رحلة ابن معصوم المدني أو سلوة الغريب وأسوة الأريب

السيد علي صدر الدين المدني

رحلة ابن معصوم المدني أو سلوة الغريب وأسوة الأريب

المؤلف:

السيد علي صدر الدين المدني


المحقق: شاكر هادي شكر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٠

لك الله من ليل أجوب جيوبه

كأنّي في عين الرّدى أبدا كحل (١)

كأنّ السّرى ساق كأنّ الكرى طلا

كأنّا لها شرب كأنّ المنى نقل

كأنّا جياع والمطيّ لنا فم

كأنّ الفلا زاد كأنّ السّرى أكل

كأنّ ينابيع الثّرى ثدي مرضع

وفي حجرها منّي ومن ناقتي طفل

كأنّا على أرجوحة في مسيرنا

بغور بنا يهوي ونجد بنا يعلو

ومن أحسن قوله منها في المديح :

كأنّ فمي قوس لساني له يد

مديحي له نزع به أملي نبل

كأنّ دواتي مطفل حبشيّة

بناني لها بعل ونفسي لها نسل (٢)

كأنّ يدي في الطّرس غوّاص لجّة

له كلمي درّ به قيمي تغلو

وهذا الإمام المتقدم الذي صلّى الحريريّ خلفه ، وأشار إليه في مقاماته بقول القائل (٣) :

فلو قبل مبكاها بكيت صبابة

بسعدى شفيت النّفس قبل التندم

ولكن بكت قبلي فهيّج لي البكا

بكاها فقلت الفضل للمتقدّم

وعلى ذكر الحريري فما ألطف قول بعض الظرفاء الأدباء ، ونقلته من خطّ الصلاح الصفدي على هامش نسخة من المقامات :

لنا صديق هو في نقله

لكلّ ذي أكذوبة وارث

فكلّ ما ينقله مثل ما

قال الحريري حكى الحارث

ولم نزل نقطع كلّ فدفد ، وقد نفد التجلّد أو كاد ينفد ، حتى نزلنا ب (الهضم) (٤) وهو واد قفر يتبرّم منه السّفر.

__________________

(١) الأبيات في يتيمة الدهر ٤ / ٣٠٠ وأنوار الربيع ٣ / ١٣٠ وفي رواية بعض أبياتها اختلاف.

(٢) النقس (بالكسر) : المداد الذي يكتب به.

(٣) البيتان في مقدمة الحريري على مقاماته (شرح الشريشي ١ / ٢٠).

(٤) قال ياقوت (الهضم) : المطئن من الأرض ، واسم موضع.

٤١

قفر غدت ريح السّموم مثيرة

من أرضه نقعا إلى أفق السّما

فكأنّما صعد التّراب ليشتكي

ما يلتقيه إلى السّماء من الظّما

فمكثنا به يوما لم نستطب فيه يقظة ولا نوما ، ثم ارتحلنا منه إلى (اللّيث) (١) فألفيناه قد كشّر عن نابه ، وتحمّلنا منه تالين (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ)(٢). ثم أتينا على (ذكوان) منزل طاب لنا فيه الوقت والأوان ، يشتمل على نخلات باسقة ، وشجرات فاغية (٣) متناسقة ، وهو قريب من البحر ، بينه بينه وبين السّيف مسير ساعة مع عذوبة مائه وطيب هوائه.

يزهى ببرّ وبحر من جوانبه

فالبرّ من طرف والبحر من طرف

وما يزال نسيم من يمانية

يأتيك منه بريّا روضة أنف

وفيه كان أول مشاهدتنا للبحر الزاخر ، والفلك الماخر ، فهالنا من أمر البحر ما رأيناه ، ووددنا إن لم نكن نراه ولا راءيناه (٤). ولما اكتسى الجوّ ثوب الأصيل أخذ الركب في التقويض والرحيل ، فما سرنا قليلا حتى ضللنا الطريق ، فتفرق لذلك جمع الفريق ، فصار الطريق طريقين ، والفريق فريقين ، وكانت ليلة نجمها مغموم ، وغيمها مركوم ، فلم نزل نقطع تلك الفلاة اليهماء ، ونخبط تلك الليلة الدهماء ، حتى نشر الصبح راياته ، وأرانا الله سبحانه آياته ، فهدانا إلى (الوادين) (٥) وهو أكرم الهادين ، وهو المنزل الذي قصدناه ، والموضع الذي أردناه ، فالتأم به جمع القوم ، وأقمنا به ذلك اليوم ، وعلى ذلك قلت (من قصيدة مدحت بها الوالد) (٦) :

__________________

(١) (اللّيث) ضبطه البكري وياقوت بكسر اللام : واد بأسفل السراة ، أو موضع بالحجاز ، ويظهر أن المؤلف اعتبر الكلمة مفتوحة اللام فورّى بها عن الأسد.

(٢) سورة البقرة / ٢٨٦.

(٣) الفاغية : نور الحناء ، ونور كل ما له رائحة طيبة.

(٤) راءيناه : قابلناه.

(٥) (الوادين) كذا ورد ، وتقتضيه السجعة ، وفي معجم ياقوت ، الواديين (بياءين) : بلدة في جبال السراة بقرب مدائن لوط ، وباليمن من أعمال زبيد : كورة عظيمة.

(٦) الذي بين القوسين غير موجود في (ع).

٤٢

كم مهمه جبته بالسّيف مشتملا

والعزم يكحل جفن العين بالسّهر

في ليلة قد أضلّتني غياهبها

حتى اهتديت إلى دير من الشّعر (١)

بطلعة كضياء الشّمس غرّتها

ونفحة حملتها نسمة السّحر

فظلت والليل تغريني كواكبه

أراقب الفجر من خوف ومن حذر (٢)

وفي الكنائس من هام الفؤاد بها

ترتو إليّ بطرف طامح النّظر

فأقبلت وتجارينا معانقة

كأنّنا قد تلاقينا على قدر

حتى بدت غرّة الإصباح واضحة

وطرّة اللّيل قد شابت من الكبر

ثم انثنينا ولم يدنس مضاجعنا

إلّا بقايا شذا من ريحها العطر

فاستعجلت تحكم الزنّار عقدته

وتسحب الذّيل من خوف على الأثر

واستقبلت دير رهبان قد اعتكفوا

يزمزمون بألحان من الزّبر

ثم ارتحلنا فأتينا على (دوقه) (٣) وقد بلغ الجهد من كلّ منا طوقه ، وهي أرض قفراء ، وحرّة زوراء (٤).

ثم ارتحلنا منها إلى (الحسبه) (٥) ومامّنا إلّا والأين قد لسبه ، فنزلنا بها للاستراحة ، وهيهات مع تعب البين راحة.

ثم نهضنا عنها ،

نمزّق جلباب الظّلام كما فرى

أخو الحزن ما نالت يداه من البرد

وقد عبّ في كأس الكرى كلّ راكب

فمال نزيفا والجياد بنا تردي

__________________

(١) في الديوان (إلى بيت من الشعر).

(٢) في الديوان (الصبح) مكان (الفجر).

(٣) دوقه (بفتح الأوّل وسكون الثاني) : موضع بأرض اليمن ، وقيل : واد على طريق الحاج من صنعاء إذا سلكوا تهامة.

(٤) الحرّة (بالفتح) : الأرض ذات حجارة نخرة سود. فلاة زوراء : بعيدة.

(٥) الحسبة (بالتحريك) : واد باليمن.

٤٣

وحلّ عقال الوجد شوق كأنّه

شرارة ما يرفضّ من طرف الزّند

وأوقر أجفاني دموع نثرتها

على محملي نثر الجمان من العقد

فلم نزل بين إدلاج وتأويب ، وإيجاف وتقريب ، وقد طوينا تلك المراحل ، وقطعنا هاتيك المفاوز المواحل.

فكم من نهار ضمّ قطريه سيرنا

يذوب الحصى من جزعه في لهيبه

وليل طويناه وللرّكب طربة

إذا غبّ نجم جانح في مغيبه

إلى أن جئنا (القنفذة) وقد أنفذ فينا البين ما أنفذه ، وهي قرية بالقرب من (حلي) (١) على ساحل البحر ، ويقال : أنها كانت في القديم فرضة مكة المشرفة بها ترسي جميع السفن الواردة من جميع الأقطار ، ثم أهملت وجعلت الفرضة (جدّة) ـ بضم الجيم ـ على ما في القاموس ، والعامة تقول : جدة (بكسرها) وهي على مرحلتين من مكة شرّفها الله تعالى. وفي القاموس ، الجداد (بالضم) : ساحل البحر بمكة ، كالجدة ، وجدة : موضع منه (٢).

فائدة :

في سنة سبع وتسعمائة غرّق القاضي أبو السعود بن ابراهيم بن ظهيرة (٣) في بحر القنفذة المذكورة بأمر وإلي مكة المشرفة : الشريف بركات بن محمد بن بركات بن الحسن بن عجلان (٤) ، وكان السبب في ذلك أنه لما توفي الشريف هزّاع أخو الشريف المذكور ، وكان والي مكة غير منازع ، وكانت وفاته خامس عشر رجب الأصم من السنة المذكورة ، تولى بعده أخوه أحمد الجازاني بمساعدة القاضي المذكور ، وربّما أمدّه بنفقة وسلاح وغير ذلك.

__________________

(١) حلي (بوزن ظبي) مدينة باليمن على ساحل البحر.

(٢) في القاموس (لموضع بعينه منه).

(٣) هو أبو السعود محمد بن ابراهيم بن علي بن محمد بن أبي السعود. ترجمته في الضوء اللامع ٦ / ٢٦٤ ، والبدر الطالع ٢ / ٨٠ ، وشذرات الذهب ٨ / ٣٦ ، وفيه أنه أغرق سنة ٩٠٨ ه‍.

(٤) توفي الشريف بركات سنة ٩٣١ ه‍ (سمط النجوم العوالي ٤ / ٢٧٩ ـ ٢٩٣).

٤٤

فلما علم الشريف بركات بذلك سار إلى مكة المشرفة فدخلها منتصف شعبان من السنة المذكورة ، ففرّ منه الشريف أحمد جازان ، واستقرّ بها الشريف بركات ، ولم يقم له أحمد ، وأخبر بما كان من القاضي فلم يكد يصدّق به. ثم دخل عليه القاضي فأظهر غاية الفرح والسرور بقدومه ، وأمره بتفريق جنده وقال له : لا حاجة لك إلى هؤلاء فإنّما هم كثرة نفقة ، ففرّقهم. فلما فعل ذلك كتب القاضي إلى الشريف أحمد يستقدمه ، ويخبره بما تمّ له من المكيدة ، ووعده بالقبض على أخيه إذا هو وصل مكة في الحرم الشريف من غير مشقّة ولا كلفة ، ويقال أنّ بعض خواص الشريف فعل ذلك مكيدة للقاضي فاستدرجه ، وظنّ القاضي صداقته ، ثم أخذ الكتاب منه ودفعه إلى الشريف بركات. فلما وقف عليه أرسل إلى القاضي المذكور وأوقفه على الكتاب فأنكره ، وقد سبقت له ضغائن في قلبه ، فأمر بالقبض عليه ، واستصفى أمواله وسجنه عنده في بيته ، وقيّده وغلّه ، وعصر عليه بالعصّارات ، وصادر ولده وأخاه سيد الناس في خمسة آلاف دينار وأطلقهما على ذلك. فبيعت ذخائرهم وكتبهم النفيسة ، وانكسرت شوكتهم من ذلك اليوم ، ولم تبق لهم باقية ، وكانوا في عظمة لا يقوم بها الوصف.

ثم أرسل الشريف بالقاضي أبي السعود إلى القنفذة فسجنه بها وعياله وخاصته ـ وكلّ أحد يغضب عليه والي مكة ينفيه إلى القنفذة ـ ولم يزل مسجونا بها إلى يوم الأحد ثاني ذي الحجة الحرام (١) فجاء أمر الشريف إلى والي القنفذة بتغريق القاضي وأن لا يراجعه في ذلك.

فأخرجه إلى البحر في زورق وغرّقه فيه ، وأولاده وعياله ينظرون إليه. فنسأل الله العافية. ولم يبق الآن من بني ظهيرة إلّا الشاذ النادر ، وكان لهم بمكة قبل أن يوقع الشريف بالقاضي المذكور من الأمر والنهي ما لا يقصر عن ملوكها ، حتى أنّ بنتا للقاضي المذكور قالت له : يا أبتي لم لا يعرض عليك العسكر كما يعرض على الشريف ، لما رأت ما هم عليه من الشوكة والمنزلة.

__________________

(١) في ك ، وأ (ذي القعدة) ، وفي البدر الطالع (حادي عشر ذي الحجة).

٤٥

وهذا قصارى الدنيا ، وغاية كلّ عليا ، والأيّام لا تلوي على أحد ، ولا تألو أن تثلم كلّ حدّ ، وتفرّق كلّ عدّ ، ولله الأمر من قبل ومن بعد ، ولله درّ من قال :

ونهاية الدّنيا وغاية أهلها

ملك يزول وستر قوم يهتك

تحلو فتجلب غصّة ومرارة

وتحبّ وهي بنا تصول وتفتك

وتوفي الشريف بركات المذكور سنة إحدى وثلاثين وتسعمائة.

وفي أيامه وأيّام ابنه أبي نمي انتقل ملك مصر إلى ملوك بني عثمان ، وذلك في سنة اثنتين وعشرين وتسعمائة ، فأول من ملكها منهم وهو عاشرهم السلطان سليم بن السلطان بايزيد (١) فجهّز إلى الشريفين المذكورين قاصدا بالاستقرار والاستمرار وذلك سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة ، وغلط من قال سنة تسع وعشرين. فكان السلطان المذكور أول من ملك الحرمين من آل عثمان.

وفي مفتاح الخير (٢) : لا يملك الحرمين إلّا ملك مصر. وكانت مصر قبل أن يملكها السلطان سليم لقانصوه الغوري (٣) فوقعت بينهما فتنة ، وقصد كلّ منهما الآخر في عسكرين عظيمين ، فالتقيا في موضع يقال له (مرج رابغ) من نواحي حلب شماليها مسافته منها نحو مرحلة ، وكان المصاف والوقعة يوم الأحد خامس عشري رجب سنة اثنتين وعشرين وتسعمائة ، وقيل : بل صبح يوم الخميس تاسع عشر ذي الحجة من السنة المذكورة. ودام الحرب وصابر الفريقان من أول النهار إلى ما بين صلاتي الظهر والعصر ، ثم نزل نصر العثمانية ، وانهزم الجراكسة ، وقتل سلطانهم قانصوه المذكور ، وفتح العثمانية البلاد الشامية ، ثمّ المصرية ، وكانت ولاية الغوري خمس عشرة سنة وتسعة

__________________

(١) هو سليم الأول بن بايزيد الثاني. تولى السلطنة بعد وفاة أبيه سنة ٩١٨ ه‍ وفي عهده انتقلت الخلافة من العباسيين إلى العثمانيين. توفي سنة ٩٢٦ ه‍. (دائرة المعارف الإسلامية ١٢ / ١٢١).

(٢) يراجع إيضاح المكنون ٢ / ٥٢٤٠.

(٣) هو قانصوه بن عبد الله الظاهري الغوري الملقب بالملك الأشرف. توفي سنة ٩٢٢ ه‍ (الأعلام ٦ / ٢٣)

٤٦

أشهر وخمسة وعشرين يوما.

وأوّل من ملك مكة من الأشراف من بني حسن : أبو محمد جعفر بن محمد من بني موسى الجون (١) وكان ذلك بعد الأربعين والثلثمائة. وكان حاكم مكة انكجور التركي من قبل العزيز بالله الفاطمي ، فقتله الأمير أبو محمد جعفر واستوت له تلك النواحي ، وبقيت في يده نيفا وعشرين سنة.

ثم ولي بعده أخوه (٢) عيسى بن محمد ، فقتل وولي الأمير أبو الفتوح الحسن بن أبي محمد جعفر.

ثم ولي بعده ابنه تاج المعالي شكر ، واشتهرت عنه حكاية غريبة في الكرم ، ومن شعره :

قوّض خيامك عن أرض تضام بها

وجانب الذلّ إنّ الذلّ مجتنب (٣)

وارحل إذا كان في الأوطان منقصة

فالمندل الرّطب في أوطانه خشب

ولما توفي سنة أربع وستين وأربعمائة بقيت مكة شاغرة ، فملكها حمزة بن وهاس (٤) من بني سليمان ، وقامت الحرب بينهم وبين بني موسى سبع سنين ، ثم خلصت للأمير محمد بن جعفر بن محمد بن جعفر بن محمد بن عبد الله بن أبي هاشم ، ويقال لهم : الهواشم ، وبقيت الإمارة في ولده إلى سنة

__________________

(١) هو جعفر بن محمد بن الحسن بن محمد بن موسى بن عبد الله بن موسى الجون بن عبد الله المحض ابن الحسن المثنى. هكذا ساق نسبه ابن حزم في الجمهرة وقال (غلب على مكة أيام الأخشيدية).

أقول : والأخشيدية انتهى حكمها سنة ٣٥٧ ه‍. أما إذا كانت تولية العلوي المذكور في زمن العزيز بالله الفاطمي ـ كما يقول المؤلف ـ فالعزيز تولى الخلافة بعد وفاة أبيه سنة ٣٦٥ ه‍. وإذا أردنا التوفيق بين الروايتين احتملنا وجود تحريف في كلمة (العزيز بالله) والمراد (المعز لدين الله). تراجع جمهرة أنساب العرب / ٤٧ ، وشفاء الغرام بأخبار البلد الحرام ٢ / ١٩٤ ، والقاموس الإسلامي ١ / ٤٧.

(٢) في شفاء الغرام (ابنه عيسى).

(٣) في (ك) و (أ): (يجتنب) مكان (مجتنب).

(٤) في شفاء الغرام ٢ / ١٩٢ ، وسمط النجوم العوالي ٤ / ٢٠٠ (حمزة بن أبي وهاس).

٤٧

سبع وتسعين وخمسمائة فكان آخر من ولي منهم مكثر بن عيسى بن فليتة (١) فغلب عليه الأمير أبو عزيز قتادة بن ادريس بن مطاعن (٢) وقتله في السنة المذكورة ، وملك الحجاز سيفا وطرد عنها الهواشم ، والإمارة في ولده إلى الآن ، ويقال لهم القتادات ، وأمير مكة في زمننا هذا السيد الشريف ، والأيّد المنيف ، المصدّر في دست العظمة والجلالة ، والمتفرّع من دوحة النبوّة والرسالة ذو الرياسة التي هي نار على علم ، والسياسة التي جمع بها بين السيف والقلم ، محيي آثار أسلافه الكرام ، وواسطة ذلك العقد والنظام :

السيد الشريف زيد بن المحسن بن الحسين ، أقرّ الله ببلوغ مراده النفس والعين. وليها وهي جمرة تخترم ، ونار تضطرم ، فأخمد نيرانها ، وأمن جيرانها. وكانت ولايته سنة إحدى وأربعين وألف ، وله من العمر سبع وعشرون سنة. وقد أرّخ القاضي الفاضل ، والإمام النحرير الكامل تاج الدين بن أحمد المالكي (٣) ولادته ب (تاج الشرف) ، وولايته المنيفة ب (صدر الخلافة) ولعمري أنّه التاج المكلّل بلآلئ المجد والشرافة ، والصدر الذي امتلأ علما وحزما ، وبأسا ورأفة ، وفيه يقول :

مدائح زيد تكسب القول رونقا

فيسمو على زهر الكواكب والزّهر

مليك به أقطار مكّة أصبحت

مؤرّجة الأرجاء نافحة العطر

نمت في رياض الملك سرحة فرعه

وأفضى إليه ملك آبائه الغرّ

فمن ذا يوفّي قدره حقّ حمده

وأوصافه جلّت عن العدّو الحصر

وحسبي هذا القول في كنه مدحه

عن البسط في النّظم المهذّب والنّثر

__________________

(١) رآه الرحالة ابن جبير وأورد اسمه في عدة مواطن من رحلته ، يراجع فهرس الرحلة طبع دار صادر ببيروت.

(٢) قتادة بن ادريس : هو أيضا من أولاد موسى الجون الحسني ، كانت ولايته لمكة سنة ٥٩٨ ه‍ ودامت إلى أن توفي سنة ٦١٧ ه‍ أو ٦١٨ (شفاء الغرام ٢ / ١٩٩).

(٣) توفي القاضي تاج الدين المالكي سنة ١٠٦٦ ه‍ (أنوار الربيع ١ / ٥١) ويراجع كتاب نفحة الريحانة ٥ / ٣٥٠ (الفهرس).

٤٨

فلست بمحص عدّ أوصافه ولو

صرفت على مدحي له سائر العمر

وهذا نسبه الشريف :

هو زيد بن محسن بن الحسين بن الحسن بن أبي نمي بن بركات بن محمد بن بركات بن الحسن ابن عجلان بن رميثة بن أبي نمي بن الحسن بن علي الأكبر بن أبي عزيز قتادة بن ادريس بن مطاعن ابن عبد الكريم بن عيسى بن الحسين بن سليمان بن أبي محمد عبد الله بن محمد الثائر بن موسى ابن عبد الله الشيخ الصالح بن موسى الجون بن عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن المجتبى ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب سلام الله عليه.

نسب يعير الشّمس نورا ظاهرا

ويقيم للفلك المنير عمودا

ولنعد إلى ما نحن بصدده :

ولما أنخنا بالقرية المذكورة الركائب ، وحططنا الحقائب مكثنا بها أيّاما نجوس خلالها هياما ، حتى أهاب داعي النّفر بالسّفر ، وأذنت الحال بالارتحال ، فجنحنا إلى ذلك البحر المتقارب ، وامتطينا غارب القارب ، فلما أقلعت السفينة عن المرسى ، ودجى ليل الهموم وأغسى (١) وجعلت تطير بلا جناح ، يقودها القضاء المبرم وتزجيها الرياح ، كأنّها سهم فارق وتره ، أو حكم أمضى الله قدره ، ترتفع تارة وتنخفض أخرى ، وتميس طورا كأنّها لا تعقل سكرا. وما ألطف قول أبي الحسين يحيى بن عبد العظيم الجزار (٢) في وصفها من أبيات :

أنظر الموج حولها فأخال ال

جيم تاء لخيفتي وهي جيم

لم أجد لي فيها صديقا حميما

غير أنّي بالماء فيها حميم

شنقوا قلعها مرارا على الرّي

ح ولا شكّ أنّه مظلوم (٣)

__________________

(١) أغسى : أظلم.

(٢) توفي أبو الحسين الجزار سنة ٦٧٩ ه‍ وقيل غير ذلك (أنوار الربيع ١ / ٢١٣).

(٣) القلع (بالكسر) : شراع السفينة.

٤٩

يسجد الجرف كلّما ركع المو

ج فحسبي هنالك التّسليم

وتلطّف [أبو] علي بن رشيق (١) حيث يقول :

 لقد ذكرتك في السّفينة والردى

متوقّع بتلاطم الأمواج

والجوّ يهطل والرّياح عواصف

واللّيل مسودّ الذّوائب داج

وعلى السّواحل للأعادي غارة

متوقّعين لغارة وهياج (٢)

وعلت لأصحاب السّفينة ضجّة

وأنا وذكرك في ألذّ تناج

وفي المعنى للعلامة أبي حيان (٣) :

لقد ذكرتك والبحر الخضمّ طغت

أمواجه والورى منه على سفر

في ليلة أسدلت جلباب ظلمتها

وغار كوكبها في أعين البشر (٤) :

والماء تحت وفوق المزن وأكفه

والبرق يستلّ أسيافا من الشرّر

هذا وشخصك لا ينفكّ في خلدي

وفي فؤادي وفي سمعي وفي بصري

وهذه الطريقة أوّل من أبدعها عنترة العبسي (٥) في قوله :

ولقد ذكرتك والرّماح نواهل

منّي وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السّيوف لأنّها

لمعت كبارق ثغرك المتبسّم

وأخذ المتأخرون وزادوا عليه فأكثروا ، ووقفت على مقاطيع كثيرة في هذا الباب أحسنها ما تقدم لأبي علي بن رشيق.

__________________

(١) هو أبو علي الحسن بن رشيق صاحب العمدة (في الأصول : علي بن رشيق). توفي سنة ٤٦٣ ه‍ وقيل غير ذلك (أنوار الربيع ١ / ١٩٩).

(٢) في الديوان (يتوقعون) مكان (متوقعين).

(٣) هو أثير الدين محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان الأندلسي (أبو حيان النحوي) توفي سنة ٧٤٥ ه‍ (أنوار الربيع ١ / ٣٥٨).

(٤) في الديوان (وغاب كوكبها).

(٥) عنترة العبسي : الشاعر الجاهلي المعروف ، وأحد أصحاب المعلقات (أنوار الربيع ١ / ٣٦٧).

٥٠

ثم لم تزل السفينة ترتفع بنا وتنخفض ، وترتعش وتنتفض ، وقد بلغت النفوس الحلاقم ، وتجرّعت من البحر العلاقم ، حتى شارفنا بقعة من الأرض ، حقيرة الطول والعرض ، فجنحنا إليها ، ونزلنا عليها ، وأرسينا بها ليلة ، وقد عادت الحال حويله ، ووددنا لو صار البحر دجيلة. فلما شعشع الصباح ، أهاب بالسفينة داعي الرياح ، فعلّق الشراع ، وقد راع من فراق البقعة ما راع ثم غدونا نخوض تلك اللّجج ، ونخاطر بالمهج ، حتى أشرفنا على بندر جازان (١) ، فقصدنا النزول به فلم يوافق أهل السفينة لاغتنامهم موافقة الريح ، ويقال : إنّ بحر ساحله مغاص يخرج منه اللؤلؤ ، لكنه ليس بجيّد ، وقد يقذف البحر إليه العنبر.

ومن الغريب ما استفاض خبره في زماننا هذا : إنّ البحر كان قد ألقى إلى ساحل البندر المذكور قطعة عظيمة من العنبر لم يهتد إلى معرفتها أحد ، وظنوها صخرة ، فكان الغسالون يغسلون عليها الثياب. ومضى على ذلك برهة من الزمان ، حتى جاء بعض تجار زماننا البندر ، وأسلم ثيابا له غسالا ليغسلها ، فذهب بها الغسال إلى تلك الصخرة فغسلها عليها ، وجاء بالثياب إلى التاجر ، فعرف منها رائحة العنبر ، وسأل الغسال هل طيّب هذه الثياب؟ قال : لا ، قال : فأين غسلتها؟ قال : على صخرة على الساحل ، قال : فاذهب بي إليها ، فذهب به فلما رآها علم أنّها غنيمة عظيمة ، فتركها ثم جاءها ليلا واقتلعها على حين غفلة ، فلما أصبح الغاسلون فقدوا الصخرة ، فأخبرهم الغسال بما كان من أمره مع التاجر ، فعلموا أنّ لها شأنا ، فذاع الخبر ونمي إلى الوالي فصادر التاجر حتى أظهر منها قطعة صغيرة ، وصالحهم على شيء من المال واحتوى على سائرها ، فعظم شأنه وكان هذا العنبر سبب غناه ، والله المغني.

وقد اختلف في أمر العنبر فقيل : إنه ينبت في البحر وله رائحة ذكيّة. قال الشافعي : سمعت من قال : رأيت العنبر نابتا في البحر مثل عنق الشاة ، وقال : حدثني بعضهم أنّه ركب البحر فوقع إلى جزيرة فيه ، فنظر إلى شجرة

__________________

(١) جازان موضع في طريق الحج من صنعاء.

٥١

مثل عنق الشاة فإذا ثمرها عنبر ، قال فتركناه حتى يكبر فنأخذه ، فهبّت ريح فألقته في البحر.

وقيل : إنّه روث دابة ، وقيل : إنّه من غثاء البحر.

قال الزمخشري : سمعت ناسا من أهل مكة يقولون : هو من زبد البحر ، وقيل : إنّه يأتي طغاوة على الماء لا يدري أحد معدنه ، فلا يأكله شيء إلّا مات ، ولا ينقره طائر إلّا بقي منقاره فيه ، ولا يقع عليه إلّا نصلت (١) أظفاره فيه ، وقيل : إنّ بعض دواب البحر تأكله لدسومته فتقذفه رجيعا ، فيوجد كالحجارة الكبار يطفو على الماء فتلقيه الريح إلى الساحل.

وذكر المسعودي : إن العنبر يقذفه البحر كأكبر ما يكون من الصخور.

وقال ابن سينا : أجود العنبر الأشهب ، ثم الأزرق ، ثم الأصفر ، ثم الأسود ، قال : وكثيرا ما يوجد في أجواف السمك الذي تأكله وتموت. والدابة التي تأكله تدعى : العنبر.

قال المختار بن عبدون (٢) : العنبر حار يابس وهو دون السمك ، وهو يقوّي القلب والدماغ ، ويزيد في الروح ، وينفع من الفالج ، واللّقوة ، والبلغم الغليظ ، ويولّد الشجاعة. لكنّه يضرّ من اعتاده ، وتدفع مضرّته بالكافور وشمّ الخيار ، ويوافق الأمزجة الباردة الرطبة ، والمشايخ. وأجود ما يستعمل في الشتاء ، قال : وجماجم العنبر أكبرها ألف مثقال ، تبرز من عيون في البحر وتطفو عليه ، وله زهومة (٣) لابتلاع السمك ، ويتصفّى منه عند عمله رمل.

والذي حقّقه صاحب الاختيارات : إنّه شمع ، قال : وكلّما كان أشدّ بياضا

__________________

(١) نصلت ـ هنا ـ بمعنى ثبتت.

(٢) هو أبو الحسن المختار بن الحسن بن عبدون ، الطبيب المشهور بابن بطلان. في تاريخ وفاته أقوال منها سنة ٤٤١ و ٤٤٤ و ٤٦١ ه‍ (هدية العارفين ٢ / ٤٢٢ ، ومعجم المؤلفين ١٢ / ٢١٠).

(٣) الزهومة : الدسومة ، وريح لحم دسم منتن ، والزهم (بالضم) : الطيب المعروف بالزباد.

٥٢

وخفّة كان أجود. والعنبر : سمكة كبيرة يتخذ من جلدها التّراس ، ويقال للترس : عنبر ، وقد يقال لهذه السمكة : البال.

قال القزويني : البال : سمكة طويلة ، طولها خمسمائة ذراع أو أطول ، ويظهر في بعض الأوقات طرف جناحها كالشراع العظيم. وأهل المراكب يخافون منها أعظم خوف ، فإذا أحسّوا بها ضربوا لها بالطبول لتنفر عنهم. فإذا بغت على حيوان البحر بعث الله سمكة نحو الذراع تلصق بأذنها ولا خلاص للبال منها ، فتطلب قعر البحر وتضرب الأرض برأسها حتى تموت وتطفو على الماء كالجبل العظيم ، ولها أناس يرصدونها من تحت الريح ، فإذا وجدوها طرحوا فيها الكلاليب وجبذوها (١) إلى الساحل ، وشقوا بطنها واستخرجوا العنبر منها (٢) ، انتهى.

قلت : ولهذه السمكة حديث عجيب رواه البخاري وهو مشهور (٣). والسمك أنواع كثيرة ، ولكلّ نوع اسم خاص ، ومنها ما لا يدرك الطرف أولها وآخرها لكبرها ، وما لا يدركها الطرف لصغرها ، وكلّه يأوي الماء ويستنشقه كما يستنشق حيوان البرّ الهواء بالأنوف ، ويصل بذلك إلى قصبة الرئة. والسمك يستنشق بأصداغه فيقوم له الماء في تولّد الروح الحيواني في قلبه مقام الهواء ، وإنما استغنى عن الهواء في إقامة الحياة ولم نستغن نحن عنه وما أشبهنا من الحيوان ، لأنّه من عالم الماء والأرض دون عالم الهواء ونحن من عالم الماء والأرض والهواء ـ قاله الدميري في حياة الحيوان الكبرى ـ وهو صريح في أن الهواء لا يدخل جوفه. وقال أيضا لا يدخل جوفه هواء البتّة.

وفي المسائل الطبيعية للحكيم أرسطا طاليس ما يدلّ على خلاف ذلك ، فإنه قال : ما بال السمك يعيش في الماء ، فإذا خرج منه إلى الهواء تلف؟ لأن

__________________

(١) جبذ ، كجذب : وزنا ومعنى.

(٢) في دائرة معارف القرن العشرين ٦ / ٧٥٦ بحث عن منشأ العنبر وخواصه لا يخلو من فائدة.

(٣) أنظر البخاري ٥ / ٢١١ باب (غزوة سيف البحر).

٥٣

قلب السمك بارد جدّا فلذلك يحتاج إلى نفس قليل يجتذبه بمجار ضيّقة ، والماء لكونه أغلظ فما يصل إلى نفسه في تلك المجاري من الهواء شيء يسير ، فإذا برد الهواء فما يصل إلى نفسه أكثر ، لأنه ألطف ، فإذا برد الهواء في قلبه بردا مفرطا تلف ، انتهى. وهذا صريح في أن الهواء يدخل جوفه ، والله أعلم بالواقع.

وقال الجاحظ : السمك يسبح في غمر الماء ولا يسبح في أعلاه ، ونسيم الهواء الذي يعيش به الطير لو دام على السمك ساعة قتله.

واستثنى الغزالي نوعا لا يضرّه الهواء ، قال : ومن السمك نوع يطير على وجه البحر بمسافة طويلة ثم ينزل.

قلت : وقد رأيت أنا هذا السمك الطيّار على وجه البحر. وما أحسن قول ابن التلميذ (١) يصف السمك :

لبسن الجواشن خوف الرّدى

وعلّين من فوقهنّ الخوذ

فلمّا أتيح لها أهلكت

ببرد النّسيم الذي يستلذ (٢)

وسنذكر جملة من أخبار البحر وعجائبه فيما يأتي إذا أفضت النوبة إليه إن شاء الله تعالى.

رجع ـ وما زالت السفينة تنساب بنا انسياب الحيّة حتى وصلنا بندر (اللحيّة) (٣) فامتطينا صهوة الزورق ، وظننا أنّ غصن الخلاص قد أورق ونزلنا البندر المعمور ، فألفيناه بكلّ خير مغمور ، وفيه من أنواع الفواكه ما يلتذّ به كلّ

__________________

(١) هو أبو الحسن أمين الدولة هبة الله بن صاعد ، المعروف بابن التلميذ. توفي سنة ٥٦٠ ه‍ (أنوار الربيع ٢ / ٢٩٣).

(٢) ورد البيت في طبقات الأطباء / ٣٦٠ هكذا :

فلما أتاها الردى أهلكت

بشمّ نسيم الهوا المستلذ

(٣) قال في نشر العرف لنبلاء اليمن بعد الألف (لابن زبارة الصنعاني) ٢ / ٩٦ (اللحية ، بضم اللام الثانية ، تصغير اللحية ، وهي مدينة مشهورة بتهامة اليمن. وجاء في معجم البلدان : حيّة ، بلفظ الحية من الحشرات : من مخاليف اليمن.

٥٤

مفاكه ، فما ظنك بسقيم بحر ناقه ، من موز كمكاحل الذهب ، ورطب كظلم الحبيب إذا وهب ، وأعناب كالدرر المسلوكة ، وحلاوات كالدنانير المسبوكة. فقضينا به يومنا ، واستطبنا فيه نومنا. وكان فيه أول مشاهدتنا للكفرة أولي الجحيم ، فاستعذنا بالله تعالى من الشيطان الرجيم. ولم يكن يقع النظر قبل ذلك على أحد ممّن هو على غير ملّة الإسلام ـ عصمنا الله بهدي صاحبها عليه أفضل الصلاة والسلام ـ وحاولنا المرسول إلينا ، والموكّل علينا في السفر من البرّ ، فقد سئمت النفوس مكابدة ذلك البحر الأغبر (١) فأبى إلّا السفر على الماء ، وامتطاء تلك المطيّة الدهماء. فعدنا وفي النفوس من الألم ما الله سبحانه به أعلم. وما ألطف قول القائل :

البحر أهون من مرارة مائه

أن تستقرّ بأضلعي الرّمضاء

فعليه يوم مضيفنا بفراقه

من كلّ قلع راية بيضاء (٢)

وما كان منعه من ذلك إلّا فرارا من الانفاق ، وخلافا للوفاق. وكان ممن يرى دخول النار ، ولا خروج الدينار ، ووصال الهمّ ، ولا فراق الدرهم.

الشمس أقرب من دينار صرّته

والصّخر أندى يدا منه لطالبه

وأبدع البديع في وصف بخيل فقال : قد جعل يمينه أمينه ، ودنانيره سميره ، ودرهمه شقيقه ، ومفتاحه رفيقه ، وصندوقه صديقه ، وخاتمه خادمه. وبالغ من قال وتلطّف (٣) :

إنّ هذا الفتى يصون رغيفا

ما إليه لناظر من سبيل

فهو في سفرتين من أدم الطّا

ئف في جونتين في منديل (٤)

__________________

(١) في ك (البحر الأخضر).

(٢) ضاف الرجل : أسرع ، وفر. ضاف وأضاف : مال ، وخاف. القلع (بالكسر) : شراع السفينة.

(٣) البيتان في نهاية الارب ٣ / ٣١٠ بدون عزو.

(٤) الجونتان تثنية الجونة (بالفتح) : الخابية المطلية بالقار. في نهاية الارب (الطائف في سلتين من زنبيل).

٥٥

وكان بعضهم شديد العناية بأمر المال كثير الضنّ به ، فإذا قيل له في ذلك أنشد :

كلّ النّداء إذا ناديت يخذلني

إلّا النّداء إذا ناديت يا مالي

وكان المبرّد يقول : الدرهم ذو جناح إن حرّكته طار ، والدينار محموم إن أزعجته مات.

ومن كلام الكندي لابنه : إنّ مالك إذا خرج من يدك لم يعد إليك ، وليس كان مثل يكون. ومثل الدرهم مثل الطير هو لك مادام في يدك ، فإذا طار فهو لغيرك. وأعرف بيتا قد أبات أكثر من مائة ألف إنسان في المساجد ، وهو قول القائل (١) :

فسر في بلاد الله والتمس الغنى

تعش ذا يسار أو توت فتعذرا

فاحذر بنيّ أن تلحق بهم ، وتكون منهم. ولتكن مع الناس كلاعب الشطرنج تحفظ شيئك وتأخذ بشيء غيرك.

وكان هذا الرجل إذا صار الدرهم في يده خاطبه وناجاه ، وفدّاه واستبطاه وقال : بأبي أنت وأمي كم من أرض قطعت ، وكيس خرقت ، وكم من خامل رفعت ومن رفيع بمفارقتك إيّاه أخملت. لك عندي ألّا تعرى ولا تضحى ، ثم يلقيه في كيسه ويقول : أسكن على بركة اسم الله في مكان لا تزول عنه ولا تزعج منه.

ومن نوادر البخلاء ما حكاه محمد بن أبي المعافى التميمي قال : كان أبي منتحيا عن المدينة ، وكانت إلى جنبه مزرعة فيها قثّاء ، وكنت صبيّا قد ترعرت ، فجاءني صبيّان من جيراننا ، وكلّمت أبي ليهب لي درهما أشتري به قثّاء ، فقال لي : أتعرف حال الدرهم؟ كان في جحر جبل ، فضرب بالمعاول حتى استخرج ، ثم طحن ، ثم جعل في القدر وصب عليه الماء ، وجمع

__________________

(١) البيت من قطعة لعروة بن الورد مثبتة في ديوانه ، ووردت في العقد الفريد ٣ / ٣١ منسوبة لربيعة بن الورد وهو تحريف ، وأوردها ابن قتيبة في عيون الأخبار ١ / ٢٤٣ بدون عزو. تراجع ترجمة عروة بن الورد ومصادرها في أنوار الربيع ٦ / ٢٢٧.

٥٦

بالزئبق ، ثم أدخل النار فسبك ، ثم أخرج فضرب ، وكتب في أحد شقّيه : لا إله إلا الله ، وفي الآخر : محمد رسول الله ، ثم وجّه إلى أمير المؤمنين فأمر بإدخاله بيت ماله ، ووكّل به عوج القلانس صهب السبال (١) ، ثم وهبه لجارية حسناء وأنت والله أقبح من قرد ، أو رزقه رجلا شجاعا وأنت والله أجبن من صفرد (٢) ، فهل ينبغي لك أن تمسّ الدرهم إلّا بثوب ، أو تراه إلّا من بعد؟

وفي الحديث : إنّ أوّل من ضرب الدينار والدرهم حين استخراج المعادن آدم (ع) وقال : لا تصلح المعيشة إلّا بهما.

وذكر وهب بن منبّه (٣) : إنّ في التوراة : الدينار والدرهم خواتيم رب العالمين ، من جاء بخاتم ربّ العالمين قضيت حاجته.

وكان أنوشروان يقول : من زعم أنّه لا يحبّ المال فهو عندي كاذب حتى يصدق ، فإذا ثبت صدقه فهو عندي أحمق.

وكان الحصين يقول : وددت لو أنّ لي وزن رضوى ذهبا لا أنتفع منه بشيء ، قالوا : فما يجدي عليك إذن؟ قال : تعظمني له حمقى الرجال. وقال محمود الوراق (٤) :

أرى كلّ ذي مال يبرّ لماله

وإن كان لا أصل هناك ولا فصل

فشرّف ذوي الأموال حيث لقيتهم

فقولهم قول وفعلهم فعل

وتلطّف الشيخ الفاضل شرف الدين يحيى بن عبد الملك العصامي (٥) من

__________________

(١) الصهب (بالضم) جمع الأصهب ، وهو الذي يخالط بياضه حمرة. السبال جمع السبلة (محركة) : مجتمع الشاربين ، ويريد بهم الجند.

(٢) الصفرد (بكسر الصاد والراء وسكون الفاء) : طائر من خشاش الطير يضرب به المثل في الجبن.

(٣) وهب بن منبّه : من التابعين توفي سنة ١١٤ ه‍ (الأعلام ٩ / ١٥٠).

(٤) هو محمود بن الحسن الوراق توفي في حدود المائتين والثلاثين هجرية (طبقات ابن المعتز / ٣٦٧ ، ونهاية الأرب للنويري ٣ / ٨٨ ، وفوات الوفيات ٢ / ٥٦٢).

(٥) توفي شرف الدين العصامي سنة ١٠٧٤ ه‍ (أنوار الربيع ٢ / ١٨٢).

٥٧

فضلاء العصر حيث يقول :

إنّ الدّراهم مرهم

قد جاء في تصحيفها

فدع التطيّر قائلا

الهمّ بعض حروفها

ثم سرنا ليالي وأياما نلاطم تلك الأمواج لطاما حتى وافينا جزيرة (كمران) ـ بفتح الأحرف الثلاثة ـ (١) وهي جزيرة محيط بها البحر ، إلّا أن ماءها في غاية العذوبة ، وبها مسجد عظيم ، وأشجار وفواكه ، وإليها ينسب الملح الكمراني الذي لا يوجد مثله في غيرها ، وهو لا يستعمل إلّا دواء لشدّة ملوحته ، ينفع لأمراض كثيرة ، ولا يدانيه شيء من أقسام الملح في نقاوته وصلابته. وفيها مدفن الشيخ الكبير الشهير محمد بن (عبد ربّه) (٢) المشهور بالورع والزهد ، وضريحه بها من المزارات المشهورة. قال اليافعي : تفقه على الشيخ أبي اسحاق الشيرازي في بغداد بكتاب المهذب ، وهو أوّل من دخل به إلى اليمن. وقال ابن سمرة : كانت النواخيذ (٣) وأهل الجلالات يأتون للسلام عليه ، ويقبلون رأسه وهو قاعد ، وكان كثير الزهد والورع متحرّيا في المطعم ، لا يأكل إلّا الأرز من بلاد الهند ، وكان عبيده يسافرون إلى الحبشة والهند ومكة للتجارة ، فحصلت له أموال ، فكان ينفق على الطلبة منها. وله تصنيف في أصول الفقه سمّاه الإرشاد ، وارتحل إليه خلائق من فقهاء اليمن من بلدان شتى لعلمه وجوده. وكان له ولد عالم بعلم الكلام والأصول ، مع تبريز في الفقه يسمى عبد الله تفقّه بأبيه ومات قبله في سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة ، ودفن بالجزيرة المذكورة ، فرثاه بعض فقهاء اليمن بقصيدة طويلة يقول في بعضها :

أمن بعد عبد الله نجل محمّد

يصون دموع العين من كان مسلما

__________________

(١) جزيرة كمران : باليمن قبالة زبيد.

(٢) (عبد ربه) كذا ورد في الأصول ، وفي مرآة الجنان لليافعي ٣ / ٢٤٢ (عبدويه).

(٣) النواخيذ ، والنواخذة جمع الناخذاة ، أي صاحب السفينة (فارسي معرب). في مرآة الجنان (كانت أهل التوحيد) مكان (كانت النواخيذ).

٥٨

وقد غاض بحر العلم مذ غاب شخصه

ولكنّ بحر الوجد من بعده طما

قال اليافعي : وكان الشيخ المذكور قد ابتلي بذهاب البصر ، فقال عند ذلك مخاطبا نفسه :

وقالوا قد دهى عينيك سوء

فلو عالجته بالقدح زالا

فقلت الربّ مختبري بهذا

فإن أصبر أنل منه الجلالا (١)

وإن أجزع حرمت الأجر منه

وكان خصيصتي منه الوبالا

وإنّي صابر راض شكور

ولست مغيّرا ما قد أنالا

صنيع مليكنا حسن جميل

وليس لصنعه شيء مثالا

وربّي غير متّصف بحيف

تعالى ربّنا عن ذا تعالى

وتوفي سنة خمس وعشرين وخمسمائة عن ثمان وثمانين سنة ، ودفن بجنب ولده ، وقبراهما هنالك بجنب المسجد يزورهما الصالحون وغيرهم ، والله أعلم.

ولم نقم في هذه الجزيرة إلّا نصف نهار حتى عدنا إلى اقتحام التيار واستلام ذلك الفلك السيّار. فسرنا والبحر المديد دائرته مختلفة ، ولم نر مع وافر دوائره دائرة مؤتلفة ، والسفينة قد اشتملت بشراعها الصماء ، وتشاممت (٢) وهي كما قيل : أنف في السماء وأست في الماء ، فلم نزل كذلك حتى جئنا (بندر الحديدة) ، وقد أبدى فينا السأم أيده ، فألفيناها عامرة بالخيرات ، غامرة بالميرات ، وفيها من أنواع الرطب ما يلهي عن استماع الخطب ، ومن أقسام النّوار ما يسلّي الفرزدق عن النّوار ، فعلمنا أنّ تصغيرها ليس للتحقير ، بل يعذب اسم الشيء بالتصغير ، فأقمنا بها ثلاثة أيام حتى قضينا منها المرام.

ثم أقلعنا منها للمسير مستبشرين بأن لم يبق من التّعب إلّا اليسير ، وإن

__________________

(١) في ك (النوالا) مكان (الجلالا) والمثبت موافق لرواية اليافعي.

(٢) يقال : اشتمل الصمّاء ، إذا جلّل جسده كلّه بالكساء. تشاممت : تظاهرت بالشمم ، أي الارتفاع.

٥٩

كنّا مع أعظم من هذا على وعد ، ولكن المشيئة لله فيما بعد. فرحنا نكابد الأهوال ، ونقاسي حؤول الأحوال ، إلى أن أسفر الصبح عن ثاني شهر رمضان المعظّم فوافينا (المخا) (١) معدن الأمن والرّخا ، وألفيناها عارية إلّا من الإيناس. خالية إلّا من كرام الناس ، فكأن أوّل من تلقّانا فيها ببشره ، وهفا علينا بطيب خلقه ونشره : واليها الباسق في دوحة النبوّة غصنه النضير ، المشرق في فلك الفتوّة بدره المنير ، الخافقة رايات عزّه وسعده ، الثابتة آيات فخره ومجده ، ذو الأخلاق التي دلّت على طيب الأعراق ، والمكارم التي انعقد عليها الإجماع والاتفاق ، من لم يزل العزّ الباذخ به يهيم مولانا السيد زيد بن علي بن ابراهيم (٢) :

له صحائف أخلاق مهذّبة

منها العلى والنّهى والمجد ينتسخ

لا زالت الأقلام لمدائحه ناظمة ناثرة ، وآيات فواضله في سائر الأقطار سارية وسائرة. ولعمري أن الأطناب في نشر مزاياه الشريفة عليّ دين ، ولكن لست بقائل فيه إلّا ما قاله نادرة بأخرز (٣) في السيد الرئيس ذي المجدين (٤).

(لو ذهبت أصف ما تلقّانا به من تشريف وتقريب ، وأهّلنا من تأهيل وترحيب ، لخرجت من شرط هذا الكتاب ، واستهدفت من ألسنة النقّاد لسهام العناد. أمّا الأدب فمنه وإليه ، ومعوّل أرباب الصناعة عليه ، وأمّا الخلق فكما يقتضيه الإسلام ، وكأنّه منتسخ من أخلاق جدّه عليه‌السلام ، وأمّا الجاه فمسلّم له غير منازع فيه ، وأمّا المحلّ فسلّم لا يسلم من الزلل مرتقيه ، وأمّا السياسة فقد القت إليه الأرسان ، وأمّا الرئاسة فقد فرشت له رفرفها الخضر وعبقريّها الحسان).

__________________

(١) المخا : من مدن اليمن الساحلية ، سيعود المؤلف إلى ذكرها ووصفها.

(٢) ترجم له المؤلف في سلافة العصر / ٤٧٧ ، وعنه نقل المحبي في نفحة الريحانة ٣ / ٤١٠ ، والشرواني في حديقة الأفراح / ١٣ كان حيا سنة ١٠٦٨ ه‍.

(٣) هو أبو الحسن الباخرزي (علي بن الحسن) صاحب دمية القصر المتوفي سنة ٤٦٧ ه‍ ـ (أنوار الربيع ١ / ٨١).

(٤) هو أبو القاسم علي بن موسى الموسوي. ترجم له الباخرزي في الدمية ٢ / ١٦٩ كان حيا سنة ٤٦٨ ه‍.

٦٠