رحلة ابن معصوم المدني أو سلوة الغريب وأسوة الأريب

السيد علي صدر الدين المدني

رحلة ابن معصوم المدني أو سلوة الغريب وأسوة الأريب

المؤلف:

السيد علي صدر الدين المدني


المحقق: شاكر هادي شكر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٠

ولابن حجّة قصيدة ملغزا فيه منها قوله :

يلذّ قبيل العصر في الظّهر رشفها

وبرد لماها من أليم الجوى يبري

وفي أوّل الأعراف تروي من الظّما

وتضرم نيران الجوى وهي في العصر (١)

وأنشد الصفدي في الجزء الثامن من تذكرته (٢) لغيره ملغزا فيه :

وذي هيف كالغصن رنّحه الصّبا

يفوق القنا الخطّي بغير سنان (٣)

له ولد كلّ البرايا تحبّه

وتشتاقه إن عزّ منه تداني

وأعجب ما فيه يرى النّاس أكله

حلالا قبيل العصر في رمضان

ورأينا بهذا البندر عينا جارية وماؤها في غاية الحرارة ، يتصاعد منه الدخان ، فيقال : إنها تمرّ على معدن الكبريت فيفيدها هذه الحرارة ، ولقد كنا نشمّ منها رائحة الكبريت.

وقد روي في الأثر كراهية استعمال هذا الماء الحار. روي عن جعفر الصادق عليه‌السلام أنه قال : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الاستشفاء بالحميات ، وهي العيون الحارة التي تكون في الجبال التي توجد فيها روائح الكبريت فإنّها من فوح جهنم. وعنه (ع) قال : أنّ نوحا (ع) لما كان في أيّام الطوفان دعا المياه فأجابته إلّا ماء الكبريت والماء المرّ. وأمّا خاصيّة ماء الكبريت فإنه يطلق أولا ثم يعقل ، وهو يعقب الحكّة والجرب شربا ، ويمنع منهما غسلا ، ويقال : أن بجبل بالأندلس عينين إحداهما باردة والأخرى حارة والمسافة بينهما شبر.

وأغرب من ذلك ما ذكره المسعودي عن صاحب المنطق : أنّ ببعض المواضع عيونا حامضة يستعمل ماؤها كما يستعمل الخلّ ، وذكر : أنّ العلّة في

__________________

(١) أول سورة الأعراف (المص).

(٢) في كشف الظنون ١ / ٣٨٨ (هي في نحو ثلاثين مجلدا جمع فيها نوادر الأشعار ولطائف الأدبيات نظما ونثرا).

(٣) أورد المؤلف البيتين الأول والثالث في كتابه أنوار الربيع ٦ / ٤٢ منسوبين إلى موفق الدين علي بن الجزار ، مع اختلاف في الرواية.

١٤١

هذه المياه أنّ الأرضين المختلفة مثل مواضع الشب ، والمواضع النارية والرمادية إذا خالطت الماء أفادته طعوما مختلفة على قدر اختلافها وأعداد طعومها. انتهى.

ومن الغرائب ما رأيناه بهذا البندر ، وهي عين على قلّة جبل تنبع وتجري في السنة ثلاثة أيام ثم تغور وتنقطع ، وكانت أول دخولنا البندر منقطعة ، ثم بعد إقامتنا هنالك شهرين قيل : نبع ماؤها فقصدناها للتفرج ، وقصدتها الهنود للعبادة. وكنا قصدناها قبل ذلك لما وصفت لنا فرأيناها غائرة ومجراها يابسا. وقد اتخذت الهنود عندها حياضا ، ولما نبع الماء امتلأت تلك الحياض ، وهو ماء عذب أبيض برّاق. ويحكى مثل هذا كثير إلّا أن للعيان موقعا ليس للسماع.

فيقال : أن بالقرب من نهر أذربيجان نهرا يجري فيه الماء سنة ثم ينقطع ثماني سنين ثم يعود في التاسعة. وقيل أنه ينعقد حجرا ثم يستعمل منه اللّبن ويبنى به.

ويقال : أنّ في تلك الأرض بحيرة تجفّ فلا يوجد فيها سمك ولا طين سبع سنين ، ثم يعود الماء والسمك والطين.

ويقال : أنّ نهر صقلان يجري فيه الماء يوما واحدا في كلّ أسبوع ، ثمّ ينقطع سنة أيّام ، فسبحان الفعّال لما يريد.

فائدة : كلّ ماء يجري فهو نهر ، وحيث ينبع فهو عين. وحيث يكون معظم الماء فهو بحر.

قال بطليموس : إن بهذا الربع المسكون مائتي نهر من خمسين فرسخا إلى ألف فرسخ وكلّها تبتدئ من الجبال وتنتهي إلى البحار.

قيل : وليس في الأنهار أطول من نهر النيل ، وليس في العالم ما يسمى بحرا ونهرا سواه ، وقد كثرت أقاويل الناس فيه ، وأطالوا الكلام عليه ، وهو يظهر من تحت جبل القمر (بلفظ أحد النيرين) وإنما سمي بذلك لما يظهر من تأثير القمر فيه عند زيادته ونقصانه من النور والظلام في البدر والمحاق.

ذكر أنّ جماعة صعدوا هذا الجبل ليحيطوا خبرا بمبدأ النيل ، فرأوا وراءه

١٤٢

بحرا عجاجا أسود كالليل يشقّه نهر أبيض كالنهار وهو النيل.

ويقال : أنّ أناسا صعدوه فجعل كلّ واحد منهم يضحك ويصفّق ، ويلقي نفسه إلى ماوراء الجبل ، فرجع البقيّة خوفا من أن يصيبهم مثل ذلك ، فيقال : أنّهم رأوا حجر الباهت ، وهو نوع من المغناطيس في لون المرقشيشا (١) يتلألأ حسنا ، إذا رآه الإنسان ضحك حتى يموت لا يمسك عنه البتّة ، ولا أن يستتر عنه بعد أن يكون قد رآه. ثمّ إن وقع عليه الفرفير (٢) ـ وهو طائر في شكل عصفور الشوك الذي يقال له السماني ، أسود له طوق أحمر وعيناه حمراوان ورجلاه كذلك ـ أبطل فعله لوقته ، ورآه الإنسان من غير ضرر ، وهذا الحجر كثير الوجود بأرض تبت (بضم التاء). وزعموا أنّ أهلها يرونه (٣) فلا يضرهم كثير ضرر ، والغريب الطاريء على بلدهم كلما تقع عينه عليه يندفع في الضحك الدائم. فالفعل الأول وهو الضحك عند رؤيته لمناسبة وميل في هذه الخاصيّة ، والثاني وهو عدم الضحك عند وقوع ذلك الطائر عليه بسبب عارض.

ومن نوادر الحكايات أن المتوكّل لما قبض على بختيشوع (٤) أصابوا له فيما أصابوا من أعلاق الجواهر ونفائس الطرائف حجرا في درج مختوم بختمه ، فدعوا غلامه فسألوه عن الحجر فقال : لا أخبركم أو يضمن لي أمير المؤمنين أن ينفذني إلى ملك الروم ، فليس لي بعد مولاي حاجة في العراق ، فحلف له المتوكل بأيمان مغلّظة أنه يبذرقه (٥) إلى ما هناك ، فقال : هذا حجر

__________________

(١) المرقشيشا (دخيلة سريانية) فسروه بالحجر الصلد ، وهو أصناف منها الذهبي والفضي والنحاسي (معجم متن اللغة مادة م ر ق).

(٢) في حياة الحيوان ٢ / ٢٢٢ : الفرفر (كهدهد) : من الطيور المائية صغير الجثة على قدر الحمام ، وهذا لا ينطبق على ما ذكره المؤلف.

(٣) في ع (يرونهم) ، وفي ك (يرونها).

(٤) هو بختيشوع بن جبريل طبيب معروف : توفي سنة ٢٥٦ ه‍ (عيون الأنبياء / ٢٠١).

(٥) البذرقة (بالذال المعجمة أو الدال المهملة) : الخفارة ، والمبذرق (بكسر الراء) الخفير.

١٤٣

إذا (قيس) (١) به الشعر حلقه واستغنى فاعل ذلك عن النورة ، والحلق بالمواسي ، فدعوا برجل على ساعده شعر كثير فأمرّوا الحجر على شعره فلم يبق على ساعدة شعرة واحدة ، ففرح المتوكل ، وأمر بالخادم أن يبذرق إلى بلاد الروم. فقال الخادم : أمّا إذا وفى لي سيدي بالبذرقة فإنّ هذا الحجر يحتاج أن يطرح كل سنة عند طلوع الشعرى العبور (٢) في دم تيس حار. فبذرقوا بالخادم ، فلما وصل ، وطلعت الشعرى العبور ووقد الهجير طرحوه في الدم فبطل عمله.

فكان حلق هذا الحجر الشعر من العضو الذي عليه ، وجذبه إلى نفسه حتى ينفصل عنه ، ويلتصق به لمشاكلة طبيعيّة ، وذهاب ذلك بدم التيس لشدّة المنافرة والمغايرة ، ومثل هذا كثير.

ورأينا بهذا البندر معبدا عظيما لله نود فيه أصنام من ذهب وفضة مصوّرة على صورة الإنسان وصور الحيّات ، وقد صوّر حولها من الصخر المنحوت أصنام كثيرة ، فمنها صور بقر ، وصور رجال ونساء. وهذا المعبد بين عظيم منحوت كله من الصخر الأسود تقصده كفرة الهنود من الآفاق وتنذر له النذور ، ورأيناهم يسجدون للأصنام التي فيه ، والسرج فيه ليلا ونهارا لا تطفأ ، وله خدم وحجّاب وأتباع. وبجنبه نهر عظيم يخرّ من شاهق في بئر لا يعلم قرارها وهي ملآنة يمرّ الماء عليها بين جبلين عليهما من أنواع الأشجار والأزهار ما يجلّ عن الوصف ، ثم ينصب الماء إلى البحر. وحكى لنا أهل تلك البلاد أنّ بعض الوزراء أراد أن يعلم عمق هذه البئر التي يمرّ عليها هذا النهر ، فأنزل جماعة من الغاصة فلم يخرج منهم أحد ، ولا يعلم ما صاروا إليه ، وكثير من جهلة الهنود يعتقد في هياكلهم هذه القدم ، وأمّا علماؤهم فيزعمون أنّها تقرّبهم إلى الله زلفى.

قال المسعودي : كان كثير من أهل الهند والصين وغيرهم من الطوائف يعتقد أنّ الله عزوجل جسم ، وأنّ الملائكة أجسام ، وأن الله تعالى وملائكته

__________________

(١) (إذا قيس) كذا ورد في الأصول ، والصواب (إذا قسّ ، أو قسّس) للمجهول ، من قس الشيء تتبعه وطلبه ، والصاد لغة فيه. والقسّ (مثلثة) : تتبع الشيء وطلبه كالتقسّس.

(٢) الشعرى العبور : كوكب طلوعه في شدّة الحرّ.

١٤٤

احتجبوا بالسماء فدعاهم ذلك إلى أن اتخذوا تماثيل وأصناما على صورة الباري تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، وبعضها على صورة الملائكة مختلفة القدود والأشكال ، ومنها على صورة الإنسان ، فعبدوها وقرّبوا لها القرابين ، ونذروا لها النذور لشبهها عندهم بالباري تعالى عن ذلك ، فأقاموا على ذلك برهة من الزمان وجملة من الأعصار ، حتى نبههم بعض حكمائهم على أنّ الأفلاك والكواكب أقرب الأجسام المرئيّة إلى الله تعالى ، وأنّها حيّة ناطقة ، وأن الملائكة تختلف فيما بين الله وبينها ، وأن كلّ ما يحدث في هذا العالم فإنه على قدر ما تجري به الكواكب عن أمر الله ، فعظّموها وقرّبوا لها القرابين لتنفعهم ، فمكثوا على ذلك دهرا ، فلما رأوا الكواكب تخفى بالنهار وفي بعض أوقات الليل لما يعرض في الجو من السواتر أمرهم بعض من كان فيهم من حكمائهم أن يجعلوا لها أصناما وتماثيل بعدد الكواكب المشهورة. فكلّ صنف منهم يعظم كوكبا منها ، ويقرّب لها نوعا من القربان خلاف ما للآخر. على أنّهم إذا عظّموا ما صوّروا من الأصنام تحركت لهم الأجسام العلوية السبعة بكلّ ما يريدون. وبنوا لكلّ صنم بيتا وهيكلا مفردا ، وسمّوا تلك الهياكل بأسماء تلك الكواكب. وقد ذهب قوم إلى أنّ البيت الحرام يكون على مرور الدهر معظّما في سائر الأعصار لأنه بيت زحل ، وأنّ زحل شأنه البقاء والثبوت ، فما كان له فغير زائل ولا داثر ، وعن التعظيم غير حائل. وذكروا أمورا أعرضنا عن ذكرها لشناعة أمرها. ثم ذكر المسعودي انحرافهم عن هذا المذهب إلى غيره من المذاهب ممّا يطول ذكره.

وبالجملة فإن الهنود لهم مذاهب ومعتقدات مختلفة لا يدركها الحصر ، وقد رأينا منهم من يعبد النيّرين ، ومنهم من يعبد الأشجار ، ومنهم من يعبد الأنهار ، ومنهم من يعبد الأصنام. وقد ذكر الشهرستاني في الملل والنحل جملة من مذاهبهم قال :

ومن عبدة الأصنام (المهاكلكة ، لهم صنم يدعى مهاكال) (١) له أربعة أيد

__________________

(١) في ك (المهاكلكة لهم صنم يدعى مهلكلك) وفي أ(مهلكال) مكان (مهاكال).

١٤٥

كثير شعر الرأس سبطه ، وبإحدى يديه ثعبان عظيم فاغر فاه ، وبالأخرى عصا ، وبالثالثة رأس ، واليد الرابعة قد رفعها. وفي أذنيه حبّتان كالقرطين وعلى جسده ثعبانان عظيمان قد التفّا عليه ، وعلى رأسه اكليل من عظام القحف ، وعليه من ذلك قلادة. يزعمون أنه عفريت يستحق العبادة لعظم قدره ، واستحقاقه الخصال المحمودة المحبوبة ، والمذمومة ، من الإعطاء والمنع ، والإحسان والإساءة ، وإنه المفزع لهم في حاجاتهم. وله بيوت عظام بأرض الهند يعتفيها أهل ملته في كلّ يوم ثلاث مرات يسجدون له ويطوفون به. ولهم بموضع آخر صنم يقال له صنم المعبود ، عظيم على صورة هذا الصنم ، يأتونه من كلّ موضع ، ويسجدون له هناك ، ويطلبون حاجات الدنيا ، حتى أن الرجل يقول له فيما يسأل : زوّجني فلانة ، واعطني كذا ، ومنهم من يأتيه يقيم عنده الأيام والليالي لا يذوق شيئا يتضرع إليه ويسأله الحاجة ، حتى ربما يتفق هذا. انتهى.

والهنود أقسام مختلفون ، وأصناف متباينون ، لكلّ فرقة مذهب ومعتقد عدا ما للأخرى ، يعرف ذلك من دخل بلادهم وشاهد عباداتهم.

لقد طفت في تلك المعاهد كلّها

وسيّرت طرفي بين تلك المعالم (١)

فلم أر إلّا واضعا كفّ حائر

على ذقن أو قارعا سنّ نادم

وذكر جماعة من أرباب التواريخ : أن السلطان محمود بن ناصر الدولة (٢) لمّا فتح بلاد الهند في سنة عشر وأربعمائة كتب كتابا إلى بغداد يذكر ما فتح الله على يديه من بلاد الهند ، وأنه كسر الصنم المشهور بسومنات ، وذكر في كتابه أنّ هذا الصنم عند الهنود يحيي ويميت ويفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ويبرئ ، وربّما كان يتّفق ـ لشقوتهم ـ برء عليل يقصده فيوافقه طيب الهواء ، وكثرة الحركة فيزيدون به افتتانا ، ويقصدونه من أقاصي البلاد رجالا ، وركبانا. ومن لم يصادف منهم انتعاشا احتجّ بالذنب وقال : أنه لم يخلص له

__________________

(١) البيتان في وفيات الأعيان ١ / ٤٢٣ منسوبان للرئيس أبي علي بن سينا (الحسين بن عبد الله) المتوفى سنة ٤٢٨ ه‍ (معجم المؤلفين ٤ / ٢٠ ، و ١٣ / ٣٨٢).

(٢) هو السلطان الغزنوي محمود بن سبكتكين المتوفى سنة ٤٢١ ه‍ (الأعلام ٨ / ٤٧).

١٤٦

الطاعة فلم يستحق منه الإجابة. ويزعمون أنّ الأرواح إذا فارقت الأجسام اجتمعت لديه على مذهب أهل التناسخ وينشئها فيمن شاء. وأن مدّ البحر وجزره عبادة له على قدر طاعته. وكانوا بحكم هذا الاعتقاد يحجّونه من كلّ صقع بعيد ، ويأتونه من كلّ فجّ عميق ، ويتحفونه بكلّ مال نفيس. ولم يبق في بلاد الهند والسند ـ على تباعد أقطارها ، وتفاوت أديانها ـ ملك ولا سوقة إلّا وقد تقرّب إلى هذا الصنم بما عزّ عليه من أمواله وذخائره ، حتى بلغت أوقافه عشرة آلاف قرية في تلك البقاع ، وامتلأت خزائنه من أصناف الأموال. وفي خدمته من البراهمة ألف رجل يخدمونه وثلثمائة رجل يحلقون رؤوس حجاجه ولحاهم عند الورود عليه ، وثلثمائة رجل وخمسمائة امرأة يغنون ويرقصون عند بابه ، ويجرى من الأوقاف المصدرة له لكل طائفة من هؤلاء رزق معلوم.

وكان بين المسلمين وبين القلعة التي فيها الصنم مسيرة شهر في مفازة موصوفة بقلة الماء وصعوبة المسالك واستيلائهم على طرقها. وسار إليها السلطان محمود في ثلاثين ألف فارس سوى الرجّالة والمتطوعة مختارا لهم من عدد كثير ، وأنفق عليهم من الأموال ما لا يحصى ، فلمّا وصلوا إلى القلعة وجدوها حصنا منيفا ففتحوها في ثلاثة أيّام ، ودخلوا بيت الصنم وحوله أصنام الذهب ، والمرصّع بالجواهر عدّة كثيرة محيطة بعرشه ، يزعمون أنّها الملائكة. فأحرق المسلمون الصنم فوجدوا في أذنه نيفا وثلاثين حلقة ، فسألهم السلطان محمود عن معنى ذلك فقالوا : كل حلقة عبادة ألف سنة ، فكلما عبدوه ألف سنة علّقوا في أذنه حلقة. وقد ذكر المؤرخون من أخبار هذا الصنم شيئا اقتصر بعضهم على هذا المقدار وفيه الكفاية.

وأسلم في هذه الوقعة نحو عشرين ألفا ، وقتل من الكفار نحو خمسين ألفا. وكان السلطان محمود قد استصفى نواحي الهند إلى حيث لم تبلغه في الإسلام راية ، ولم تتل به قطّ آية ، ووقائعه وحروبه مذكورة في تاريخ أبي نصر العتبي (١) الذي ألّفه للسلطان المذكور. وسنذكر من أخبار الهند جملا فيما

__________________

(١) هو أبو نصر محمد بن عبد الجبار العتبي المتوفى سنة ٤٢٧ ه‍ وقيل غير ذلك (معجم

١٤٧

سيأتي إذا أفضت النوبة إليه إن شاء الله تعالى.

فائدة : أول من غيّر جين اسماعيل من العرب : عمرو بن لحي (١) من خزاعة ، فبعثهم على عبادة التماثيل ، وذلك أنّه سار إلى البلقاء من أعمال دمشق من أرض الشام فرأى العمالقة تعبد الأصنام ، فسألهم عنها فقالوا : هذه أرباب نتخذها. نستمطرها فتمطرنا ، ونستنصرها فتنصرنا. فطلب منها صنما فدفعوا إليه هبل ، فسار به إلى مكة فنصبه على الكعبة (٢) ودعا الناس إلى تعظيمه وعبادته ففعلوا ذلك ، ثمّ استكثروا من الأصنام ، واستبدّت كلّ قبيلة ، وقبيلتين بصنم ، فكانت لقريش وبني كنانة العزّى ، وحجّابها بنو شيبة (٣). ولثقيف اللّات وحجابها بنو مغيث (٤) ، وكانت مناة للأوس والخزرج.

قال الواقدي : كان ودّ على صورة رجل ، وسواع على صورة امرأة ، ويغوث على صورة فرس ، ونسر على صورة حصان ، ويعوق على صورة فيل. انتهى.

وكان جملة ما حول البيت من الأصنام ثلثمائة وستين صنما فكسرت كلّها يوم الفتح ، والحمد لله ربّ العالمين.

وعلى ذكر الصنم فما ألطف قول أبي الحسن السري الرفاء في العذار (٥).

__________________

المؤلفين ١٠ / ١٢٦).

(١) هو عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف ، وفي الحديث عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (عرضت عليّ النار فرأيت فيها عمرو بن لحي يجرّ قصبه (أمعاءه) في النار ، وهو أوّل من غير دين ابراهيم عليه‌السلام ...). جمهرة أنساب العرب / ٢٣٤ ، وأخبار مكة اللازرقي ١ / ١١٦).

(٢) في كتاب الأصنام / ٢٨ (إن أوّل من نصب هبل : خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر ويقال له هبل خزيمة).

(٣) (بنو شيبة) كذا ورد في الأصول ، والصواب (بنو شيبان) يراجع الأصنام للكلبي / ٢٢ ومعجم البلدان ٣ / ٦٦٥ وأخبار مكة ١ / ١٢٦.

(٤) في كتاب الأصنام / ١٦ (وكان سدنة اللات من ثقيف بنو عتاب بن مالك).

(٥) لا وجود لهذه الأبيات في ديوان السري.

١٤٨

صنم شغفت بحبّه

فعذرت من عبد الصّنم

أحببته فحملت عن

أجفانه بعض السّقم

شعر ألمّ بعارضيه

فزاد عاشقه لمم

والسّيف يحسن في الحلى

والبدر يشؤق في الظّلم

والطّرس أحسن ما يكون

إذا جرى فيه القلم

ومن محاسن شعر السري المذكور قوله من أبيات يدعو بها صديقا له ومن ديوانه نقلت :

وقد أضاءت نجوم مجلسنا

حتّى اكتست غرّة وأوضاحا (١)

لو جمدت راحنا اغتدت ذهبا

أو ذاب تفّاحنا اغتدى راحا (٢)

فائدة : أرخ ابن خلكان وفاة السري المذكور سنة أربع وأربعين وثلثمائة (ونقل عن الخطيب البغدادي في تاريخه أنه قال : في سنة نيف وستين وثلثمائة) (٣). انتهى.

قلت : وعندي أنّ هذين القولين كليهما غير صحيح ، لأني رأيت له في ديوانه مرثية في أبي اسحاق ابراهيم الصابي المشهور يقول فيها (٤) :

ورأيت ابراهيم مثل سميّه

صبرا غداة غدا إلى الإحراق

والصابي توفي سنة أربع وثمانين وثلثمائة من غير خلاف فليحرر.

ومما اخترته من شعر السري قوله من قصيدة يمدح بها سيف الدولة :

كليني إلى المهريّة القود إنّني

سآخذ من أيدي الخطوب قيادي (٥)

فما تعبي إلّا لتجديد راحة

ولا سهري إلّا لطول رقاد

__________________

(١) في الديوان (حتى اكتسى).

(٢) في الديوان (غدت ذهبا).

(٣) في ك (وذكر عن غيره سنة ست وستين).

(٤) لا وجود للقصيدة في ديوان السري الذي بين أيدينا.

(٥) في الديوان (أنها) مكان (أنني).

١٤٩

ومن شعره الذي تناقلته الركبان قوله :

يلقى النّدى برقيق وجه مسفر

فإذا التقى الجمعان عاد صفيقا

رحب المنازل ما أقام فإن سرى

في جحفل ترك الفضاء مضيقا

رجع : وما زلنا راتعين بين تلك الرياض الوريفة ، مرتبعين من ذلك خصبه وريفه ، والربيع قد خلع على الأرض أثوابه ، وفتح من الأنس للزائر أبوابه ، فتجلّى الروض بوجه وسيم ، وصحّ الهوى واعتلّ النسيم ، والرياض مفتّرة المباسم ، والرياح معطّرة النواسم ، والغصون قدود ، والورد خدود ، والزهر مبلول ، والنهر حسام مسلول.

نهر يهيم بحسنه من لم يهم

ويجيد فيه الشّعر من لم يشعر

فكأنّه وكأنّ خضرة شطّه

سيف يسلّ على بساط أخضر

وكم من روضة تختال في خلع الغمام ، وترتاح أغصانها إلى سجع الحمام ، قد التحفت حللا محضّرة ، وجعلت نوّارها للبدر غرّة وللشمس طرّة.

وحديقة مطلولة باكرتها

والشمس ترشف ريق أزهار الرّبى (١)

يتكسّر الماء الزّلال على الحصى

فإذا غدا بين الرّياض تشعّبا

فاستقبلنا العيش في هذا القطر جديدا ، وحلّينا منه للزمان جيدا ، نتبع اليوم بالأمس ، ونلحق البدر بالشمس ، ونحن في أمان من أخوان الزمان.

لا تبعدنّ وإن طال الغرام بها

أيام لهو عهدناها وليلات

ما أمكنت دولة الأفراح مقبلة

فانعم ولذّ فإنّ العيش تارات

قبل ارتجاع اللّيالي كلّ عارية

فإنّما لذّ الدّنيا إعارات

خذ ما تيسّر واترك ما وعدت به

فعل الأديب وفي التّأخير آفات

هذا ولولا ما يعتنّ بالبال لتذكّر الوطن من البلبال لأنشدت في هذه القرية قول القائل من غير فرية :

__________________

(١) نسب المؤلف هذين البيتين في كتابه أنوار الربيع ٢ / ٥٤ إلى بدر الدين يوسف الذهبي المتوفي سنة ٦٨٠ ه‍ (الأعلام ٩ / ٣٢٥).

١٥٠

وجدت بها ما يملأ العين قرّة

ويسلي عن الأوطان كلّ غريب

ولكن إذا عنّ التذكار أذكى لواعج الهموم والأفكار (فنباري تلك الحمائم شجونا ونجاري تلك الغمائم شؤونا) (١) :

وحنيني إذا تصدّى لنفسي

صدّ لهوي عن ارتياد ارتياحي

علّم الورق حزنها فهي في الأوراق

تتلوه في نواح النّواح

لا يردّ الجوى اغتباط اغتباق

من حنيني ولا اصطبار اصطباح

فتنهّل غمائم الغموم ، وتهمى سحائب الهوم ، وينكدر من العيش ما صفا ، وأنشد (٢) (كأن لم يكن بين الحجون إلى الصّفا) (٣).

وما سمعت الحمام في فنن

إلّا وخلت الحمام فاجاني

ما اعتضت مذ غبت عنهم بدلا

حاشا وكلّا ما الغدر من شاني

كيف سلوّي أرضا نعمت بها

أم كيف أنسى أهلي وجيراني

وكانت إقامتنا بهذا البندر ثلاثة أشهر إلّا عشرة أيام ، وذلك مدّة ذهاب البشير إلى الوالد وعوده. فخرجنا منه يوم الأحد لاثنتي عشرة ليلة بقيت من صفر سنة ثمان وستين وألف. ولا حاجة بنا إلى إثبات أسامي المنازل التي أتينا عليها في طريقنا هذا لاستعجامها واستبهامها. وما يتعلّق به الغرض نذكره إن شاء الله تعالى.

فسرنا ثلاثة أيام في أرض تباهي زهر السماء بأزهارها ، ومجرّتها بأنهارها ونورها بنورها ، وسحابها برحابها. لا يمتدّ الناظر إلّا إلى يانع ناضر ، ولا تقع العين إلّا على نهر وعين.

__________________

(١) وردت الجملة التي بين القوسين في (ك) منظومة هكذا :

فنجاري تلك الغمام شؤونا

ونباري تلك الحمام شجونا

(٢) في ك (وأنشده وأندبه في النشيد).

(٣) صدر بيت من قصيدة لمضاض بن عمرو بن الحارث ، وتمامة (أنيس ولم يسمر بمكة سامر). القصيدة وترجمة الشاعر في الأغاني ١٥ / ١٢ ـ ٢٣).

١٥١

ذهب حيثما ذهبنا ودرّ

حيث درنا وفضّة في الفضاء (١)

حيث انتهينا إلى عقبة يسفّ عن مرتقاها العقاب ، ويخفّ عند ارتقاء ذراها أشدّ العقاب. لا مطمع لراق فيها إلّا على قدمه ، ولو أفضى إلى إراقة دمه. فأنخنا تحتها ليلة ، وكلّ قد شمرّ لصعودها ذيله ، فما إنجاب الليل إلّا وارتقيناها كانحدار السيل ، فاقتعدنا مع الشمس ذروتها ، وامتطينا صهوتها ، ورأينا فيها من سيول الماء ، وعيون موادها غيوث السماء ، ما لا انصبابها دويّ كالرعد القاصف ، أو الرياح العواصف ، وشاهدنا منها ما يخالف العادات ، وتفتقر رواته إلى الشهادات. فإن نفس قلّتها أرض متساوية الطول والعرض تمتد إلى جميع تلك الأقطار ، ولا يحتاج معها إلى هبوط وانحدار. فسبحان المتفرّد بالاقتدار. وكانت هذه البقعة منقطع أعمال (كوكن) ومبتدأ أعمال (الدكن). فألفينا الربيع قد قشع عن هذا القطر سحابه ، والشتاء عمّ شعابه ورحابه. فسرنا وقد أرجف بان المسالك شاغرة ، وأمراء هذا الملك متشاجرة ، وذلك لموت ملكهم وقيام ابنه مقامه ، فاستحوذ كلّ على ما تحت يده ، واستبدّ بعدّته وعدده ، فاستقبلوا ادبارا (وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً)(٢). ولم نزل نبثّ العيون في تلك الأقطار لتجنب مقاحم الأخطار ، وإن كان معنا من العسكر عدد ، إلّا أنّه لا يفي للقيام إلى أمير يدعي الملك بمدد.

ورأينا في بعض المنازل فيلا لبعض العمال ولم نكن نراه قبل ذلك ، فعجبنا من عجيب خلقته ، وغريب صورته ، وعظيم جثته ، فسبحان مبدع العالم باقتداره ، ومدبر الأشياء على مشيئته واختياره. والعرب تكني الفيل أبا الحجاج ، وأبا مزاحم ، وأبا الحرمان ، والفيلة : أمّ شبل. قال بعضهم ملغزا فيه :

ما اسم شيء تركيبه من ثلاث

هو ذو أربع تعالى الإله (٣)

__________________

(١) ورد البيت في رسالة لعبد الصمد بن علي الطبري من شعراء دمية القصر للباخرزي.

تراجع الدمية (طبعة حلب) ص / ٢١٣ ـ ٢١٥).

(٢) سورة نوح / ٧.

(٣) في ك (أيّ شيء).

١٥٢

قيل تصحيفه ولكن إذا ما

عكسوه يصير لي ثلثاه (١)

قال المسعودي : وتزعم الهنود أنّ كلّ ذي لسان فأصل لسانه إلى داخل وطرفه إلى خارج ، إلّا الفيل فإن طرف لسانه إلى داخل وأصله إلى خارج. قالوا : ولولا أن لسانه مقلوب ثم لقّن الكلام لتكلّم. والهند تشرفه وتفضّله على سائر الحيوانات لما اجتمع فيه من الخصال المحمودة ، من علوّ سمكه ، وعظم جثّته ، وبديع منظره ، وطول خرطومه ، وسعة أذنه ، وطول عمره ، وثقل جسمه ، وخفّة وطئه ، وقلّة اكتراثه لما يوضع على ظهره. وإنّه مع كبر هذا الجسم وعظم هذه الصورة يمرّ بالإنسان فلا يحسّ بوطئه ، ولا يشعر به حتى يغشاه لحسن خطوه واستقامة مشيه. وهو إذا اغتلم كثر شرّه وصعبت رياضته ، وربّما قتل كلّ من يلقاه في حال اغتلامه. وفيه من الفهم ما يقبل التأديب ، ويفعل ما يأمره به سائسه من السجود للملوك وغير ذلك من الخير والشر في حالتي السلم والحرب. وهو ذو حقد شديد ، ربّما تعرّض لمن سبّه في وجهه.

قلت : ولقد أخبرني شخص أن فيلا صغيرا وقف على دكان خيّاط وعبث به فغرز الخياط الابرة في خرطومه ، فتركه ومضى ثم عاد إليه وقد ملأ خرطومه وحلا فنفخ به في دكان الخياط ، فأتلف عليه ما أصاب من الثياب ، وهذا من غريب ما يحكى عن فهمه وفطنته وشدّة حقده (٢). وحكى أرسطو : أن فيلا ظهر أنّ عمره أربعمائة سنة ، واعتبر ذلك بالوسم. وإذا دخلت البعوضة أذن الفيل قتلته ، فهو لم يزل يذبّ عن أذنه ليلا ونهارا. وما أحسن قول أبي الفتح البستي (*) :

__________________

(١) (قيل) تصحيف (فيل) ، وثلثا كلمة فيل المعكوسة (لي).

(٢) رأيت فيلا ضخما ـ في حديقة للحيوانات بطهران ـ يروح ويجيء ضمن دائرة ليست بالكبيرة وبالقرب منه حفرة فيها ماء قذر. وكان إلى جنبي رجل إيراني كهل حسن الهيئة فوكز الفيل في مؤخره بعصا مدببة كانت بيده فلم يلتفت الفيل ، ولكنه غمس خرطومه بذلك الماء. ولما عاد متجها إلينا رفع خرطومه وأفرغ ما فيه على صاحب العصا فغمره بالوحل من قمّة رأسه إلى قدميه.

١٥٣

لا يستخفّنّ الفتى بعداوة

أبدا وإن كان العدوّ ضئيلا (١)

إنّ القذى يؤذي العيون قليله

ولربّما قتل البعوض الفيلا (٢)

ومن العجيب أن الفيل مع هذه الأوصاف التي نقلناها قليل الجري جدّا يسبقه الإنسان إذا سابقه ، ولا أشك في كون الحكاية التي ذكرها أبو نعيم في الحلية ـ في ترجمة أبي عبد الله القلانسي ـ موضوعة ، حيث قال فيها : إن الفيلة سارت به في ليلة مسيرة ثمانية أيام. ولا يصح ذلك البتة (٣). وقد ذكر من لم ير الفيل في حليته أوصافا أكثرها غير صحيح.

منها : أن خرطومه مصمت ، وليس كذلك ، فإنّه مجوّف إلا أنّه لا ينفذ وإنما هو وعاء إذا ملأه من طعام أو شراب أولجه في فمه ، لأنّه قصير العنق لا ينال ماء ولا مرعى.

ومنها أن صياحه ليس على مقدار جثته ، لأنّه كصياح الصبي ، والحال أنّ صوته هائل قريب من رغاء البعير ، إلا أنّه أمدّ منه صوتا.

ومنها قولهم : أنّه لا يبرك ، وقد شاهدنا بروكه.

ومنها قول القزويني (٤) أن فرج الفيلة تحت ابطها ، فإذا كان وقت الضراب ارتفع وبرز للفحل حتى يتمكن من إتيانها ، وهذا غلط البتة ، فإنّها كسائر أناثي الحيوانات أولات الأربع.

ومنها قولهم : إن صياحه من خرطومه ، وليس كذلك ، وإنّما يصيح من حلقه. وقد ذكر من اعتنى بأخبار الحيوان من أخباره شيئا كثرا ، والاختصار بنا أولى.

ووصف بعض العرب الفيل فقال : لا ظهر فيركب ، ولا ضرع فيحلب.

__________________

(١) في يتيمة الدهر ٤ / ٣٣٣ (بعدوّه) مكان (بعداوة).

(٢) في يتيمة الدهر (جرح البعوض).

(٣) يراجع حلية الأولياء ١٠ / ١٦٠.

(٤) لم أجد هذا القول في عجائب المخلوقات ، ووقفت عليه في حياة الحيوان للدميري ٢ / ٢٢٨ ينقله عن القزويني.

١٥٤

وأحسن ما سمعت به في تشبيهه قول العلامة شهاب الدين أحمد بن فضل الله في رسالته (يقظة الساهي) (١) وهو معنى غريب مستطرف :

هذا هو الفيل الذي

يبدو العجيب لنا به

ليل قد افترس النّهار

فبان في أنيابه (٢)

طريفة : ذكر الطرطوشي (٣) وغيره : أن الفيل قدم دمشق في زمن معاوية بن أبي سفيان ، فخرج الناس لينظروه ولأنّهم لم يكونوا رأوا الفيل قبل ذلك ، وصعد معاوية سطح القصر للفرجة فحانت منه التفاتة فرأى مع بعض حظاياه في بعض حجر القصر رجلا ، فنزل مسرعا إلى الحجرة وطرق بابها ، فقيل من؟ قال : أمير المؤمنين ، ففتح الباب ـ إذ لا بد من فتحه طوعا أو كرها ـ فدخل معاوية فوقف على رأس الرجل وهو منكس رأسه وقد خاف خوفا عظيما ، فقال له معاوية : ما الذي حملك على ما صنعت من دخول قصري ، وجلوسك مع بعض حرمي ، أما خفت نقمتي ، أما خشيت سطوتي؟ أخبرني يا ويلك ما الذي حملك على ذلك؟ فقال : يا أمير المؤمنين حملني على ذلك حلمك. فقال له معاوية : أرأيت إن عفوت عنك تسترها عليّ فلا تخبر بها أحدا؟ قال : نعم ، فعفا عنه ووهب له الجارية وما في حجرتها ، وكان شيئا له قيمة عظيمة. انتهى (٤).

وعلى ذلك يحكى أنّ معاوية قال لعمرو بن العاص : إنّي لأحبّ أن تكون فيّ خصال ، قال : وما هنّ يا أمير المؤمنين؟ قال : أحبّ أن لا يكون جهل أعظم من حلمي ، ولا ذنب أكبر من عفوي ، ولا عورة إلّا وأنا أسعها بستري ،

__________________

(١) هو القاضي شهاب الدين أحمد بن يحيى بن فضل الله العمري. توفي سنة ٧٤٩ ه‍ والاسم الكامل لرسالته المذكورة (دمعة الباكي ويقظة الساهي). يراجع معجم المؤلفين ٢ / ٢٠٤.

(٢) جاء عجز البيت في (ك) هكذا (النها ـ ر وقد بقى في نابه).

(٣) هو أبو بكر محمد بن الوليد الطرطوشي المتوفى سنة ٥٢٠ ه‍ (معجم المؤلفين ١٢ / ٩٦).

(٤) الخبر في سراج الملوك للطرطوشي / ١٤٢ مع اختلاف طفيف في اللفظ.

١٥٥

ولا فاقة إلّا سددتها بجودي ، ولا قلب إلّا ملكته بعزي ، ولا نفس إلّا علوتها بقهري ، ولا يكون زمان أطول من أناتي.

فتبسّم عمرو ، فقال معاوية : لم تبسّمت؟ فإني أعلم أنّك إن قلت خيرا أضمرت شرّا ، قال : نعم تمنيت الربوبية. قال معاوية : فاسترها عليّ. انتهى. من (خلق الإنسان) للعلامة النيسابوري (١).

وقلت أنا في وصف الفيل وهو قريب من قول ابن فضل الله المتقدم ، إلّا أنّ بين التشبيهين مغايرة :

يا حبّذا الفيل الذي شاهدته

وشهدت منه ما نمى لي ذكره

فكأنّه وكأنّ أبيض نابه

ليل تبلّج للنّواظر فجره

وذكر بعضهم أن ابن بابك وهو عبد الصمد بن منصور بن الحسن (٢) الشاعر المشهور لما وفد على الصاحب بن عباد وأنشده مدائحه فيه طعن بعض الحاضرين عليه ، وذكر أنه منتحل ، وأنه ينشد قصائد قد قالها ابن نباتة السعدي (٣) فأراد الصاحب بن عباد أن يمتحنه فاقترح عليه أن يقول قصيدة يصف فيها الفيل على وزن قول عمرو بن معد يكرب (٤) :

أعددت للحدثان سابغة

وعدّاء علندا

فقال :

__________________

(١) هو القاضي بيان الحق محمود بن أبي الحسن علي بن الحسين الغزنوي النيسابوري ، كان حيا سنة ٥٥٣ ه‍ (بغية الوعاة ٢ / ٢٧٧ ، ومعجم الأدباء ١٩ / ١٢٤ ، وهدية العارفين ٢ / ٤٠٣).

(٢) ترجمة ابن بابك ومصادرها في أنوار الربيع ٣ / ٣٢٩ ، وسيذكر المؤلف تاريخ وفاته بعد قليل ، وهو سنة ٤١٠ ه‍.

(٣) هو أبو نصر عبد العزيز بن عمر (ابن نباتة السعدي) توفي سنة ٤٠٥ ه‍ (أنوار الربيع ٢ / ٣٤٢).

(٤) هو أبو ثور عمرو بن معد يكرب الزبيدي استشهد في حرب القادسية سنة ٢١ ه‍ (أنوار الربيع ٢ / ٨١).

١٥٦

قسما لقد نشر الحيا

بمناكب العلمين بردا (١)

وتنفسّت يمنيّة

كي تضحك الزّهر المندّى (٢)

إلى أن قال :

ومساجل لي قد شققت

لدائه في فيّ لحدا

لا ترم بي فأنا الذي

صيّرت حرّ الشّعر عبدا

بشوارد شمس القياد

يزدن عند القرب بعدا

وممسّك البردين في

شبه النّقاشية وقدا

فكأنّما نسجت عليه

يد الغمام الجون جلدا

وإذا لوتك صفاته

أعطاك مسّ الرّوع نقدا

فكأنّ معصم غادة

في ماضغيه إذا تصدّى

ذكرت بقوله (تصدّى) بيتين لطيفين للأديب المهتار (٣) من شعراء هذا القرن ، وهما في مليح فقير الحال ، وقد أجاد في الاقتباس :

تصدّ وكم تصدّى منك كفّ

لمن لم يدر قدرك يا مفدّى

فصدّك عن أولي (أدب) وأمّا

من استغنى فأنت له تصدّى (٤)

عاد شعر ابن بابك في وصف الفيل :

وكأنّ عودا عاطلا

في صفحتيه إذا تبدّى

يحدو قوائم أربعا

يتركن بالتّلعات وهدا

وإذا تخلّل هضبة

فكأنّ ظلّ اللّيل مدّا

ثم أتبع ذلك بالمديح فاستحسنها الصاحب ، ولام الطاعن عليه على كذبه

__________________

(١) القصيدة في يتيمة الدهر ٣ / ٢٣٣ ، وفي رواية بعض أبياتها اختلاف.

(٢) في الأصول (المفدى) مكان (المندى) والتصويب من يتيمة الدهر.

(٣) هو ابراهيم بن يوسف الرومي المكي المعروف بالمهتار قتل بصنعاء سنة ١٠٧١ ه‍ (أنوار الربيع ٢ / ٢٤٥).

(٤) (أدب) كذا ورد في الأصول والصواب (أرب).

١٥٧

وادعائه أنّه انتحل شعر غيره. فقال : يا مولانا الصاحب هذا والله معه ستون فيليّة كلّها على هذا الوزن لابن نباته ، فضحك منه.

(وكان قد برز أمر الصاحب لابن بابك وغيره من الشعراء الذين يحضرونه أن يصفوا الفيل على هذا الوزن. فمن قصيدة لأبي الحسن الجوهري (١) وقد أطنب في وصفه) (٢) :

فيلا كرضوى حين يلبس

من رقاق الغيم بردا (٣)

مثل الغمامة ملّئت

أكنافها برقا ورعدا

رأس كفلّة شاهق

كسيت من الخيلاء جلدا

فتراه من فرط الدّلال

مصعّرا للنّاس خدّا

يزهى بخرطوم كمثل

الصّولجان يردّ ردّا

متمدّد كالأفعوان

تمدّه الرّمضاء مدّا

أو كمّ راقصة تشير

به إلى النّدمان وجدا

أو كالمصلّل شدّ جنباه

إلى جذعين شدّا

وكأنّه بوق يحرّ (م)

كه لينفخ فيه جدّا

يسطو بساريتي لجين

يحطمان الصّخر هدّا

أذناه مروحتان أسندتا

إلى الفودين عقدا

عيناه غائرتان ضيّ (م)

قتا لجمع الضّوء عمدا

فكّ كفوّهة الخليج

يلوك طول الدهر حقدا

تلقاه من بعد فتحسبه

غماما إذ تبدّى

__________________

(١) أورد له الثعالبي القصيدة الفيلية الآتية ، ولم يترجم له.

(٢) وردت هذه الجملة المحصورة بين القوسين في ك مختصرة هكذا (ثم إن الصاحب أمر الشعراء أن يصفوا الفيل على هذا الوزن فقال أبو الحسن الجوهري قصيدة منها).

(٣) يوجد في يتيمة الدهر اختلاف في رواية بعض أبيات القصيدة.

١٥٨

متنا كبنيان الخورنق

ما يلاقي الدّهر كدّا

ذنبا كمثل السّوط يضرب

حوله ساقا وزندا

يخطو على أمثال أعمدة

الخباء إذا تصدّى

أو مثل أميال نضدن

من الصّخور الصمّ نضدا

متورّدا حوض المنيّ (م)

ة حيث لا يشتاق وردا

متملّكا فكأنّه

متطاول ما لا يؤدّى

متلفّعا بالكبرياء

كأنّه ملك مفدّى

أذكى من الإنسان حتّى

لو رأى خللا لسدّا

لو أنّه ذو لهجة

وفّى كتاب الله سردا (١)

ومن قصيدة لأبي محمد الخازن (٢) :

وكأنّما خرطومه

راووق خمر مدّ مدّا

أو مثل كمّ مسبل

أرخته للتّوديع سعدى

وإذا التوى فكأنّه الثعبان

من جبل تردّى

فكأنّما انقلبت عصا

موسى غداة بها تحدّى

ومن شعر ابن بابك (*) بيت من قصيدة في غاية الرقة وهو :

ومرّ بي النّسيم فرقّ حتّى

كأنّي قد شكوت إليه ما بي

ومن لطيف شعره أيضا قوله (٣) :

وأغيد معسول الشّمائل زارني

على فرق والنّجم حيران طالع

__________________

(١) سرد الحديث ، والقراءة : أجاد سياقهما وأتى بهما على ولاء.

(٢) هو أبو محمد عبد الله بن محمد الخازن له ترجمة في يتيمة الدهر ٣ / ٣٢٥ ، ومعاهد التنصيص ٢ / ٢٠٦.

(٣) في يتيمة الدهر ٣ / ٣٧٩ بيتان من هذه القصيدة هما الخامس والسابع مع بيت ثالث لم يرد هنا ، هو :

تحيّر دمع المزن في كأسها كما

تحيّر في ورد الخدود المدامع

١٥٩

فلمّا جلا صبغ الدّجى قلت حاجب

من الصّبح أم قرن من الشّمس لامع

إلى أن رنا والصّبح رائد طرفه

كما راع ظبيا بالصّريمة رائع

فنازعته الصّهباء والليل دامس

رقيق حواشي البرد والنّسر واقع

عقار عليها من دم الصّبّ نفضة

ومن عبرات المسهام (فواقع) (١)

يدير إذا سحّت عيونا كأنّها

عيون العذارى شقّ عنها البراقع

معوّدة غصب العقول كأنّما

لها عند ألباب الرّجال ودائع

فبتنا وظلّ الوصل دان وسرّنا

مصون ومكتوم الصّبابة ذائع

إلى أن سلا عن ورده فارط القطا

ولاذت بأطراف الغصون السّواجع

فولّى أسير السّكر يكبو لسانه

فتنطق عنه بالوداع الأصابع

قال صاحب اليتيمة : قرأت للصاحب فصلا في ذكره فاستملحته وهو ، (وأما ابن بابك وكثرة غشيانه بابك ، فإنّما تغشى منازل الكرام ، والمنهل العذب كثير الزحام).

وكانت وفاته في سنة عشر وأربعمائة ببغداد. وشعره طبقة عالية ، ولعمري انّ الطاعن عليه قد أغرب (في قوله ، وأدّى به الحسد له إلى ما لا يتوهمه أحد ، ولكنّ سورة الحسد تقحم إلى أفظع من هذا) (٢).

وهذا الصاحب بن عباد المذكور مع غزارة فضله ، وسجاحة خلقه (٣) قيل : أنّه كان أشدّ الناس حسدا لأهل الفضل والأدب ، وعلى هذا خيطت شواكل الفضل وأقراب العلم. فكان يعمل في أوقات العيد ومواسم النيروز شعرا ويدفعه إلى رجل ويقول له : قد نحلتك هذه القصيدة فامدحني بها في جملة الشعراء ، وكن الثالث من المنشدين. فيفعل الرجل ذلك ، فيقول له عند سماعه شعره في نفسه : أعد يا فلان فإنك مجيد محسن ، أحسنت يا أبا فلان قد

__________________

(١) (فواقع) كذا ورد في الأصول ويتيمة الدهر ، والصواب (فقاقع).

(٢) وردت الجملة في ك هكذا (فيما قاله وعثر فيما لم تسعه إقالة).

(٣) في ك زيادة بعد كلمة (خلقه) هذا نصّها (ودينه وعقله وعلمه ونبله قال فيه بعض أعدائه).

١٦٠