رحلة ابن معصوم المدني أو سلوة الغريب وأسوة الأريب

السيد علي صدر الدين المدني

رحلة ابن معصوم المدني أو سلوة الغريب وأسوة الأريب

المؤلف:

السيد علي صدر الدين المدني


المحقق: شاكر هادي شكر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٠

سوى طرّة مثل الهلال بدت لنا

على شفق والفرق كالفجر في الأفق (١)

فقلت هلال لاح والفجر طالع

من الأفق أم لاح الهلال من الشّرق (٢)

وقوله أيضا في المعنى :

بالبرقع الشّرقي تحت

المصون الباهي الجمال

أبدت لنا شفقا وليلا

لاح بينهما هلال

ونظم المعنى الشيخ شرف الدين العصامي (*) فقال مع زيادة وجه آخر في التورية

وخود من الأعراب لمّا تلثّمت

ببرقعها الشّرقيّ في معشر العشق (٣)

وشرّق خدّيها الحياء بحمرة

أرتنا هلال الأفق يبدو من الشرق

وللنظر في هاتين البيتين مجال.

وأنشدني الوالد للقاضي تاج الدين المذكور فيما يكتب على هياكل الصدور :

غنيت بحلية حسنها

عن لبس أصناف الحلي

وبدت بهيكلها البديع

تقول شاهد واجتل

تجد المحاسن كلّها

قد جمّعت في هيكلي

وقد زاحمه على سبكه هذا جماعة من معاصريه ، منهم السيد أحمد بن مسعود بن حسن ابن أبي نمي بن بركات (٤) فقال :

__________________

(١) سقط هذا البيت من ك.

(٢) في نفحة الريحانة ٤ / ٧٨ وأنوار الربيع ٥ / ١١٣ (من الغرب) مكان (من الأفق).

(٣) في ك (تلفتت) مكان (تلثمت) و (فئة) مكان (معشر).

(٤) هو الشريف أحمد بن مسعود ابن أبي نمي المتوفى سنة ١٠٤١ ه‍ (أنوار الربيع ١ / ٢٩١).

١٨١

لله ظبي سربه

يزهو به في المحفل (١)

قنص الأسود بقالب

قيد الأوابد هيكل (٢)

وله الجوار المنشئات

جوى الحشاشة للخلي

من كلّ رؤد لحظها

يزري بحدّ المنصل

مشتاقها من ثغرها

وأثيثها في مشكل

ما قال في ظلمائها

يا أيّها اللّيل انجل

فاق الغواني حاليات

عاطلا في هيكل

وغدا ينصّ به فأزرى

الحلي بالنّصّ الجلي

ومنهم القاضي أحمد بن عيسى قال وأجاد (٣) :

أنا ربّة الحسن الجلي

لمؤمّلي المتأمّل

صدري ووجهي منية

للمجتني والمجتلي

فالحظ بديع محاسني

من تحت أنواع الحلي

تجد المحاسن والحليّ (م)

جمالها من هيكلي

ومنهم القاضي شرف الدين بن السيد عمر الحسيني المالكي الخلوتي القاضي بمكة (٤) المشرفة قال :

أفدي كعوبا ذات حسن ناهدا

قد صاغها الباري بأجمل هيكل (٥)

__________________

(١) الأبيات في سلافة العصر / ٢٥ ونفحة الريحانة ٤ / ٩٠ ، وفي رواية بعض أبياتها اختلاف.

(٢) الهيكل : غلاف من الفضة يتخذ للتعاويذ (سلافة العصر / ٢٨).

(٣) الأبيات في نفحة الريحانة ٤ / ٩١ وفي رواية البيتين الأول والرابع اختلاف.

(٤) سماه المؤلف في كتابه (أنوار الربيع ٥ / ١١٣) : يحيى بن السيد عمر المكي ، وقلت أنا في الحاشية : أحتمل أنه نجل العلامة السيد عمر بن السيد عبد الرحيم الحسيني الشافعي المكي المتوفى سنة ١٠٣٧ ه‍.

(٥) (كعوبا) كذا ورد في الأصول ، وأنوار الربيع ٥ / ١١٣ ، وسلافة العصر / ٢٧ ، وأخال الصواب (كعابا).

١٨٢

خطرت بهيكل قدّها وبهيكل

في جيدها الباهي السّنى المتهلّل (١)

بين الغواني المبدعات بحسنها

وجمالها مهدي الجمالة للحلي (٢)

وتقول عجبا بينهن ورقة

هل هيكل في الحسن يحكي هيكلي (٣)

وأنشد الوالد لنفسه في المعنى (٤) :

خود جلا الأنوار نور جبينها

والفرع منها كالبهيم الأليل

تزهو بجيد الرّيم إلّا أنّه

هاد إلى الوجه المنير الأجمل

قالت لصبّ قد تزايد وجده

من صدّها بتعزّز وتدلّل

أنا نزهة الأبصار ذاتا فاجتل

منّي محاسن قد حواها هيكلي

وله أيضا في المعنى :

خود جلالي وجهها

بدرا منيرا معتلي

قالت لمدنف هجرها

بتعزّز وتدلّل

أنا نزهة الألباب ذاتا

والبها بي يعتلى (٥)

ومحاسن الدّنيا جميعا

قد حواها هيكلي

وأنشدني لكثير عزّة (٦) :

__________________

(١) في ك (الباري السني) وفي أنوار الربيع ٥ / ١١٤ (السنيّ المنهل).

(٢) في ك (الغواني المعجبات) و (جمالها يهدي الجمال إلى الحلي).

(٣) في ك (ورفعة) مكان (ورقة).

(٤) في ك (ومنهم الوالد وأنشدنيه بنفسه فقال).

(٥) في أنوار الربيع (الأبصار) مكان (الألباب). وورد البيت والذي بعده في ك وكأنهما مستقلان عن البيتين السابقين لاختلاف الوزن وهما :

أنا نزهة الألباب جلوة ك (م)

لّ شيء والبهابي يجتلي

ومحاسن الدنيا جميعا جمّعت

لي إذا حواها للملاحظ هيكلي

(٦) هو أبو صخر عبد الرحمن بن الأسود المعروف بكثيّر عزة. توفي سنة ١٠٥ ه‍ (أنوار الربيع ١ / ٢٤٩).

١٨٣

أقول لها عزيز مطلت ديني

وشرّ الغانيات ذوو المطال (١)

فقالت ويح غيرك كيف أقضي

غريما ما ذهبت له بمال

ومن أملائه زيد في علائه ، وعزاه للشريف أبي نمي بن بركات (٢) :

بشّرتني بغلام

حسن الوجه وسيم

قلت عزّي لا تهنّي

ولد الشّيخ يتيم

ومنه وهو لجدي الشيخ محمد المنوفي (٣) :

عتبت على دهري بأفعاله الّتي

أضاق بها صدري وأضنى بها جسمي

فقال ألم تعلم بأنّ حوادثي

إذا أشكلت ردّت لمن كان ذا علم

ومنه وهو لأبي الحسين الجزّار (*) :

أحمّل نفسي كلّ يوم وليلة

هموما على من لا أفوز بخيره (٤)

كما سوّد القصّار في الشّمس وجهه

ليجهد في تبييض ثوب لغيره (٥)

ومنه وهو من قصيدة لعربيّ من شهران (٦) :

ووالله ما الثّوب الذي متقلّل

على شرف ترمي الذّواري بجانبه (٧)

__________________

(١) في ك (أولي المطال).

(٢) هو الشريف محمد بن بركات (أبو نمي الثاني) توفي سنة ٩٩٢ ه‍ (الأعلام ٦ / ٢٧٦).

(٣) هو العلامة محمد بن أحمد المنوفي جدّ المؤلف لأمه. توفي سنة ١٠٤٤ ه‍ (نفحة الريحانة ٤ / ١٧٢).

(٤) في الغدير ٥ / ٤٣٣ (قلبي) مكان (نفسي).

(٥) في الغدير (حريصا على تبييض). وفي ك (أثواب غيره).

(٦) شهران : بطن من خثعم.

(٧) متقلل : مرتفع. في ك (متعلق).

١٨٤

بأكثر من قلبي خفوقا وحيّنا

جميع وخوفي من تنائي عواقبه

قلت : ولي قريب من هذا المعنى من قصيدة امتدحت بها الوالد :

لقد كنت أبكي قبل أن أعرف النّوى

مخافة بين والخطوب هجود

فكيف وقد شطّ المزار وأصبحت

أيادي النّوى تحدو بنا وتقود

وفي يوم الجمعة لليلة بقيت من شهر ربيع الأول استدعانا مولانا السلطان خلّد الله ملكه ، وأجرى في بحار النصر فلكه ، للمثول بحضرته الشريفة ، والرقي إلى سدّته المنيفة (فاكتحلنا بتلك الغرّة الزهراء ، واستضأنا بتلك الزهرة الغراء) (١) ورأينا من ذلك الأفق المنير ، والتاج والسرير نعيما وملكا كبيرا ، وخيرا وخيرا ، وفضلا كثيرا.

رأيت امرءا ملء عين الزّمان

يعلو سحابا ويرسو ثبيرا (٢)

مليكا شآى الكلّ لمّا بدا

ندا أوّلا وعتادا أخيرا

إذا ما حللت حمى جوده

رأيت نعيما وملكا كبيرا

وهذا مكان درر من قصيدة الوالد التي أحكم نظامها ، وأودعها من صفات هذا الملك الأعظم ما يزين به انتظامها حيث يقول (٣) :

(بكلّ تداوينا فلم يشف ما بنا

على أن قرب الدار خير من البعد (٤)

بلى ليس بعد الدّار يا صاح ضائرا

إذا كان عبد الله منتجع الوفد (٥)

__________________

(١) في ك (فاكتحلنا بتلك الغرّة الزاهرة واستضأنا بتلك الزهرة الباهرة).

(٢) في ك (يعل سحابا ويعلو ثبيرا).

(٣) القصيدة طويلة مثبتة في سلافة العصر / ١١ مطلعها :

سلا هل سلا قلبي عن البان والرند

وعن أثلاث جانب العلم الفرد

(٤) البيت مضمن من قصيدة تنسب لمجنون ليلى ولشعراء آخرين ، يراجع ديوان المجنون جمع وتحقيق عبد الستار أحمد فراج. سقط هذا البيت من ك.

(٥) صدر البيت في ك (ألا أنّ بعد الدار ليس بضائر).

١٨٥

شهنشاه شاه قطب شاه مليكنا

ووالي ولاة الأمر مشرعة الرّفد

مليك سما فرع السّماكين راقيا

إلى رتبة علياء ذات علا نهد (١)

مليك لدى الهيجاء تهنو لبأسه

أسود الشرى هيهات ما صولة الأسد (٢)

مليك إذا ضاق الزمان توسّعت

خلائقه الحسنى فجاءت على القصد (٣)

يسوم جميع العالمين نواله

فيوسعهم جودا ينوف على العدّ (٤)

تظلّ ملوك الأرض خاضعة له

فجبّارهم عند الملاقاة كالوغد

له هيبة قد ألبس الله وجهه

بهاء ونورا شاهدين على السّعد

هو الملك المنصور ذو الفخر والعلى

وربّ النّدى والأمر والحلّ والعقد

وقطب ملوك الأرض دام علاؤه

ودمنا زمانا راتعي عيشه الرّغد

فأكرم بظلّ الله في كلّ أرضه

ونجل ملوك منتمين إلى جدّ

__________________

(١) في أ(مليكا) وفي ك (هام السماكين).

(٢) في أ(مليكا) وفي ك (لدى العلياء).

(٣) في أ(مليكا) وفي ك (فكان على القصد).

(٤) يسوم : يقصد ، ويبتغي. في سلافة العصر (ويشمل كلّ العالمين).

١٨٦

ذكر نسب المولى المذكور

هو الملك الأعظم والسلطان المعظّم عبد الله بن محمد قطب شاه بن محمد أمين بن ابراهيم قطب شاه بن سلطان قلي المشهور ببر املك قطب الملك ، وهو أوّل من استبدّ بالملك واحتوى على الصقع الدكني من الديار الهندية وذلك سنة اثنتي عشرة وتسعمائة (١). وكان ملكا منصورا مظفرا ، افتتح بسيفه سبعين قلعة ، وكان يبارز بنفسه ، فأصابته في وجهه جراحات شانته ، فكان يستر وجهه لذلك. توفي سنة خمسين وتسعمائة شهيدا بمواطاة ابن له عن تسعين سنة. وهو ابن أويس بن الأمير بيرقلي بن الأمير قرا يوسف بن قرا محمد ـ وهو الذي افتتح العراقين ، وأذربيجان واحتوى على ذلك الصقع وكسر الأمير أبا بكر بن الأمير تيمور في سنة تسع وثمانمائة ـ ابن قرا تورسن (٢) بن قرا منصور.

ولا حاجة بنا إلى التطويل بذكر النسب كلّه لاستعجام الأسماء وافتقارها إلى الضبط. وهم من ملوك الترك التراكمة ، ويتّصل نسبهم بيافث بن نوح عليه‌السلام. وكان أوّل من أسلم منهم آغز خان بن قراخان (٣) والملك فيهم منه إلى يافث بن نوح موروث بطنا عن بطن.

ملوك هم الأنياب للملك والسّوى

إذا نسبوا كانوا الزّوائد أو عدّوا

تولّوا فأفضى ملكهم لمحجّب

تصادم تيجان الملوك إذا يبدوا

__________________

(١) في ك (سنة عشر وتسعمائة) ، وفي أ(سنة احدى عشرة وتسعمائة).

(٢) في ك (طورسن) ، وفي أ(توربين).

(٣) سقطت كلمة (بن قراخان) من (ك) و (أ).

١٨٧

تأخّر عصرا فاستزاد من العلى

كما زاد بالتأخير ما ترقم الهند

أدام الله أيام ولايته الشريفة ، وخلّد أعوام عدالته المنيفة ، ولا زال النصر لافّا بلوائه ، والظفر حافّا بفنائه ، ما اتّصلت عين بنظر ، وأذن بخبر.

من قال آمين أبقى الله مهجته

فإنّ هذا دعاء يشمل البشرا

وكان جلوسه الشريف على سرير الملك المنيف يوم الخميس لأربع عشرة خلون من جمادى الأولى سنة خمس وثلاثين وألف ، وله من العمر ثلاث عشرة سنة ، وذلك بعد وفاة والده المرحوم في السنة المذكورة.

لقد خطبت شمس الخلافة بدرها

فقارنها في الأوج الطّالع السّعد

وأصبح عطلا جيد من رام عقدها

سواه وأضحى يستضيء به العقد

تفرّد طود الملك بالمجد جامعا

مزاياه فهو الجامع العلم الفرد

مع الله الممالك في سلك ملكه ، وجعل أقطار الأرض جارية في حوزته وملكه وأيّد دولته المشرقة الليالي والأيام إلى قيام الساعة ، وساعة القيام.

واجتمعت في حضرة الوالد بجماعة من الأعيان ، ورؤساء العصر والأوان. ممن حلّى بهم الدهر جيده ، وملكهم الفضل طارفه وتليده ، فاكتحل برؤياهم جفني القريح ، وهبّت بعرف ريّاهم لكتابي هذا أطيب ريح.

فمنهم العلامة الوحيد ، القدوة الفهّامة الفريد ، أعلم العلماء الأعلام ، وعمدة العظماء الفخام ، إمام المنظوم والمنثور ، حامل لواء علميهما المأثور ، الأستاذ الأعظم والملاذ الأنبل الأفخم ، مولانا الشيخ محمد بن علي بن محمود بن يوسف بن ابراهيم الشامي لا زال في أعلى المراتب سامي. وهو الإمام الذي ألقت إليه العلوم مقالدها ، وقلّدته الفهوم طارفها وتالدها ، فأضحت بسنى أنواره ساطعة ، وبشبا أفكاره قاطعة ، فهو يتحلّى مع فضله الوافر وصبحه السافر ، بأدب يعقد عليه الخنصر على ما يكشف من أبهامه ، ويقرطس شواكل الغرض بصوائب سهامه. وأقلّ ما يعدّ من مأثوره جمعه بين منظوم الأدب ومنثوره ، ووصفه بأنّه إذا نثر أخجل العقود في النحور ، وإذا نظم استنزل الدراري من الأفلاك واستخرج الدرر من البحور ، وما وراء ذلك من

١٨٨

أفانين العلوم ، فهو لدى كلّ علم من البديهي المعلوم ، وهو الذي أوضح لي من الشعر طرائقه ، وعرّفني (سائغه ورائقه) (١) ، وعنه أخذت علمي النحو والبيان ، وبعض أبواب الفقه والحساب ، فعادت عليّ بركات أنفاسه ، ولاحت لي لوامع نبراسه ، وحقّ لي أن أنشد بين يدي هذا المرشد :

ولو لم ألق غيرك في اغترابي

لكان لقاؤك الخطر الجزيلا (٢)

وقد أثبت من غرر كلامه ودرر نظامه ما يستنشق له ريّا ، ويباهى به عقد الثريّا. فمن ذلك ما أنشدنيه شفاها وهو قوله :

رفّت شمائله فقلت نسيم

وزكت خلائقه فقلت شميم

قصر الكلام على الملام وإنّما

للّحظ في وجناته تكليم

شرقت معاطفه بأفواه الصّبا

وجرى عليه بضاضة ونعيم

قد كاد تشربه العيون لطافة

لكنّ سيف لحاظه مسموم

ومن بديع شعره ، وسحر بيانه أو بيان سحره :

إذا أبصرت شخصك قلت بدر

يلوح وأنت إنسان العيون

جرى ماء الحياة بفيك حتّى

أمنت عليك من ريب المنون

وقوله من قصيدة فريدة :

طارت بلبّك حيث طار بها الهوى

ورقاء قطّع نوحها الأكبادا

غنّتك أحوج ما تكون إلى البكا

هل تحسنين لواجد إسعادا

ومزيّف للحبّ عندي قال لي

والعيس تقدح للفراق زنادا (٣)

ما بال قلبك لا يقرّ قراره

أحلاله طعم الهوى فازدادا

أمسك فؤادك إن مررت على اللّوى

فأجبت هل أبقى الفراق فؤادا

خفّض عليك من الملام فإنّني

عوّدت قلبي حبّهم فاعتادا

__________________

(١) في ك (سابقه ورافقه). وفي أ(سابقه ورائقه).

(٢) الخطر ـ هنا ـ : الشرف وارتفاع القدر.

(٣) في سلافة العصر / ٣٤١ (ومهون للوجد عندي).

١٨٩

وقوله من أخرى (١) :

وقد جعلت نفسي تحنّ إلى الهوى

حلا فيه عيش من بثينة أو مرّا

وأرسلت قلبي نحو تيماء رائدا

إلى الخفرات البيض والشّدن العفرا

تعرّف منها كلّ لمساء خاذل

هي الرّيم لولا أنّ في طرفها فترا

من الظّبيات الرّؤد لو أنّ حسنها

يكلّمها أبدت على حسنها كبرا

وآخر إن عرّفته الشّوق راعني

بصدّ كأنّي قد أبنت له وترا (٢)

أناشد فيه البدر والبدر غائر

وأسأل عنه الرّيم وهو به مغرى

وأسترشد الشّعرى العبور وقلّما

تبين لنا عن ليل طرّته الشّعرى

فما ركب البيداء لو لم يكن رشا

ولا صدع الدّيجور لو لم يكن بدرا

لحاظ كأنّ السّحر فيها علامة

تعلّم هاروت الكهانة والسّحرا

وقدّ هو الغصن الرّطيب كأنّما

كسته تلابيب الصّبا ورقا نضرا

رتقت على الواشين فيه مسامعا

طريق الرّدى منها إلى كبدي وعرا

أعاذلتي ـ واللوم لؤم ـ ألم تري

حشاشتي الحرّى ومقلتي العبرى (٣)

وأذني لا تصغي إلى متكلّم

كأنّ بها عن كلّ لائمة وقرا

بفيك الثّرى ما أنت والنّصح إنّما

رأيت بعينيك الخيانة والغدرا

وما للصّبا ـ يا ويح نفسي من الصّبا ـ

تبيت تناجي طول ليلتها البدرا

تطارحه ـ والقول حقّ وباطل ـ

أحاديث لا تبقي لمستودع سرّا

وتلقي على النّمام فصل ردائها

فيعرف للأشواق في طيّها نشرا

__________________

(١) القصيدة في أنوار الربيع ٤ / ١٤١ ، وسلافة العصر / ٣٤١ ، وخلاصة الأثر ٤ / ٦٨ ، ونفحة الريحانة ٢ / ٣٥٥ ، وفي رواية بعض أبياتها اختلاف.

(٢) لا وجود لهذا البيت في (ك).

(٣) لا يوجد في (ع) و (أ) والمصادر الأربعة المذكورة آنفا من هذا البيت غير صدره.

ثم ألحق به عجز البيت الذي بعده ، فلفق منهما بيت وأهمل الباقي. ما أثبته عن (ك).

١٩٠

يعانقها خوف النّوى ثمّ تنثني

تمزّق من غيظ على قدك الأزرا

ألمّا ترى بأن النّقا كيف هذه

تحيل بعطفيها حنوّا على الأخرى

وكيف وشى غصن إلى غصن هوى

ومن رشأ يوحي إلى رشأ ذكرا (١)

هما عذلانا في الهوى غير أنّني

عذؤت الصّبا لو تقبلين لها عذرا

هبيها ـ فدتك النّفس ـ راحت تسرّه

إليها فقد أبدته وهي به سكرى

على أنّها لو شايعت كثب النّقا

وشيح الخزامى إنّما حملت عطرا (٢)

ومن نظمه الذي هو أبهى من نظم العقود ، وأشهى من سلافة العنقود قوله :

آه يا غصن النّقا ما أميلك

جلّ يا غصن النّقا من عدّلك

قد قضى لي بتباريح الجوى

من قضى بالحبّ لي والحسن لك

أكل الحبّ فؤادي بعد ما

لاك منّي ما تمنّى وعلك

هلك الشاميّ وجدا وأسى

ما يبالي يا حياتي لو هلك

قلّ لي فيك غراما وجوى

قلّل الله عذولا قلّلك (٣)

حكم الله لفؤادىّ على

نسخة الشّيب وتسويد الحلك

أتراهم قد دروا أيّ دم

هرق الواشي على تلك الفلك (٤)

يا غراب البين لا كنت ولا

كان واش دبّ فيهم وسلك

__________________

(١) في نفحة الريحانة لفق من صدر هذا البيت وعجز البيت الذي بعده بيت وأهمل الباقي.

(٢) (شيخ الخزامى) كذا ورد في الأصول ، والمصادر الأخرى عدا أنوار الربيع فالذي فيه (ريح الخزامى).

(٣) في ك ، وأ (عدوا) مكان (عذولا).

(٤) الفلك (بفتحتين) جمع الفلكة (بالتحريك) : قطعة الأرض المستديرة المرتفعة عما حولها. في نفحة الريحانة ٤ / ٣٧٠ (أتراهم قد رأوا) وجاء البيت في سلافة العصر / ٣٤١ في آخر القصيدة.

١٩١

أخذوا منّا وأعطوا ما اشتهوا

ما كذا يحكم فينا من ملك

جرت في الحكم على أهل الهوى

لا تخف فالأمر لله ولك

ليت شعري أمليك في الورى

أنت يا إنسان عيني أم ملك

حكم الدّهر علينا بالنّوى

هكذا تفعل أدوار الفلك

(فلقد راق لي هذا النظم فنظمت عليه وقلت مستعينا بالله) (١) :

آه يا حبل النّوى ما أطولك

قطع الله زمانا وصلك

حكمت بالبعد أسباب النّوى

وقضى فينا بما شاء الفلك (٢)

ذبت يا قلب غليلا بعدهم

وبهم ما كان أروى غللك

كم وكم من أمل نلت بهم

حيث لم تقض اللّيالي أملك

ليت دهرا كان أغراك هوى

بهم قد كان يوما عذلك

أيّها النّائي على وجد بنا

بعد ما حاز فؤادي وملك

أعجل الله زمانا أعجلك

أترى نا ضرّه لو أمهلك (٣)

ذبت والله غراما وأسى

من فراق شاك قلبي وسلك (٤)

هل ترى بعد التّنائي والنّوى

رجعة يحيا بها من قد هلك (٥)

أن تعد يوما على حكم الهوى

تجد القلب كما قد كان لك (٦)

وأنشدته يوما وقد أنشدني شيئا من شعره.

__________________

(١) في ك (قلت : ولما رأيت هذا النظم راق لي فنظمت على رويه وقلت :).

(٢) في الديوان (حكم الدهر بأسباب النوى).

(٣) رواية الديوان للبيت :

عجل الدهر ولم يرفق بنا

آه يا دهر النوى ما أعجلك

(٤) في الديوان (من فراق لاك قلبي وعلك).

(٥) في الديوان (بعد التنائي لهم).

(٦) في الديوان (أن تعد يوما على رغم النوى).

١٩٢

ما نفشة السّحر إلّا شعرك السّامي

يا من علا كلّ نشّار ونظّام (١)

لأنت أفصح من لاقيت من يمن

ومن شآم على الاطلاق يا شامي

فأجاب بديهة :

رفعت يا ابن نظام الدّين أعلامي

نوّهت باسمي وإن كنّيت بالشّامي

لم ألتفت في حماكم بين أقوامي

إلّا رأيت الغنى خلفي وقدّامي

ثم كتب إليّ بهذه الأبيات المعمورة :

خبّرتنا الحظوظ أن سوف يحيا

بعليّ ميت النّوال ويحيى (٢)

فهما ما هما من المجد غصنا

دوحة قد زكت نماء وفيّا (٣)

ما بدا لي أبوهما النّدب إلّا

ورأيت الغنى يلوح عليّا

بهم يستقى الغمام ويمرى

درّه الجود لا بنوء الثريّا

ما رجوت النّوال إلّا أشارت

راحتا أحمد إليّ أليّا

علّمتني هبات أحمد كيف الجود

حتى وهبت ما في يديّا

عفت حتى المؤآة رغبة ألّا

تبصر العين غير مرآه حيّا

حبّذا أنتم ملوكا إذا هبّت

شمال وقام سوق الحميّا

ومن بديع مديحه قوله في الوالد من قصيدة :

وإنّ في الشّعرات البيض لو علموا

نورا لعيني ونوّارا على عودي

بيض وسود إذا ما استجمعا حسنا

حسن البياض على أحداقها السّود

كم للزمان ولا أخشى بوائقه

من ضنّة ولعين الملك من جود (٤)

عفّ الشبيّبة ميمون النّقيبة منصور

الكتيبة مأمون المواعيد

__________________

(١) في ك (سما) مكان (علا).

(٢) (يحيى) هو محمد يحيى أخو المؤلف ، تقدم التعريف به.

(٣) في ك (نموا ورقيا).

(٤) في ك (من طعنة) مكان (من ضنة).

١٩٣

أخلاق أحمد في تقوى أبي حسن

وحسن يوسف في ملك ابن داود

لا يحسن الشعر إلّا في مدائحه

كالدرّ أحسن ما يبدو على الجيد

ومما أنشدنيه لغيره قول السيد أحمد الصفوي الدمشقي (١) :

صه يا حمام فلست المشوق

ولا بات حالك فيها كحالي

فما من تباكى كما من بكى

ودمع الأسى غير دمع الدّلال (٢)

قلت : وهو من قول مهيار الديلمي (٣) :

أبكي وتبكي غير أنّ الأسى

دموعه غير دموع الدّلال

وأنشدني لصدقة الشامي :

في خدّه عرق بدا

ذا حمرة لصفائه

هذا يصدّق قولهم

الماء لون إنائه

وأنشدني للأمير الخطير ، والهمام الكبير الأمير منجك (٤) :

دنوّا فقد أوهى تجلّدي البعد

ووصلا فقد أدمى جوانحي الصّدّ

أجنّ غراما فيك خيفة كاشح

ومن مدمعي ودق ومن كبدي وقد

وبي فوق ما بالنّاس من لاعج الهوى

ولكن أبى أن يجزع الأسد الورد

فيا من يبين الرّشد فيمن أحبّه

متى يلتقى الحبّ المبرّح والرّشد

تلاعبت بالأشواق حتى لعبن بي

وما كنت أدري أنّ هزل الهوى جدّ

__________________

(١) (الصفوي) كذا ورد في الأصول ، وأنوار الربيع. وفي سلافة العصر (الصفدي).

ولعله السيد أحمد بن السيد علي الصفوري المتوفى سنة ١٠٤٣ ه‍ ، أو أحمد بن محمد الصفدي المتوفى سنة ١١٠٠ ه‍ (يراجع أنوار الربيع ٤ / ١٧٠ ونفحة الريحانة ١ / ٤٠٩).

(٢) (كما من بكى) كذا ورد في ع ، وسلافة العصر ، وفي ك ، وأ ، وأنوار الربيع (كمن قد بكى).

(٣) هو أبو الحسن مهيار بن مرزويه الديلمي. توفي سنة ٤٢٨ ه‍ (أنوار الربيع ١ / ٤٢).

(٤) هو الأمير الشاعر منجك بن محمد بن منجك. توفي سنة ١٠٨٠ ه‍ (معجم المؤلفين ١٣ / ٨).

١٩٤

بليت بقاس لا يرقّ فؤاده

عليّ وها قد رقّ لي الحجر الصّلد

أعاني به ما يعجز الدّهر بعضه

وأحمل ما قد كلّ عن حمله الجهد

وأدفع عنه النّفس وهي عصيّة

وهل يمكن الظمآن عن مورد ردّ (١)

إذا جئته يوما لبثّ شكيّة

أروح بأشجان على مثلها أغدو

تهدّدني من مقلتيه إذا رنا

قواضب مما يطبع الله لا الهند

حداد يلوح الموت في صفحاتها

مواض لها في كلّ جارحة غمد

أشاق إذا ما عنّ في القلب ذكره

أطرب ما بات اللّسان به يشدو

ومنهم السيد الجليل ، الأيّد المثيل (٢) ، المتفرع من دوحة الرسالة والنبوة ، المترعرع من سرحة البسالة والفتو ، نور حدقة الفضل والسيادة نور حديقة المجد والسعادة ، ذو الجلالة التي شاع صيتها في الآفاق ، والإبالة (٣) التي انعقد عليها الاجماع والاتّفاق. السيد الشريف (٤) ، السند الحنيف : عمّار بن الملك الحي ، ولقد كان يجمعني واياه مجلس والدي فنتلاقى ملاقاة الأجسام والأرواح ، ونتصافى مصافاة الماء والراح ، وهو كهل شبّت بالظرف (٥) شمائله ، وزرّت على شخص العرف غلائله. يغدو ويروح بجسم كلّه روح. وقد رأيت جماعة من أبناء جنسه فلم أر من يدانيه في جوده وبأسه. أمّا جوده فضرّة البحار ، وأمّا بأسه فأشهر من الشمس في رائعة النهار ، وناهيك بمن تحدّر من سلالة أكابر ، ورقاه أسرّة ومنابر ، وربّما كانت تجمعنا حلبة أدهم وكميت ، أو بيت شعر لم يتحكّم عليه لو ، ولا ليت ، فنتنقّل من متن جواد إلى شرح بيت ، ولا أنسى قوله وقد سابقته قبل موته بأيّام قلائل غدت لفوته ولم

__________________

(١) في ك (عن ورده) مكان (عن مورد).

(٢) الأيّد : القوي. المثيل : الفاضل. في ك (الفاقد المثيل).

(٣) الإبالة (بكسر الهمزة وتسهيل الباء أو تشديدها) : السياسة.

(٤) توفي الشريف عمار بن بركات سنة ١٠٦٩ ه‍ (سلافة العصر / ٣١).

(٥) في ك (شبت عن الطوق).

١٩٥

يدر أنّ المنايا تسابقه ، وغمرها السابح (١) لاحقه ، تحته مهر كلف به كلف أبي محجن (٢) بالحميّا ، أو ابن أبي ربيعة (*) بمحبوبته الثريّا. قريب الرياضة سريع الإفاضة ، فقال لي وهو يركضه : إن هلك فمنك عوضه ، فكان هو الهالك ، ولو أمكن لكنت عوضه من المهالك. وله شعر يفعل بالألباب فعل السحر ، أثبت منه أحلى من جني النحل ، وأجدى من ندى القطر في البلد المحل. فمن ذلك قوله وهو ممّا كتبه إلى الوالد :

زرت خلّا صبيحة فحباني

بسؤال أشفى وأرغم شاني (٣)

قال لما نظرت نور محيّاه

ونلت المنى وكلّ الأماني (٤)

كيف أصبحت كيف أمسيت ممّا

ينبت الحبّ في قلوب الغواني

فتحرّجت أن أفوه بما قد

كان منّي طبعا مدى الأزمان

يا أخا المجد والمكارم والفضل

ومن لا أرى له اليوم ثاني

أدرك ادرك متيّما في هواكم

قبل تسطو به يد الحدثان (٥)

وابق واسلم منعّما في سرور

ما تغنّت ورق على غصن بان

فأجابه الوالد بقصيدة طنانة مطلعها :

ليت شعري متى يكون التداني

من بلاد بها الحسان الغواني

يقول فيها :

كلمات لكنّها كالدّراري

وسطور حوت بديع المعاني

قد أتت من أخ شقيق المعالي

فائق الأصل غرّة في الزّمان

صافي الودّ صافي القلب قرم

كعبه قد علا على كيوان (٦)

__________________

(١) الغمر : الفرس الجواد. السابح : السريع الجري. في ك (السابق) مكان (السابح).

(٢) هو أبو محجن الثقفي عمرو بن حبيب. توفي سنة ٣٠ ه‍ (الأعلام ٥ / ٢٤٣).

(٣) أشفى : أهلك. شاني : شانئ.

(٤) في ك (ونلت المنى به والأماني).

(٥) في سلافة العصر / ٣٣ (واكففن عنه صولة الحدثان).

(٦) في ك (خالص الود خالص القلب) وفي سلافة العصر / ٣٤ (كعبة المجد في ذرى

١٩٦

ذاكرا فيها تزايد شوق

وولوعا به مدى الأزمان

ففهمت الذي نحاه ولكن

ليت شعري يدري بما قد دهاني

أنا قيس في الحبّ بل هو دوني

لا جميل حالي ولا نجل هاني (١)

يا أخا العزم ـ قد سلمت ـ فوجدي

طافح زائد بغير توان

فلحتفي أبصرت من قد رماني

وعناء تصيّد الغزلان

إن تشا شرح حال صبّ كئيب

فلقد قاله بديع البيان (٢)

(مرضي من مريضة الأجفان

علّلاني بذكرها علّلاني) (٣)

وكنت أول دخولي هذه البلاد كتبت إليه بقصيدة ضمّنتها التبرم من الاغتراب والبعاد ، أقول فيها من المديح :

أرى فؤادي وإن ضاقت مسالكه

بمدح نجل رسول الله جذلانا

عمّار أبنية المجد الذي رفعت

آباؤه الغرّ من ناديه أركانا

السيّد الماجد النّدب الشّريف ومن

علا على ذروة العلياء مذ كانا (٤)

فأجابني بقصيدة أولها :

يا من تذكّر حلّانا وجيرانا

وصار يمسي سمير النّجم سهرانا

صاد إلى مورد قد كان يالفه

عذب به يشتفي من كان ولهانا

له به مرتع طابت موارده

واليوم بالهند يا لله ما حانا

__________________

كيوان). وفي نفحة الريحانة ٤ / ٣٤ (كعبة قد علا).

(١) في سلافة العصر ، ونفحة الريحانة (ولا كابن هاني).

(٢) في ك ، وأ (بديع الزمان) وفي سلافة العصر ونفحة الريحانة (بديع الأماني).

(٣) في نفحة الريحانة (عللاني بوصلها). قال المؤلف في كتابه سلافة العصر / ٣٤ : هذا البيت مطلع قصيدة لمحيي الدين بن عربي ، وأورد بعده ثلاثة أبيات. توفي ابن عربي سنة ٦٣٨ ه‍ (معجم المؤلفين ١١ / ٤٠).

(٤) رواية الديوان لعجز البيت هكذا (قد بذ بالفضل اكفاءا واقرانا).

١٩٧

يا ماجدا حاز سبقا في القريض وفي

نهج البلاغة حتى فاق أقرانا

أحسنت لا زلت في أمن وفي دعة

جزاك ربّك بالاحسان إحسانا

وحقّ جدّك أنّ العين في غرق

والقلب في حرق وجدا لما آنا

عليك بالصّبر يا مولاي معتصما

أنّ النّفيس غريب حيثما كانا

كذا اللّيالي عهدناها مبدّلة

بالقرب بعدا وبعد الوصل هجرانا

فلا رأيت مدى الأيّام حادثة

من الزّمان ولا همّا وأحزانا

ومنها :

قد ضاق صدري بما أبديت من كمد

من لاعج البين ليت البين لا كانا

لكنّ لي أملا في الله خالقنا

وحسن ظنّي متى ندعوه أولانا

أن يجمع الشّمل في تلك البقاع وأن

يروي غليل صد ما زال حرّانا (١)

بحقّ آبائك الغرّ الكرام ومن

غدوا لنا عن جميع النّاس أعوانا (٢)

ومن شعره قوله مذيّلا بيت أبي زمعة (٣) جدّ أمية بن أبي الصلت ومادحا الوالد :

(اشرب هنيئا عليك التّاج مرتفقا

في رأس غمدان دارا منك محلالا)

تسعى إليك بها هيفاء غانية

ميّاسة القدّ كحلا الطّرف مكسالا

إذا تثنّت كغصن البان من ترف

وإن تجلّت كبدر زان تمثالا (٤)

كأنّها ـ وأدام الله بهجتها ـ

تكوّنت في محيّا دهرنا خالا (٥)

وكيف لا وهي أمست فيه ساحبة

بخدمة السيّد المفضال أذيالا

__________________

(١) ورد عجز البيت في ك كلآتي (نرى هنالك اخوانا واخدانا).

(٢) في سلافة العصر (دون كل الناس أعوانا). ولا وجود للبيت في ك ، وأ.

(٣) القول بأنه لأبي الصلت والد أميّة اشهر ، وسيرد بيان ذلك.

(٤) في ك (منعطفا) مكان (من ترف).

(٥) في ك (عصرها) مكان (دهرنا) ، وورد عجز البيت في نفحة الريحانة ٤ / ٣٠ (شمس على فلك إشراقها طالا) وفي خلاصة الأثر ٣ / ٢٠٦ (ظبي رنا فسبى تيها وادلالا).

١٩٨

ذاك الذي جلّ عن تنويه تسمية

شمس علت هل ترى للشمس أمثالا

الباسم الثغر والأبطال عابسة

والباذل المال لم يتبعه أنكالا

عار من العار كاس من محامده

لا يعرف الخلف في الأقوال إن قالا

إن قال أفحم ندب القوم مقوله

أوصال أخجل ليث الغاب إن صالا (١)

علا به النّسب الوضّاح منزلة

عن أن يماثل إعظاما وإجلالا

خذها ربيبة فكر طالما حجبت

لولا علاك وودّ قطّ ما حالا

واسمح بفضلك عن تقصير منشئها

وحسن بشرك لم يبرح لها فالا (٢)

ثم الصّلاة على أزكى الورى نسبا

وآله الغرّ تفصيلا وإجمالا

قلت : ولقد رأيت هذا المادح ساحبا أذيال العزّ والجلال بحضرة ممدوحه هذا السيّد المفضال وقد أنزله بأعزّ مكان ، وأحلّه محلّ ابن ذي يزن في رأس غمدان. حتى وعده بوعد شام من وميض بارقة السعد. فلم يلبث أن استوفى ملء مكياله ، وأهابت به دواعي آجاله ، فوافت المسكين منيّته قبل أن تقضى أمنيّته. وهكذا خلق الدهر العرام (٣). وكم حسرات في نفوس كرام. وكانت وفاته يوم الجمعة لعشر بقين من شوال سنة تسع وستين وألف ، روّح الله روحه ، ونوّر برحمته ضريحه ، وقلت أرثيه :

لنا كلّ يوم رنّة وعويل

وخطب يكلّ الرأي وهو صقيل

بكيت لو أنّ الدّمع يرجع ميّتا

وأعولت لو أجدى الحزين عويل

لحا الله دهرا لا تزال صروفه

تطول علينا دائما وتعول (٤)

علام وفيما قد أصاب مقاتلي

وغادرني هامي الدّموع أعول (٥)

__________________

(١) في ك (إن قال أفحم طلق القول مقوله ـ أو جال ...).

(٢) في سلافة العصر (واصفح) مكان (واسمح) و (لم يبخس) مكان (لم يبرح).

(٣) العرام (بالضم) : الشرس.

(٤) في الأصول (لم يزل متشمتا ـ بطول) والتصويب من الديوان. تعول : تجور.

(٥) في ك (وغادر قلبي بالدموع يسيل).

١٩٩

وحمّلني خطبا تضاءلت دونه

وما أنا قدما للخطوب حمول (١)

بموت كريم ماجد وابن ماجد

له العزّ دار والعلاء مفيل

فتى قد عنت يوم الهياج له القنا

وراح الحسام العضب وهو ذليل (٢)

بكاه القنا الخطّيّ علما بأنّه

كسير وأنّ المشرفيّ كليل

فمن للعوالي بعد كفّيه والنّدى

ومن في صفوف النّاكثين يجول

ومن بعده للسّيف والضيف والعلى

ومن بعده للمكرمات كفيل

ربيب علا شحّ الزّمان بمثله

وكلّ زمان بالكرام بخيل

ولما نعى النّاعي به ضاق بي الفضا

وراخت دموعي الجاحدات تسيل

وهيهات أن تأتي النّساء بمثله

ويخلف عنه في الأنام بديل

سأبكيك يا عمّار ما ناح طائر

وما ندبت بعد الرّحيل طلول

مصابي وإن طوّلته عنك قاصر

ودمعي وإن أكثرت فيك قليل

سلكت وأسلكت الأسى في حشاشتي

ممرّ سبيل ما سواه سبيل

لك اليوم في قلبي مكان مودّة

ودادك فيه ما حييت نزيل

فإن هاطلات السّحب شحّت بسقيها

سقاك من الجفن القريح هطول (٣)

عليك سلام الله مني تحيّة

مدى الدّهر ما غال البريّة غول (٤)

وبيت أبي زمعة الذي ذيّله السيد المذكور وهو من قصيدة له يمدح بها معد يكرب بن سيف بن ذي يزن (٥) لما انتقذ ملك اليمن من الحبشة بالجيوش

__________________

(١) في ك (وحملني خطبا يؤد بيذبل).

(٢) في ك (فتى أذعنت).

(٣) في ك (فإن بخلت سحب الغمام بسقيها).

(٤) في ك (مدى الدهر ما هبت صبا وقبول).

(٥) هذه رواية مروج الذهب ٢ / ٨٤ ، أما سائر المصادر الأخرى كالطبري ٢ / ١٤٧ والشعر والشعراء / ٣٧١ ، والعقد الفريد ٢ / ٢٣ إنها لأبي الصلت والد أميّة. وفي سيرة ابن هشام ١ / ٦٥ (وتروى لأمية بن أبي الصلت) وكلهم متفقون على كونها في

٢٠٠