشأها الوزير عباس أحد وزراء الدولة الفاطمية ، لداره التي موضعها الآن درب شمس الدولة ، ثم جدّدها شخص من التجار يعرف بنور الدين عليّ بن محمد بن أحمد بن محمود بن الكويك الربعي التكريتي ، في سنة تسع وأربعين وسبعمائة ، فعرفت به إلى اليوم.

حمّام الجويني : هذه الحمّام بجوار حمام ابن الكويك ، فيما بينها وبين البندقانيين ، عرفت بالأمير عز الدين إبراهيم بن محمد بن الجويني والي القاهرة في أيام الملك العادل أبي بكر بن أيوب ، توفي سلخ جمادى الأولى سنة إحدى وستمائة ، فإنه أنشأها بجوار داره ، والعامّة تقول حمام الجهينيّ بهاء ، وهو خطأ ، وتنقلت إلى أن اشتراها القاضي أوحد الدين عبد الواحد بن ياسين كاتب السرّ الشريف في أيام الملك الظاهر برقوق بطريق الوكالة عن الملك الظاهر ، وجعلها وقفا على مدرسته العظمى بخط بين القصرين ، وهي الآن في جملة الموقوف عليها.

حمام القفاصين : هذه الحمام بالقرب من رأس حارة الديلم ، أنشأها نجم الدين يوسف ابن المجاور وزير الملك العزيز عثمان بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب.

حمّام الصغيرة : هذه الحمّام علي يمنة من سلك من رأس حارة بهاء الدين ، وهي تجاه دار قراسنقر ، أنشأها الأمير فخر الدين بن رسول التركمانيّ. ورسول هذا جدّ ملوك اليمن الآن ، وقد تعطلت هذه الحمام منذ كانت الحوادث بعد سنة ست وثمانمائة.

حمّام الأعسر : هذه الحمّام موضعها من جملة دار الوزارة ، وهي الآن بجوار باب الجوانية ، أنشأها الأمير شمس الدين سنقر المعزي الظاهري المنصوري.

سنقر الأعسر : كان أحد مماليك الأمير عز الدين أيدمر الظاهري نائب الشام ، وجعله دواداره ، فباشر الدوادارية لأستاذه بدمشق ونفسه تكبر عنها ، فلما عزل أيدمر من نيابة الشام في أيام الملك المنصور قلاوون وحضر إلى قلعة الجبل ، اختار السلطان عدّة من مماليكه

١٥٣

منهم سنقر الأعسر هذا ، فاشتراه وولّاه نيابة الاستادارية ، ثم سيره في سنة ثلاث وثمانين وستمائة إلى دمشق ، وأعطاه أمرة وولاه شدّ الدواوين بها ، واستادارا ، فصارت له بالشام سمعة زائدة إلى أن مات قلاوون ، وقام من بعده الأشرف خليل ، واستوزر الوزير شمس الدين السلعوس ، طلب سنقر إلى القاهرة وعاقبه وصادره ، فتوصل حتى تزوّج بابنة الوزير على صداق مبلغه ألف وخمسمائة دينار ، فأعاده إلى حالته ولم يزل إلى أن تسلطن الملك العادل كتبغا واستوزر الصاحب فخر الدين بن خليل ، وقبض على سنقر وعلى سيف الدين استدمر وصادرهما ، وأخذ من سنقر خمسمائة ألف درهم ، وعزله عن شدّ الدواوين ، وأحضره إلى القاهرة. فلما وثب الأمير حسام الدين لاجين على كتبغا وتسلطن ، ولي سنقر الوزارة عوضا عن ابن خليل في جمادى الأولى سنة ست وتسعين وسبعمائة ، ثم قبض عليه في ذي الحجة منها ، وذلك أنه تعاظم في وزارته وقام بحق المنصب ، يريد أن يتشبه بالشجاعى ، وصار لا يقبل شفاعة أحد من الأمراء ، ويخرق بنوابهم ، وكان في نفسه متعاظما وعنده شمم إلى الغاية مع سكون في كلامه ، بحيث أنه إذا فاوض السلطان في مهمات الدولة كما هي عادة الوزراء لا يجيب السلطان بجواب شاف ، وصار يتبين منه للسلطان قلة الاكتراث به ، فأخذ في ذمه وعيبه بما عنده من الكبر ، وصادفه الغرض من الأمراء وشرعوا في الحط عليه حتى صرف وقيد ، فأرسل يسأل السلطان عن الذنب الذي أوجب هذه العقوبة ، فقال : ماله عندي ذنب غير كبره ، فإني كنت إذا دخل إليّ أحسب أنه هو السلطان وأنا الأعسر ، فصدره منقام وحديثي معه كأني أحدّث أستاذي ، وقرّر من بعده في الوزارة ابن الخليلي ، فلما قتل لاجين وأعيد الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى الملك ثانيا أفرج عن سنقر الأعسر وعن جماعة من الأمراء ، وأعاد الأعسر إلى الوزارة في جمادى الأولى سنة ثمان وتسعين وسبعمائة ، وفي وزارته هذه كانت هزيمة الملك الناصر بعساكره من غازان ، فتولى ناصر الدين الشيخي والي القاهرة جباية الأموال من التجار وأرباب الأموال ، لأجل النفقة على العساكر ، وقرّر في وزارته على كل أردب غلة خروبة إذا طلع إلى الطحان ، وقرّر أيضا نصف الشمسرة ، ومعناها أنه كان للمنادي على الثياب أجرة دلالته على كل ما مبلغه مائة درهم ، درهمين ، فيؤخذ منه درهم منهما ويفضل له درهم ، واستخدم على هاتين الجهتين نحو مائتين من الأجناد البطالين ، وتحصل في بيت المال من أموال المصادرات مبلغ عظيم ، ثم خرج الوزير بمائة من مماليك السلطان وتوجه إلى بلاد الصعيد وقد وقعت له في النفوس مهابة عظيمة ، فكبس البلاد وأتلف كثيرا من المفسدين من أجل أنه لما حصلت وقعة غازان كثر طمع العربان في المغل ، ومنعوا كثيرا من الخراج ، وعصوا الولاة وقطعوا الطريق ، وما زال يسير إلى الأعمال القوصية ، فلم يدع فرسا لفلاح ، ولا قاض ، ولا متعمم ، حتى أخذه ، وتتبع السلاح ، ثم حضر بألف وستين فرسا ، وثمانمائة وسبعين جملا ، وألف وستمائة رمح ، وألف ومائتي سيف ، وتسعمائة درقة ، وستة آلاف رأس غنم ، وقتل عدّة من

١٥٤

الناس ، فتمهدت البلاد وقبض الناس مغلهم بتمامه ، واتفقت واقعة النصارى التي ذكرت عند ذكر كنائس النصارى من هذا الكتاب في أيامه ، فأمر بالتاج ابن سعيد الدولة أحد مستوفي الدولة ، وكان فيه زهو وحمق عظيم ، وله اختصاص بالأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكيري ، فعرّي وضرب بالمقارع ضربا مبرحا ، فأظهر الإسلام وهو في العقوبة ، فأمسك عنه. وألزمه بحمل مال ، فالتجأ إلى زاوية الشيخ نصر المنيحي وترامى على الشيخ فقام في أمره حتى عفي عنه ، فكره الأمراء الأعسر لكثرة شممه وتعاظمه ، فكلّموا الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكيري ، وإليه أمر الدولة في ولاية الأمير عز الدين أيبك البغداديّ الوزارة ، وساعدهم على ذلك الأمير سلار ، فولي الأعسر كشف القلاع الشامية ، وإصلاح أمورها ، وترتيب رجالها ، وسائر ما يحتاج إليه. وخلع على الأمير أيبك خلع الوزارة في آخر سنة سبعمائة ، فلما عاد استقرّ أحد أمراء الألوف ، وحج في صحبة الأمير سلار ومات بالقاهرة بعد أمراض ، في سنة تسع وسبعمائة ، وكان عارفا خيّرا مهابا ، له سعادات طائلة ، ومكارم مشهورة ، ولحاشيته ثروة متسعة ، وغالب مماليكه تأمرّوا بعده ، وممن مدحه الوداعيّ وابن الوكيل.

حمّام الحسام : هذه الحمّام بداخل باب الجوانية.

حمّام الصوفية : هذه الحمّام بجوار الخانقاه الصلاحية سعيد السعداء ، أنشأها السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب لصوفية الخانقاه ، وهي إلى الآن جارية في أوقافهم ولا يدخلها يهوديّ ولا نصراني.

حمّام بهادر : هذه الحمّام موضعها من حملة القصر ، وهي بجوار دار جرجي ، أنشأها الأمير بهادر استادار الملك الظاهر برقوق ، وقد تعطلت.

حماد الدود : هذه الحمّام خارج باب زويلة في الشارع تجاه زقاق خان حلب ، بجوار حوض سعد الدين مسعود بن هنس ، عرفت بالأمير سيف الدين الدود الجاشنكيريّ ، أحد أمراء الملك المعز أيبك التركمانيّ ، وخال ولده الملك المنصور نور الدين عليّ بن الملك المعز أيبك ، فلما وثب الأمير سيف الدين قطز نائب السلطنة بديار مصر على الملك المنصور عليّ بن الملك المعز أيبك واعتقله وجلس على سرير المملكة قبض على الأمير الدود في ذي الحجة سنة سبع وخمسين وستمائة واعتقله ، وهذه الحمّام إلى اليوم بيد ذرية الدود من قبل بناته موقوفة عليهم.

حمام ابن أبي الحوافر : هذه الحمّام خارج مدينة مصر بجوار الجامع الجديد الناصريّ ، كان موضعها وما حولها عامرا بماء النيل ، ثم انحصر عنه الماء وصار جزيرة ، فبنى الناس عليها بعد الخمسمائة من سني الهجرة ، كما ذكر عند ذكر ساحل مصر من هذا الكتاب ، وعرفت هذه الحمّام بالقاضي فتح الدين أبي العباس أحمد بن الشيخ جمال الدين

١٥٥

أبي عمرو وعثمان بن هبة الله بن أحمد بن عقيل بن محمد بن أبي الحوافر رئيس الأطباء بديار مصر ، ومات ليلة الخميس الرابع عشر من شهر رمضان سنة سبع وخمسين وستمائة ودفن بالقرافة.

حمّام قتّال السبع : هذه الحمّام خارج باب القوس من ظاهر القاهرة في الشارع المسلوك فيه من باب زويلة إلى صليبة جامع ابن طولون ، وموضعها اليوم بجوار جامع قوصون ، عمّرها الأمير جمال الدين أقوش المنصوريّ ، المعروف بقتّال السبع الموصلي ، بجانب داره التي هي اليوم جامع قوصون ، فلما أخذ قوصون الدار المذكورة وهدمها وعمر مكانها هذا الجامع ، أراد أخذ الحمّام ، وكانت وقفا ، فبعث إلى قاضي القضاة شرف الدين الحنبليّ الحرّانيّ يلتمس منه حل وقفها ، فأخرب منها جانبا وأحضر شهود القيمة فكتبوا محضرا يتضمن أنّ الحمام المذكورة خراب ، وكان فيهم شاهد امتنع من الكتابة في المحضر وقال : ما يسعني من الله أن أدخل بكرة النهار في هذا الحمام وأطهّر فيها ، ثم أخرج منها وهي عامرة وأشهد بعد ضحوة نهار من ذلك اليوم أنها خراب ، فشهد غيره ، وأثبت قاضي القضاة الحنبليّ المحضر المذكور وحكم ببيعها ، فاشتراها الأمير قوصون من ورثة قتال السبع ، وهي اليوم عامرة بعمارة ما حولها.

حمّام لؤلؤ : هذه الحمام برأس رحبة الأيدمريّ ، ملاصقة لدار السنانيّ من القاهرة ، أنشأها الأمير حسام الدين لؤلؤ الحاجب.

لؤلؤ الحاجب : كان أرمنيّ الأصل ، ومن جملة أجناد مصر في أيام الخلفاء الفاطميين ، فلما استولى صلاح الدين يوسف بن أيوب على مملكة مصر ، خدم تقدمة الأسطول ، وكان حيثما توجه فتح وانتصر وغنم ، ثم ترك الجندية وزوّج بناته وكنّ أربعا بجهاز كاف ، وأعطى ابنيه ما يكفيهما ، ثم شرع يتصدّق بما بقي معه على الفقراء بترتيب لا خلل فيه ، ودواما لا سآمة معه ، وكان يفرّق في كل يوم اثني عشر ألف رغيف مع قدور الطعام ، وإذا دخل شهر رمضان أضعف ذلك ، وتبتل للتفرقة من الظهر في كل يوم إلى نحو صلاة العشاء الآخرة ، ويضع ثلاثة مراكب طول كل مركب أحد وعشرون ذراعا مملوءة طعاما ، ويدخل الفقراء أفواجا وهو قائم مشدود الوسط كأنه راعي غنم ، وفي يده مغرفة وفي الأخرى جرّة سمن ، وهو يصلح صفوف الفقراء ويقرّب إليهم الطعام والودك ، ويبدأ بالرجال ثم النساء ثم الصبيان ، وكان الفقراء مع كثرتهم لا يزدحمون ، لعلمهم أنّ المعروف يعمهم ، فإذا انتهت حاجة الفقراء بسط سماطا للأغنياء تعجز الملوك عن مثله ، وكان له مع ذلك على الإسلام منة توجب أن يترحم عليه المسلمون كلهم ، وهي أنّ فرنج الشوبك والكرك توجهوا نحو مدينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لينبشوا قبره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وينقلوه جسده الشريف المقدّس إلى بلادهم ويدفنوه عندهم ، ولا يمكنوا المسلمين من زيارته إلّا بجعل ، فأنشأ البرنس أرباط صاحب الكرك سفنا

١٥٦

حملها على البرّ إلى بحر القلزم ، وأركب فيها الرجال ، وأوقف مركبين على جزيرة قلعة القلزم تمنع أهلها من استقاء الماء ، فاسرت الفرنج نحو عيذاب (١) فقتلوا وأسروا ومضوا يريدون المدينة النبوية ، على ساكنها أفضل الصلاة والتسليم ، وذلك في سنة ثمان وتسعين وخمسمائة ، وكان السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب على حران ، فلما بلغه ذلك بعث إلى سيف الدولة ابن منقذ نائبه على مصر يأمره بتجهيز الحاجب لؤلؤ خلف العدوّ ، فاستعدّ لذلك وأخذ معه قيودا وسار في طلبهم إلى القلزم ، وعمّر هناك مراكب وسار إلى أيلة ، فوجد مراكب للفرنج فحرقها وأسر من فيها ، وسار إلى عيذاب وتبع الفرنج حتى أدركهم ، ولم يبق بينهم وبين المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والتسليم إلا مسافة يوم ، وكانوا ثلاثمائة ونيفا ، وقد انضم إليهم عدّة من العربان المرتدّة ، فعندما لحقهم لؤلؤ فرّت العربان فرقا من سطوته ورغبة في عطيته ، فإنه كان قد بذل الأموال حتى أنه علّق أكياس الفضة على رؤس الرماح ، فلما فرّت العربان التجأ الفرنج إلى رأس جبل صعب المرتقى ، فصعد إليهم في عشرة أنفس وضايقهم فيه ، فخارت قواهم بعد ما كانوا معدودين من الشجعان واستسلموا ، فقبض عليهم وقيّدهم وحملهم إلى القاهرة ، فكان لدخولهم يوم مشهود ، وتولى قتلهم الصوفية والفقهاء وأرباب الديانة بعد ما ساق رجلين من أعيان الفرنج إلى منى ونحرهما هناك كما تنحر البدن التي تساق هديا إلى الكعبة ، ولم يزل على فعل المعروف إلى أن مات رحمه‌الله في صميم الفلا ، وقد قرب منتهاه في اليوم التاسع من جمادى الآخرة سنة ست وتسعين وخمسمائة ، ودفن بتربته من القرافة ، وهي التي حفر فيها البئر ووجد في قعرها عند الماء اسطام مركب ، وهذه الحمّام تفتح تارة وتغلق كثيرا ، وهي باقية إلى يومنا هذا من جملة أوقاف الملك ، والله تعالى أعلم بالصواب.

ذكر القياسر

ذكر ابن المتوّج قياسر مصر وهي : قيسارية المحلى ، وقيسارية الضيافة ، وقف المارستان المنصوري ، وقيسارية شبل الدولة ، وقيسارية ابن الأرسوفي ، وقيسارية ورثة الملك الظاهر بيبرس ، وقيساريتا ابن ميسر ، وقد خربت كلها.

قيسارية ابن قريش : هذه القيسارية في صدر سوق الجملون الكبير بجوار باب سوق الورّاقين ، ويسلك إليها من الجملون ومن سوق الأخفافيين ، المسلوك إليه من البندقانيين ، وبعضها الآن سكن الأرمنيين وبعضها سكن البزازين.

قال ابن عبد الظاهر : استجدّها القاضي المرتضى ابن قريش في الأيام الناصرية الصلاحية ، وكان مكانها اسطبلا انتهى.

__________________

(١) عيذاب : بليدة على ضفة بحر القلزم.

١٥٧

وهو القاضي المرتضى صفيّ الدين أبو المجد عبد الرحمن بن عليّ بن عبد العزيز بن علي بن قريش المخزومي ، أحد كتاب الإنشاء في أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ، قتل شهيدا على عكا في يوم الجمعة عاشر جمادى الأولى سنة ست وثمانين وخمسمائة ، ودفن بالقدس ، ومولده في سنة أربع وعشرين وخمسمائة ، وسمع السلفيّ وغيره.

قيسارية الشرب : هذه القيسارية بشارع القاهرة تجاه قيسارية جهاركس. قال ابن عبد الظاهر : وقفها السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب على الجماعة الصوفية ، يعني بخانقاه سعيد السعداء ، وكانت إسطبلا. انتهى. وما برحت هذه القيسارية مرعية الجانب إكراما للصوفية إلى أن كانت أيام الملك الناصر فرج ، وحدثت الفتن وكثرت مصادرات التجار ، انخرق ذاك السياج وعومل سكانها بأنواع من العسف ، وهي اليوم من أعمر أسواق القاهرة.

قيسارية ابن أبي أسامة : هذه القيسارية بجوار الجملون الكبير على يسرة من سلك إلى بين القصرين ، يسكنها الآن الخرد فوشية ، وقفها الشيخ الأجل أبو الحسن عليّ بن أحمد بن الحسن بن أبي أسامة ، لصاحب ديوان الإنشاء في أيام الخليفة الآمر بأحكام الله ، وكانت له رتبة خطيرة ومنزلة رفيعة ، وينعت بالشيخ الأجل كاتب الدست الشريف ، ولم يكن أحد شاركه في هذا النعت بديار مصر في زمانه ، وكان وقف هذه القيسارية في سنة ثمان عشرة وخمسمائة ، وتوفي في شوال سنة اثنين وعشرين وخمسمائة.

قيسارية سنقر الأشقر : هذه القيسارية على يسرة من يدخل من باب زويلة ، فيما بين خزانة شمائل ودرب الصغيرة ، تجاه قيسارية الفاضل. أنشأها الأمير شمس الدين سنقر الأشقر الصالحيّ النحميّ ، أحد المماليك البحرية ، ولم تزل إلى أن هدمت وأدخلت في الجامع المؤيدي ، لأيام من جمادى الأولى سنة ثمان عشرة وثمانمائة.

قيسارية أمير علي : هذه القيسارية بشارع القاهرة تجاه الجملون الكبير ، بجوار قيسارية جهاركس ، يفصل بينهما درب قيطون ، عرفت بالأمير عليّ بن الملك المنصور قلاون الذي عهد له بالملك ، ولقبه بالملك الصالح ، ومات في حياة أبيه ، كما قد ذكر في فندق الملك الصالح.

قيسارية رسلان : هذه القيسارية فيما بين درب الصغيرة والحجارين ، أنشأها الأمير بهاء الدين رسلان الدوادار ، وجعلها وقفا على خانقاه له بمنشأة المهرّانيّ ، وكانت من أحسن القياسر ، فلما عزم الملك المؤيد شيخ على بناء مدرسته هدمها في جمادى الأولى سنة ثمان عشرة وثمانمائة ، وعوّض أهل الخانقاه عنها خمسمائة دينار.

١٥٨

قيسارية جهاركس : قال ابن عبد الظاهر : بناها الأمير فخر الدين جهاركس في سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة ، وكانت قبل ذلك يعرف مكانها بفندق الفراخ ، ولم تزل في يد ورثته ، وانتقل إلى الأمير علم الدين أيتمش منها جزء بالميراث عن زوجته ، وإلى بنت شومان من أهل دمشق ، ثم اشتريت لوالدة خليل المسماة بشجر الدرّ الصالحية ، في سنة خمس وخمسين وستمائة ، وهي مع حسنها واتقان بنائها كلها ، تجرّد من الغضب جميع ما فيها ، وذكر بعض المؤرخين أن صاحبها جهاركس نادى عليها حين فرغت ، فبلغت خمسة وتسعين ألف دينار على الشريف فخر الدين إسماعيل بن ثعلب ، وقال لصاحبها : أنا انقدك ثمنها ، أي نقد شئت ، إن شئت ذهبا وإن شئت فضة ، وإن شئت عروض تجارة ، وقيسارية جهاركس تجرى الآن في وقف الأمير بكتمر الجوكندار نائب السلطنة بعد سلار على ورثته. وقال القاضي شمس الدين أحمد بن محمد بن خلكان :

جهاركس : بن عبد الله فخر الدين أبو المنصور الناصريّ الصلاحيّ ، كان من أكبر أمراء الدولة الصلاحية ، وكان كريما نبيل القدر عليّ الهمة ، بنى بالقاهرة القيسارية الكبرى المنسوبة إليه ، رأيت جماعة من التجار الذين طافوا البلاد يقولون : لم نر في شيء من البلاد مثلها في حسنها وعظمها وأحكام بنائها ، وبنى بأعلاها مسجدا كبيرا وربعا معلقا ، وتوفي في بعض شهور سنة ثمان وستمائة بدمشق ، ودفن في جبل الصالحية وتربته مشهورة هناك ، رحمه‌الله ، وجهاركس بفتح الجيم والهاء وبعد الألف راء ثم كاف مفتوحة ثم سين مهملة. ومعناه بالعربيّ أربعة أنفس ، وهو لفظ عجميّ.

وقال الحافظ جمال الدين يوسف بن أحمد بن محمود اليغوريّ : سمعت الأمير الكبير الفاضل شرف الدين أبا الفتح عيسى بن الأمير بدر الدين محمد بن أبي القاسم بن محمد بن أحمد الهكاريّ البحتريّ الطائيّ المقدسيّ بالقاهرة ، ومولده سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة بالبيت المقدّس شرّفه الله تعالى ، وتوفي بدمشق في ليلة الأحد تاسع عشري ربيع الآخر سنة تسع وستمائة ، ودفن بسفح جبل قاسيون ، رحمه‌الله. قال : حدّثني الأمير صارم الدين خطلبا التبنينيّ صاحب الأمير فخر الدين أبي المنصور جهاركس بن عبد الله الناصريّ الصلاحيّ رحمه‌الله. قال : بلغ الأمير فخر الدين ، أن بعض الأجناد عنده فرس قد دفع له فيه ألف دينار ولم يسمح ببيعه ، وهو في غاية الحسن ، فقال لي الأمير باخطلبا : إذا ركبنا ورأيت في الموكب هذا الفرس نبهني عليه حتى أبصره. فقلت : السمع والطاعة.

فلما ركبنا في الموكب مع الملك العزيز عثمان بن الملك الناصر رحمه‌الله ، رأيت الجنديّ على فرسه ، فتقدّمت إلى الأمير فخر الدين وقلت له : هذا الجنديّ ، وهذا الفرس راكبه ، فنظر إليه وقال : إذا خرجنا من سماط السلطان فانظر أين الفرس وعرّفني به. فلما دخلنا إلى سماط الملك العزيز ، عجّل الأمير فخر الدين وخرج قبل الناس ، فلما بلغ إلى

١٥٩

الباب قال لي أين الفرس؟ قلت : ها هو مع الركاب. دار فقال لي : أدعه. فدعوته إليه ، فلما وقف بين يديه والفرس معه ، أمره الأمير بأخذ الغاشية ، ووضع الأمير رجله في ركابه وركبه ومضى به إلى داره وأخذ الفرس ، فلما خرج صاحبه عرفه الركاب دار بما فعله الأمير فخر الدين ، فسكت ومضى إلى بيته وبقي أياما ولم يطلب الفرس. فقال لي الأمير فخر الدين : يا خطلبا ما جاء صاحب الفرس ولا طلبه ، اطلب لي صاحبه. قال : فاجتمعت به وأخبرته بأنّ الأمير يطلب الاجتماع به ، فسارع إلى الحضور. فلما دخل عليه أكرمه الأمير ورفع مكانه وحدّثه وآنسه وبسطه وحضر سماطه فقرّبه وخصصه من طعامه ، فلما فرغ من الأكل قال له الأمير : يا فلان ، ما بالك ما طلبت فرسك وله عندنا مدّة؟ فقال : يا خوند ، وما عسى أن يكون من هذا الفرس وما ركبه الأمير إلّا وهو قد صلح له ، وكلما صلح للمولى فهو على العبد حرام ، ولقد شرّفني مولانا بأن جعلني أهلا أن يتصرّف في عبده ، والمملوك يحسب أن هذا الفرس قد أصابه مرض فمات ، وأما الآن فقد وقع في محله ، وعند أهله ، ومولانا أحق به ، وما أسعد المملوك إذا صلح لمولانا عنده شيء. فقال له الأمير : بلغني أنك أعطيت فيه ألف دينار. قال كذلك كان ، قال : فلم لم تبعه؟ فقال : يا مولانا هذا الفرس جعلته للجهاد ، وأحسن ما جاهد الإنسان على فرس يعرفه ويثق به ، وما مقدار هذا الفرس له أسوة.

فاستحسن الأمير همته وشكره ، ثم أشار إليّ فتقدّمت إليه فقال لي في أذني : إذا خرج هذا الرجل فاخلع عليه الخلعة الفلانية من أفخر ملبوس الأمير ، وأعطه ألف دينار وفرسه ، فلما نهض الرجل أخذته إلى الفرش خاناه وخلعت عليه الخلعة ودفعت إليه الكيس وفيه ألف دينار ، فخدم وشكر وخرج ، فقدّم إليه فرسه وعليه سرج خاص من سروج الأمير ، وعدّة في غاية الجودة. فقيل : اركب فرسك. فقال : كيف أركبه وقد أخذت ثمنه ، وهذه الخلعة زيادة على ثمنه. ثم رجع إلى الأمير فقبّل الأرض وقال : يا خوند ، تشريف مولانا لا يردّ ، وهذا ثمن الفرس قد أحضره المملوك. فقال له الأمير فخر الدين : يا هذا نحن جرّبناك فوجدناك رجلا جيدا ولك همة ، وأنت أحق بفرسك ، خذ هذا ثمنه ولا تبعه لأحد ، فخدمه وشكره ودعا له وأخذ الفرس والخلعة والألف دينار وانصرف.

وأخبرني أيضا الأمير شرف الدين ابن أبي القاسم قال : أخبرني صارم الدين التبنيني أيضا : أنّ الأمير فخر الدين خدم عنده بعض الأجناد ، فعرض عليه فأعجبه شكله ، وقال لديوانه : استخدموا هذا الرجل. فتكلموا معه وقدّروا له في السنة اثني عشر ألف درهم ، فرضي الرجل وانتقل إلى حلقة الأمير قوصون وضرب خيمته وأحضر بركه ، فلما كان بعض الأيام رجع الأمير من الخدمة فعبر في جنب خيمة هذا الرجل ، فرأى خيمة حسنة وخيلا جيادا وجمالا وبغالا وبركا في غاية الجودة. فقال : هذا البرك لمن؟ فقيل هذا برك فلان الذي خدم عند الأمير في هذه الأيام. فقال : قولوا له ما لك عندنا شغل ، تمضي في حال سبيلك ، فلما قيل للرجل ذلك أمر بأن تحط خيمته وأتى إليّ وقال : يا مولانا ، أنا رائح ، وها

١٦٠