رحلة ابن معصوم المدني أو سلوة الغريب وأسوة الأريب

السيد علي صدر الدين المدني

رحلة ابن معصوم المدني أو سلوة الغريب وأسوة الأريب

المؤلف:

السيد علي صدر الدين المدني


المحقق: شاكر هادي شكر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٠

منازل قد حزت فيها أربي

ونلت سؤلي وقضيت وعدي

ما عنّ لي ذكر زمان قد مضى

في ظلّها إلّا أهاج وقدي (١)

أصبو من الهند إلى نجد هوى

وأين نجد من ديار الهند

وألتقي كلّ رياح خطرت

أحسبها ليلا نسيم نجد

آه من البين المشتّ والنّوى

كم قرّحا من كبد وخدّ

فهل ترى ينتظم الشّمل الذي

قد نثرته البين نثر العقد

وهل لأيّام الصّبا من مرجع

أم هل لأيّام النّوى من بعد (٢)

أنوح ما ناح الحمام غدوة

هيهات ما قصد الحمام قصدي

أبكي وتبكي لوعة وطربا

وما بكاء الهزل مثل الجدّ

ظنّت حمامات اللّوى عشيّة

في الحبّ أنّ عندها ما عندي

تبكي على غصن النّقا لهوا ومن

شبّه غصنا في الهوى بقدّ (٣)

شتّان ما بين جو وفرح

وبين مخف سرّه ومبدي

ما مشربي صاف وإن ساغ ولا

عيشي من بعد النّوى برغد

سل أدمعي عمّا تجنّ أضلعي

فالقلب يخفي والدموع تبدي

كم أنشد الروض إذا هبّت صبا

(تنبّهي يا عذبات الرّند)

وأما الدبور فتقابل الصّبا ، لأنّ هبوبها من مغرب الشمس ، وخواصها مخالفة لخواص الصّبا ، لأنّها تهبّ والشمس مدبرة عنها فلا تسخنها تسخين الصّبا. وهبوبها في آخر النهار ولا تهبّ قبله ، ولا [تهبّ](٤) بالليل لأن الشمس

__________________

وقف بهاتيك الرسوم ساعة

لعلّه يطفي لهيب وجدي

(١) في الديوان (بظلها إلّا وهاج).

(٢) في الديوان (رجعة) مكان (مرجع).

(٣) رواية الديوان للبيت كالآتي :

تلهو على غصونها ومهجتي

تصبو إلى تلك القدود والملد

(٤) في الأصول (ولا تهب قبل ولا بالليل) والتصويب من عجائب المخلوقات / ٦٣.

١٠١

تبلغ محلّ مهبّها في ذلك الوقت ، فتتحلّل البخارات منه ، ولذلك يكون هبوبها قليلا جدّا وأمّا الشمال فهي من ناحية الشام ، وهبوبها من نحت بنات نعش ، وهي باردة يابسة لأنّها تأتي من الجهة التي لا تسامتها الشمس أصلا بل لا تقربها ، ويكون الثلج وجمود الماء بها كثيرا ، وهي أشد هبوبا من الجنوب لأنّها تهب من موضع ضيّق كالماء الذي يخرج من الأنبوب الضيّق بخلاف الجنوب ـ كذا في عجائب المخلوقات للقزويني.

والذي رأيناه في اليمن : ان الجنوب أشدّ هبوبا من كلّ الرياح ، فلعلّ ذلك في غير اليمن ، وتكون العلة ظاهرة حينئذ ، لأن الجنوب يمانيّة ـ كما سنذكره ـ وقد ذكرت الشعراء الشمال في أقوالها ، فمن ذلك قول سيّدنا الشريف الرضي رضي‌الله‌عنه (*) من قصيدة

وهبّت لأصحابي شمال لطيفة

قريبة عهد بالحبيب بليل

ترانا إذا أنفاسنا مزجت بها

نرنّح في أكوارنا ونميل

ولم أر نشوى للشّمال عشيّة

كأنّ الذي غال الرّؤوس شمول

قال النواجي (١) : وتجمع الشمال على شمائل ، ولذا حسن به التورية ، ومنه قول الشيخ شمس الدين محمد الأرموي (٢) :

كم للنّسيم على الرّبى من نعمة

وفضيلة بين الورى لن تجحدا

ما زارها وشكت إليه فاقة

إلّا وهزّ لها الشمائل بالنّدى

وكان الصاحب بن عباد رحمه‌الله يترنّم بقول أبي نواس (*) :

هبّت لنا ريح شماليّة

متّت إلى القلب بأسباب (٣)

__________________

(١) هو شمس الدين محمد بن حسن النواجي المتوفى سنة ٨٩٥ ه‍ (معجم المؤلفين ٩ / ٢٠٣).

(٢) لعله شمس الدين محمد بن الحسين بن محمد بن الحسين بن ظفر العلوي الحسيني الأرموي المصري المعروف بقاضي العسكر المتوفى سنة ٦٥٠ ه‍ (الوافي بالوفات ٣ /. ١٧ في خزانة ابن حجة / ٣٥٠ ، وأنوار الربيع ٥ / ٨٦ ه‍ (شمس الدين الأدفوي).

(٣) البيتان في حلبة الكميت للنواجي / ٣١٧ وخزانة ابن حجة / ٢٢٤ منسوبان لأبي نواس ولا وجود لهما في ديوانه.

١٠٢

أدّت رسالات الهوى بيننا

عرفتها من بين أصحابي

قال في الحلبة : والله إنّ الصاحب لمعذور ، فإنّ هذا مما يرنّح الجماد.

وقال ابن حجة في تقديمه (١) بعد أن مثّل بهما لنوع النوادر : وقد جارى أبا نواس في بديع هذا النوع ونادرة هذا المعنى محيي الدين الخياط (٢) ، ولولا الحياط (٣) لقلت إنّه أحرز قصبات السبق عليه حيث قال :

يا نسيم الصّبا الولوع بوجدي

حبّذا أنت إن مررت بهند (٤)

ولقد رابني شذاك فبالله

متى عهده بأطلال نجد

قال : بين (ولقد رابني شذاك) ، وبين (عرفتها من بين أصحابي) معرك ذوقيّ لا يدركه إلّا من صفت مرآة ذوقه في علم الأدب. انتهى.

وأما الجنوب فتقابل الشمال وهي من ناحية اليمن ، وهي حارة رطبة ، لأنّ هبوبها من ناحية خطّ الاستواء ، والحرّ هناك مفرط ، لأنّ الشمس تسامتها في السنة مرتين ، ولا تباعد عنها فتزداد بذلك حرّا ، وايضا هذه الجهة كثيرة البخار فتبخر الشمس منها أبخرة كثيرة رطبة ، فتكتسب الجنوب منها الرطوبة ، وهي ترخي الأبدان وتحدث ثقلا في الأسماع وغشاوة في الأبصار ، وتورث الكسل ومن العجب أنّ الجنوب إذا هبّت على المار الحار برّدته ، والشمال تتركه على حرارته كما كان.

قالوا : سبب ذلك أنّ عند هبوب الشمال تكمن الحرارة في داخل الماء

__________________

(١) سمّى ابن حجة الحموي شرحه لبديعيته التي احتواها كتابه خزانة الأدب (تقديم أبي بكر).

(٢) في خزانة ابن حجة / ٢٢٤ (بدر الدين) مرة ، و (مجير الدين) أخرى ، والبيتان اللذان سيذكرهما المؤلف من قصيدة لأبي عبد الله أحمد بن محمد المعروف بابن الخياط الدمشقي المتوفى سنة ٥١٧ ه‍ وموجودة في ديوانه. تراجع ترجمته ومصادرها في أنوار الربيع ٤ / ١٢٧ ومقدمة ديوانه لخليل مردم.

(٣) في ع (الحياء) مكان (الحياط) ، والحياط : التحفّظ.

(٤) في الديوان (مررت بنجد) وتأتي قافية البيت الثاني (بأطلال هند).

١٠٣

كما نرى في الشتاء ، فإن الحرارة تكمن في جوف الأرض ، فيبقى داخلها حارا. وأمّا عند هبوب الجنوب فالحرارة تخرج من داخل الماء كما نرى في الصيف فإنّ الحرارة تخرج من جوف الأرض إلى ظاهرها ، ويبقى (داخلها باردا يعود إلى طبعه) (١) ، والعرب تحمد الجنوب لأنّها تنشيء السحاب ، ويزعمون أنّ اللواقح إنما تكون من الجنوب ، ولا مطر مع شيء من الرياح ، والله أعلم. انتهى من عجائب المخلوقات.

وكلّ ريح انحرفت عن مهابّ هذه الرياح الأربع فوقعت بين ريحين منها فهي نكباء ، وجمعها : نكب. ونظم بعضهم مهاب الرياح فقال :

شملت بشام والجنوب تيامنت

وصبا بشرق والدّبور بمغرب

فائدة سنيّة : قال العلامة بدر الدين الدماميني (٢) في شرح التسهيل : قال ابن هشام : سألني سائل ، من أين تهبّ الصّبا؟ فأنشدته (٣) :

ألم تعلمي يا عمرك الله أنّني

كريم على حين الكرام قليل

وأنّي لا أخزى إذا قيل مملق

سخيّ وأخزى أن يقال بخيل

ولم يزد على ذلك ، وفيه غموض فتنبّه. انتهى.

وقال في شرح المغني بعد حكايته ذلك : وجه صلاحية هذا للجواب ، إنه اشتمل على بناء (حين) المضافة إلى الجملة في قوله (على حين الكرام قليل). فأشار به بيت مشارك له في هذا الحكم ، وهو قول الشاعر :

إذا قلت هذا حين أسلو يهيجني

نسيم الصّبا من حيث يطّلع الفجر (٤)

__________________

(١) كذا ورد في الأصول ، وجاء في عجائب المخلوقات (داخلها باردا ، فخرجت الحرارة من داخل الماء عند هبوب الجنوب ، والماء في نفسه بارد يعود إلى طبعه).

(٢) هو محمد بن أبي بكر المخزومي الاسكندري المعروف بابن الدماميني. توفي سنة ٨٢٧ ه‍ (أنوار الربيع ٢ / ٥٦).

(٣) البيتان من شواهد مغني اللبيب لابن هشام ، يراجع الشاهد (٧٨٠).

(٤) يراجع مغني اللبيب أيضا ، الشاهد (٧٧٩).

١٠٤

حيث قيل فيه (حين أسلو) فبنى (حين) المضافة إلى الجملة ، ولا يخفى أن هذا البيت المشار إليه بإنشاد ذينك البيتين صريح في ذكر محل الصبا ، إذ قيل فيه (نسيم الصبا من حيث يطّلع الفجر). فظهر المقصود ولله الحمد. انتهى.

رجع : ثم لم نزل نقاسي محن الغربة ، ونكابد إحن الكربة ، وقد طالت أيّام البين والنوى ، واضطرمت لواعج الوجد والجوى ، تتجرّع من كأس الاغتراب ما هو أمرّ من العلقم ، ونعاني من بأس الاكتئاب ما يهون عنده نهش الأرقم. إذا عنّ التذكّر لما مضى تزايدت آلام الحزن والأسى ، وإذا اعترض التفكر فيما حلّ به القضا ، قطعنا الأيّام بلعلّ وعسى. فواها لتلك الأعوام التي مضت كيف انقضت ، وآها من هذه الأيام. (التي برت كيف انبرت (١)).

وهكذا الدّهر ما زالّت نوائبه

تقلّب المرء بين الصّفو والكدر

ولقد كنت أبرز إلى تلك الحدائق الأنيقة ، وأتنقّل فيها من حديقة إلى حديقة ، لعلّي أجد بذلك سلوة عمّا أنا فيه ، وهيهات ما لمثلي وللتسلّي أنّي إذن لسفيه. فأعود وقد تضاعفت بواعث الهمّ والتذكار ، وترادفت نوابث الغمّ والأفكار.

وما ذات طوق في فروع أراكة

لها رثّة تحت الدّجى وصدوح (٢)

ترامت بها أيدي النّوى وتمكّنت

بها فرقة من أهلها ونزوح

فحلّت بزوراء العراق وزغبها

بعسفان ثاو منهم وطليح

نحنّ إليهم كلّما ذرّ شارق

وتسجع في جنح الدّجى وتنوح

إذا ذكرتهم هيّجت ذا بلابل

وكادت بمكتوم الغرام تبوح

بأبرح من وجدي لذكرى أحبّتي

إذا لاح برق أو تنسّم ريح (٣)

__________________

(١) في ك (التي مرت كيف انمرت).

(٢) الشعر لأبي منصور فخر الدين عيسى بن مودود صاحب تكريت المتوفى سنة ٥٨٤ ه‍ (وفيات الأعيان ٣ / ١٦٦).

(٣) في وفيات الأعيان (بأبرح من وجدي لذكراكم متى ـ تألّق برق ...).

١٠٥

ولم نزل من أمرنا على غمّة ، ومن دهرنا في ليال مدلهمّة ، لا نعرف لمآلنا قبيلا من دبير ، ولا نجد لما تتشوّفه من الخبر من يقول على الخبير. حتى وافت البشائر ، ونصبت للتهاني الأشائر ، بأن قد أقلع ذلك السحاب ، وجاء من ألطاف الله تعالى ما لم يكن في الحساب ، وصفت الأحوال ، وسكنت الفتن ، فسكن الفؤاد عند ذلك واطمأن. وأخذنا في أهبة السفر مستبشرين بالنيل والظفر ، زاعمين أن في وصولنا إلى تلك الدار أمنا من شوائب الدهر والأكدار ، والقضاء يقول من مكمنه : قد يؤتى الحذر من مأمنه.

ليت الذي علق الرجاء به

إذ لم يجد للصّبّ لم يجد

لم يثمر الظنّ الجميل به

فقدي من الظنّ الجميل قدي

كم من مطامع قد عقدت بها

طمعي فحلّ مرائر العقد

وأعادني منها على أسف

وأباتني فيها على ضمد

ولمّا أهاب بنا من البين داع ، وآن أوان الارتحال والوداع ، كتبت إلى والي مخا السيّد المقدم ذكره ـ وكان قد عاد من حضرة مخدومه إلى خدمته ـ بهذين البيتين :

مددت إلى التوديع كفا ضعيفة

وأخرى على الرّمضاء فوق فؤادي

فلا كان هذا العهد آخر عهدنا

ولا كان ذا التّوديع آخر زادي

وهذان البيتان أنشدهما أبو المعالي عزيزي بن عبد الملك (١) قال أنشدنيهما والدي عند خروجه إلى الحج.

فكتب إليّ السيد المشار إليه قول أبي الطيب (٢) :

يا من يعزّ علينا أن نفارقهم

وجداننا كلّ شيء بعدكم عدم

ثم ودعناه توديع الولد للوالد ، ولقينا من فراقه ما هان معه الطارف

__________________

(١) هو عزيزي بن عبد الملك بن منصور الجيلي المعروف بشيذلة ، فقيه واعظ ، توفي سنة ٤٩٤ ه‍ (معجم المؤلفين ٦ / ٢٨١).

(٢) هو أبو الطيب المتنبي (أحمد بن الحسين) المقتول سنة ٣٥٤ ه‍ (معجم المؤلفين ١ / ٢٠١).

١٠٦

والتالد ، فشيّعنا تشييع الأقارب ، إلى أن تبطّنا القارب ، فشكر الله سعيه وأدام بفضله رعيه.

أبو تمام (١) :

وما ابن آدم إلّا ذكر صالحة

أو ذكر سيّئة يسري بها الكلم

أما سمعت بدهر باد أمّته

جاءت بأخبارها من بعدها أمم

وكان خروجنا من المخا يوم السبت لثمان خلون من ذي القعدة الحرام سنة سبع وستين ، فكانت مدة إقامتنا بها أربعة عشر شهرا وستة أيام ، وعلى ذلك فما ألطف قول عمر بن أبي ربيعة (٢) :

بالله قولي له في غير معتبة

ماذا أردت بطول المكث في اليمن (٣)

إن كنت حاولت دنيا قد رضيت بها

فما أصبت بترك الحجّ من ثمن

أخبر خلاد بن يزيد الباهلي (٤) قال : ركب ابن جريج (٥) دين ـ سمّاه وكثّره ـ فأتى معن بن زائدة (٦) باليمن فوعده فطول عليه ، قال ابن جريج : إني لفي منزلي ودخل شهر الحج فذكرت بيتي عمر ـ بالله قولي له ، البيتين ـ قال : قلت : والله هو ذلك ، وأصبحت غاديا على معن فقلت : أستودع الله الأمير ، قال : وما ذاك؟ قلت : حضر الحج وطال مقامي ، قال : لا والله ولكن هذا حادث رأي. فلم يزل بي حتى أنشدته بيتي عمر ، فقال : لا جرم ، لا تمش حتى

__________________

(١) لا وجود للبيتين في ديوان أبي تمام ، وأوردهما ابن عبد ربه في العقد الفريد ١ / ٢٣٢ منسوبين إليه.

(٢) هو أبو الخطاب عمر بن أبي ربيعة المخزومي. توفي سنة ٩٣ ه‍ (أنوار الربيع ٢ / ٩٣).

(٣) البيتان في الديوان وفي روايتهما اختلاف.

(٤) توفي خلاد بن يزيد سنة ٢٢٠ ه‍. في الأصول (بن زيد) والتصويب من ميزان الاعتدال ١ / ٦٥٧.

(٥) هو أبو خالد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الرومي فقيه حافظ. توفي سنة ١٥٠ ه‍ (معجم المؤلفين ٦ / ١٨٣).

(٦) هو معن بن زائدة الشيباني أمير جواد قتله الخوارج سنة ١٥١ ه‍ (الأعلام ٨ / ١٩٢).

١٠٧

تقضى حاجتك. وكان معن يتولى عمل اليمن للمنصور ، ثم تولاها بعده ابنه زائدة.

قلت : والشيء بالشيء يذكر ، والحديث شجون. قيل : إن المنصور سخط على أحمد بن يزيد السلمي فصرفه عن أرمينية ، وألزمه بيته ، فنمي الخبر إلى معن وهو يتقلّد اليمن ، فكتب إليه :

نمي إليّ يا أمير المؤمنين أن سخطة لحقت أحمد بن يزيد بن أسيد السلمي من أمير المؤمنين ، ولم تزل الملوك تعاقب على أشياء ، وتصفح عن أشياء ، فأمّا الذي تعاقب عليه : فالقدح في الملك ، وإفشاء السرّ ، والتعرّض للحرم. وأمّا الذي تصفح عنه : فاحتجان الأموال ، فإنّ مال الخادم للمخدوم ، في يومه وغده. فإن كان أحمد بن يزيد أتى ما يعاقب عليه الملوك فما ينبغي أن يكون حيّا وإن كان احتجن مالا فأحمد خير لأمير المؤمنين من أرمينية وأموالها. فقال المنصور : أف لكم معاشر الكتّاب ، ذهب عليكم أن تخبروني به حتى تناولني به معن من اليمن ، على لوثة (١) أعرابية. ووجه إلى أحمد بن يزيد فخلع عليه وردّه إلى عمله.

وما كلّ ذي لبّ بمؤتيك نصحه

ولا كلّ مؤت نصحه بلبيب (٢)

ولكن إذا ما استجمعا عند واحد

فحقّ له من طاعة بنصيب

ولما امتطينا من السفينة صهاها ، وتلونا (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها)(٣) شاهدنا من هذا البحر الزاخر ، ما أنسينا معه الأول والآخر ، حتى استبان لنا أن ذلك البحر الذي أكبرناه ، وأنكرنا منه ما أنكرناه ، إنّما هو قطرة من ماء ، بالنسبة إلى هذا الدأماء (٤). ولقد سرنا فيه أياما لا نرى سوى الماء تحت

__________________

(١) يريد باللوثة ـ هنا ـ : البطء والتمكث في العمل.

(٢) البيتان لأبي الأسود الدؤلي (ظالم بن عمرو) المتوفى سنة ٦٩ ه‍ (أنباه الرواة ١ / ١٣).

(٣) سورة هود / ٤١.

(٤) الدأماء : البحر.

١٠٨

السماء. (وألطف قول بعض المعاصرين (١)).

قالوا مسير الفلك في بحره

كالطّير يسري بجناحين

والفرق ما بينهما واضح

لكلّ ذي عين بلا مين (٢)

الطير في الجوّ غدا طائرا

بين السّما والأرض عن عين

وفلكنا لما طما بحره

طار بنا بين سمائين

وللصاحب تاج الدين :

أنظر إلى قطع المراكب إذ بدت

والماء يعلو حولها ويدور

مثل السّحائب لا يفرّق بينها

نظر وكلّ بالرّياح يسير

ولابن النطاح (٣) يصف البحر :

يا مادح البحر وهو يجهله

مهلا كفاني قليله علما

مكسبه مثل قعره بعدا

ورزقه مثل مائه طعما (٤)

ابن رشيق (*) في ذمه وركوبه :

البحر صعب المرام مرّ

لا جعلت حاجتي إليه

أليس ماء ونحن طين

فما عسى صبرنا عليه

وقال ابن حمديس (٥) : اجتمعت مع أبي الفضل جعفر بن المقترح (٦)

__________________

(١) كذا في (ع). وجاء في (أ) بعد كلمة المعاصرين (وهو المؤلف). وفي ك. (وقلت فيه) مكان الجملة التي بين قوسين.

(٢) في ك (لكل ذي لبّ).

(٣) (ابن النطاح) كذا ورد في الأصول ، ومعاهد التنصيص ٢ / ٢٥ ، ولعله بكر بن النطاح المتوفى سنة ١٩٢ ه‍ (الأعلام ٢ / ٤٦) ، أو أنه : أبو محمد عبد الله بن الطباخ الكاتب ، ورد ذكره في نوادر المخطوطات (الرسالة المصرية) ١ / ٥٣ ، وترجم له العماد في خريدة القصر (قسم شعراء مصر) ٢ / ٩٨ ولم يذكر تاريخ وفاته.

(٤) البعد (بضمتين) : لغة في البعد (بضم فسكون).

(٥) هو عبد الجبار بن أبي بكر بن حمديس الصقلي. توفي سنة ٥٢٧ ه‍ (أنوار الربيع ٤ / ٢٣٤).

(٦) في الأصول (جعفر بن المعوج) والتصويب من معاهد التنصيص ، وديوان ابن حمديس.

١٠٩

الكاتب بسبتة فذكر لي بيتي ابن رشيق ثم قال : أتقدر على اختصار هذا المعنى؟ فقلت : نعم أقدر على ذلك وأنشدته (١) :

لا أركب البحر خوفا

عليّ منه المعاطب

طين أنا وهو ماء

والطين في الماء ذائب

فاستحسن ذلك إذ كان على الحال ، فأقام عني أياما ثم اجتمعت به فأنشدني لنفسه في المعنى :

ان ابن آدم طين

والبحر ماء يذيبه

لولا الذي فيه يتلى

ما جاز عندي ركوبه (٢)

فأنشدته :

وأخضر لولا آية ما ركبته

وذلك تصريف القضاء بما شاء

أقول حذارا من ركوب عبابه

أيا ربّ إنّ الطين قد ركب الماء

ومن بديع إنشاء ابن حجة الحموي (*) رسالته البحرية التي كتب بها إلى البدر الدماميني (*) يصف البحر والسفينة ، منها قوله :

يا مولانا وأبثك ما لاقيت من أهوال هذا البحر ، وأحدّث عنه ولا حرج ، فكم وقع المملوك من أعاريضه في زحاف تقطّع منها القلب لمّا دخل إلى دوائر تلك اللجج ، وشاهدت منه سلطانا جائرا (يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً)(٣). ونظرت إلى الجوار الحسان وقد رمت أزر قلوعها ، وهي بين يديه لقلّة رجالها تسبى ، فتحقّقت أنّ رأي من جاء يسعى في الفلك جالسا غير صائب ، واستصوبت هنا رأي من جاء يمشي وهو راكب. وزاد الظمأ بالمملوك وقد اتخذ في البحر سبيله ، وكم قلت من شدّة الظمأ : يا ترى قبل الحفرة هل أطوي من البحر هذه الشقة الطويلة :

__________________

(١) انفردت (أ) في إيراد كلمة (وأنشدته) ، وهي موجودة في معاهد التنصيص ٢ / ٢٥ وديوان ابن حمديس.

(٢) يريد الآية الكريمة(وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) سورة هود / ٤١.

(٣) سورة الكهف / ٧٩.

١١٠

وهل أباكر بحر النّيل منشرحا

وأشرب الحلو من أكواب ملّاح

بحر تلاطمت علينا أمواجه حين متنا من الخوف ، وحملنا على نعش الغراب ، وقامت واوات دوائره مقامع فنصبتنا للغرق لما استوت المياه والأخشاب ، وقارن العبد فيها سوداء استرقّت موالينا وهي جارية (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ)(١) ، (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ)(٢). واقعها الحرب فحملت بنا ، ودخلها الماء فجاءها المخاض ، وانشق قلبها لفقد رجالها ، فجرى ما جرى على ذلك القلب وفاض. وتوشّحت بالسواد في هذا المأتم ، وسارت على البحر وهي مثل ، وكم سمع للمغاربة على ذلك التوشيح زجل. برج مائي ولكن تعرب في رفعها وخفضها عن النسر والحوت ، وتتشامخ كالجبال وهي خشب مسنّدة عدّ من المقبرين في تابوت. تأتي بالطباق ولكن بالقلوب ، لأن صغيرها كبير ، وبياضها سواد ، وتمشي على الماء ، وتطير مع الهواء ، وصلاحها عين الفساد. إن نقّر الموج على دفوفها لعبت أنامل قلوعها بالعود ، وترقصنا على آلتها الحدباء فتقوم قيامتنا من هذا الرقص الخارج ونحن قعود. تتشامم وهي ـ كما قيل ـ أنف في السماء وأست في الماء ، وكم نطيل الشكوى إلى قامة صاريها (٣) عند الميل وهي الصعدة الصمّاء ، فيها الهدى وليس لها عقل ولا دين ، وتتصابى إذا هبّت الصّبا وهي ابنة مائة وثمانين ، وتوقف أحوال القوم (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ)(٤) وتدعي براءة الذمّة وكم استغرقت لهم من أموال. هذا وكم ضعف نحيل خصرها عن تثاقل أرداف الأمواج ، وكم وجلت القلوب لمّا صار لأهداب مجاذيفها في مقلة البحر اختلاج ، وكم أسبلت على وجنة طرّة قلعها فبالغ الريح في تشويشها ، وكم مرّ على قريتها العامرة فتركها (وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها)(٥). تتعاظم فتهزل إلى أن ترى ضلوعها من السقم تعدّ ، ولقد رأيناها

__________________

(١) سورة طه / ٧٨.

(٢) أصل الآية (هل أتاك حديث الغاشية) سورة الغاشية / ١.

(٣) الصاري : عمود يركز قائما في وسط السفينة يعلّق به الشراع ، جمعه صوار.

(٤) سورة هود / ٤٢.

(٥) سورة البقرة / ٢٥٩ وسورة الكهف / ٤٢.

١١١

بعد ذلك قد ثبتت وهي (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ* فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ)(١).

لطيفة : ذكر القاضي ابن خلكان قال : حكى تاج العلى أبو زيد المعروف بالنسّابة قال : حدثني أبو الأصبغ نباتة بن الأصبغ بن زيد بن محمد الحارثي الأندلسي عن جده زيد بن محمد قال : بعث المعتمد بن عباد صاحب اشبيلية (٢) إلى أبي العرب الزبيري خمسمائة دينار ، وأمره أن يتجهز بها ويتوجه إليه ـ وكان بجزيرة صقلية وهو من أهلها ، وهو أبو العرب مصعب بن محمد بن أبي الفرات القرشي الصقلي الشاعر (٣) ـ وبعث مثلها إلى أبي الحسن الحصري (٤) وهو بالقيروان ، فكتب إليه أبو العرب :

لا تعجبنّ لراسي كيف شاب أسى

واعجب لأسود عيني كيف لم يشب

البحر للرّوم لا تجري به سفن

إلّا على غرر والبرّ للعرب (٥)

وكتب إليه الحصري (*) :

أمرتني بركوب البحر أقطعه

غيري ، لك الخير ، فاخصصه بذا الداء (٦)

ما أنت نوح فتنجيني سفينته

ولا المسيح أنا أمشي على الماء

وما ألطف قول الخباز البلدي (٧) وقد سافر محبوبه في البحر :

__________________

(١) سورة أبي لهب / ٥.

(٢) هو أبو القاسم المعتمد على الله بن المعتضد بالله عباد أكبر ملوك الطوائف. توفي سنة ٤٨٨ ه‍ (أنوار الربيع ١ / ١٠٣).

(٣) توفي أبو العرب مصعب سنة ٥٠٦ ه‍ وقيل : كان حيا سنة ٥٠٧ (أنوار الربيع ٢ / ٣٩).

(٤) هو أبو الحسن علي بن عبد الغني الحصري. توفي سنة ٤٨٨ ه‍ (معجم المؤلفين ٧ / ١٢٥).

(٥) في وفيات الأعيان ٣ / ٢١ (لا يجري السفين به).

(٦) البيتان منسوبان أيضا لابن رشيق وهما في ديوانه. وفيه رواية البيت الأول كالآتي :

أمرتني بركوب البحر مجتهدا

وقد عصيتك فاختر غير ذا الداء

وما أثبته المؤلف موافق لرواية وفيات الأعيان.

(٧) هو أبو بكر محمد بن أحمد بن الحسين بن حمدان المعروف بالخباز البلدي. لم

١١٢

سار الحبيب وخلّف القلبا

يبدي العزاء ويضمر الكربا (١)

قد قلت إذ سار السّفين به

والشوق ينهب مهجتي نهبا

لو أنّ لي عزّا أصول به

لأخذت كلّ سفينة غصبا

قيل : وليس في المعمور أعظم من هذا البحر الذي ركبناه وهو البحر الهندي ، ويقال له : الحبشي.

قال المسعودي : يمتد طوله من المغرب إلى المشرق ، من أقصى الحبش إلى أقصى الهند والصين ثمانية آلاف ميل ، وعرضه ألفان وتسعمائة ، وفي مواضع أخر ألف وتسعمائة ، وقد يتقارب في قلة العرض في موضع دون موضع ويكثر. وقد قيل في طوله وعرضه غير ما وصفنا من الكثرة أعرضنا عن ذكره لعدم الدلالة على صحته عند أهل هذه الصناعة.

وقد ذكر كيفية تشعّب الخلجان منه ، وامتدادها إلى أماكن لا حاجة بنا إلى ذكرها. وإن بحر فارس ، وبحر اليمن ، وبحر القلزم ، وبحر الحبش ، وبحر الزنج ، وبحر الصين كل هذه البحور خلجان من هذا البحر. وعدّ بحورا أخرى تتشعب من هذا البحر ، ولسنا بصدد بيان ذلك. ولا بأس بذكر شيء من أخبار البحر وعجائبه ، وجزائره إلى غير ذلك مما يفضي إليه المقام لما فيه من الإشارة إلى كمال قدرة الله تعالى وعظيم سلطانه.

ففي كلّ شيء له آية

تدلّ على أنّه واحد (٢)

تنازع المتقدمون من الحكماء في مبادئ كون البحار وعللها. فذهب طائفة منهم إلى أنّ البحر هو بقيّة من الرطوبة الأولى التي جفّف أكثرها جوهر النار ، وما بقي منها استحال لاحتراقه ملحا.

ومنهم من قال : انّ الرطوبة الأولى المجتمعة لما احترقت بدوران

__________________

أقف على تاريخ وفاته. تراجع ترجمته في يتيمة الدهر ٢ / ٢٠٨ ، والذريعة إلى تصانيف الشيعة ٩ / ٢٨٨.

(١) في (ع وك) : ويظهر الكربا. وفي (أ) : ويبدى الكربا. والتصويب من يتيمة الدهر.

(٢) البيت لأبي العتاهية. والذي في الديوان (وفي كلّ شيء).

١١٣

الشمس وانعصر الصفو منها استحال الباقي إلى ملوحة ومرارة.

ومنهم من رأى أنّ البحار عرق تعرقه الأرض لما ينالها من احتراق الشمس لاتصال دورها.

ومنهم من رأى أنّ البحر هو ما بقي مما صفّته الأرض (من الرطوبة الثانية (١)). وقيل غير ذلك.

وهو خلاف لا ثمرة فيه. وذكر أنّ الله تعالى لما أمر نوحا (ع) بركوب السفينة (وغرق الأرض (٢)) خمسة أشهر ، ثم أمر الأرض أن تبلع الماء ، والسماء أن تقلع ، واستوت على الجودى ، أسرع بعض الأرض إلى بلع الماء عندما أمرت ، وبعضها لم يسرع. فمن أطاع كان ماؤه عذبا إذا احتفر ، وما تأخّر أعقبه الله بماء ملح. وما تخلّف من الماء الذي امتنعت الأرض من بلعه صار (٣) إلى قعور مواضع من الأرض ، فمن ذلك البحار وهي بقية ماء غضب أهلك به أمم. كذا نقله المسعودي في أول كتابه.

وهذا إن صح في الأثر فلا كلام ، وإلّا فقضيته أنّ البحار لم تتكون قبل زمان نوح (ع) وفيه نظر ظاهر لمن تتبّع الأثر.

وذكر صاحب المنطق : أنّ مواضع البرّ ليست هي أبدا برّا ، ولا مواضع البحر أبدا بحرا بل قد تكون برا حيث كان مرة بحرا ، وتكون بحرا حيث كان مرة برا ، وعلّة ذلك الأنهار وبدؤها ، فإن لمواضع الأنهار شبابا وهرما ، وحياة وموتا ونشورا كما يكون ذلك في الحيوان ، إلّا أنّ الشباب والكبر في الحيوان لا يكون جزءا بعد جزء ، بل تشبّ وتكبر أجزاؤها معا ، وكذلك تهرم وتموت في وقت واحد. فأما الأرض فإنها تهرم وتكبر جزءا بعد جزء وذلك بدوران الشمس. وقد اختلف في علة المدّ والجزر اختلافا طويلا لا حاجة بنا إلى التطويل بذكره.

وأمّا عجائب البحر فلا تدخل تحت الحصر ، ويكفي في ذلك الحديث :

__________________

(١) في مروج الذهب ١ / ١٢٧ (من الرطوبة المائية).

(٢) في مروج الذهب ١ / ٤٠ (وقد غرق جميع الأرض).

(٣) في مروج الذهب (انحدر) مكان (صار).

١١٤

حدثوا عن البحر ولا حرج. قيل : الواو للحال ، أي حدّثوا عنه حال لا حرج عليكم في ذلك. ولنذكر منها نبذة مستطرفة :

قال القشيري : يقال : أنّ سليمان (ع) سأل ربّه أن يأذن له أن يضيف يوما جميع الحيوانات ، فأذن الله تعالى له ، فأخذ في جمع الطعام مدة طويلة ، فأرسل الله تعالى له حوتا واحدا من البحر فأكل كلّ ما جمعه سليمان في تلك المدة الطويلة ثم استزاد ، فقال سليمان : لم يبق لي شيء ، ثم قال له : وأنت تأكل كلّ يوم مثل هذا؟ فقال : رزقي كلّ يوم ثلاثة أضعاف هذا ، ولكن الله تعالى لم يطعمني اليوم إلّا ما أطعمتني أنت ، فليتك لم تضفني ، فإني بقيت اليوم جائعا حيث كنت ضيفك.

وفي هذا إشارة إلى عظيم سلطان الله تعالى وسعة خزائنه ، إذ مثل سليمان (ع) مع عظم ملكه الذي آتاه الله تعالى عجز عن أن يشبع مخلوقا من مخلوقات الله تعالى ، ثم انظر ما اشتمل عليه البحر مما يشبع هذا الحوت في كل يوم ، فسبحان المتكفّل بخلقه.

وقال أبو حامد الأندلسي (١) : رأيت سمكة بقرب مدينة سبتة من نسل الحوت الذي أكل منه موسى (ع) وفتاه يوشع ، فأحيا الله نصفه فاتّخذ سبيله في البحر سربا ، ونسلها في البحر إلى الآن في ذلك الموضع ، وهي سمكة طولها أكثر من ذراع ، وعرضها شبر واحد ، في جانبيها شوك وعظام ، وجلدها رقيق على أحشائها (ولها عين ونصف رأس (٢) من رآها من هذا الجانب استقذرها ، ويحسب أنّها مأكولة ميّتة ، ونصفها الآخر صحيح ، والناس يتبركون بها ويهدونها إلى المواضع البعيدة قال ابن عطية (٣) : وأنا رأيته كذلك.

__________________

(١) أبو حامد الأندلسي صاحب كتاب تحفة الغرائب. كان حيا سنة ٥٥٦ ه‍ ، يروي عن كتابه كلّ من الدميري في كتابه حياة الحيوان ، والقزويني في كتابه عجائب المخلوقات (كشف الظنون / ١١٢٧ و ١١٢٨)

(٢) في ع (وعينها ورأسها نصف رأس) وفي ك ، وأ (ورأسها نصف رأس) والتصويب من حياة الحيوان ١ / ٢٦٩.

(٣) (ابن عطية) يروي عنه الدميري في كتابه المذكور.

١١٥

(وعن ابن عباس (١)) إن الحوت إنما حيي لأنّه مسه ماء عين هنالك تدعى عين الحياة ، ما مسّت شيئا ميتا قطّ إلّا وحيي ، وكانت حياة الحوت عند مجمع البحرين : بحر [العرب] وبحر القلزم (٢) مما يلي الشرق ، وقيل : هما بحر الأردن ، وبحر القلزم ، وقيل غير ذلك.

والحكمة في جمع موسى مع الخضر عليهما‌السلام بمجمع البحرين : أنّهما بحران في العلم ، أحدهما أعلم بالظاهر ـ يعني الشرع ـ وهو موسى (ع) ، والآخر أعلم بالباطن ـ يعني علم الحقيقة وأسرار الملكوت ـ وهو الخضر (ع). كذا في حياة الحيوان الكبرى للدميري.

ومن العجائب ما حكاه القزويني في عجائب المخلوقات عن عبد الرحمن بن هارون المغربي قال : ركبت بحر المغرب فوصلنا إلى موضع يقال له : البرطون ، وكان معنا غلام صقلّي معه صنارة فألقاها في البحر ، فاصطاد سمكة نحو الشبر ، فإذا خلف أذنها اليمنى مكتوب : لا إله إلّا الله ، وفي قفاها : محمد ، وخلف أذنها اليسرى : رسول الله.

ومن عجائب البحر : إنسان الماء ، وهو يشبه الإنسان إلّا أن له ذنبا. قال القزويني : وقد جاء شخص بواحد منها في زماننا مقددا كما ذكرنا ، ويقال : أنه يظهر في بحر الشام في بعض الأوقات من شكله شكل إنسان ، وله لحية بيضاء يسمونه : شيخ البحر ، فإذا رآه الناس استبشروا بالخصب.

وحكي أن بعض الملوك حمل له إنسان الماء ، فأراد الملك أن يعرف

__________________

(١) في حياة الحيوان (ومن غريب ما يروي البخاري عن ابن عباس في قصص هذه الآية).

(٢) (بحر القلزم) كذا ورد في الأصول ، وفي حياة الحيوان (بحر الروم).

قال سيد قطب ـ في ظلال القرآن ، في تفسير الآية (٦٠) من سورة الكهف ـ : والأرجح ـ والله أعلم ـ أنه مجمع البحرين : بحر الروم وبحر القلزم ، أي البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر ، ومجمعهما : مكان التقائهما في منطقة البحيرات المرة وبحيرة التمساح.

١١٦

حاله فزوّجه امرأة ، فأتاه منها ولد يفهم كلام أبويه ، فقال للولد : ما يقول أبوك؟ قال يقول : أذناب الحيوانات كلّها في أسفلها ، فما بال هؤلاء أذنابهم في وجوههم؟ وبنات الماء كالنساء.

قال ابن أبي الأشعث : هي سمك ببحر الروم تشبه النساء ، ألوانهنّ إلى السمرة ، ذوات شعور وفروج عظام وثدي ، وكلام لا يكاد يفهم ، ويضحكون ويقهقهون ، وربّما وقعن في أيدي بعض أهل المراكب فينكحوهنّ ثم يعيدونهن إلى البحر. ويقال : إن هذا الجنس يوجد في برّ رشيد (١).

وحكي عن الشيخ أبي العباس الحجازي ، قال : حدثني بعض التجار : أنه في سنة من السنين خرجت إليهم سمكة عظيمة ، فنقبوا أذنها وجعلوا فيها الحبال وأخرجوها ، ففتحت أذنها فخرجت جارية حسناء جميلة بيضاء ، سوداء الشعر ، حمراء الخدين نجلاء العينين من أحسن ما تكون من النساء ، ومن سرّتها إلى نصف ساقيها شيء كالثوب يستر قبلها ودبرها ، ودائر عليها كالإزار ، فأخذتها الرجال إلى البر فصارت تلطم وجهها ، وتنتف شعرها ، وتعضّ يديها ، وتصيح كما يصيح النساء حتى ماتت في أيديهم ، فألقوها في البحر ، فتبارك الله أحسن الخالقين.

وقال صاحب تحفة الغرائب : حدثني الشيخ أبو العباس الحجازي قال : حدثني رجل يعرف بالهاروني من ولد هارون الرشيد أنّه ركب سفينة في بحر الهند ، فرأى طاووسا قد خرج من البحر أحسن من طاووس البر ، وأجمل ألوانا ، قال : فكبّرنا لحسنه ، فجعل يسبح وينظر إلى نفسه ، ينشر أجنحته وينظر إلى ذنبه ساعة ثم غاص في البحر.

وفرس البحر يوجد بالنيل أفطس الوجه ، ناصيته كالفرس ، وأرجله كالبقر ، وذنبه قصير يشبه ذنب الخنزير ، وجلده غليظ ، ووجهه أوسع من وجه الفرس. يصعد البرّ ، ويرعى الزرع ، وربما قتل الإنسان وغيره.

وفي البحر سمكة تسمّى (الدلفين) تنجي الغريق ، يدنو منها فتمكّنه من

__________________

(١) رشيد : بلدة على ساحل البحر والنيل قرب الاسكندرية.

١١٧

ظهرها ليستعين على السباحة فتكون من أقوى الأسباب في نجاته ، وصفتها كصفة الزقّ المنفوخ ، ولها رأس صغير جدّا ولا تؤذي أحدا ، ولا تأكل إلّا السمك.

وحكى القزويني : أنّه يؤتى في بعض الجزائر على قصر مصنوع من بلّور على قلعة محكمة البناء ، وحولها قناديل لا تطفأ.

ونقل عن أبي حامد الأندلسي صاحب تحفة الغرائب (*) : أنّ على البحر الأسود (١) من ناحية الأندلس كنيسة من الصخر منقورة في الجبل عليها قبة عظيمة ، وعلى القبة غراب لا يبرح. ومقابلة القبة مسجد تزوره الناس ، يقولون : إن الدعاء فيه مستجاب. وقد شرط على القسيسين ضيافة من زار ذلك المسجد من المسلمين ، فإذا قدم زائر أدخل الغراب رأسه في روزنة على تلك القبة ويصيح صيحة ، فإن قدم اثنان صاح صيحتين وهكذا كلما قدم زوّار صاح على عددهم ، فيخرج الرهبان بطعام يكفي الزائرين. وتعرف تلك الكنيسة بكنيسة الغراب ، ويزعم القسيسون أنّهم ما زالوا يرون غرابا على تلك القبة ولا يدرون من أين يأكل.

ومن جزائر البحر العجيبة : جزيرة القمر (بضم القاف وإسكان الميم ثم راء مهملة) (٢) طولها أربعة عشر في عرض عشرين يوما إلى أقل من ذلك ، وتحاذي جزيرة سرنديب ـ كذا في الخطط ـ وقال السمعاني في الأنساب : أظنّها بمصر. وفي المستطرف : يقال أنها بالقرب من نيل مصر. قال : ويقال أن بها شجرا طول الشجرة مائتا ذراع ، ودور ساقها مائة وعشرون ذراعا ، وبها طوائف من السودان عرايا الأبدان يلتحفون بورق الشجر ، وهو ورق يشبه ورق الموز لكنّه أسمك وأعرض وأنعم ، ويقال أنّ هذه الأمة التي بها يتمذهبون

__________________

(١) (البحر الأسود) كذا ورد في الأصول وعجائب المخلوقات / ٨٢ ، ولعل المقصود (بحر الظلمات) وهو المحيط الأطلسي.

(٢) كذا ضبطها ياقوت أيضا في معجمه وقال (هي في وسط بحر الزنج ، وليس في ذلك البحر أكبر منها. فيها عدة مدن وملوك ، ويوجد في سواحلها العنبر).

١١٨

بمذهب الشافعي ، وهم في غاية اللّطافة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. بالقرب منهم معدن الذهب والياقوت ، وبها الفيلة البيض ، وحيوانات مختلفة الأشكال من الوحوش وغيرها ، وبها العود القماري ، والأبنوس ، والطواويس ، وبها مدن كثيرة. قال في الخطط : وإليها ينسب الطائر القمري. ونقله السمعاني في الأنساب أيضا عن صاحب الجمل قال : والقمري طائر ينسب إلى هذه البلدة.

ومنها جزيرة واق خلف جبل يقال له أصطنون داخل البحر الجنوبي ، قال القزويني : إن هذه الجزيرة كانت ملكتها امرأة ، وإن بعض المسافرين (١) وصل إليها ودخل فرأى هذه الملكة وهي جالسة على سرير ، وعلى رأسها تاج من الذهب ، وحولها أربعمائة وصيفة (٢) كلهنّ أبكار. قيل : وفي هذه الجزيرة شجر يشبه شجر الجوز والخيار الشنبر (٣) ويحمل حملا كهيئة الإنسان ، فإذا انتهى يسمع له تصويت يسمع منه (واق) ثم يسقط.

وعن الجاحظ أن الواق واق نتاج بين بعض النبات وبين بعض الحيوانات ، ذكره الدميري في حياة الحيوان الكبرى.

قال القزويني : وهذه الجزيرة كثيرة الذهب ، يقال أن (سلاسل خيلهم ومقاود كلابهم وأطواقها (٤)) من الذهب ، والله سبحانه أعلم.

وبالجملة فعجائب البحر لا تدخل تحت الحصر ، وهذه قطرة من بحر ، وقليل من كثير.

غريبة : روى أبو نعيم في الحلية في ترجمة سفيان بن عيينه عن مسعر (٥)

__________________

(١) في عجائب المخلوقات / ٧١ (قال موسى بن المبارك السيرافي : دخلت عليها فرأيتها على سرير عريانة ، وعلى رأسها تاج ...).

(٢) في المصدر المذكور (أربعة الاف وصيفة).

(٣) في القاموس (خيار شنبر : شجر).

(٤) في عجائب المخلوقات (سلاسل كلابهم وأطواق قرودهم).

(٥) في ع (مشعر) وفي ك ، وأ (معشر) والتصويب من حلية الأولياء ٧ / ٢٨٩.

١١٩

بن كدام أنّه قال : أن رجلا ركب البحر فانكسرت السفينة فوقع في جزيرة ، فمكث ثلاثة أيام لم ير أحدا ، ولم يأكل ولم يشرب فتمثل فقال :

إذا شاب الغراب أتيت أهلي

وصار القار كاللّبن الحليب (١)

فأجابه صوت مجيب يسمع صوته ولا يرى شخصه وهو يقول :

عسى الكرب الذي أمسيت فيه

يكون وراءه فرج قريب (٢)

فنظر فإذا سفينة أقبلت ، فلوّح لهم فأتوه فحملوه فأصاب خيرا كثيرا.

كان شريح القاضي لا يقبل شهادة من ركب البحر ويقول : من لا يكون أمينا على نفسه لا يكون أمينا على غيره.

وفي الحديث : لا تركب البحر إلّا حاجا ، أو معتمرا ، أو غازيا في سبيل الله ، فإنّ تحت البحر نارا ، وتحت النار بحرا.

وأراد عمر بن الخطاب يغزو قوما على البحر ، فكتب إليه عمرو بن العاص وهو عامله على مصر : يا أمير المؤمنين إن البحر خلق عظيم يركبه خلق صغير ، دود على عود. فقال عمر : لا يسألني الله عن أحد أحمله فيه.

امتنع حكيم من ركوب البحر فقيل له في ذلك فقال : إني لأكره أن أركب ما لا أملك عنانه ، ولا أضبط زمامه.

قيل لبعض التجار : ما أعجب ما رأيت في البحر؟ قال : سلامتي منه.

فائدة : إذا اضطرب البحر يتكئ الراكب على جانبه الأيمن ويقول : أسكن بسكينة الله. وقرّ بقرار الله ، واهدأ بإذن الله ، ولا حول ولا قوّة إلا بالله.

وروى ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : أمان لأمتي من الغرق إذا هم ركبوا السفن أن يقولوا : بسم الله الملك (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا

__________________

(١) ورد البيت في أما لي المرتضى ٢ / ٢٢١ بدون عزو ، وفيه (رجوت أهلي).

(٢) البيت لهدبة بن الخشرم المتوفى حوالي سنة (٥٠) ه (الأعلام ٩ / ٦٩) وهو من قصيدة ـ أوردها القالي في أماليه ١ / ٧٢ ، وابن الشجري في حماسته / ٢٢٧.

١٢٠