رحلة ابن معصوم المدني أو سلوة الغريب وأسوة الأريب

السيد علي صدر الدين المدني

رحلة ابن معصوم المدني أو سلوة الغريب وأسوة الأريب

المؤلف:

السيد علي صدر الدين المدني


المحقق: شاكر هادي شكر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٠

لا يغلب بعضهم بعضا ، ويتوادعون على ذلك زمانا.

وأمّا العين : فهي مخرج الأمور من غير مجاريها ، وتحوّل الأمر إلى غير أهله.

وأمّا البقرة : فالمطعم يصير مستطعما ، والملوك عبيدا ، إلّا أنت وأهلك. فانصرف وقرّ عينا إلى تمام الأجل ، فإذا أتاك فلا تحاربه واهد له ابنتك الحسناء ، وطبيبك الماهر ، وفيلسوفك الطويل. ففعل ما أمره وسلم.

وهذه القصة مع صدق أمر الرؤيا في انعقاد الدول فائدة العلم بتأخرها إلى حين والله أعلم.

ورأيت في كتاب العقد (١) لأحمد بن عبد ربه القرطبي (٢) : أن أحد ملوك الهند كتب إلى عمر بن عبد العزيز : من ملك الأملاك الذي هو ابن ألف ملك والذي تحته بنت ألف ملك ، والذي في مربطه (مائة ألف) (٣) فيل ، والذي له نهران ينبتان العود ، والبوّة (٤) ، والجوز ، والكافور الذي يوجد ريحه على [مسيرة](٥) اثني عشر ميلا. إلى ملك العرب الذي لا يشرك بالله شيئا. أما بعد فإني أردت أن تبعث إليّ رجلا يعلمني الاسلام ، ويوقفني على حدوده والسلام.

وفي المروج (٦) : أن ملك الهند كتب إلى كسرى : من ملك الهند

__________________

(١) العقد الفريد ٢ / ٢٠٢.

(٢) توفي أحمد بن محمد بن عبد ربه القرطبي سنة ٣٢٨ ه‍ (أنوار الربيع ٤ / ٢٢٣).

(٣) في العقد الفريد (ألف فيل).

(٤) البوة (بفتح الباء وتشديد الواو المفتوحة) : جوزة صلبة تدق وتخلط مع أجزاء التوابل والأفاويه. وهي معروفة بالعراق بهذا الاسم ، ولم أجد لها ذكرا في معاجم اللغة. في العقد الفريد ٢ / ٢٠٢ (الألوة) مكان (البوة) وقال المحقق : هي ضرب من العود يتبخر به.

(٥) زيادة من القعد الفريد.

(٦) مروج الذهب للمسعودي ١ / ٢٦٦.

٢٤١

صاحب قصر الذهب (وايوان) (١) الياقوت والدرّ إلى أخيه ملك فارس صاحب التاج والراية كسرى أنو شروان. وأهدى إليه ألف منّ عود هندي يذوب في النار كالشمع ، ويختم عليه كما يختم على الشمع فتتبين فيه الكتابة ، وجاما من الياقوت الأحمر فسحته شبر مدوّر مملوءا درّا وعشرة أمنان كافور كالفستق وأكبر من ذلك ، وجارية طولها سبعة أذرع تضرب أشفار عينيها خدّها ، وكأنّ بين أجفانها لمعان البرق من بياض مقلتيها مع صفاء لونها ورقة تخطيطها واتقان تشكيلها ، مقرونة الحاجبين لها ضفائر تحوزها ، (تغنى بالفارسية والهندية والصينية ، يستغرق الوجد سماعها ، وترقص رقص الفرس والهند والصين ، عاملة بأنواع الملاهي) (٢). وفرشا من جلود الحيّات ألين من الحرير ، وأحسن من الوشي ، والله أعلم.

قيل : وقد كان الملك العظيم ، والعدل الكثير ، والنعم الجزيلة ، والسياسة الحسنة ، والرخاء والأمن الذي لا خوف معه في بلاد الهند ، وبلاد الصين ، وأهل الهند أعلم الناس بعلم الطب وعلم النجوم ، والهندسة والصناعات العجيبة التي لا يقدر سواهم على أمثالها.

قلت : وهي الآن كما قيل :

فتغيّرت كلّ البلاد وأهلها

وغدت حديثا مثل أمس قد مضى

وفي بلادهم وجزائرهم ينبت العود ، وشجر الكافور ، وجميع أنواع الطيب كالقرنفل والسنبل (٣) ، والدارصيني (٤) والكبابة (٥) والبسباسة (٦) وأنواع الأدوية.

__________________

(١) في مروج الذهب (وأبواب).

(٢) الذي بين القوسين غير موجود في مروج الذهب.

(٣) السنبل (بالضم) : نبات طيب الرائحة ، يتداوى به ، ويسمى سنبل العصافير.

(٤) الدارصيني : مثل لحاء الشجر ويسمى في العراق (الدارسين) يخلط مدقوقة مع التوابل (معرب).

(٥) الكبابة : دواء صيني ويستعمل مع التوابل أيضا.

(٦) البسباسة : أوراق صفر تحذي اللسان كالكبابة.

٢٤٢

ومن كلام ابن القرّيّة (١) لما سأله الحجاج عن البلدان : الهند بحرها درّ ، وجبلها ياقوت ، وشجرها عود ، وورقها عطر ، وأهلها طغام كقطع الحمام.

وقال المسعودي : بحر الهند والصين في قعره اللؤلؤ ، وفي جباله الجواهر ، ومعادن الذهب والفضة والرصاص القلعي (٢). وفي أفواه دوابه العاج ، ومن نباته الأبنوس والخيزران والقنا ، والبقّم والعود وأشجار الكافور ، وأشجار كثيرة ، والجوز بوّاء ، والقرنفل والصندل وأنواع الأفاويه والطيب والعنبر ، وطيوره البباغي (٣) البيض والخضر ، ثم الطواويس وأنواعها في صورها واختلافها في الصغر والكبر ، ومنها ما يكون كالنعامة كبرا ، ومن حشرات أرض الهند سنانير الزباد ، وظباء المسك. قيل : وعلة كون الطيب بأرض الهند أنّه من الورق الذي خصفه عليه آدم أبو البشر من ورق الجنّة ، فإنّه لما هبط بالهند في جزيرة سرنديب على جبل الراهون وعليه الورق ، يبس فذرّته الرّياح فانتثر في بلاد الهند فكان هو العلّة في ذلك والله أعلم.

وجبل سرنديب من أعجب الجبال ، طوله مائتان ونيّف وستون ميلا وفيه أثر قدم آدم عليه‌السلام. قيل : لا بدّ له كلّ يوم مطرة تغسل موضع قدمه ، وقد لمعت عليه اليواقيت ، وفيه الماس.

وفي جزائره أنواع الأفاويه ، وشجر الساج ، والله سبحانه أعلم.

ومما يلتحق بأخبار الهند وينتظم في سلكها قصة بابا رتن الصحابي ، فلا بأس بذكرها لغرابتها : قرأت في تذكرة صلاح الدين الصفدي في الجزء

__________________

(١) هو أيوب بن زيد بن قيس الهلالي المعروف بابن القرية (بكسر القاف وتشديد الراء المكسورة وتشديد الياء المفتوحة ـ في ع (ابن القرن) وفي ك وأ (ابن القربة) ـ : أعرابي أمي وخطيب يضرب المثل ببلاغته ، قتله الحجاج سنة ٨٤ ه‍ (الأعلام ١ / ٣٨١) وترجم له الخونساري في روضات الجنات / ١١١ وسماه (اسماعيل بن زيد).

(٢) القلعي : نسبة إلى نوع من الرصاص الجيد يسمى القلعة (بتسكين اللام ، وتحرك).

(٣) البباغي ، كذا جاء في ك ، والظاهر أنه يريد جمع ببغا ، والمعروف أنها تجمع على ببغاوات. وفي ع (الساعى) وفي أ(الباغي). لم أجد الخبر في مروج الذهب ولعلني لم أهتد إليه.

٢٤٣

الثامن (١) منها ما نصّه : نقلت من خطّ الفاضل علاء الدين علي بن مظفر (٢) الكندي رحمه‌الله تعالى ما صورته :

حدثنا القاضي الأجل العالم جلال الدين أبو عبد الله محمد بن سليمان بن ابراهيم الكاتب من لفظه في يوم الأحد (٣) خامس عشر ذي الحجة سنة احدى عشرة وسبعمائة بدار السعادة دمشق المحروسة. قال : أخبرني الشريف قاضي القضاة نور الدين أبو الحسن علي بن الشريف شمس الدين أبي عبد الله محمد بن الحسين الحسيني الأثري الحنفي من لفظه في العشر الآخر من جمادى الأولى عام احدى وسبعمائة بالقاهرة قال أخبرني جدي الحسين بن محمد قال : كنت في زمن الصبا وأنا ابن سبع عشرة سنة أو ثماني عشرة سنة سافرت مع أبي محمد ، وعمي عمر من خراسان إلى بلاد الهند في تجارة ، فلما بلغنا أوائل بلاد الهند وصلنا إلى ضيعة من ضياع الهند ، فعرّج القفل نحو الضيعة ونزلوا بها ، وضجّ أهل القافلة فسألناهم عن الشأن فقالوا : هذه ضيعة الشيخ رتن (اسمه بالهندية) وعرّبه الناس وسموه بالمعمّر لكونه عمّر عمرا خارجا عن العادة. فلما نزلنا خارج الضيعة رأينا بفنائها شجرة عظيمة تظلّ خلقا عظيما ، وتحتها جمع عظيم من أهل الضيعة ، فتبادر الكلّ نحو الشجرة ونحن معهم ، فلما رآنا أهل الضيعة سلّمنا عليهم وسلموا علينا ، ورأينا زنبيلا كبيرا معلقا في بعض أغصان الشجرة ، فسألنا عن ذلك فقالوا : هذا الزنبيل فيه الشيخ رتن الذي رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرتين ودعا له بطول العمر ست مرات ، فسألنا جميع أهل الضيعة أن ينزل الشيخ (٤) ونسمع كلامه ، وكيف رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما يروي عنه. فتقدم شيخ من أهل الضيعة إلى الزنبيل ـ وكان ببكرة ـ فأنزله فإذا هو مملوء بالقطن ، والشيخ في وسط القطن ، ففتح رأس الزنبيل وإذا الشيخ فيه

__________________

(١) في كشف الظنون ١ / ٣٨٨ إنها بنحو ثلاثين مجلدا.

(٢) لعله علي بن المظفر بن ابراهيم الوداعي الكندي الاسكندراني ثم الدمشقي المتوفى سنة ٧١٦ ه‍ (الدرر الكامنة ٣ / ٢٠٤).

(٣) في ك (يوم الاربعاء).

(٤) في ك (فسألنا جميعنا أن ينزل الشيخ).

٢٤٤

كالفرخ ، فحسر عن وجهه ووضع فمه على أذنه وقال : يا جدّاه هؤلاء قوم قد قدموا من خراسان وفيهم شرفاء أولاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد سألوا أن تحدثهم كيف رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وماذا قال لك. فعند ذلك تنفس الشيخ وتكلم بصوت كصوت النحل بالفارسية ونحن نسمع ونفهم كلامه فقال :

سافرت مع أبي وأنا شاب من هذه البلاد إلى الحجاز في تجارة ، فلما بلغنا بعض أودية مكة وكان المطر قد ملأ الأودية ، فرأيت غلاما أسمر اللّون مليح الكون ، حسن الشمائل وهو يرعى إبلا في تلك الأودية وقد حال السيل بينه وبين إبله وهو يخشى من خوض السيل لقوّته فعلمت حاله ، فأتيت إليه وحملته وخضت السيل إلى عند ابله من غير معرفة سابقة ، فلما وضعته عند ابله نظر إليّ وقال لي بالعربيّة : بارك الله في عمرك ، بارك الله في عمرك ، بارك الله في عمرك. فتركته ومضيت إلى سبيلي إلى أن دخلنا مكة وقضينا ما كنّا أتينا إليه من أمر التجارة وعدنا إلى الوطن ، فلما تطاولت المدة على ذلك ، كنا جلوسا في فناء ضيعتنا هذه في ليلة مقمرة رأينا البدر في كبد السماء وقد انشقّ نصفين ، فغرب نصف في المشرق ، ونصف في المغرب ساعة زمانية ، وأظلم الليل ثم طلع النصف من المشرق ، والنصف الثاني من المغرب إلى أن التقيا في وسط السماء وعاد كما كان أوّل مرّة ، فعجبنا من ذلك غاية العجب ، ولم نعرف لذلك سببا ، وسألنا الركبان عن خبر ذلك وسببه فأخبرونا : أنّ رجلا هاشميا ظهر بمكة وادّعى أنه رسول الله إلى كافة العالم ، وأن أهل مكّة سألوه معجزة كمعجزة سائر الأنبياء ، وأنّهم اقترحوا عليه أن يأمر القمر فينشق في السماء ويغرب نصفه في المغرب ، ونصفه في المشرق ، ثم يعود إلى ما كان عليه ففعل لهم ذلك بقدرة الله تعالى. فلمّا سمعنا ذلك من السفار اشتقت (إلى أن أرى المذكور) (١) فتجهزت في تجارة وسافرت إلى أن دخلت مكة ، وسألت عن الرجل الموصوف فدلّوني على موضعه ، فأتيت إلى منزله واستأذنت عليه فأذن لي ، ودخلت عليه فوجدته جالسا في صدر المنزل والأنوار تتلألأ في وجهه وقد

__________________

(١) في ك (إلى رؤية ذلك النبي).

٢٤٥

(استثارت) (١) محاسنه وتغيّرت صفاته التي كنت أعهدها في السفرة الأولى فلم أعرفه. فلمّا سلّمت عليه نظر إليّ وتبسّم وعرفني وقال : وعليك السلام ، أدن منّي ، وكان بين يديه طبق فيه رطب ، وحوله جماعة من أصحابه كالنجوم يعظّمونه ويبجّلونه ، فتوقفت لهيبته ، فقال ثانيا : أدن مني وكل فالموافقة من المروءة ، والمنافقة من الزندقة. فتقدمت وجلست ، وأكلت معهم من الرطب ، وصار يناولني الرطب بيده المباركة إلى أن ناولني ست رطبات سوى ما أكلت بيدي. ثم نظر إليّ وتبسّم وقال لي : ألم تعرفني؟ قلت : كأني ، غير أني ما تحققت ، فقال لي : ألم تحملني في عام كذا وجاوزت بي السيل حين حال السيل بيني وبين ابلي ، فعند ذلك عرفته بالعلامة ، وقلت له : بلى والله يا صبيح الوجه ، فقال لي : أمدد يدك إليّ ، فمددت يدي اليمنى إليه فصافحني بيده اليمنى وقال لي : قل أشهد أن لا اله إلّا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ، فقلت ذلك كما علّمني. فسرّ بذلك وقال لي عند خروجي من عنده : بارك الله في عمرك ، بارك الله في عمرك ، بارك الله في عمرك. فودعته وأنا مستبشر بلقائه وبالاسلام. فاستجاب الله دعاء نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبارك في عمري بكل دعوة مائة سنة ، وها عمري اليوم نيف وستمائة سنة ازداد عمري بكلّ دعوة مائة سنة ، وجميع من في هذه الضيعة العظيمة أولاد أولاد أولاد أولادي ، وفتح الله عليّ وعليهم بكلّ خير ، وبكلّ نعمة ببركة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. تم بالخير والحمد لله.

قال الصفدي بعد نقل ذلك : كأني ببعض من يقف على حديث هذا المعمّر يداخله شك في طول عمره إلى هذا الحدّ ، ويراجع في صدقه ، ويتردد فيه ويقول : إن كان ذلك مبلغه من العلم تقليدا لزاعمه. إن التجربة دلّت على أن غاية سن النمو ثلاثون سنة ، وغاية سن الوقوف عشر فهذه أربعون. ويجب أن يكون غاية سنّ النقصان ضعف الأربعين المتقدمة ، فيكون نهاية العمر مائة وعشرين سنة كما زعم الطبيعيون ، وقالوا إنما صار زمان الفساد ضعف زمان الكون أمّا من السبب المادي فلأنّ في زمان نقصان البدن تغلب اليبوسة على

__________________

(١) كذا في ع وك ، وأخالها (استنارت). وفي أ(استزادت).

٢٤٦

البدن فتتمسك بالقوة ، وأمّا من السبب الفاعلي فلأنّ الطبيعة تتأدى إلى الأفضل ، وتتحامى عن الأنقص ، أو كما زعم أصحاب النجوم من أنّ قوام العالم بالشمس ، وسنوها الكبرى مائة وعشرين سنة فيقال له : ليس في قول الطائفتين برهان قطعي يدلّ على أنّ نهاية عمر الإنسان هذا القدر ، أو قدر معيّن غيره. ولقد جاءت الكتب الإلهية صلوات الله على من أنزلت عليه بإثبات الأعمار الطويلة للأمم السالفة ، قال الله تعالى في حقّ نوح (ع) «فلبث فيهم ألف سنة إلّا خمسين عاما» (١) والتوراة والانجيل مطابقان للقرآن العظيم في إثبات الأعمار الطويلة للآدميين ، والاصرار على إنكار ذلك دليل على الجهل.

وقال الشيخ أبو الريحان البيروني في كتابه المسمّى بالآثار الباقية عن القرون الخالية (٢) : وقد أنكر بعض أغمار الحشوية والدهرية ما وصف من طول أعمار الأمم الخالية ، وخاصة ما ذكر فيما وراء زمان ابراهيم الخليل عليه‌السلام.

وذكر شيئا من كلام المنجمين ، ثم حكى عن ما شاء الله (٣) أنه قال في أول كتابه في المواليد : يمكن أن يعيش أصحاب سنّي القران الأوسط إذا اتّفق الميلاد عند تحويل القران إلى الحمل ومثلثاته ، والدلالات كانت على مثل ما ذكرنا أن يبقى المولود سني القران الأعظم وهي تسعمائة وستون سنة بالتقريب حتى يعود القران إلى موضعه.

وحكى أيضا عن أبي سعيد بن شاذان في كتاب مذاكراته مع أبي معشر (٤) في الأسرار : أنه أنفذ إلى أبي معشر مولودا لابن ملك سرنديب وكان طالعه الجوزاء ، وزحل في السرطان ، والشمس في الجدي ، فحكم أبو معشر

__________________

(١) الآية / ١٤ من سورة العنكبوت.

(٢) الآثار الباقية / ٧٨.

(٣) في الأصول (ثم حكى عما شاء الله) والتصويب من الآثار الباقية. وما شاء الله اسم رجل نعته البيروني في الآثار الباقية / ٧٩ بأنه أستاذ أصحاب أحكام النجوم.

(٤) هو أبو معشر الفلكي (جعفر بن محمد) المتوفى سنة ٢٧٢ ه‍ (الأعلام ٢ / ١٢٢).

٢٤٧

بأن يعيش دور زحل (الأوسط ، وقال : هؤلاء أهل اقليم قد تقدم بهم الحكم بطول الأعمار وصاحبهم زحل ، ثم قال أبو معشر : وبلغني أن الإنسان إذا مات فيهم قبل دور زحل) (١) تعجبوا من سرعة موته. انتهى كلام أبي الريحان.

قلت (٢) (وبقاء رتن المحكي عنه هذا العمر معجز لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم) (٣) ، وقد دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجماعة من أصحابه بكثرة الولد ، وطول العمر وغير ذلك ، مثل أنس بن مالك وغيره فبورك لهم في أولادهم وعمرهم. ونقل أصحاب التاريخ أنّه مات في عام وباء لأنس بن مالك سبعون ولدا أو أكثر ، فغير بدع لمن يدعو له ست مرات أن يعمّر ستمائة سنة مع إمكان ذلك. غاية ما في الباب أن نحن لم نشاهد أحدا وصل إلى ذلك ، وعدم الدليل لا يدل على عدم المدلول.

قال محمد بن عبد الرحمن بن علي الزمرّدي الحنفي : وأخبرني القاضي معين الدين عبد المحسن بن القاضي جلال الدين عبد الله بن هشام بالحديث السابق سماعا عليه قال : أخبرني بذلك قاضي القضاة (نور الدين المذكور بالسند) (٤) المذكور في خامس عشر جمادى الآخرة سنة سبع وثلاثين وسبعمائة ، قال محمد الألفي : سألت شيخنا الحافظ الذهبي عن رتن الهندي فقال : هذا لا وجود له ، بل هو اسم موضوع لأخبار مكذوبة ، أو هو شيطان تبدّى لهم بصورة أنسيّ ، زعم في حدود الستمائة أنّه صحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فافتضح بتلك الأحاديث الموضوعة ، وبكلّ حال ابليس أسنّ منه. وقد صنّفت فيه جزءا سمّيته كسر وثن بابا رتن (٥) ذكرت فيه طرق حديث رتن وضعفها.

__________________

(١) الذي بين القوسين غير موجود في ك.

(٢) القول للصفدي.

(٣) سقطت الجملة التي بين القوسين من ك.

(٤) وهذه الجملة أيضا سقطت من ك.

(٥) وقال الذهبي في ميزان الاعتدال ٢ / ٤٥ (رتن وما أدراك ما رتن. شيخ دجال بلا ريب ظهر بعد الستمائة فادعى الصحبة ، والصحابة لا يكذبون ، وهذا جرئ على الله ورسوله وقد ألفت في أمره جزءا ، وقد قيل أنه مات سنة اثنتين وثلاثين وستمائة.

٢٤٨

انتهى ما قرأته في تذكرة الصفدي.

ورأيت في هامش النسخة التي نقلت منها بخط بعض الفضلاء ما صورته : وممّا يؤيد كون هذا الحديث كذبا أنّه قال في أوله في وصف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أسمر اللّون ، وأنّه كان يرعى ابلا. الأوّل كذب باتفاق ، وأما كونه كان يرعى ابلا فهذا ممّا لم يعرف ، وإنّما الذي يعرف أنّه كان يرعى الغنم لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما من نبيّ إلّا ورعى الغنم ، قالوا : وأنت يا رسول الله؟ قال : وأنا كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة. انتهى.

وفي هامش النسخة المذكورة أيضا منقول عن خط برهان الدين بن جماعة (١) ما مثاله : هذا الذي ذكره شيخنا الذهبي هو الحقّ ، وما صدّر به الصفدي (من تجويز الوقوع لا يقتضي الوقوع ، فكم من جائر ليس بواقع. وأمّا إنكار التردّد فيه والشك فخبط لا يلتفت إليه ، والصواب عدم التردد في بطلانه ، وليس الصفدي) (٢) من رجال هذا المقام. انتهى.

وفي أوائل المجلّد الثاني من الكشكول (٣) : الشيخ رضي الدين علي لالا الغزنوي وفاته سنة اثنتين وأربعين وستمائة. ذكر في أواخر الثلث الأخير من النفحات : أن هذا الشيخ سافر إلى الهند ، وصحب أبا الرضا رتن ، وأعطاه رتن مشطا زعم أنّه مشط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وذكر في النفحات أيضا أنّ هذا المشط كان عند علاء الدولة السمناني كان وصل إليه من هذا الشيخ ، وأن علاء الدولة لفّه في خرقة ، ولفّ الخرقة في ورقة وكتب على الورقة بخطه : هذا المشط من أمشاط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصلة من أبي الرضا رتن إلى هذا الضعيف. وذكر أيضا : أنّ علاء الدولة كتب بخطّه : أنّه يقال أنّ ذلك كان أمانة من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليصل

__________________

ومع كونه كذابا فقد كذبوا عليه (جملة كبيرة من أسمج الكذب والمحال).

(١) هو القاضي برهان الدين بن عبد الرحيم بن محمد بن سعد الله بن جماعة. توفي سنة ٧٩٠ ه‍ (الدرر الكامنة ١ / ٣٩).

(٢) الذي بين القوسين ساقط من (ك).

(٣) كشكول البهائي ١ / ٢٨٦ وفي الرواية اختلاف ، واضطراب هنا وهناك.

٢٤٩

إلى الشيخ رضي الدين لالا. انتهى كلام النفحات وفيه نظر وكلام طويل. يظهر لمن رأى كلام صاحب القاموس في لفظ (رتن) وفيه رمز يعرفه من يعرفه ، فحلّه إن أطقت والسلام. انتهى كلام الكشكول ، وهذا كلام صاحب القاموس : رتن (محركا) بن كربال بن رتن البترندي (قيل) (١) أنه ليس بصحابي وإنّما هو كذاب ظهر بالهند بعد الستمائة ، فادّعى الصحبة وصدّق ، وروى أحاديث سمعناها من أصحاب أصحابه. انتهى والله أعلم.

وكانت ملوك الاسلام بالهند ستة ، كلّ واحد منهم قد احتوى على قطر من أقطارها واستبدّ بجهة من جهاتها. ومن غريب ما يحكى عن بعضهم وهو السلطان محمد شاه بن السلطان تغلق ، أن المولى جمال الدين بن حسام الدين الشاعر قصده من العجم وامتدحه بقصيدة ، فلما حضر مجلسه وأنشد المطلع أمره السلطان المذكور أن يكفّ عن الإنشاد وقال : إنّي لا أطيق القيام بصلتك إن أنشدتها بتمامها ، ثم أمر الغلمان أن يأتوا ببدر الدنانير ويصبّوها حوله حتّى تساوي رأسه ، فصبّوها فلما ساوت الدنانير رأسه قام الشاعر ، فأعجب السلطان قيامه ، فأمر أن يزيدوا في صبّ الدنانير حتى تساوي رأسه قائما ففعلوا. وكانت وفاة السلطان المذكور سنة احدى وخمسين وسبعمائة.

ولم تزل ملوك الاسلام في الهند منقسمين ستة أقسام إلى أن قويت شوكة السلطان محمد همايون ، وكان أكبر ملوكها ، فوطئهم جميعا واحتوى على جهاتهم ولم يقاومه أحد. ولم يبق من أولئك الملوك إلّا ملوك الدكن مع الطاعة له والانقياد ، وكانوا إذ ذاك أربعة ، ثم جاء من خلف من أولاده فاحتووا على ملك ملكين منهم فبقي ملكان : أحدهما مولانا السلطان خلّد الله ملكه ، والثاني عادل شاه صاحب أرض كوكن المقدم ذكره ، وأكثر بلاد الهند في زماننا هذا في حوزة ولد السلطان محمد همايون المذكور ، والملك فيهم من سنة اثنتين وستين وتسعمائة ، وهي السنة التي كسر فيها السلطان محمد همايون ملك دهلي (٢) واحتوى على ملكه ، ولم يزل في غاية من الأيد والازدياد والقوّة

__________________

(١) لا وجود لكلمة (قيل) في الكشكول ولا في القاموس.

(٢) (دهلي) وتسمى أيضا (دلهي) يراجع القاموس الإسلامي ٢ / ٣٩٩.

٢٥٠

والسداد ، لم يطمح إليه طاكح ولم يجمح عنه جامح ، والملك لله الواحد القهار.

ما اختلف اللّيل والنّهار ولا

دارت نجوم السّماء في الفلك (١)

إلّا لنقل السّلطان من ملك

قد زال سلطانه إلى ملك

وملك ذي العرش لم يزل أبدا

ليس بفان ولا بمشترك

لطيفة : كان الشيخ محمد بن حكيم الملك (٢) دخل الديار الهندية فلم يطب له بها مقام ، فكتب إلى القاضي تاج الدين المالكي (*) بمكة المشرّفة كتابا يشكو فيه أحواله ، منه :

رحلت عن كعبة البطحاء والحرم ، ونزلت بساحة قوم لا يدرون ما حماية الحرم ، مثل من هو خارج من الأنوار إلى الظّلم ، ونقلت من جوار البيت وسدنته إلى حيث خوار العجل وجوار عبدته ، واستبدلت عن العكوف بالركن والمقام ، الوقوف بين عبدة الأصنام ، وهجرت مهابط الوحي والتنزيل ومتردّد الروح الأمين جبرئيل ، إلى مساقط أنداء الكفر والضلال ومرابط الأنعام والأفيال ، وعوّضت بالمشاعر الاسلامية حيث فرض الفروض والسنن ، معتكف أقوام يجرون في رفض الفرائض على سنن ، وبدّلت بزمزم والحطيم ومقام ابراهيم ، زمزمة البراهمة على الحطيم (٣). بديار لا تطيب إلّا لمن خلع ربقة الاسلام من عنقه ، ولا ينعم بها سوى من (انعم) (٤) في تخويده إلى ميادين

__________________

(١) وردت الأبيات منسوبة لأبي العتاهية اسماعيل ابن القاسم في هامش الصفحة / ٢٧٤ من ديوانه مع مصادر تخريجها وفي روايتها بعض الاختلاف. توفي أبو العتاهية سنة ٢١٢ ه‍ (أنوار الربيع ٢ / ٩٦).

(٢) هو الشيخ محمد بن الشيخ أحمد حكيم الملك المتوفى بالهند سنة ١٠٥٠ ه‍ (سلافة العصر / ١٥٨).

(٣) الحطيم ـ هنا ـ ما يبقى من نبات عام أول.

(٤) (أنعم) كذا ورد في الأصول ، وفي سلافة العصر (أمعن) وهو الصواب ، لأن الكلمتين وإن تعاقبتا في بعض المعاني كأن يقال : أنعم ، وأمعن النظر في الأمر ، فإنّ الثانية تنفرد بمعنى (العدو) فيقال : أمعن الفرس في عدوه ، ولا يقال : أنعم.

٢٥١

الضلالة وعنقه (١). لا يصفو لي بها عيش ، ولا ألتذّ بالحياة في نعيم ولو أنّه على ما يقال : أيش وأيش.

كيف يلتذّ بالحياة معنّى

بين أحشائه كوري الزّناد (٢)

في قرى الهند جسمه والاصيحاب

حجازا والقلب في أجياد (٣)

أقاسي من متاعب الوحدة كلّ محنة وشدّة ، وأعاني من أهوال الغربة كلّ غمّة وكربة ،

فما غربة الإنسان في شقّه النّوى

ولكنّها والله في عدم الشّكل (٤)

وإنّي غريب بين بست وأهلها

وإن كان فيها أسرتي وبها أهلي

انتهى. ومن إنشاء بعض فضلاء المتأخرين وكتبه إلى بعض أصدقائه ، وكانا بالهند ، وقد تلطّف أيم الله :

إن اختصاصي الأكيد ، وإخلاصي الذي ما عليه مزيد ، وشوقي الذي لا يكاد يوصف ، ومودّتي التي ضميرك مني بها أعرف (علّة تامة في) (٥) سرعة النهوض والمبادرة إلى التشرّف بتلك الذات التي جمعت بين مزايا الأدب ومفاخره ولكن حال القضاء المبرم دون المراد ، وأقعدني عن القيام بهذا الموجب ما يقعد ويقيم من قواعد هذه البلاد. إذ ما من شخص إلّا وعليه رقيب عتيد وما من نفس إلّا ويكنفها شاهد وشهيد. تضبط الحركات والسكنات بأقلام غير الكرام الكاتبين ، وترسم الدقيقة والجليلة في رقّ يقرأ من قرأه بأنّ عليكم

__________________

(١) التخويد : سير الوخد أي السريع ، والعنق : السير الفسيح الواسع.

(٢) البيتان من قصيدة لابن الفارض (عمر بن علي) المتوفى سنة ٦٣٢ ه‍ (معجم المؤلفين ٧ / ٣٠١).

(٣) حور صاحب الرسالة هذا البيت إلى ما يوافق غرضه. والذي في الديوان (في قرى مصر) و (والاصيحاب شآما). أجياد : جبل ، وهما أجيادان (كبير وصغير) وهما محلتان بمكة.

(٤) البيتان لأبي سليمان حمد بن محمد البستي ، وقد تقدم ذكرهما مع التعريف بالشاعر.

(٥) في ك (تحثني على).

٢٥٢

لحافظين (١). وجملة الأمر أن الحال كما قال من قال :

أتمشّى في حذار

مثل من يطلب صيد (٢)

وأنا المحبوس لكن

ليس في رجلي قيد

انتهى. ومن قواعد أهل الدكن المأثورة ورسومهم المشهورة اعتناؤهم بعشر محرّم الحرام ، وإحياؤهم لتلك اللّيالي والأيّام ، فإنّهم منذ يستهلّون الشهر إلى أن تنقضي العشر لا يزالون في مآتم من الأحزان ومآئر من الأشجان ، ينصبون أعلاما قد جلّلوها بأنواع الحلل المزخرفة ، ويعظّمونها ولا تعظيم شعائر الله المشرّفة ، ويلقون عليها من أقسام الفلول (٣) والأزهار ، ما يزدري بنواضر الرياض ذوات الأنوار ، فيقيمون عندها النوح والمآتم ، ويحيون سننا قد افترضوها من فواتح وخواتم ، فإذا أظلم الليل أجّجوا قريبا منها نارا يعظمون هولها ، ويندبون الحسين عليه‌السلام وهم يطوفون حولها. وما من بيت إلّا وقد نصبوا فيه جملة من هذه الأعلام ، زاعمين أنّ ذلك من أقرب القرب وأعظم شعائر الاسلام. وكلّ منهم قد لبس ثوب الحداد ، وتدرّع جلباب السّواد ، وهم مع ذلك يجعلون حول هذه الأعلام من التماثيل ما يعدّ من الترهات والأباطيل ، وينفقون على ذلك مئين وألوف ، لشأن عندهم معروف ومألوف ، فترى الأرض حديقة أخذت زخرفها وازّينت ، وتنوعت (بريط) (٤) أزاهيرها وتلونت. فتبرز حينئذ ربّات الحجال إلى هذه المقترحات (٥) بين الرجال ، فيأخذ كلّ من ذوي الله والشجو نصيبه المقسوم ، ويتمتع كلّ من الفريقين بقيام هذه القواعد والرسوم. ولهم في هذه الأيام نوادر لا يبين عنها

__________________

(١) اقتباس من الآية العاشرة من سورة الانفطار (وأن عليكم لحافظين).

(٢) سقط هذا البيت من ع وأ.

(٣) الفلول ، جمع الفل (بالضم) : الياسمين المضاعف بالتركيب وهو زهر نقي البياض (التاج).

(٤) الريط جمع الريطة (بالفتح) : كل ثوب لين رقيق غير مخيط يشبه الملحفة. لا وجود للكلمة في (ك).

(٥) المقترحات : المبتدعات ، من اقترح الأمر : ابتدعه من غير سبق مثال.

٢٥٣

البيان ، ولا يفي بمعرفتها إلّا العيان. وهذا متعارف عند صغيرهم وكبيرهم ، ومأمورهم وأميرهم.

ومما اتّفق لي نظمه في عشر المحرم سنة أربع وسبعين في لابس سواده كتبت به إلى صاحبنا العفيف عبد الله بن حسين الثقفي (*) :

لا تقل البدر لاح في الغسق

هذا سواد القلوب والحدق

إنسان عيني بدا بأسودها

فعاد لي إذ رمقته رمقي

يا لابسا للسّواد طبت شذا

ما المسك إلّا من نشرك العبق

لبست لون الدّجى فسرّ وقد

أغرت ضوء الصّباح في الأفق

حتّى بدا فيه وهو منفلق

يشقّ ثوب الظّلام من حنق

فأجاب وأجاد :

روحي فدا من أعاد لي رمقي

لمّا بدا كالهلال في الشّفق

يهتزّ كالغصن في غلائله

ويرشق القلب منه بالرّشق

قلت له مذ بدا يعاتبني

ويمزج الهزل منه بالحنق

لو أنصف الدّهر يا شفا سقمي

ما بتّ أرعى النّجوم من أرق

لكن عسى عطفة نسرّ بها

فيها سرور القلب والحدق

ووقف على ذلك السيد الجليل الأيّد المثيل (١) عبد الله بن محمد البحراني (٢) فقال معارضا ، ودخل هذه الحلبة راكضا :

أبدر تمّ بدا من الأفق

عمّ جميع البلاد بالشّرق

أم سبت مهجتي محاسنه

يختال في ناعم من السّرق (٣)

__________________

(١) الأيد : القوي ، المثيل : الفاضل ، في ك (السيد الأيد الجليل ، العديم المثيل).

(٢) هو السيد عبد الله بن محمد بن عبد الحسين آل شبانة البحراني ، ترجم له المؤلف في سلافة العصر / ٥٠٥ ، وعنه أخذ المحبي في نفحة الريحانة ٣ / ١٩١ والبلادي في أنوار البدرين / ٩٧ ولم أقف على تاريخ وفاته.

(٣) السرق (محركة) : الحرير (معرب).

٢٥٤

أصبح من لبسه وطلعته

يجمع بين الصّباح والغسق

أبرزه لبسه السّواد لنا

بمنظر ذي ملاحة أنق

قد قلت لما رأيت صورته

سبحان باري الأنام من علق

وبتّ حتّى الصّباح في أرق

من هميان به وفي قلق (١)

أعيذه والقوى تؤمّنه

بالنّاس من شرّهم وبالفلق

ثم كتب إليّ صاحبنا العفيف في عشر المحرّم من السنة المذكورة.

بروحي مجبولا على الحبّ قلبه

وقلبي مجبول على حبّه طبعا (٢)

يراقب أيّام المحرّم جاهدا

ويطلع بدرا والمحبّ له يرعى

كلفت به أيّام دهري منصف

ووجه الصّبا طلق وروض الهوى مرعى (٣)

جنينا ثمار الوصل من دوحة المنى

ليالي لا واش ولا كاشح يسعى (٤)

فلله أيّام تقضّت ولم تعد

يحقّ لعيني أن تسحّ لها دمعا

فأجبته بقولي :

بنفسي من قد حاز لون الدّجى فرعا

ولم يكفه حتّى تقمّصه درعا

بدا فكأنّ البدر في جنح ليلة

تعلّم منه كيف يصدعه صدعا (٥)

نمته لنا عشر المحرّم جهرة

يطارح أترابا تكنّفنه سبعا

تبدّى على رزء الحسين مسوّدا

وما زال يولي في الهوى كربلا منعا

وقد سلّ من جفنيه عضبا مهنّدا

كأنّ له في كلّ جارحة وقعا

هناك رأيت الموت تندى صفاحه

وناعي الأسى وأهل الهوى صرعى

__________________

(١) في ك (في ضجر) مكان (في أرق).

(٢) في سلافة العصر / ٢٤١ ونفحة الريحانة ٤ / ١٤٢ (طبعه) مكان (قلبه).

(٣) في ك (وروض المنى).

(٤) في ك (فنلنا) مكان (جنينا) و (الهوى) مكان (المنى).

(٥) كذا ورد عجز البيت في الأصول ، وسلافة العصر ونفحة الريحانة ، وورد في ديوان المؤلف هكذا : (أو الشمس وافت في ظلام الدجى تسعى).

٢٥٥

وما أحسن قول أحمد بن عيسى الهاشمي من ولد الواثق يعتذر من الكحل (في يوم عاشوراء) (١).

لم أكتحل في صباح يوم

اهريق فيه دم الحسين

إلّا لحزني وذاك أنّي

سوّدت حتى بياض عيني

وقال آخر في ذلك :

ولائم لام في اكتحالي

يوم أراقوا دم الحسين

فقلت دعني أحقّ عضو

فيه بلبس السّواد عيني (٢)

(غريبة) (٣) : نقلت من خط الصلاح الصفدي ما صورته : ذكر أنّ رجلا من أهل نجران احتفر حفيرة فوجد فيها لوحا من ذهب مكتوب فيه :

أيرجو معشر قتلوا حسينا

شفاعة جدّه يوم الحساب (٤)

كتب ابراهيم خليل الله ، فجاؤا باللوح إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرأه ثم بكى وقال من آذاني في عترتي لم تنله شفاعتي. انتهى.

(ومن العجيب ما حكاه) (٥) أبو العباس ثعلب عن (السدّي) (٦) قال : أتيت كربلاء أبيع بضاعة لي فعمل لنا شيخ من طيء طعاما فتعشينا عنده ، فذكر قتل الحسين (ع) فقلت : ما شرك في قتله أحد إلّا مات بأسوء ميتة ، فقال لي رجل : ما أكذبكم يا أهل العراق ، فأنا ممن شرك في ذلك ، فلم يبرح حتى دنا من

__________________

(١) لا وجود لهذه الجملة في ك ، وأ.

(٢) يأتي في ك بعد هذا البيت ما نصه (وهذا خلاف الأنصاف والمروءة). وأخالها زيادة من الناسخ.

(٣) الكلمة غير موجودة في (ك) و (أ).

(٤) يأتي في ك بعد هذا البيت ، البيت الآتي :

فلا والله ليس لهم شفيع

وهم يوم القيامة في العذاب

(٥) في ك (وحكى) وفي أ(ومنه ما حكاه).

(٦) في ع (السعدي) وفي ك (الأسدي) وفي أ(السندي) والتصويب من مجالس ثعلب /. ٣٣٩ تراجع ترجمة السدي المتوفى سنة ١٢٨ ه‍ ـ في الأعلام ١ /. ٣١٣

٢٥٦

المصباح وهو يتقد بنفط ، فذهب ليخرج الفتيلة باصبعه فأخذت النار فيها ، فذهب يطفئها بريقه فأخذت النار بلحيته ، فعدا إلى الفرات فألقى نفسه في الماء فرأيته على الماء كأنه فحمة.

ويحكى عن الشيخ عماد الدين عبد الله بن الحسين بن النحاس (١) أنه سئل يوم عاشوراء من قبل الملك الناصر صاحب حلب (٢) أن يذكر شيئا في مقتل الحسين (ع) فصعد المنبر وجلس طويلا لا يتكلم ، ثم وضع المنديل على وجهه وبكى وأنشأ يقول وهو يبكي :

ويل لمن شفعاؤه خصماؤه

والصّور في (نفخ الخلائق) ينفخ (٣)

لا بدّ أن ترد القيامة فاطم

وقميصها بدم الحسين مضمّخ

ثم نزل عن المنبر وهو يبكي ، وصعد الصالحية وهو يبكي فأبكى الناس.

قال ابن الأثير : كان الشيخ عماد الدين المذكور فاضلا عالما فصيحا مشتغلا بالمطالعة والعبادة ، ومما أنشد عند موته :

ما زلت تدأب في التّاريخ مجتهدا

حتّى رأيتك في التّاريخ مكتوبا

ومن بديع المراثي في الحسين (ع) قول أبي الحسين الجزار (*) :

ويعود عاشوراء يذكرني

رزء الحسين فليت لم يعد

يوم سبيلي حين أذكره

أن لا يدور الصّبر في خلدي

فليت عينا فيه قد كحلت

ممرود لم تخل من رمد (٤)

__________________

(١) لعله عبد الله بن الحسن بن الحسن (وقيل الحسين) المعروف بالشيخ عماد الدين ابن النحاس المتوفى سنة ٦٥٤ ه‍ (ذيل مرآة الزمان ١ / ٢٤ ، والنجوم الزاهرة ٧ / ٣٥). في ك (أبو عبد الله ابن الحسين).

(٢) هو يوسف (الناصر) بن محمد بن الظاهر غازي آخر ملوك بني أيوب. توفي سنة ٦٥٩ ه‍ (الأعلام ٩ / ٣٣٠).

(٣) في ك (يوم القيامة ينفخ) وفي أ(في حشر الخلائق ينفخ).

(٤) في ك (في مرود لم تنج من رمد) والأبيات في أعيان الشيعة ٥٢ / ٤٥ والغدير ٥ / ٤٢٧ وفي رواية البيت الثالث اختلاف.

٢٥٧

ويدا به لشماتة خضبت

مقطوعة من زندها بيدي

أمّا وقد قتل الحسين به

فأبو الحسين أحقّ بالكمد

وخمس أبو الحسين المذكور قصيدتي أبي تمام (*) يرثي بهما الحسين (ع) (١) أحدهما قوله (أصم بك الناعي وإن كان أسمعا) (٢) والأخرى قوله (أي القلوب عليكم ليس ينصدع) (٣) وخمس الموفق الحكيم المعروف بالورك (٤) الدريديّة مرثية فيه (ع).

قال رزق الله بن عبد العزيز الحنبلي (٥) : اجتمعت بملحد المعرّة ـ يعني أبا العلاء المعري فقال لي : ما سمعت في مراثي الحسين بن علي عليهما‌السلام مرثية تكتب ، فقلت قال بعض فلاحي بلادنا أبياتا تعجز عنها شيوخ تنوخ فقال : وما هي؟ قلت : قوله (٦) :

__________________

(١) أي جعلهما في رثاء الحسين.

(٢) مطلع قصيدة في رثاء أبي نصر محمد بن حميد ، وتمامه (وأصبح مغنى الجود بعدك بلقعا).

(٣) مطلع قصيدة في رثاء أبي نصر أيضا وتمامه (وأي نوم عليكم ليس يمتنع) وجاء في ك بعد ذلك ما يأتي ـ وأخاله زيادة من الناسخ ـ (وكان الجزار بديع الشعر رقيقة ، توفي سنة اثنتين وسبعين وستمائة عن إحدى وسبعين سنة واسمه يحيى بن عبد العظيم).

(٤) جاء في ك (وخمس الموفق الحكيم المعروف بالوزان ، الدريدية ونقلها إلى رثاء الحسين عليه‌السلام واسمه عبد الله بن عمر بن نصر الله الأنصاري ، وهو شاعر مقتدر على النظم ، طبيب بعلبكي توفي سنة سبع وسبعين وستمائة). أقول : أخال هذا الايضاح زيادة من الناسخ. وللحكيم المذكور ترجمة في فوات الوفيات ١ / ٤٨١ وفيه (المعروف بالوزان) وشذرات الذهب ٥ / ٣٥٨ وفيه (المعروف بالورل) وجاء في حاشية الشذرات (في تاريخ الاسلام للذهبي : المعروف بالورن).

(٥) هو أبو محمد رزق الله بن عبد الوهاب بن عبد العزيز الحنبلي المتوفى سنة ٤٨٨ ه‍ عن سن عالية (طبقات الحنابلة ٢ / ٢٥٠). في ك (الحلبي) مكان (الحنبلي).

(٦) الأبيات في معجم الأدباء ١١ / ١١٠ ، والحماسة البصرية ١ / ٢٠٠ منسوبة لدعبل الخزاعي. وساق محقق الحماسة قصة رزق الله مع أبي العلاء ، واثبت الاختلافات في الرواية.

٢٥٨

رأس ابن بنت محمد ووصيّه

للمسلمين على قناة يرفع

والمسلمون بمنظر وبمسمع

لا جازع فيهم ولا مسترجع

أيقظت أجفانا وكنت أنمتها

وأنمت عينا لم تكن بك تهجع

ما روضة إلّا تمنّت أنّها

لك تربة ولخطّ قبرك موضع

(انتهى من شرح الرسالة للصفدي) (١)

وقلت أنا أرثيه عليه‌السلام في عشر محرم سنة اثنتين وسبعين :

نفسي الفداء لمقتول على ظمأ

لم يسق إلّا بحدّ البيض والأسل

نفسي الفداء له من هالك هلكت

له الهداية من علم ومن عمل

قرّت به أعين الأعداء شامتة

واسخنت أعين الأملاك والرّسل

أفديه مستنصرا قد قلّ ناصره

ومستضاما قليل الخيل والخول

يا صرعة صرعت شمّ الأنوف بها

وأصبح الدين منها عاثر الأمل

قد أثكلت بضعة المختار فاطمة

وأوجعت قلب خير الأوصياء علي

وأبدع الشريف الرضي (رض) (*) في قوله من قصيدة يرثيه (ع) :

كأنّ بيض المواضي وهي تنهبه

نار تحكّم في جسم من النّور (٢)

قال الصلاح الصفدي في شرح الرسالة : قيل لابن الجوزي وهو على المنبر : كيف يقال : أنّ يزيد قتل الحسين (ع) وهو بدمشق ، والحسين قتل بكربلاء من أرض العراق؟ فأنشد :

سهم أصاب وراميه بذي سلم

من بالعراق لقد أبعدت مرماك

والبيت للشريف الرضي من قصيدته التي أوّلها :

يا ظبية البان ترعى في خمائله

ليهنك اليوم أنّ القلب مرعاك

الماء عندك مبذول لشاربه

وليس يرويك إلّا مدمعي الباكي

__________________

(١) سقطت هذه الجملة من (ك).

(٢) يأتي في ك بعد هذا البيت (وقال الشريف المرتضى أخوه من قصيده فيه عليه‌السلام

فيا لها مظلمة أولجت

على رسول الله في القبر

٢٥٩

وهذه لمعة من بوارق البيان ، وزهرة من حدائق الاحسان ممّا جمعته يد الأقلام ، وابتزّته من صحائف الأعلام ، آثرت إثباتها في هذا التأليف تأليفا للنفوس ، وتفويفا للطروس ، وقد قيل : الشعر مؤتلف العقول ، ومختلف النقول ، وكفاه شرفا وفخرا (أنّ من الشعر لحكمة ، وأن من البيان لسحرا). ولله درّ ابن أوس الطائي (١) حيث يقول :

ولولا خلال سنّها الشعر ما درى

بناة المعالي أين تبنى المكارم (٢)

فمن ذلك لمعن بن أوس المزني (٣).

لعمرك ما أهويت كفّي لريبة

ولا حملتني نحو فاحشة رجلي

ولا قادني سمعي ولا بصري لها

ولا دلّني رأيي عليها ولا عقلي

وأعلم أنّي لم تصبني مصيبة

من الدّهر إلّا قد أصابت فتى قبلي

بعض العرب :

ولا يشتكيني الجار إن سار ظاعنا

ولا يشتكي ابن العمّ غيبي ومشهدي

وإنّي إن أوعدته أو وعدته

لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

أبو الأسود الدؤلي (*) ينصح ابنه (٤) :

العيش لا عيش إلّا ما اقتصدت فإن

وتسرف وتقتر لقيت الضرّ والعطبا

والعلم زين وتشريف لصاحبه

فاطلب هديت فنون العلم والأدبا

لا خير فيمن له أصل بلا أدب

حتى يكون على ما زانه حدبا

__________________

(١) هو أبو تمام الطائي وقد مرّ ذكره.

(٢) في ك (بغاة المعالي) وفي الديوان (بغاة الندى من أين تؤتى المكارم) وأثبت المحقق في الهامش روايات أخرى.

(٣) معن بن أوس : شاعر من مخضرمي الجاهلية والاسلام. عمر طويلا وتوفي في زمن عبد الله بن الزبير (أنوار الربيع ٢ / ٨٤). عدد الأبيات في أمالي القالي ٢ / ٢٣٤ خمسة ، وفي الصناعتين / ٥٥ : أربعة.

(٤) في ديوان أبي الأسود (المستدرك) سبعة أبيات من القصيدة ، وفي رواية بعض أبياتها اختلاف.

٢٦٠